الفصل الثاني

على شاطئ بحر الروم

بين البحر والصحراء!

أكتب هذا الفصل على شاطئ البحر الأبيض أو بحر الروم، وقد كتبت الذي قبله على حدود الصحراء. وللكلام كما للناس، حظوظ، والمعاني والخواطر أرزاق. ولقد أذكر أنى كنت ذاهبًا إلى مصر الجديدة مع طائفة من الأصدقاء في واحد منهم شذوذ وكان يكتب في الترام! وأنه ليكتب كلمة «السؤدد» إذ انطفأ النور فخط «دالا» في النور و«دالا» في الظلام! ولو أنى كنت اليوم في القاهرة وفى بيتي الذي اتخذته على «تخوم العالمين» لكان الأرجح في الرأي والأقرب إلى الاحتمال أن يجرى القلم بغير ما يسطره الآن، فإن النفس كالزجاج الحساس تنطبع عليها وترتسم فيها صور ما يحيط بها. ولقد كان العزم أن أقول غير ما أنا قائله ولكن المقادير قذفت بي إلى البحر، لا فيه والحمد لله، فتحلل العزم، ومسح من اللوح ما كانت الصحراء قد نقشت عليه … ولو خيرت لاخترت مقامي القديم، ولآثرت أن أكون في هذه الساعة التي أكتب فيها حيث كنت في الأسبوع المنصرم: إلى يميني الصحراء، وإلى يساري المقابر! واحدة تعلو بي، وأخرى تهبط. وإذا استأثرت معاني الأبد والجلال بالقلب ردته إلى الدنيا ومصائر الخلق فيها هذه الأجداث المتلاصقة والعوالم الإنسانية التي خرجت من التراب وعادت إليه وتحللت واستسرت فيه.

غير أنى ألفيت نفسي جالسًا على شاطئ بحر الروم أنظر إليه وأتأمل عبابه المزبد وموجه المتجدد، والشمس تنحدر عنه وتبسط عليه أشعتها المتوهجة، وأواذيه كقطع الجبال المتقلعة تتدفع إلى الشاطئ وتستبق سيفه فيغيب بعضها في بعض وترغى وترعد وتصفر وتهمس وترقص وتضحك وتمحو ما أخطه على الرمل! ولا أدرى أذكرنى هذا المنظر ما أنستنيه الأيام من الأقاصيص التي كانت تسلينا وتروعنا وتعمر بها فضاء حيواتنا الصغيرة «العجائز» من ذوات قرابتنا أو جيراننا، إذ يجلس الطفل منا إلى إحداهن ويرهف أذنيه ويود لو صارت كل جارحة فيه مسمعًا، وقلبه الصغير يخفق … وكلما أغربت العجوز في القصة وتبسطت في وصف الجان والمردة أو السحرة وأسهبت في سرد أعمالهم، أدار هو لحظه خلسة في المكان كالذي ينفضه بعينه أو يخشى أن يظهر له عفريت من أحد أركانه، وراح يدنو منها ويزحف إليها حتى يلصق بها، على حين كانت الفتيات الناهدات متكئات في سكون على حوافي النوافذ أو الشرفات، ووجوههن الصبيحة، التي كأنما غذتها الورود، يضيئها القمر الواجم الساري في حاشية من النجوم اليتيمة العذراء التي ينقصها، مثلهن، الحب!

ولم يتغير البحر عما عهدته! كل شيء فيه كما في العصر الخالي إلا المدينة القائمة على ساحله، فقد كانت في بعض أيامها الخوالي تشغل مكان أثينا فلم يبق لها من سالف عزها إلا البوم والسفسطائيون! حتى آلهة الإغريق استنكفوا على ما يظهر أن يتراجعوا إلى الإسكندرية بعد أن ثل الزمن عروشهم ونفاهم وشردهم عن ملك السماء، ولم يرض ملك السماء ذو الخصل البيضاء أن يأوي إليها ويعوذ بها بعد أوليمبيا، وآثر عليها التشرد بصاعقته الخامدة، وضن بنفسه عليها زيوس وتجافى عنها وإن كان لم يربأ بنفسه عن عزل أبيه وطرد أعمامه وعن الاستهتاك بين الغلمان الذين كان يهبط إلى الأرض على خلقة النسر ليخطفهم ويصعد بهم إلى ملكوته ويكايد بقبلاتهم زوجه! وكم عذلته في جنميد وأنبته على مشاربته في كأس واحدة فكان يقول لها مستترًا لو شربت بعده من هذه الكأس لأقصرت ولم تلومي! وشاهدي على صحة الرواية «لوسيان!».

وما وقفت قط على هذا البحر إلا أحسست أنى مثله، وإلا هممت أن أنظم هذه الأبيات مرة أخرى:

أنا البحر — لا كرمًا! — إنني
تكفل بالفقر لى المفضل؟!
ولكنني البحر ما أن له
قرار وما أن له موئل
وتجلده الريح إن زمزمت
جنوب لها أو زفت شمأل
ويجذب أمواهه كوكب
ويدفعها وهو لا يحفل
وفي قاعه دره راسب
ومن دونه الخطر الأهول
وتعتام صفحته ركدة
وفي سره ثورة تشعل
ويلتمس الشط مستروحًا
فيهزمه الرمل الجندل
أنا البحر، لكنني غارق
بنفسي فمن ذا عمى ينشل؟
أصارع تياره جاهدًا
وفي أذني رعده المرسل
وأومى إلى الناس لو أبصروا
وقد يخطئ العيون من يسأل
فهل عاذر إن ونت همة
وناء بما يحمل المثقل؟
وهل شاهد؟ إن بي حاجة
إلى شاهد صادق يعدل

… إلخ.

وكأنما ضاق صدري بما أجن وقلبي بما أثار البحر من خليط الذكريات وحرك من الآمال، فنهضت عن الصخرة التي كنت قاعدًا عليها ودهورت هذه الأبيات في أشداقي وانطلقت أنشد الريح إياها!! ومن عساني أنشد سواها؟ في أي أذن غير أذنها أفرغها أو أهمس بها؟ في أي نفس إنسانية أجد لنفسي كهفًا يتجاوب بأصداء عواطفي وخوالجى؟ عند من من الخلق أفوز بالتجاوب الذي تمنحنيه الرياح؟

أين في الناس وردتان تميلان
معًا للنسيم من حيث جاء؟

كما تساءلت قديمًا! ثم أهبت بقصائدي التي لم أنظمها — قصائدي الجياد التي لم تند قط عن صدري وإن كانت تعمره، ولم ينطلق بها لسانى وإن تكن على طرفه، والتي لولا مشيئة الأقدار لذهبتها بأصيل هذه الشمس الغاربة، ونسجت منها تاجًا لرأسك الذي يتوسد التراب، ولفصلت من زرقة السماء الحالية بنجوم الليل المتوامضة، ثوبًا متألقًا ينسجم على كتفيك وينسدل إلى قدميك!

•••

وغابت الشمس وانتشرت على الأرض غيابات الطفل، فعدت إلى مقعدي أنظر إلى الموج المشرئب، وجاش صدري مثله وجعلت طيوف الماضي تبرز من ظلامه وتخطر أمامي ثم تغيب ويلفها ما هو أظلم، ولكن طيفًا واحدًا ظل ماثلا لعيني في حيثما أدرتها، ومالئًا شعاب نفسي بالإحساس به، ومناجيًا لى من زفيف الرياح وتهزم الأمواج، وفيه وفى تمثل الحب المفقود والأمل الضائع! وخامرنى هذا الخاطر وألح على حتى خلتني جثة غريق ردها الموج الطاغي إلى رمال الشاطئ! ولج بي هذا الوهم حتى ملت عن الصخرة إلى الرمال ورقدت عليها، وأومأت إلى الأمواج أن اركدي فقد ذهب كل شئ: انتسخ الأمل وغاض معين الحب وجفت الحياة!

ثم تناولت عودًا كان ملقى إلى جانبي وخططت به كلمات على الرمال البليلة، غير أن الأمواج طغت عليها وغسلتها وعادت بها ولم تترك لى حتى اسمي الذي رسمته في آخرها! فما أوهى العود وأخون الرمال وأطغى هذه المياه المتحدرة!

وبأي شيء إذن أكتب؟! أأقطع جذع شجرة بلوط وأغمسه في بركان وأسطر به ما أريد على صفحة السماء ليبقى؟!

•••

ولكم وقفت من قبل على شاطئ هذا البحر بعينه، وفى مثل هذا الأوان، مجيلا عيني في قبة السماء اللازوردية، ومرسلا لحاظى في البحر والرمال والصخور، وقائلا لذوات المناقير السوداء إذ تعب بها من الماء وتلقط ما يتقاذف منه: «أيتها الأطيار! إن حياتك مرة مشتوتة كطعامك وشرابك! ولشد ما أتمنى أن أعطيك مما أعطانيه الله، وأن أنشقك ما أشمه من الأزاهير والرياحين، وأطعمك مما آكل من لحم غريض وخضر مستطابة وفاكهة شتى، وأن أشعرك ما أشعر وأتمتع به من لذاذات الحب المتبادل! فإن لى شريكة تحبني، وإني لأراها الآن بعين الخيال مطلة من النافذة منتظرة أوبتي إلى وكرها ومشتاقة رجعتي إلى عشها».

وكانت الأطيار تقضى وطرها وتذهب عنى ولا تحفل غبطتي ولا تبالي طعامي ورياحين أنفي وعيني ونفسي، وما أظنها الآن إلا قائلة لي: «يا من كان يفاخر بغيظه ماذا أنت اليوم؟ ماذا صنع الله بآمالك التي أنشأتها وربيتها واعتززت بها، وأحلامك التي نسجها قلبك حول حياتك؟ انظر الظلمة التي تغشى ذهنك! وتأمل الخفافيش التي تمرح فيه! أليس الماء الملح الذي نكرع منه وقذائف البحر التي نلتقطها أهنأ وأرغد؟».

فأطرق وأقول: أي والله صدقت! ولشد ما أتمنى أن يكون لى منقارك الأسود!

•••

كلا! صحرائي أرفق بي من هذا البحر العاتي الذي لم يتغير منه شيء، والذي يهيج النفس إلى ما بها، ويعديها، فتجيش مثله وتتدافع فيها العواطف وتتلاطم وتتزاخر … ومن لى بالقدرة على نقل هذه الصحراء التي ألفتها وأحببتها، معى في حلى وترحالي، وفرشها وبسطها حوالي في حيثما أكون من الأرض؟! نعم ليت هذا في وسع إنسان؟! إذن لاستطعت أن أطويها كلما غادرت بقعتها، وأن ألفها مع ثيابي وأشيائي في حقيبتي، حتى إذا نزلت مكانًا واستوحشت نفسي أنست بأن أخرجها وأنشرها أمامي وأتأملها وأذكر بها ليالي فيها بما اشتملت عليه من خير وشر، وسرور وحزن، وغبطة واكتئاب، ورضا وألم. ومن أحق بها منى أو بي منها؟ مالي وللماء الذي لا تطمئن إليه قدم ولا يثبت على حال ولا ينفك ينقلب فيه القديم جديدًا، والماضي مقبلا، والمقبل مدبرًا، ولا يفتأ بعضه يفنى في بعض؟! ولعل السبب في حبها وإيثارها أن بي مشابه منها! وأنى أجتلي في انبساط رقعتها وترامى أطرافها وتقاذف أرجائها وجدبها وعريها وتجردها من كل زينة تحفل بها رقع الأرض الأخرى، صورة من نفسي التي تبسط للحياة ولا تزيد الحياة بها، وللدنيا لتحسب عليها ومنها، ولا تزيد الدنيا بها عمارًا، وعسى أن يكون كلفي بها لذكرياتي ومعاهدي فيها، وعلى أنه أي داع يستوجب أن أعلل هذه «العاطفة» التي أنطوي عليها للصحراء؟!

ولما كنت مع الأسف لا أستطيع أن أنقلها معى إلى حيث أذهب فإني أكر إليها راجعًا على جناح الخيال! وأراها بضمير الفؤاد كلما خفيت عن عيني. وإني الآن لأتلفت من البحر إليها وأنقل عيني في جنباتها وأسرح طرفي في أرجائها … وحسبك من قوة شعوري بها ومن فرط استيلائها على خاطري واستبدادها بنفسي، أنى نظمت هذه الأبيات في بقعة منها فيها آثار بلدة الفسطاط، أناجى بها ليلة سهرتها بها وعهدًا كان لى فيها:

أيا بلدة الفسطاط ما أنت بلدة
ولكنما طيف لمؤتنف الخفض
طواك قضاء الله في الأرض حقبة
وأنشرك الإنسان نقضًا إلى نقض
خطوط وأنقاض كما جاهد الفتى
ليحيى ذكرى وهي تمعن في الغمض
خرائب من حولي وفي النفس مثلها
وأهول منها، ويل بعضي من بعض!
وكم خلت نفسي بعض أدراس نؤيها
فأقررت حتى كان يفزعني نبضي!
قضيت بها ليلا طويلا قصيره
وهل تقتصر الليلات من شدة المخض؟!
فوا أسفا! لو ههنا كنت لانثنى
قصيرًا على الليل ذو الطول والعرض
لأوحشتنى لما خلت منك رقعتي
ولم تؤتنى ذا وحشة في حشى الأرض
أآسفة للموت أم أنت يا ترى
أراحك منى الله ذو البسط والقبض؟

فأنت ترى كيف تغلب طيف الصحراء على البحر المائج، ولا عجبا فإن نفسي كما قلت بالصحراء أشبه وإليها أقرب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤