الفصل الرابع

آراء شتى

في كتاب «حديث الأربعاء»

مما يحببني في الصحراء أن لي فيها سميرين: أحدهما رجل ساذج لا يزال على الفطرة على الرغم مما يحمل من عبء السنين على كتفيه، ومن ثقل لحيته الكثة على خديه! وخير ما فيه أنه يسمح لى أن أمشط له شعراتها الطويلة وأفتلها، بقرش يأخذه؟! وناهيك به من منظر ليس أروح منه للصدر: منظر وجه حوله مثل الإطار من هذا الشعر المفتول، وفوقه عمامة خضراء ضخمة تهوى إلى الحاجبين وتخفى حتى الأذنين! ولصاحبنا هذا رأى طريف في صديقنا الدكتور طه حسين! فهو عنده من أولياء الله الصالحين! ولكتابه في نفسه روعة وحرمة، إذا رآه انبسطت أسارير وجهه والتمعت عيناه ثم مد إليه كلتا يديه، كالمتسول حين تدفع إليه صحنًا فيه طعام! وتناوله مبسملا محركا شفتيه بما شاء الله، وسبحان الوهاب وأمسكه مقلوبًا! فإن صاحبنا بفضل الله أمي؟! وأخذ ينظر إليه وينغض رأسه المثقل بالعمامة ويبسبس بشفتيه إعجابًا، وسر ذلك كله أنه يعتقد — على ما فهم مني! — أن الدكتور لا يكلم الناس إلا يوم الأربعاء!! وأنه يتناوله في كتابه سيرة والبة بن الحباب رضى الله عنه! وحماد عجرد قدس الله سره!! وأبى نواس القطب الأعظم! وقد توسل إلى مرة أن أقرأ له شيئًا من فيض الدكتور فتعمدت أن أنشده للنواسى هذه الأبيات:

مالي وللعاذلات
زوقن لى ترهات
سعين من كل فج
يلمن في مولاتي
يأمرننى أن أخلى
من راحتي حياتي
وذاك ما لا ولا لا
يكون حتى الممات
والله منزل طه
والطور والذاريات
الر وصاد وقاف
والحشر والمرسلات
ورب هود ونون
والنور والنازعات

ثم أمسكت لأن الرجل كان قد سرى في مفاصله كحميا الخمر فجعل يدق ركبتيه بكفيه، ويهز رأسه في كل ناحية هزّا عنيفًا أشفقت عليه منه وخفت أن ينكسر عنقه. ومنذ ذلك الحين صار النواسي قطبًا والدكتور وليّا نفعنا الله بهما. آمين! وبلغ من إكباره لصديقنا وحسن اعتقاده فيه أن سألني أن أشفع له عنده ليعطيه عهدًا! وها أنذا أؤدي الرسالة! فهل بلغت؟ اللهم اشهد!

وثاني السميرين الأنيسين سحلية. نعم سحلية! وأي غرابة في ذلك؟ ألا يتخذ الناس الكلاب ويصطحبونها في غدواتهم وروحاتهم؟ ألم يكن آباؤنا المصريون القدماء يعبدون حتى القطط؟ والسحالي كثيرة في صحرائي هذه. ويظهر أنها أحست منى الحب لها والشوق إلى الاتصال بها، فما خرجت إلى الصحراء مرة أو جلست على باب البيت إلا برزت لى السحالي من الشقوق وراحت تدور حولي مطمئنة غير وجلة، وتخطر أمامي وترفع لى ذيلها بالتحية! وبعضها مخطط الجلد منقوش الذيل على نحو ما ترى على آثار آبائنا الفراعنة. وما يدرينا ويدريك؟ لعل ههنا هيكلا قديمًا مدفونًا، ولعل هذه السحالي كهنة مسحورون! فإن صح هذا فقد تكون على هذه الذيول القصيرة أسرار عويصة منقوشة لو ظفر بحلها واحد من أمثال «برستيد» لجلا لنا من أنباء القرون الخالية وحقائق الطبيعة الماكرة ما ينقب عليه أمثاله عبثًا في فدافد الصعيد!

ولا بد لحبها وألفتها إياي واطمئنانها إلى من سر، وأحسبه أنها لمحت في مشابه منها! أوكأنى بها تعتقد أنى كنت سأخلق على صورتها ثم عدل بي خالقي، جلت حكمته، إلى ما هو أدنى وأهون. أعنى صورة الأناسى! فإن كان هذا هكذا فلعله السبب في أن عيني تقع على الشقوق بسرعة، وأنى كلما أمسكت عصًا ألفيتني أعالج أن أغرسها في الأرض أو أن أحفر بها في جوفها. ولكم فكرت في هذا فتمنيت أن يتيح الله لنا عالمًا ذكيّا لبقًا يثبت تناسخ الأرواح! إذن لكان هذا أبسط حل لهذه المعضلة!

وأنا ألاحظها وأجعلها قيد عيني كلما ذهبت تنساب على الرمال أمامي. ولقد خيل لى يوما، وأنا أرامق واحدة منها، أنها أطرقت قليلا ثم رفعت رأسها الدقيق وحملقت في وجهي بعينين خلتهما عيني كاهن مسحور، وقالت لى بصوت أجش يفيض عطفًا ومرثية: «مساكين أبناء آدم! ما أشد جهلكم وأقل استغناءكم عن الكتب! أو ليس هذا الذي بيمينك كتابًا؟». قلت: «نعم غير أنى لا أقرؤه لأتعلم منه بل لأنقده»؟ فابتسمت كالساخرة وقالت: «وما أشد غروركم أيضًا!». ثم أمالت رأسها وأغمضت إحدى عينيها وسألتني بلهجة مبطنة بالزراية: «وأي كتاب تقرأ؟ حدثني». فقلت: «هذا كتاب وضعه من يدعى الدكتور طه حسين في بعض من كانوا يدعون أبا نواس وبشارًا والحسين بن الضحاك، وكلهم، فيما أرى من هيئتك، مغمور خامل الذكر لم ينتشر به الصوت إلى عالمك!». فدارت حول نفسها من فرط الضجر دورتين أو ثلاثًا ثم لفت ذيلها حتى أدنته من رأسها ولبثت هنيهة تتأمل نقوشه الخفية السر، ثم التفتت إلى وقالت: «وما دكتورك هذا؟». قلت: «أستاذ في الجامعة يدرس الأدب والتاريخ أو كليهما أو لا أدرى ماذا؟». فبدا عليها الاهتمام وتركت ذيلها يعود فيمتد خلفها على مهل، وقالت: «أدب؟! وماذا كانت الدنيا تخسر لو لم يظهر فيها أدباؤكم هؤلاء؟ بل لو لم تخلقوا فيها يا أبناء آدم؟ أكانت الأرض تكف عن الدوران؟ أم كانت تستوحش خلوها منكم رائحين غادين فوق ظهرها ومن جثثكم المرمة في جوفها؟ ودكتورك هذا الذي يدرس في الجامعة هل يستمع إليه أحد؟». فقهقهت، فغيرت وابتدرتنى بهذا التعنيف: «ماذا يضحكك يا هذا؟». فقلت: «معذرة سيدتي إن كنت أسأت الأدب! نعم يذهب إليه الظماء إلى المعرفة ليكرعوا من معين علمه وأدبه. ولا نكران أنه ليس سوى إنسان، لا سحلية، ولكنه يعرف بعض الشئ». فقاطعتني بقولها: «أجبني ماذا تخسر الدنيا أو تخسرون أنتم لو فقدتم هذا الكتاب بل ما عندكم من الكتب؟». فحز في نفسي هذا التحقير الذي تلج فيه ونهضت عن كرسيى وقلت: «إني أحتج يا سيدتي على هذه اللهجة وأؤكد لك …».

•••

«أتكلم نفسك؟»

فالتفت مذعورًا إلى مصدر الصوت فإذا قريب لى ينظر إلى قلقًا وقد زوى ما بين عينيه! فعدت إلى كرسيى وعالجت نفسي حتى ثابت إلى، ثم شرعت أطمئنه ولكن هيهات!!

•••

وقد كففت بعد ذلك عن محادثة السحالي العالمة واعتضت منها محادثة القراء! … غير أن أذني ما انفكت تكن بقولها: «ماذا تخسر الدنيا أو تخسرون أنتم لو فقدتم هذا الكتاب بل كل ما عندكم من الكتب؟». وإني لأردد سؤالها هذا الآن وأعيده على سمعي ويؤلمني ويكوي غروري الجنسي وكبريائي النوعي أن يكون الجواب سلبًا قاطعًا ونفيًا جازمًا، أي لا شىء! فأما الدنيا فلا تخسر شيئًا على التحقيق. وأما الناس فهبهم كأجهل ما كانوا أو كأكمل ما يمكن أن يكونوا علمًا، فما أرى هذا يقدم أو ذاك يؤخر. أليس الفناء الشامل هو الماَل! على كل حال؟ أجيال تمضي وأخرى تأتى، كالخيالات التي تتراءى للحالم، حتى إذا استيقظ المرء اختفت! كذلك الطبيعة تحلم بنا الآن ثم في الصباح يخلو رأسها من أشباحنا!! ولعن الله السحالي فقد سودت بسؤالها عيشي حتى لقد صرت كما أقول:

أرى رونق الحسناء في ميعة الصبا
فيوضع بي شؤم الخيال ويعنق
ويشهدنيها في التراب مرمة
وقد غالها غول الحمام الموفق!

•••

ونطبق سؤال السحلية على كتاب الدكتور ونسأل نحن بدورنا:

هل فيه من جديد؟ هل زادت معارفنا به قليلا أو كثيرًا؟ أكنا نكون أجهل مما نحن الآن لو لم يكتبه؟! وأذكر أن الأدب العربي ليس إلا بعض الأدب العالمي، وأن الدكتور لم يتناول في كتابه سوى جانب واحد من فترة من عصر من عصور الأدب العربي. والجواب عن هذه الأسئلة التي أوحت بها إلى السحلية اللعينة، نعم ولا. وأعنى بذلك أن الدكتور لم يزدنا علمًا بالعصر العباسي ولم يضف إلى ما نعرفه عنه جديدًا، فلو لم يكتب هذه المقالات لما فاتنا شئ يذكر من هذه الناحية. ولكن هذه المقالات كشفت عن جانب من جوانب نفسه هو، لم يكن يتأتى لنا العلم به والاطلاع عليه لو فقدنا هذه المقالات. وهذا هو الذي ربحناه. والواقع أننا جميعًا نترجم لنفوسنا ونحدث الناس عنها ونكشف لهم عن دخائلها حين نكتب مؤرخين أو مترجمين أو متفلسفين أو ناقدين أو غير ذلك. وأحسبني لم أعد الحقيقة حين قلت — والشاهد في البيت الخامس:

يمل الفتى طول الحياة ولا يرى
على الموت إلا ساخطًا جد واجد
ويطلب، إمّا مات، أن ينصبوا له
معالم تستجدى دموع الخرائد
وتبدى جراحات الردى وكلومه
وتستمنح الأحياء ذكر البوائد
وبنسج برد الشعر مسهر جفنه
ليسبى حريم الذكر حر القصائد
بلى، ذاك دأب الناس، كل بنفسه
يعرفنا، من صادر بعد وارد
وديدنهم حتى تجف حياتنا
وتخلع ديباج الربيع المعاود
ويسكن نبض الأرض مثل قطينها
وتعلق أسباب الردى بالفراقد!

ولا يحسب أحد أن من الخسارة أن يعرفنا المرء بنفسه ولا يعرفنا بسواه. كلا! فهذا مكسب كبير وربح طائل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤