نبذة عن الصين

(١) الجغرافية

الصين مملكة واسعة الأطراف موجودة بشرق آسيا، يحدها شمالًا وغربًا أملاك الروسيا «سيبيريا والتركستان» وجنوبًا الهندستان والهند الصينية، وشرقًا المحيط الهادي.

أقسامها

قسمت الصين تحت حكم الإمبراطور «يي» في سنة ٢٢٨٦ق.م إلى تسع أيالات، وفي سنة ٢٢٧٧ق.م مدة الإمبراطور «ياو» إلى اثني عشر قسمًا، وفي عهد دولة «تشي يو» من سنة ١١٣٤ إلى ٢٥٦ق.م إلى ١٥ مملكة جمعها تحت حكمه الإمبراطور «تسونغ شي تي» في سنة ٢٢١ق.م، وقسمت دولة الهان التي حكمت من سنة ٢٠٢ق.م إلى ٢٢٠م الصين الشمالية وحدها إلى تسعة أقسام، وبعد ذلك صارت الصين كلها مملكة واحدة، فقُسِّمت إلى ١٥ قسمًا مدة دولة «المنج» أيام دخلها المرسلون، أما الآن فالمملكة الصينية تحتوي على ثلاثة أقسام كبار هي: مندشوريا «التي منها العائلة الحاكمة الآن» وتنقسم إلى ثلاثة أقسام، ثم الصين الأصلية وتنقسم إلى ١٨ إقليمًا، وأخيرًا البلاد التابعة، وهي عبارة عن بلاد المغول، وتسونجاريا، والتركستان الصينية، وبلاد التَّبت. وليس في جميع أرض الصين ما يصلح للزراعة غير سهل يمتد من شمال بكين حتى ينتهي عند بحيرة بوونج بإقليم كيانج سي، ويبلغ طوله ألف كيلومتر، وأما ما بقي فهو نجود وصحارى وجبال، أشهرها سلسلة جبال الصين الأصلية الممتدة من الغرب إلى الشرق، ومنها جبال تسنج لنج «الجبال الزرقاء» وأعلى قممها يبلغ ٤ آلاف متر، ثم جبال نان شان «الجبال الجنوبية» ثم تيان شان «الجبال السماوية» ثم كوين لون التي تفصل التركستان الصينية عن صحراء جوبي، ولبعض هذه الجبال شهرة تاريخية ودينية، كجبال ليوشان التي سكنها في آخر حياته الفيلسوف «تشوهي»، وكجبال تاي شان المقدسة عند البوذيين.

أنهارها

يروي بلاد الصين أنهار عظيمة منها نهر بي هو «النهر الأحمر» وهو يمر بمدينة بكين، ثم هوانج هو «النهر الأصفر» وهو يأخذ منبعه من بحيرة أورنج نور، وسلسلة جبال بايين قره، ثم نهر يانج تسي كيانج «النهر الأزرق» وهو أعظم أنهار الصين، تنبع فروعه العديدة من أكثر الجبال الغربية، وأخيرًا نهر سي كيانج، وينبع من سلسلة جبال نان شان.

معادنها

يوجد ببلاد الصين من مناجم الفحم وحده ما يربو على ما في إنكلترا خمسين مرة، وأكثر ما يوجد هو والحديد في شمال جبال تسنج لنج وجهات شان سي وكانسو وهونان، ويوجد غير ذلك الرخام والرصاص والنحاس والخارصين، ثم الذهب والفضة في جهات كوانج تنج.

حيواناتها

أهم ما فيها من الحيوانات دود القز، ثم نوع قريب من الثور يدعى «ياك»، ثم الغنم والماعز «بالتبت»، ثم الجمال «ببلاد المغول» والخيل والخنازير والطيور.

محصولاتها

الشاي، وهي وحدها تخرج منه ثلاثة أرباع ما في العالم بأجمعه، ثم الأرز الذي هو أهم مأكولات الصينيين، ثم القمح والشعير والدخن والتوابل والتيل والكتان والدخان وقليل من القطن.

مدنها الشهيرة

  • بكين: وسكانها ٩٥٠ ألف نفس، وهي عاصمة المملكة من سنة ١٤١١م، وفيها معبد للفيلسوف الشهير كونفوسيوس، والصينيون يضحون فيه الضحايا إلى الآن في أول وآخر يوم من الشهر الثاني من فصل الخريف والربيع، وهي أعظم مدينة بقسم بتشيلي.
  • تشنج توفو: «٨٠٠ ألف» مركز التجارة بين أقاليم يونَّان وكانسو والتبت.
  • شنغاي: أعظم ميناء في الصين للتجارة الأوروبية.
  • فوتشيو: أشهر مدينة لتجارة الشاي.
  • كانتون: «١٦٠٠ ألف» أهم مدينة للتجارة في جنوب الصين، وهي موجودة على نهر سي كيانج.

تجارتها

قومت التجارة الصينية في سنة ١٨٨٨ فكان الوارد من الأفيون وحده مقدرًا بمبلغ ٣٢٣٣٠٥٠٦ تايل «قيمة التايل ٥٫٩٣ فرنكات» ومن القطن بمبلغ ٤٤٤٣٧٥٢٥ تايلًا، ومن الأرز بمبلغ ٩٦٣٣٨٢٩ تايلًا، أي أن الوارد من الأفيون وحده يساوي ما يرد من الأرز الذي هو أهم مأكولات الصينيين ثلاث مرات ونصفًا، وكان الصادر من الحرير مقدرًا بمبلغ ٣٢١٨٠٢٩٨ تايلًا، ومن الشاي بمبلغ ٣٠٢٩٣٢٥١، أي أن هذين الصنفين وحدهما يعادلان ثلثي التجارة الصادرة بأجمعها.

مساحة الصين

تبلغ أحد عشر مليونًا ونصفًا من الكيلومترات المربعة، بمعنى أنها وحدها أوسع من أوروبا بأجمعها، أما عدد سكانها فيبلغ ٤٠٠ مليون من الأنفس، فهي بذلك ثلث العالم كله.

(٢) التاريخ

يدل التاريخ على أن الصين إذا لم تكن أقدم بلاد العالم بأسره، فهي ولا شك من أقدمها وأسبقها إلى المدنية والعمران، إلا أنها بقيت مجهولة منزوية لا يسمع الناس عنها شيئًا حتى جاء العرب وذهبوا إليها، فكتبوا عنها كتابات كثيرة كانت السبب في توجيه أنظار العالم إليها؛ يدل على ذلك أيضًا أن الغربيين لم يجدوا لا في كتب الرومان ولا في كتب اليونان ولا عند غيرهم إلا أشياء تافهة عن هذه البلاد، فلبثوا لا يعرفون سوى وجودها في خرط الجغرافيا، حتى ترجمت الكتب العربية التي دلت على أن العرب كانوا يذهبون إليها بسفنهم بين سني ٨٥٠ و٨٨٧م للمتاجرة.

أما تاريخ الصين فيقول الصينيون أنفسهم بأنه قديمٌ جدًّا، يبتدئ من الملك «هوان تون» الذي كان يعيش قبل الميلاد ﺑ ٩٦ مليونًا من السنين، والذي كان ذا قدرة على الأرض والسماء والناس وجميع الأشياء، ثم لما مات خلفته أدوار ثلاثة: دور السماء ودور الأرض ودور الإنسان، والذين حكموا في كل هذه الأدوار هم «الهوانج» ففي الدور الأول كانوا ذوي أجسام كأجسام الثعابين، وفي الثاني كانوا ذوي وجه طفل وجسم ثعبان ورأس غول وسيقان حصان، وفي الثالث كانوا ذوي وجه رجل وجسم غول، ثم صاروا ذوي وجه إنسان وجسم ثعبان. ويقولون أيضًا: بأن هذه الأدوار لم تكد تنتهي حتى كانت بنت الإله «وسيُّ» تتريض على شاطئ النهر فصادفت الروح الكبيرة فتأثرت بها وللحال نزل قوس قزح وأحاط بها، فبعد أن بقيت اثني عشر عامًا حاملة وضعت ولدًا هو الملك «فوهي» الذي وضع الكتابة الصينية سنة ٣٤٦٨ق.م، وخلف هذا الملك «يين تي» فاخترع المحراث وعلم الناس الزراعة واستخراج الملح من الأرض، ثم شرَّع النظامات الحربية.

هذا ما يقوله الصينيون أنفسهم، وهو ولا شك من الخرافات التي لم يسلم منها تاريخ أُمَّة من الأمم. ولعل تاريخ الصين الحقيقي لا يبتدئ إلا من الملك «هوانغ تي» وهو ينقسم إلى ٢٢ دولة، فأول ملوك الدولة الأولى هو «هوانغ تي» المذكور، وهو الذي علمهم الهندسة، واخترع لهم العربات والسهام والنقود، كما أن امرأته علمتهم تربية دود القز، وبعد أن حكم مائة سنة توفي، وجاء ابنه فحكم ٨٠ عامًا، ثم جاء الملك «ياو» وفي مدته كتب أحد الكتب الخمسة المقدسة عند الصينيين، وهو أقدم كتاب في العالم، ويقال بأنه وضع على باب قصره لوحة معرضة لكل من شاء أن يكتب عليها حاجته ثم يدق جرسًا بجانبها، فيأتي الملك بنفسه ليرى ما كتب ويقضي فيه، كذلك يقال بأنه هو الذي جمعهم أُمَّة بعد أن كانوا أشتاتًا وعرفهم قوة الاتحاد. ومما يحكى عنه أن شيخًا قابله ذات يوم فسأله «هل تحب أيها الملك المقدس أن تكون ذا غنى واسع وأن تعيش طويلًا، وأن ترزق بنين كثيرين؟ فأجابه: كلا ثم كلا، لأن الغنى يجلب التعب، والبنون يشغلون البال، وطول الحياة يثقلنا بالذنوب. فقال الشيخ: نعم، إلا إنك إذا كنت ذا بنين كثيرين فسهل عليك أن تقسم الملك بينهم فترتاح، وإذا كنت واسع الغنى لمكنك أن تقضي حاجات الفقراء التعساء، وأخيرًا إذا كنت صاحب ملك مستتب وحكومة رشيدة فالحياة هنيئة، وإن لم تكن لا هذا ولا ذاك؛ فالفضاء واسع يعيش فيه الحكيم بعقله، فلِمَاذا تكره أن تعيش طويلًا؟»

ويُحكى عنه أيضًا أنه حينما أراد أن يختار ولي عهده أمر الناس فاجتمعوا ثم وقف فيهم خطيبًا فقال: «دلوني على رجل نشيط يعرف مقتضيات الزمان وأنا أجعله وليَّ عهدي. فأجابه أحدهم: هذا. مشيرًا إلى ابن الملك نفسه، فلم يرض وقال: كلا، فإنه وإن كان نشيطًا إلا أنه غير صادق، ومثله غير أهل لتولي أمور الناس. فقال واحد: إذن هذا. وأشار إلى الوزير، فقال: كلا، لأنه مهذار ثرثار، ثم هو ذو كبرياء وخيلاء.» أخيرًا وكلوا إليه أن ينتخب ولي عهده بنفسه، فانتخب رجلًا من أواسط الناس اسمه «يوشون».

الدولة الأولى

تولى «يوشون» هذا بعد موت «ياو» وكان عادلًا، فشرَّع قانون العقوبات ووضع الموازين والمقاييس، ومنه يبتدئ حكم العائلات لأنه جعل الحكم وراثيًّا في عائلته، وبعد موته خلفه ابنه «كي» فلم يعش إلا قليلًا ومات، فوليه «تاي كنغ» وكان مولعًا بالصيد واللهو حتى غضب منه أولاده، وهاجت ضده الأُمَّة، فخلعه الوزراء، وملَّكوا أخاه «شون كنغ»، وأعظم ما حدث في أيامه أن الشمس كسفت فجاء بوزرائه وأمر بهم فقُتِلوا جميعًا لأنهم لم ينبئوه عن الكسوف قبل حدوثه.

بعد هذا الملك جاء ملوك كثيرون انغمسوا في الترف واللهو ولم يلتفتوا إلا لملذاتهم الخصوصية، فحق عليهم المثل الصيني الذي يقول «إن الأقدار ترمي بالأُمَّة بين أيدي أقوام ليسعدوها، فإذا لم يحافظوا عليها كما يجب أو لم يدعوا سم خياط مما قسم لهم إلا ملئوه ذنوبًا؛ نزعتها من أيديهم وسلمتها لسواهم» فانقرضت الدولة الأولى بانقراض هذه العائلة، وجاءت الدولة الثانية في سنة ١٧٦٦ق.م بعد ثورة عظيمة قام بها رجل يدعى «شانغ».

الدولة الثانية

جلس «شانغ» على العرش بعد أن خلع سلفه ثم قتله، فسمى نفسه «شنغ شانغ» ثم بنى حمامًا جميل الصنع، لم تر الصين مثله، وكتب في أعلاه: «إذا أردت أن تكون دائمًا أحسن من ذي قبل فطهر نفسك كل يوم، طهر نفسك كل يوم، طهر نفسك كل يوم.»

ويزعمون أن المطر غاب في سنة من السنين حتى أجْدَبَت الأرض ونزل القحط، فلم يكن إلا أن ذهب الملك إلى الجبل وصلى وركع ودعا حتى تفتحت عيون السماء، وكانت سنة خيرات كثيرة. وبعد بضعة أعوام مات فوليه من أفراد عائلته ملوك كثيرون، ثم جاء الملك «ساوس» وكان فظ القلب غليظ الطبع، حتى لقد قتل فتاة جميلة لأنها لم تطعه في أغراضه، وقتل أخرى لأنها أكلت ثمارًا فأراد أن يراها في جوفها.

ومما يروى عنه أن الوزير نصحه ذات يوم بالعدول عن الظلم والتعلق بأهداب العدل، فلم يكد يسمع منه ذلك حتى قال: «حقًّا إنك لحكيم، وقديمًا سمعت أن للحكماء سبع فتحات في القلب، فلننظر إذا كان ذلك صحيحًا.» ثم شق بطنه، ولما لم تطق الأُمَّة ظلمه هاجت عليه وقتلته، وبه انتهت الدولة الثانية.

الدولة الثالثة

وهي دولة «شي يو». بعد أن قُتِل «ساوس» تولى بالانتخاب الملك «يو وان» فأسس عائلة جديدة، أشهر ملوكها «مو ونغ» الذي فتح فتوحات كثيرة وأخضع أممًا عديدة، وما عداه فليس في ملوك هذه الدولة إلا من هم ظالمون مبذرون أغضبوا الأُمَّة منهم، حتى اضطروها للثورة، فقتلت من أعضاء عائلتهم ثلاثمائة رجل. ومما يأخذ بالعجب أن أعظم فيلسوفين وُجِدا في الصين، وهما «كونفوسيوس» و«لاو تسو» لم يوجدا إلا في الأيام الأخيرة من حكم هذه الدولة، دولة الظلم والهياج والاضطراب.

الدولة الرابعة

وهي دولة «تسين» أو «تسنغ». من أشهر ملوك هذه الدولة الملك «شي ونغ تي» الذي بنى السور العظيم ممتدًّا من خليج بتشيلي، ومارًّا بالحدود الشمالية الصينية على مسافة ١٤٠٠ ميل، وكان قد بناه لاتقاء غارة التتار، ولكنه لم يكد يفرغ من بنائه ويرد التتار على أعقابهم حتى أخذه الزهو، وأراد أن يغالط التاريخ ويجعل نفسه أول ملوك الصين، فاضطهد حفظة الحوادث القديمة، وأمر بإحراق الكتب في جميع البلاد، إلا أنه مات قبل أن تتم له أمنيته، وبموته أخذت المشاكل والاضطرابات تنمو وتزداد حتى انتهت بانتهاء الدولة.

الدولة الخامسة

وهي دولة «الهان». أول ملوكها الملك «كاوتسو» أو «يوتنغ» وهو الذي رأس الثورة ضد الدولة الرابعة فقتل آخر ملوكها وجلس على العرش، فسمى دولته «هان» باسم قرية صغيرة ولد فيها. وبعد أن استتب له الأمر وأخلدت الأُمَّة إلى السكون استسلم للملذات، ولم يعد يفكر في مصالح الأمة، فثار القواد ضده، واتفقوا مع قبائل «الهيونج نو» على خلعه، فلما رأى ذلك جمع ما تبقى له من الجيش، وحارب الثائرين الذي أوشكوا أن يستظهروا عليه لولا أنه ترضَّى قبائل «الهيونج نو» بإعطائهم ابنته عروسًا لملكهم، وهو ما يعتبره الصينيون عارًا لهم وخزيًا كبيرًا، وكان من رأي هذا الملك عدم الالتفات للكتب والعلوم والاشتغال بالسيف والحروب، فقابل ذات يوم عالمًا اسمه «لوكيا» فسأله يقول: «لقد فتحت البلاد، ودوخت العباد بالسيف، وها أنا قد أصبحت رئيسك آمر فيك إذا أردت، فقل لي بماذا نفعتك العلوم؟ فأجابه: نعم، إنك فتحت ودوخت بالسيف، ولكن البلاد بعد الفتح والتدويخ لا تساس إلا بالكتب والعلوم، أترى لو أن الدولة التي قبلك عملت بما في الكتب من النصائح، هل كنت تجلس على العرش الذي أنت عليه جالس؟» ومن هذا الحين أقلع الملك عن رأيه الأول ومال إلى الكتب، فتعلم كثيرًا حتى ألَّف وقال الشعر. ويُسنَد إليه أنه جلس في يومٍ من الأيام إلى حاشيته فقال: «أجيبوني بماذا تأهلت لأن أكون ملكًا لكم؟ فقالوا جميعًا وهم يتملقونه: بفضائلك الكثيرة. فقال: كلا ثم كلا، ولكنني تأهلت لأن أكون ملكًا لكم بمعرفتي أميال كل واحد منكم ثم استخدامكم طبق هذ الأميال.»

وبعد موته تولى ابنه «هويي تي» وكان صغيرًا فجُعِلت أمه وصية عليه، ولم تمر سنتان حتى مات، فخشيت أمه أن يضيع الملك من يدها؛ فجاءت بابن فلاحة أمرت بقتلها وجعلته ملكًا بدل ابنها المتوفى، وأقامت نفسها وصية عليه، ولكن «يين تي» أخا المتوفى ثار ضدها، فنزع الملك من يدها وجلس على العرش، فعدل في الرعية وسار سيرة الزهاد؛ حتى إن كثيرًا من الشعوب التي كانت خارجة عن حكمه خضعت له من تلقاء نفسها رغبة في عدله وفضائله، أخيرًا مات فجاء ابنه، ثم جاء الملك «يو تي» أو «ياو يو تي» ثم غيرهما كثيرون، وانتهت الدولة الخامسة.

الدولة السادسة

أو دولة «الهان» الشمالية. منها الملك «هوتي» وهو أول من منح الخصيان الحق في الوظائف العالية، وفي مدته ظهر الطاعون في الصين وفشا بين الناس، فوجد له العالِم «شانغ كيو» دواءً شافيًا (كذا يقول الصينيون). وجعل كلما داوى به رجلًا ضمه إلى حزبٍ له حتى إذا قوي وأصبح ذا جيش يبلغ ٥٠ ألف مقاتل هاج على الملك يريد أن يزحزحه عن العرش، فهاجمه في القصر وقبض عليه وألقاه في السجن، إلا أن قائد الملك جمع جيشه في الحال وحارب هذا العالم فهزمه شر هزيمة، وأنقذ سيده من السجن.

ولم يعش هذا الملك طويلًا، فمات وخلفه ابنه، ثم ملوك آخرون تنازعتهم الثورات والمشاكل حتى انتهت دولة الهان سنة ٢٢٠ ميلادية، وفي مدة هذه الدولة كثرت الوفود من الممالك الأجنبية إلى ملوك الصين، فقد جاء في جغرافية فونسان أن الإمبراطور الروماني «مارك أوريل» أرسل في سنة ١٠٥م وفدًا إلى الصين وصلها بحرًا، وأن الإمبراطور «جوستنيان» أرسل بعده جملة بعثات جلبت عند عودتها دود القز. وجاء أيضًا أنه من سنة ١٥١ إلى ١٧٥م قدم إلى كل من «هياو يو نن تي» و«هياو لنج تي» وفود من قِبَل ملوك الهند والإمبراطور «أنطوان» الروماني.

الدولة السابعة

أول ملوك هذه الدولة الملك «يو يوتي»، وقد كان مولعًا باللهو والملذات، حتى إنه جعل بجانب قصره حدائق كثيرة اختط فيها طرقًا شتى، ثم صنع عربة صغيرة لا تسع سواه، فكان يركب فيها، ويأتي بالخرفان تسحبها، ويأمر نساءه بترصد العربة على الطرق، فأيهن جمعت من الحشائش أطيبها وأنضرها بحيث استطاعت أن تميل بالخرفان إلى حيث هي راصدة نزل عندها وقضى سحابة اليوم معها.

وبعد موته قامت الثورات فلم تزل تشتعل حتى جاء الملك «تشاو» فتركها وشأنها ولم يلتفت إلَّا لملاذه الخصوصية، فابتنى قصرًا يسع ١٠ آلاف نفس، نواقيسه من الذهب، وجدرانه من الرخام، وعمدانه من الفضة، وأبوابه مرصعة بالحجارة الكريمة، ثم أسكنه جملة آلاف من ربات الجمال، وجعل منهن ألفًا حرسًا له أينما ذهب سرن في موكبه راكبات الجياد، وكان من ذلك أن الأُمَّة سئمت حكمه وحكم دولته؛ فاستمهلته إلى أن مات ثم سلمت العرش لغير عائلته.

الدولة الثامنة

ابتدأت سنة ٤٢٠م، ولم تطل مدة حكمها لأن الحروب والثورات تناولتها من كل جانب.

الدولة التاسعة

حكمت سنة ٤٨٣م وكان حظها مثل حظ سابقتها.

الدولة العاشرة

تولت سنة ٥٠٣م ونالها ما نال أختيها.

الدولة الحادية عشرة

جلست سنة ٥٥٧م وأصابها ما أصاب الثلاث السابقة.

الدولة الثانية عشرة

ابتدأت سنة ٥٨٩م وانتهت سنة ٦١٨م، ومن ملوكها الملك «ينغ تي» كان معروفًا بالعدل واتساع السلطة، إلا أنه كان محبًّا للشهوات، فجعل له حرسًا من النساء، واتخذ لنفسه محبوبات كثيرات، بنى لهن قصورًا فاخرة، كانت السبب في إثقال الأهالي بالضرائب، فثاروا عليه وخلعوه.

الدولة الثالثة عشرة

أول ملوكها الإمبراطور «لي يان» أو «تاي تسونغ»، وهو معدود من أبطال الصينيين، ثار عليه إخوته فقتلهم، ثم التفت إلى الثورات فأطفأها جميعًا، وأخيرًا جهز جيشًا كبيرًا أرسله إلى أواسط آسيا فظل يفتح البلاد، ويقهر العباد إلى أن وصل إلى حدود بلاد العجم والتركستان.

وفي مدته طرد العرب الملك «يزدجرد» شاه العجم، فاحتمى عنده، وذلك سنة ٦٤٢م/٢٢ﻫ، ومما يؤْثَر عنه أنه لم يكن يأمر بإعدام أحد إلا بعد صيام ثلاثة أيام يحرِّم على نفسه فيها أن يسمع موسيقى أو أن يلهو بشيء من الملهيات، كذلك يؤْثَر عنه أنه وسع الفنون الحربية كثيرًا، وأنه هو الذي قال: «لا مَلِك إلا بأُمَّة، ولا أُمَّة إلا ولها مَلِك، فإذا استَخدم المَلك الأُمَّة لقضاء أغراضه وملاذه فقد أصبح كالذي يقطع من لحمه ليشبع بطنه.» وأنه قال لمربِّي ولي عهده، وقد أخبره بأنه كسول: «لا تُعْلِمه أنك أنبأتني وإلا كرهك ولم يعد يستفيد شيئًا.»

مات فحزنت الأُمَّة عليه حزنًا شديدًا حتى ليقال بأن منها من أثخن وجهه بالإبر، ومن قطع شعره، ومن ضرب آذانه بجانب النعش إلى أن خرج الدم، وفي مدته دخلت المسيحية الصين، وذلك سنة ٦٣٨م.

بعد سبعين عامًا تقريبًا من موت هذا الملك انقضت في ثورات واضطرابات جاء الإمبراطور «جوان تسونغ» في عام ٧١٣م، وفي أيامه أخذت المناوشات تبتدئ بين الصينيين والعرب، فكان من ذلك أن الأمير قتيبة بن مسلم عند ذهابه لفتح بلاد كشغر التقى بأحد الحكام الصينيين سنة ٧١٤م/٩٦ﻫ، ثم كان أن بعض القبائل التركية اتصلت بالصين فدخل أحد أمرائها الذي يسميه الصينيون «نجان لو شان» العسكرية الصينية، وظل يرتقي حتى صار قائد الجيوش وحاكمًا في مقاطعات كثيرة، ولم تكن إلا سنين قليلة حتى أضرم نار الثورة ضد الإمبراطور، ودخل عليه العاصمة فخلعه وجلس على العرش، إلا أن «جوان تسونغ» أعطى في الحال ختم الإمبراطورية لابنه، فأخذه هذا وجمع به حوله جيشًا كثيفًا حارب به «نجان لو شان» فقهره وقتله. وقد قال بعضهم بأن القاتل هو ابن التركي نفسه، وتبوأ سرير الملك بدل أبيه، فسمى نفسه «سو تسونغ» وفي عهده كثرت العلاقات بين الصين والعرب، فأرسل الخليفة هارون الرشيد إليه ثلاثة سفراء قابلهم بالرعاية والحفاوة. كذلك في عهده ثارت قبائل أواسط آسيا واستقلت ببخارى.

الدول ١٤ و١٥ و١٦ و١٧ و١٨

تعاقبت هذه الدول في قليل من السنين، ولم يكن من الحوادث المهمة في أيامها سوى المنازعات الداخلية.

الدولة التاسعة عشرة

أول ملوكها الملك «تايي تسو الثالث» جلس على العرش فأمر بأن «تفتح أبواب قصره الأربع كما فتحت أبواب قلبه لرعاياه، ومما ينقل عنه أن جيشه كان يحاصر مدينة «نانكين» ويضايقها، فمرض، فجاءه القواد يعودونه فخاطبهم يقول: «ها أنتم تروني مريضًا، ولكني أعلم بأن دوائي في أيديكم. قالوا جميعًا: وما هو هذا الدواء؟ أجاب: هو أن تحقنوا دماء الأهالي.» فلم تكن إلا ساعات حتى فكوا الحصار؛ فقام الإمبراطور معافى سليمًا.

كذلك مما ينقل عنه أن كوكبًا ذا ذنب ظهر في أيامه، فخاف منه وحسبه عقابًا له على ذنوب ارتكبها، فأسرع بتخفيف الضرائب عن الأُمَّة، ثم جمع نخبة رعيته، وسألهم واحدًا واحدًا أن يسامحوه عن ذنوب ربما اقترفها وهو لا يعلم.

وفي عام ١٠٢٣م مات، فتولى ابنه «دجين تسونغ» وكان مثل أبيه رحيم القلب محبًّا للعلوم شفوقًا برعاياه، إلا أنه لم يعش كثيرًا، فخلفه ملوك كثيرون إلى أن كانت سنة ١١٦٣م، فابتدأ أمر المغول بالظهور، ثم سنة ١٢٢٦م فاستولى «جنكيز خان» على جزء من الصين، ويقال بأن بعض وزرائه أشاروا عليه إذ ذاك بقتل جميع الأهالي، فكاد أن يفعل لولا أن النصحاء نهوه عن ذلك.

الدولة العشرون

وهي دولة المغول. أسس هذه الدولة «جنكيز خان» وخلفاؤه الذين استمروا في الفتح حتى لم تجئ سنة ١٢٧٥م إلا وقد كان الإمبراطور التتري «كوبلايي خان» قد حكم الصين كلها، وقسمها بين قواده وأهله، وطمح إلى اليابان فلم يرتد عنها إلا بعاصفة شديدة أغرقت أسطوله. وفي مدته دخل «ماركو بولو» الرحالة الشهير بلاد الصين، فتقرب منه حتى صار حاكمًا على كثير من المقاطعات، كذلك في مدته انتشر الإسلام في الصين انتشارًا عظيمًا.

بعد «كوبلايي» حكم «تشنغ تسونغ» ثم غيره كثيرون، إلى أن تولى «شون تي» وهو آخر إمبراطرة المغول، جلس على العرش وعمره ١٨ سنة، فانغمس في الملاهي والملذات، حتى ليقال بأن مجاعة وقعت في أيامه فهلك فيها ٩٠٠ ألف نفس أو أكثر، وهو غارق في حدائقه بين ست عشرة فتاة يغنين له ويطربنه، ولما ضجرت الأُمَّة من إهماله وتلاهيه ثارت عليه وخلعته، وبخلعه انتهت الدولة.

الدولة الحادية والعشرون

وهي دولة «المنج»، مؤسس هذه الدولة هو الإمبراطور «هونغ يو» حكم سنة ١٣٦٨م، فأظهر من صفات العدل وسمو الإدراك ما حبب الأُمَّة فيه؛ من ذلك أنه رأى يومًا أحد الموظفين «ماندارين» مرتديًا بثياب فاخرة، فاستدناه منه ثم قال: «أجبني بكم اشتريت هذه الثياب؟ أجاب: بخمسمائة قطعة من الفضة. قال: بهذا المبلغ تستطيع عائلة أن تعيش مسرورة طيبة الخاطر، فشراؤك هذه الثياب دليل ولا شك على أنك كثير التبذير، فحذار حذار من أن تظهر أمامي بها مرة أخرى وإلا طردتك من خدمتي.»

ومنه أيضًا أنه سأل أحد الموظفين يومًا: «ما حاجة الأُمَّة الآن؟ أجاب: لست أدري لأن الدرس والمطالعة يشغلاني عن سواهما. قال: ساء ما تقول، فإن المرء وهو في دور التعليم وجب عليه حقيقةً أن يشغل بالدرس والمطالعة عن كل شيء، ولكنه إذا ترك هذا الدور وصار موظفًا كما أنت الآن، فقد وجب عليه أن يدرس كتاب المجتمع الإنساني ليعرف ما يحيط به من الحوادث، وإلا عاش جاهلًا كأنه ما تعلم.»

مات هذا الإمبراطور سنة ١٤٠٣م، فوليه ابنه «كين يون تي»، ومما يروى عنه أن بعضهم اكتشف في أيامه معدنًا ثمينًا، فلما علم به جمع وزراءه وسألهم يقول: «أفتوني في هذا المعدن، هل ترونه يشبع بذاته الجائع أو يكسو العريان؟ أجابوا جميعًا: كلا. قال: إذن فردمه والاشتغال بغيره مما يشبع ويكسو خير وأولى.» ثم أمر فردم.

مات هذا الملك وخلفه ملوك ضعاف، فأراد المغول أن يعودوا إلى البلاد مرة أخرى، فساروا بجيشهم قريبًا من العاصمة بكين» ولكنهم لم ينجحوا إلا في سنة ١٦٢١م حيث هددوا الإمبراطور «هي تسونغ» واضطروه بأن يستعين بالبورتغاليين. ثم دخلوا «بكين» وأمروا الصينيين جميعًا بحلق رءوسهم، فلم يرض أكثرهم وفضلوا أن يُقتَلوا فقُتِلوا، ولم يطل حكم المغول في هذه المرة، فدخل الإمبراطور «شون سي» عام ١٦٤٤م «بكين» بعد قهرهم وعمره ٦ سنوات، فاحتفل الصينيون به احتفالًا كبيرًا، وجعلوه مؤسس الدولة الثانية والعشرين.

الدولة الثانية والعشرون

وهي دولة المندشوريين الحالية، أول ملوكها «شون سي» المتقدم الذكر، كان كريمًا عادلًا وفاتحًا استولى على كثير من البلاد، ولكنه في آخر حياته استسلم للملذات مع امرأة قتل زوجها وتزوجها، ثم حزن عليها إذ ماتت بعد عام واحد من اقترانها به، فتمادى في أعمال وحشية كثيرة، وأخيرًا أفاق لنفسه وتذكر كل ما كان منه، فندم ومات من الخجل وتوبيخ الضمير.

ثاني ملوكها «كنغ هي» حكم سنة ١٦٦٢م فاشتهر بطول الحكم وكثرة الفتوحات وارتفاع العظمة، حتى إن المرسلين الجزويت قارنوه بالملك لويس الرابع عشر ملك فرنسا، وقد كان عند بدء حكمه صغيرًا؛ ولذلك جعلوا له كفلاء طردوا من قصره ٤ آلاف خصي، وأصدروا قانونًا بعدم ترقي الخصيان في الوظائف.

ومن أهم ما حدث في أيامه أن أحد القرصان «لصوص البحر» واسمه «كوكسنجا» حارب الأساطيل الصينية فكسرها وأسر منها ٤ آلاف رجل، فلما رأت الحكومة أنه أسر هذا العدد وقطع آذان المأسورين وجدع أنوفهم، أرادت أن تداري خجلها، فأمرت بقتلهم جميعًا بحجة أنهم لم يدافعوا عن أنفسهم حتى الممات، أما «كوكسنجا» فإنه استولى على جزيرة «فورموز» ولم تستطع الصين أن تنزعها إلا من يد خَلَفه كما سيأتي.

كذلك من الحوادث المهمة أن الإمبراطور أرسل في طلب رجل اسمه «أوسان كوي» كان حاكمًا في أحد الأقاليم، فلما بلغ الطلب هذا الأخير قال: «إذا كان المندشوريون يريدونني فها أنا ذاهب إليهم في مقدمة ٨٠ ألف مقاتل.» ثم سار قاصدًا العاصمة ليهاجم الإمبراطور، ولكنه لم يفلح في عمله فقهر، ولم يكد الإمبراطور يطفئ هذه الثورة حتى قامت غيرها تحت رئاسة أمير من نسل «جنكيز خان» فقابلها رغمًا عن صغر سنه بعظيم النشاط والدهاء حتى فاز على خصومه، وبدد جمعهم في قليل من الزمان، وبعد ذلك استتب له الحكم فغزا جزيرة «فورموز» واسترجعها، ثم حول أنظاره إلى أواسط آسيا يريد الفتح، فاتفق إذ ذاك أن رئيس قبائل «تسونجار» المدعو «جلدان» كان سائرًا في أواسط آسيا يعمل السيف في بلاد المسلمين سِيَّما: سمرقند وبخارى ويرقند وكشغر، فانتبه له الإمبراطور، وأراد صده فقصده بجيش عظيم، وبعد جملة وقائع استطاع أن يخضعه بعض الخضوع، ولكنه لم يكتف بذلك فحاربه مرة أخرى ودخل بلاده. وقد كان يصحبه في هذه الحروب بعض السياح الأوروبيين، وهم الذين كتبوا عنه، فقارنوه بالملك لويس الرابع عشر، وقالوا في صفاته إنه كان عالمًا شاعرًا حث الأهالي مرارًا على تعلم اللغات الغربية وترجمة كتبها إلى اللغة الصينية، واحتفى كثيرًا بالمرسلين الجزويت.

مات هذا الإمبراطور في سنة ١٧٢٢م؛ أي: بعد حكم ٥٠ سنة تقريبًا، فكتب قبل موته وصية قال فيها: «إنني وإن كنت لا أجسر على القول بأنني هذبت أخلاق أُمَّتي إلى الحد المرغوب، ولا على الادعاء بأنني أسعدت كل عائلة، وأعددت لكل شخص ما يطمح إليه، إلا أنني أستطيع التأكيد بأنني في كل أيام حكمي لم أكن أقصد إلا توطيد السلام وتهيئة الراحة لجميع أفراد الرعية كل بما تسمح له حالته.» ثم قال: «إنني لم أصرف قط شيئًا من أموال المملكة الموكولة إليَّ، والتي هي من دم الأمة إلا فيما يلزم للجيش ودفع المجاعات، كما أنني كفيت الأهالي مؤنة تزيين البيوت بالحرير أثناء تجوالي في المملكة، ووفرت للحكومة مبالغ كثيرة إذ جعلت ميزانيات المصالح لا تزيد عن ٣٠ ألف قطعة من الفضة لكل منها، في حين جعلت ميزانية الري وتصليح الكباري ثلاثة ملايين قطعة.»

ثالث ملوكها الإمبراطور «يونغ تشنغ» تولى بعد موت أبيه بعهدٍ منه، فاضطهد المرسلين فأرسل إليه البابا «كليمان الحادي عشر» وفدًا برسالة، فلما استلمها قال مخاطبًا الوفد: «إنكم ترغبون أن يكون الصينيون مسيحيين، ولكن ما مصيرنا إذا تم لكم ذلك؟ لعلنا نصبح تابعين لملوككم؟ ذلك لا شك فيه، فإن الصينيين متى تنصروا لم يعودوا يسمعون غير صوتكم أو يجيبون غير داعيكم، وإذا قلتم بأن لا خوف علينا الآن، قلت: نعم، ولكن الخوف كل الخوف حينما تفد السفن محملة بالآلاف منكم.» ثم أمر بطردهم جميعًا فطردوا.

وبعد ذلك التفت إلى حكومته فنظمها أحسن تنظيم، وسار في الرعية سيرة العدل والرفق، فمن ذلك أنه أمر بأن لا يُعدَم شخص حتى تُعرَض قضيته عليه ثلاث مرات، وأنه شهد الأرض في يوم ٣٠ سبتمبر سنة ١٧٣١م زلزلت في «بكين» فأماتت خلقًا كثيرين؛ فلم يلبث أن أمر رجال حكومته بدفن الأموات حتى سبقهم هو ودفن بيده مائة رجل. وأخيرًا أنه كتب إلى حكام الولايات بأن يرسل إليه كل منهم سنويًّا أنشط وأقنع مزارع ليكافئه بمنحه لقب «ماندارين» وإعطائه الحق في لبس ثياب القضاة، وزيارة الحكام بدون حجاب، والجلوس مع الإمبراطور نفسه لتناول الشاي.

رابع ملوكها: الإمبراطور «كيين لونغ» وفي مبدأ حكمه نجح خلفاء «جلدان» في مضايقة المملكة الصينية، وأرادوا تجهيز حملة عظيمة تخضع جميع آسيا كما فعل «جنكيز خان»، فلما رأى ذلك خاف على مملكته، فاحتال حتى جذب نحوه بعضهم وجمع جيشًا حارب به الباقين فأخضعهم، ودخل ممالك التتار فاستولى عليها وعلى البلاد الإسلامية التي فتحها «جلدان»، وبذلك امتدت حدود الصين إلى بلاد العجم، وقد ساعدته في هذه الحرب بعض القبائل التركية، فكافأها بكثير من الامتيازات، سِيَّما وقد اعترفت بعد ذلك بسيادته دون أن تدخل تحت سلطته، وفي سنة ١٧٥٧م حاول والي التبت أن يستقل، ولكنه فشل وقُتِل في الحرب، ومن هذا الحين عاشت الصين في هدوء وسلام، لم يكدر صفوها سوى حرب قليلة الأهمية مع برمانيا في سنة ١٧٦٨م، إلى أن كانت سنة ١٧٩٦م فتنازل الإمبراطور عن العرش لابنه «كياكنغ» ومات في السنة التالية.

كان هذا الإمبراطور ثابت العزيمة ذكي القلب حاد الفهم، مولعًا بتجسس أحوال الرعية لتخفيف أثقالها. وكان كذلك شاعرًا، كتب كثيرًا من الحوادث التاريخية، ووصف الآثار الصينية القديمة، ومما يروى عنه أنه كان يستصحب إذا خرج إلى الصيد عشرة آلاف صياد، وأنه أحصى الكتب الصينية النافعة فوجدها ١٨٠ ألفًا أو تزيد.

خامس ملوكها: الإمبراطور «كياكنغ». قامت في مدته الاضطرابات والقلاقل بجميع أنحاء الصين، وتألفت الجمعيات السرية لطرد التتار، فلم يجد ما يسكن هذه، ويطفئ تلك غير استعمال القسوة والشدة تارة، وتفريق الأموال تارة أخرى.

ومن أشهر الجمعيات السرية التي قاومته كثيرًا شيعة النيلوفر الأبيض التي أضرم زعيمها الملقب بملك الثلاث «يعني السماء والأرض والناس» نار الهياج في مدينة «شان تنغ» وفي الثلاثة الأقاليم المجاورة، ثم شيعة تيان لي «أو العقل السماوي» وهي التي هاجمت الإمبراطور في قصره نفسه في يوم ١٨ يوليو سنة ١٨١٣م وأَسَرَتْه بضعة أيام، ثم شيعة التثليث أو الديانات الثلاث، وكان من غرضها طرد الأجانب من الصين.

رأت الحكومة كل هذه الشيع تتألف وتقوى فتضرم نار الثورة في البلاد، فلم تجد إلا أن تستعمل الصرامة المتناهية في قمعها، فأصدرت قانونًا يمنع كل اجتماع من خمسة أشخاص فأكثر، ثم بالقبض على كل من يشتبه فيه ومعاملته أخشن معاملة، ويقال بأنه قد أعدم بسبب هذا القانون في الشهر الأول من سنة ١٨١٦م ما يربو على ١٠٢٧٠ نفسًا. وكأن أيام هذا الإمبراطور لم تخلق إلا لشقاء الصينيين حتى لم يكفها قيام الأهالي جميعًا شيعًا وأحزابًا تناوئ بعضها، فأطغت النهر الأصفر حتى أغرق مائة ألف شخص، وأقامت عاصفة شديدة خربت كل مدينة «بكين» ودفعت ماء الأُقيانوس على جزء عظيم من الشواطئ، فليس بغريب بعد كل ذلك أن تزيد المصاريف في إحدى السنوات عن الدخل بمبلغ ٢٨ مليون تايل؛ أي ٢١٠ ملايين من الفرنكات.

مات «كياكنغ» سنة ١٨٢٠م، فكتب لابنه وصية قال فيها: «يا بني فكر كثيرًا في الشئون التي رأيتها في زمان أبيك، واعرف ما يجب عليك، فقم به خير قيام. يا بني أعط الوظائف للرجال الحكماء الفضلاء المسنين، ولا تعطها للأحداث. يا بني اعطف على الشبان، وابذل جهدك في أن تحفظ لأسرتك عظمتها إلى الأبد.»

سادس ملوكها: «تاو كوانغ» ارتقى العرش والأحوال مضطربة والثورات قائمة، فلم يكد يلتفت إليها حتى ناوشه الغربيون، وأقام الإنكليز عليه حرب الأفيون. وسبب هذه الحرب أن إنكلترا توسعت في تجارة الأفيون توسعًا هائلًا فتشَكَّى الإمبراطور، ولكنه رآها في سنة ١٨٣٨م تدخل في الصين ٤٣٧٥٠٠٠ رطل من الأفيون، ثمنها على الأقل ١٠٥ ملايين تايل، فاغتاظ وأمر بمنع المتاجرة فيه، فلما رأت إنكلترا ذلك، وعلمت أن التجار من أبنائها اضطروا بهذا المنع إلى مبارحة الديار الصينية، أعلنت أن شرفها مسَّ وساقت إلى الصين أسطولها في سنة ١٨٤٠م.

حاصر هذا الأسطول مدينة «كانتون»، فقاومه الصينيون بعض المقاومة ولكنهم انهزموا، فاستولى على «تنغ هاي» و«ننج بو» و«شنغاي» وأصبح قريبًا من «نانكين» فالتزم الإمبراطور بطلب الصلح، وفي ٢٩ أغسطس سنة ١٨٤٢م وضعت معاهدة «نانكين» وفيها شروط ثلاث:
  • أولها: أن تدفع الصين ٢١ مليون دولار غرامة حربية.
  • ثانيها: أن تفتح للتجارة الأوروبية ثغور «كانتون» و«أمواي» و«فوتشيو» و«ننج بو» و«شنغاي».
  • ثالثها: أن تتنازل لإنكلترا عن جزيرة «هونج كونغ».

ومن العجيب أنه لم يأت للأفيون ذكر في هذه المعاهدة، ولذلك فإن الإنكليز أدخلوا ٨١٩٠ كيسًا منه في سنة ١٨٤٤م فغضب الإمبراطور، وأراد أن يبذل مستطاعه لمنع الاتجار فيه لولا أن مات في ٢٥ فبراير سنة ١٨٥٠م.

سابع ملوكها، الإمبراطور «ييه تسو» أو «هيين فونغ» ابن الإمبراطور السالف، تولى وله من العمر ١٩ سنة، فلم تزل تتنازعه الثورات الداخلية من جانب والدول الغربية من جانب آخر، حتى جاءت سنة ١٨٥٩م فاتحدت فرنسا مع إنكلترا وأرسلتا لمحاربته حملة أمكنها بعد موقعتي «تشانغ كيا» و«باليكاو» وإحراق القصر المسمى قصر الصيف أن تفتح الطريق إلى العاصمة، فاضطر الإمبراطور في ٢٤ أكتوبر سنة ١٨٦٠م أن يعقد صلحًا يفتح به لتجارة أوروبا ١٦ ثغرًا، ويقبل دخول سفيري الدولتين في «بكين» محاطين باثني عشر ألفًا من الجنود. وما فرغت الصين من شأن هذه الحملة حتى كانت شيعة «التايبينغ» قد ثارت وعاثت في الأقاليم الوسطى فسادًا، فحاربها الإمبراطور، ولكنها قهرت جنوده واستولت على كثير من المدن، ثم سارت إلى «تيين تسين» قريبًا من «بكين» فانزعج ولم يجد إلا أن يستعين بالأجانب، فأراد أن يفعل، ولكن المنون عاجلته عام ١٨٦١م.

ثامن ملوكها: الإمبراطور «تونغ تشي» جلس على العرش صغيرًا فكفله عمه الأمير «كونغ» وأول ما فعل هذا الكفيل أنه أخمد ثورة «التايبينغ» بمساعدة الأجانب وإعانة «لي هونغ تشنغ» سنة ١٨٦٤م، ثم أخمد ثورة المسلمين في «يونَّان» سنة ١٨٧٣م، وبذلك انتهت الكفالة. وفي سنة ١٨٧٠م ذبح أهالي «تيين تسين» موظفي الوكالة الفرنساوية، ولكن فرنسا لم تهتم بالأمر لاشتغالها إذ ذاك بحرب السبعين، أخيرًا مات هذا الإمبراطور في ١٢ يناير سنة ١٨٧٥م.

تاسع ملوكها: الإمبراطور «كوانج هسو» الحالي، تولى وعمره أربع سنوات، فكفلته الإمبراطورة أرملة المتوفى، وأول ما حدث في أيامه أن الصينيين كانوا قد قتلوا في جزيرة «فورموز» بعض اليابانيين، فغضب إمبراطور اليابان، وأراد أن يعلن الحرب ضد الصين، ولكن إنكلترا تداخلت وعقدت بينهما معاهدة نالت بها اليابان الترضية اللازمة. وفي ١٣ سبتمبر سنة ١٨٧٩م عقد بين الصين وإنكلترا وفاقٌ يسمح لهذه الأخيرة بإرسال حملة إلى «التبت» مارة «بكوكونور» أو «بكانسو» أو «بسي تشوان»، ولم يكد خير هذا الوفاق ينتشر حتى هاجت الروسيا، واتخذت قطعة أرض قريبة من «كشغر» وتسمى «كولجا» سببًا للمنازعة، فادعت أنها صارت ملكًا لها وعقدت مع المعتمد الصيني وفاقًا بذلك، فلما علمت الحكومة الإمبراطورية بكل هذا استقدمت معتمدها وحكمت عليه بالإعدام، ثم أعلنت أنها ترفض الاعتراف بالوفاق الذي أمضاه، إلا أن الروسيا التي لم يرق في عينها هذا الانخذال ظلت تدأب وتنازع حتى عقدت في عام ١٨٨١م مع الصين معاهدة تقضي بإعطائها أراضي «كولجا» بأجمعها ما عدا الجزء الغربي منها.

نالت إنكلترا والروسيا ما نالتا، فلم يبق سوى فرنسا وقد تشجعت بسابقتيها؛ فجعلت بلاد «أنَّام والتونكين» موضع التنازع، فلم يمض قليل حتى كان الأسطول الفرنساوي تحت قيادة الأميرال «كوربيه» أمام الأسطول الصيني، فدمره وخرب دار صناعة الأسلحة في ثغر «فوتشيو» ولم يرجع حتى نالت فرنسا حق السيادة على «الأنام والتونكين» بمعاهدة عقدتها مع الصين في «تيين تسين» بتاريخ ٩ يونيو سنة ١٨٨٥م.

بعد أن قنعت أوروبا بما نالت من أطراف الصين، قامت اليابان تريد أن تجري على نسق الدول الأوروبية، فتداخلت في شئون «كوريا» تداخلًا أدى إلى النزاع الشديد بينها وبين الصين التي كانت تدَّعي السيادة عليها، وبذلك أُعلنت الحرب بين الاثنتين في أول أغسطس سنة ١٨٩٤م، فانتصرت اليابان في البر والبحر انتصارًا باهرًا أزعج الدول الغربية واضطرها للتداخل حسمًا للحرب وإيقافًا لليابان عند حدها، فكان ذلك، ولم تنل اليابان بعد عقد الصلح بمعاهدة «سيمونازاكي» سوى جزيرة «فورموز» وبعض الجزر الصغيرة ثم الغرامة الحربية.

إلى هنا كانت الدولة الغربية لا تزال تتهيب الصين، وتظنها من الداخل على شيء من القوة والسلطة، فلما كانت حرب اليابان بان لها ضعفها وقلة جنودها، فطمعت فيها طمعًا أدَّى إلى احتلال الروسيا «بورارثور» و«تاليان وان» وقبضها على إقليم مندشوريا بالسكة الحديدية الذاهبة إلى «بورارثور» ثم إلى احتلال إنكلترا ثغر «واي هاي واي» ثم إلى اختطاف ألمانيا ثغر «كياوتشاو»، ومن يدري ما سيكون في مقبل الأيام سِيَّما بعد الثورة الحالية «ثورة البوكسرس» التي يرأسها البرنس «توان» والد ولي عهد الحكومة الصينية، والتي دفعت أوروبا إلى سوق جيوشها تحت رئاسة الكونت «فون والدرسي» الألماني؛ قهرًا للصين وإلزامًا لها بالرضوخ للمطامع الأشعبية.

(٣) الإسلام في الصين

اختلف الباحثون عن أحوال الإسلام بالصين في ابتداء دخوله هذه البلاد، فمنهم من قال إن رجلًا من الصحابة يدعى «وهاب بن رعشة» سافر إلى البلاد الصينية بعد هجرة النبي إلى المدينة، فوصلها بعد جهد جهيد، وتعلم لغة الصينيين، ودرس عاداتهم وأخلاقهم، ثم أخذ ينشر دينه الحنيف فقوي شأنه والتف عليه خلق كثير، وقد قابل الإمبراطور «تاي تسونغ» عام ٦٢٨م فلقي منه مزيد الرعاية والتعطف، ثم مات بعد أن عاش طويلًا مبجلًا محترمًا، فأقام له الصينيون تذكارًا تخليدًا لذكره.

وقال آخرون إن علاقة العرب بالصين تبتدئ من عهد الفتوحات أيام حارب الأمير «قتيبة بن مسلم» سنة ٧٠٦م/٨٨ﻫ أهالي «الصغد» و«فرغانة» الذين كانوا تابعين للصين، وكان أميرهم يدعى «كورنباغون» ثم أيام عاد بعد ذلك إلى الحرب بجهات «كشغر» ومناوأة الصينيين سنة ٧١٤م/٩٦ﻫ.

وقال البلاذري إن الجرَّاح الحكمي عامل خراسان أرسل في مبدأ حكم الخليفة عمر بن عبد العزيز جيشًا إلى الصين بقيادة «عبد الله بن معمر اليشكري» ولكنه لم يكد يسير بضعة أيام حتى وقع بين أيدي قبائل الأتراك في هذه الجهات، فلم ينج إلا بدفع فدية جسيمة.

وكتب أحد كتاب الفرس المسمَّى «نور الدين محمد عوفي» عن ابتداء دخول المسلمين الصين، فقال ما مؤداه: إنه لما كثر اضطهاد الأشراف العلويين مدة الدولة الأموية، هاجر بعض منهم إلى الحدود الصينية، وهناك على شواطئ نهر «لعله يكون نهر التاريم بالتركستان الصينية» أقاموا لهم بيوتًا سكنوها، وهادنوا إمبراطور الصين، وخضعوا لحكومته، فمد لهم يد المساعدة.

وسواء صحت هذه الأقوال أو لم تصح، فإنه من المؤكد الذي لا ريب فيه أن عصر العباسيين لم ينته حتى كان للإسلام شأن عظيم في الصين، ففي سنة ٧٥٥م/١٣٨ﻫ قامت ثورة في البلاد الصينية اندلع لهيبها في كافة الجهات واستفحل أمرها، فاضطر الإمبراطور إلى أن يطلب من الخليفة «أبي جعفر المنصور» العباسي مساعدته، فأرسل إليه ٥ آلاف رجل من رجاله الأشداء تمكنوا من إعادة الأمور إلى مجاريها وتوطيد العرش له، وبعد ذلك بقليل أرسل «هارون الرشيد» وفودًا إلى الإمبراطور «سوتسنغ» فقابلها بالحفاوة، وكان ذلك سببًا في ذهاب العرب والفرس بالتجارة إلى المدن الصينية، فلم يمض قليل حتى استعمروا مدينة «كانتون» ونشروا الدين الإسلامي في الجهات الغربية، واتخذوا لهم منهم قضاة ورؤساء.

نقل سليمان البصري والسيد تاج الدين السمرقندي وابن بطوطة وغيرهم ممن ساحوا هذه البلاد من العرب، أنه لا تكاد توجد مدينة صينية فيها مسلمون إلا وبها شيخ للإسلام وقاض مكلفان بالنظر في القضايا التي تقع بين أبناء دينهم.

ترك الإسلام في هذه العصور على سيره الطبيعي في تلك الجهات فلم يجد له لا نصيرًا ولا معاكسًا من ملوك الصين، حتى أتت دولة المغول وارتقى الإمبراطور «كوبلايي خان» العرش، فوجد منه معينًا أمينًا؛ إذ جعل على رأس حكومته وزيرين أحدهما مسلم يدعى أحمد البناكتي «ويدعى بالصينية أهاما»، عضَّد المسلمين، واجتهد في إعلاء شأنهم حتى صارت لهم الكلمة العليا في تلك العصور؛ يدل على ذلك ما كتبه السيد تاج الدين حسن بن الخلال السمرقندي أثناء تجواله إذ ذاك ببلاد الصين، حيث قال ما يؤخذ منه أن الوثني إذا قتل مسلمًا فعقابه: القتل، وتعذيب الأهل، وضبط الممتلكات، أما إذا قتل المسلم الوثني فليس عليه إلا أداء الدية.

لم يقتصر المسلمون على التجارة والصناعة ببلاد الصين، بل ارتقوا إلى الوظائف العالية، فكان منهم الوزراء والقواد والنواب وحكام الولايات، من ذلك ما نقله «ماركو بولو» من أن مهندسين مسلمين يدعيان «عليُّ الدين الموصلي» و«إسماعيل الهروي» اشتهرا في حصار مدينة «صنغيانغ» سنة ١٢٩٦م، ومنه أيضًا ما نقل غيره من أن الأمير «جهاندار» ويدعى بالصينية «سيانتار» دخل في سنة ١٢٨٣م إقليم «يونَّان» ومعه قائدان مسلمان، أحدهما يدعى ناصر الدين بن عمر أو «ناسولاتنغ» وأن مسلمًا آخر اسمه «ناصر الدين» كان في نفس هذه السنين وكيلًا للمالية، وأخيرًا أن رجلًا يدعى قطب الدين أو «يوتنغ» كان في سنة ١٣٠٢م وزيرًا للمملكة.

ظل المسلمون من يوم دخل الإسلام الصين معتصمين بالهدوء والسكينة حتى اختل نظام عائلة المندشوريين، ونشأ من ذلك فساد في سير حكام الولايات وسوء معاملتهم لهم؛ فكانت ثورة «يونَّان» الشهيرة، وتفصيل ذلك أن بعض الصينيين والمسلمين اتفقوا في سنة ١٨٥٥م على استخراج معدن الفضة من جهة «تالي فو» إلا أن ميل الصينيين إلى الاستئثار بالكسب جعلهم يصادرون المسلمين، فابتدأت المشاحنات بين الفريقين وقتل بعضهم، فعضَّد حاكم الإقليم الصينيين، وكتب تقريرًا إلى الإمبراطور شديد اللهجة ضد المسلمين، فلما بلغ هؤلاء ذلك تحصنوا واستعدوا للدفاع، وكان رئيسهم إذ ذاك يدعى «ماتيه سنغ» وكان من كبار علماء الصينيين ذا إلمام باللغة العربية، حج سنة ١٨٣٩م إلى البيت الحرام، وزار مصر والقسطنطينية فمكث بها سنتين، وأخيرًا عاد عن طريق سنغافورة فوصل إلى بلاده سنة ١٨٤٦م.

ولما كانت سنة ١٨٦٠م ونزع المسلمون عن بكرة أبيهم إلى الثورة، جعلوه رئيسهم، فانتصر بمساعدة القائدين «ماهسيين» و«تووين سياو» عدة مرات على قواد الإمبراطور واضطره إلى طلب الهدنة، وإذ وجد الإمبراطور أن الحرب آيلة إلى الخسار احتال حتى جذب نحوه «ماهسيين» ورقاه إلى رتبة قائد في الجيش الصيني ثم «ماتييه سنغ» نفسه، وأهطل عليه الأنعام والإكرام، فوضع هذان الاثنان السلاح وطلبا من المسلمين الكف عن الحرب. ولكن «تووين سياو» لم يرض وأصر على تخليص مقاطعة «يونَّان» من حكم الإمبراطور، فكاد أن يفوز بالنجاح لولا أن ردَّه شقاق ذينك القائدين، وبذلك قضى على آمال للإسلام كبار، بل قضى — كما تقول دائرة المعارف الفرنساوية — على إمكان تسليم العرش الإمبراطوري نفسه إلى إحدى عائلات المسلمين.

ولقد اختار المسلمون بعد ذلك «تووين سياو» ملكًا عليهم، ولقبوه بالسلطان «سليمان» سنة ١٨٦٨م، فجعل عاصمة ملكه مدينة «تالي فو» ولم يزل فيها يناوئ الصينيين حتى كانت سنة ١٨٧٠م، وسافر القائد الإنكليزي «سلادن» إلى الصين في بعثة سياسية، فقابله جماعة من زعماء المسلمين وطلبوا منه أن يحث حكومته على مساعدتهم في تأسيس مملكة إسلامية بالقرب من «برمانيا» في مقابل تعضيدهم لإنكلترا عند اللزوم، فأشار عليهم بإرسال الأمير «حسن» ابن السلطان سليمان إلى «إنكلترا» ليخابر الحكومة الإنكليزية في ذلك، وعلى هذا ذهب الأمير «حسن» إلى إنكلترا وقابل المستر «غلادستون» ولكن هذا الأخير هزئ بفكرة تداخل «إنكلترا» في شئون مسلمي الصين، وبذلك وجه الأمير «حسن» نظره إلى الدولة العلية، فقصد السلطان «عبد العزيز» الذي أظهر له رغبة شديدة في إجابة طلبه لولا أن الظروف لم تكن تساعده إذ ذاك، ولما عاد إلى بلاده في سنة ١٨٧٣م وجد الحكومة الصينية قد قضت على استقلال المسلمين، ووجد أباه السلطان «سليمان» قد قتل نفسه بالسم في ١٥ يناير من السنة المذكورة.

بعد إطفاء هذه الثورة وجهت الصين أنظارها إلى ثورة «تيان شان» فأطفأتها بمواقع كثيرة، واستولت على جهات «كشغر» بعد موت الأمير «يعقوب» ولم تأت سنة ١٨٧٨م حتى لم تبق للمسلمين مملكة مستقلة بالصين. وإذ فقد المسلمون كل أمل في الاستقلال توجهوا بأنظارهم إلى التجارة سِيَّما فيما بين الصين وأواسط آسيا، ولكنهم مع ذلك لم ييأسوا من التقدم السياسي لعلمهم بأنهم أرقى من الصينيين في الآداب والمعارف، ولذلك ترى منهم القائد «تونغ فوسيانغ» الذي يقول الإمبراطور نفسه عنه بأنه محيطه بجنوده، فهو لذلك لا يستطيع أن يجاري الدول في وجوب عقابه كما يعاقب زعماء الثورة الحالية.

ومما اشتهر به المسلمون بين الصينيين: صدق المعاملة، وسهولة الأخلاق، وقوة البأس، وهاك ما قاله عنهم أحد الواقفين على أحوالهم: «إن مسلمي الصين أطهر نفسًا، وأحسن ذمةً في التجارة من كل صيني، وهم محترمون في القضاء لا يميلون إلى فريق، وكلهم يعيشون في جهة واحدة كأنهم أفراد عائلة واحدة.» أما عددهم فقد بلغ بعد ثورة «يونَّان» بين ٢٠ و٢١ مليونًا، ما عدا سكان أواسط آسيا الذين يبلغون ٢٠ مليونًا، ولكنهم الآن أكثر من ذلك، فبعضهم يجعلهم خمسين مليونًا، والبعض الآخر يجعلهم ثمانين.

(٤) نظام الحكومة

لم يهتم الصينيون منذ القديم بشيء اهتمامهم بنظام حكومتهم، ولذلك فلست تجد في جميع كتب حكمائهم وفلاسفتهم إلا ما يدل على أن نظام الحكومة كان شاغلهم الوحيد في جميع أدوار التاريخ. قال أحد فلاسفتهم: «مثل حكم المملكة كمثل شيِّ السمكة.» وزاد غيره على ذلك فقال: «فإذا كان الماء الذي فيه السمكة معكرًا مملوءًا بالأدران اضطرت السمكة إلى إخراج ذيلها من الماء طلبًا للاستنشاق. كذلك أمر الحكومة فإن كانت ظالمة معتدية اضطرت الأمة إلى الهياج والثورة.» وقال المشرع «كونفوسيوس»: «مثل الحكومة التي تحكم بلادها بالعدل والكفاءة كمثل النجمة القطبية تبقى دائمًا ثابتة في محلها بينما النجوم الأخرى تتنقل وتجعلها عمدتها في كل تنقلاتها.» وجاء في الكتاب الصيني المكتوب بأمر الإمبراطور «شانغ هي»: «ابن السماء أو الإمبراطور جُعِل لخير المملكة وفائدتها، وليست المملكة هي التي جُعِلت لخير الإمبراطور وفائدته.» ومن أمثالهم قولهم: «اكسب محبة الشعب تكسب المملكة، وافقد محبة الشعب تفقد المملكة.»

أما النظام الذي سارت عليه الحكومة الصينية فهو في مبدأ الأمر الحكم الاستبدادي، شأن كل أمة تبتدئ في السير على شكل حكومة منتظمة ذات قوانين نافذة، وبعد ذلك صارت الحكومة إلى ما يقرب من شكل الحكومات الدستورية، بمعنى أن الإمبراطور بقي ذا سلطة مطلقة، ولكن المتعلمين أصبحوا ذوي نفوذ وتداخل يؤثران عليه في أعماله. وكان من حقوق الإمبراطور أن يُعتبر كالأب الوحيد للأمة، فله أن يفعل ما يشاء، ولكنه في مقابل ذلك مسئول عن كل ما يلم بالأمة من الأضرار، وأعظم ما كانوا يصفونه به إذا أرادوا مدحه هو قولهم: «أنت أب الأمة وأمها» ويعنون بذلك أنه في صفته ينبغي له أن لا يعتبر الأمة رعية بل ولدًا كأنها أحد أبنائه.

أما تولي الحكم فلم يكن وراثيًّا في العائلات، إلا أن الإمبراطور كان دائمًا يختار ولي عهده قبل موته، إما من أفراد عائلته الذكور، وإما من المعروفين بالفضائل في الأمة، ومتى تولى الملك وجب عليه أن يصدر القوانين اللازمة لسير الحكومة، ولم يكن يصدرها إلا بعد وضعها ومناقشتها بين أيدي لجان خصوصية تشبه ما يسمى اليوم بمجلسي شورى القوانين والنظار، وكانت هذه القوانين نافذة على الجميع ما عدا الملك وأفراد عائلته وبعضًا من كبار الأمة الذين كانوا يخضعون لقوانين خاصة لا محل لذكرها هنا.

على هذا النظام، وبهذا الترتيب سار الملوك الأول، فعدلوا بين الرعية وسنوا القوانين، إلى أن جاءت دولة «هيا» ثم دولة «شانغ» فامتازت الأولى بعلو نفس ملوكها وباتباعهم للقوانين في مقدمة الرعية، ونشرت الثانية المعارف، وأسست المدارس للفلسفة في جميع أنحاء البلاد، وعرفت أيضًا بحفظ السلام وتنشيط الزراعة، وبعد هاتين الدولتين أخذ محور الحكومة يتقلب ويتغير إلى أن جاءت دولة «تسين» ففرضت العمل بالقوانين مرة واحدة، ولكن دولة «الهان» التي عقبتها رجعت إلى احترام الدستور.

هذا هو النظام القديم للحكومة الصينية، أما نظامها الجديد فهو وإن كان يقرب من الأول إلا أنه يختلف عنه بعض اختلافات جوهرية تجعله أقرب إلى النظام الدستوري منه إلى نظام السلطة المطلقة؛ ذلك لأن الإمبراطور الذي لم يزل يسمى بابن السماء، ولم يزل صاحب السلطة المطلقة قد أصبح مقيدًا بعض التقييد، أولًا بمجلس المملكة، وهو مجلس أنشئ في عام ١٧٣٠م ويتكوَّن من ستين مستشارًا، وثانيًا بالسكرتارية العظمى، وهي ديوان مؤلف من أربعة أعضاء، نصفهم صينيون والنصف الثاني مندشوريون، وثالثًا بالنظارات الست التي هي الداخلية والمالية والحربية والحقانية والأشغال والتشرفيات، يترأس كل واحدة منها ناظران أحدهما صيني والآخر مندشوري، ثم أربعة وكلاء، صينيان ومندشوريان كذلك، وعدا هذه النظارات الست، هناك نظارة الخارجية أو «تسونغ لي يامن» التي أنشئت في عام ١٨٦١م فجُعِل لها سكرتير أعظم، ثم خُصِص لهذا السكرتير ستون موظفًا، يحمل كل اثنين منهم مفتاح خزينة أوراقه يومًا واحدًا في الشهر، ويقبض الجميع راتبًا يقرب من مائة وخمسين جنيهًا.

أما الموظفون فيُسمون «ماندارين» وهم ينقسمون إلى تسع مراتب، ويلقبون بألقاب مختلفة منها «هيو» و«بي» و«تسو» و«نان» وهي تقابل مركيز وكونت وفيكونت وبارون. ومن المعروف عندهم وراثة الألقاب، بمعنى أن ابن الهيو وحفيده يكونان هيو كذلك، ولكن ابن هذا الأخير لا يرث شيئًا لأن وراثة الألقاب لا تمتد إلى أكثر من جيلين، ولا يشذ عن هذه القاعدة سوى لقب «كونغ» المقابل لدوق، فإنه يورث إلى ستة وعشرين جيلًا، ولخلفاء «كونفوسيوس» الشهير وحدهم أن يحملوه إلى الأبد.

وكبراء الماندارين لا يأخذون أجورًا كثيرة، ولكنهم يتبادلون كلما شاءوا مع الصغار منهم الذين تحت سلطتهم هدايا تعود عليهم بالربح الوفير؛ ذلك أن الهدايا يجب أن تكون ثمانية زوجية، بمعنى أنها تكون من ثمانية أصناف، ومن كل صنف مثلين، فإذا أهدى الكبير الصغير أخذ هذا مثلين من صنف واحد ورد السبعة الأصناف الباقية، وأما إذا أهدى الصغير الكبير فإن هذا لا يرد من الهدية سوى مثلين من صنف واحد، هذا إذا كانت الهدية من غير نقود، أما إذا كانت منها، فإن الكبير يأخذ ٩٠٠٠ درهم ويرد ألفًا، والصغير يأخذ ألفًا ويرد ٩٠٠٠، بفرض أن الهدية عشرة آلاف درهم.

بقي من النظام الحالي شيء عن الجيش البري والبحري، فنقول: إن الأول ينقسم إلى قسمين: أحدهما صيني، والآخر مندشوري، والاثنان لا يكادان يتجاوزان ٧٠٠ ألف جندي، لم ينظم منهم على نسق الجنود الأوروبية سوى ٢٧٠ ألفًا، أما الثاني فهو ينقسم أيضًا إلى قسمين: أحدهما شمالي ومركزه «شنغاي» و«فوتشيو» والآخر جنوبي ومركزه «كانتون» ولكن المدرعات قديمة الصنع قليلة العدد.

(٥) المدنية الصينية

الصين مملكة واسعة الأكناف مترامية الأطراف، مسورة من جهاتها الأربع بالجبال والبحار، ثم هي مزدحمة بالسكان ازدحام الصحاري بالرمال، سِيَّما في الجزء الجنوبي منها حيث تموج بالمدن العامرة والغابات الوافرة والجبال الشامخة والأنهار الواسعة، فلا غرو أن أفاضت على أهلها من القديم اللبن والعسل، ولا غرو أن جعلتهم أقدم أمم العالم في الوجود، وأعلاهم كعبًا في الحضارة والمدنية.

بلغت الصين في قديم الزمن من المدنية ما لم تبلغه مملكة، ونالت أمتها من اتساع السلطة ما لم تنله أمة، فبينما كانت الشعوب الأخرى لا تزال تضرب في عرض الأرض، وتتخبط في دياجير الجهل كأنها الأنعام أو أضل، كان الصينيون قد تألفوا أمة عظيمة غذاؤها العلم، وحياتها العمل، وقائدها الجد والاجتهاد؛ تدل على ذلك آثار أي آثار ما برحت إلى الآن شاهدة ناطقة معتبرة من الحاجات الضرورية لبني الإنسان، وها نحن نذكر للقارئ شيئًا منها إدلالًا على ما كان للمدنية الصينية من مكانة وعلو شأن.

المخترعات

الصينيون أول من صنع الورق من الحرير على الصفة التي هو بها الآن، وإن كان المصريون قد صنعوه من ورق البردي على صفة أخرى، ثم هم أول من عرف البارود، واستعمله استعماله الحقيقي، وعنهم أخذه العرب ونشروه في جميع البلاد، ثم هم صانعو الخزف الصيني الجميل الذي نقله البرتغاليون إلى أوروبا، ثم هم مكتشفو البوصلة أو بيت الإبرة التي أخذها عنهم الهنود، ثم هم «على قول كثيرين» مخترعو النار اليونانية التي كانت تحرق السفن في الماء، وأخيرًا هم أول أمة عرفت الطباعة، والحفر في الخشب والحجر والنحاس، وتوصلت إلى استعمال الأوراق المالية كما هي مستعملة الآن.

قال «السيد تاج الدين حسن ابن الخلَّال السمرقندي» في حديث له عن الصين: إنه رأى فيها نقودًا من الورق قيمتها من درهم إلى أربعين ثم إلى خمسين ومائة، ورأى الصينيين إذا قَدِمَت الأوراق يعطونها إلى الخزينة الإمبراطورية ويأخذون غيرها جديدة بعد خصم شيء من قيمتها في مقابل التبديل، وقد أيد «ابن بطوطة» هذا القول في رحلته.

الفلسفة والعلوم

واضع الكتابة الصينية هو الإمبراطور «فوهي» في سنة ٣٤٦٨ق.م وهو أول من ألف في الفلسفة، كتب كتابًا بحث فيه مباحث شتى، أعظمها دائر بين السماء والأرض، شأن كل أمة ناشئة تنظر فلا تجد أمامها سواهما، فتكتب عنهما وتجعلهما مصدر كل قوة. وهذا الكتاب معدود عند الصينيين من أقدم كتب العالم، ومن العجيب أن فيه كثيرًا من القواعد التي وضعها العالم اليوناني «فيثاغورس».

بعد «فوهي» تقدم شأن الفلسفة تقدمًا عظيمًا، سِيَّما في أواخر الدولة الثالثة، ووُجِد الفليسوفان الشهيران «لاو تسو» و«كونفوسيوس»، أما الأول فيقال بأنه أخذ فلسفته عن أحد علماء الأجانب ثم جاء إلى الصين وأسس مدرسة تخرج منها على يديه كثير من الفلاسفة والحكماء بينهم «كوان يون تسو» و«يون وين تسو» و«لي تسو» فكان ذلك سببًا في نجاحه نجاحًا كبيرًا، فشرَّع للناس مذهبًا جديدًا، أو بعبارة أخرى ديانةً جديدةً سماها باسمه، فتهافت عليها الصينيون ولم يمر زمن قليل حتى كانت سائدة في جميع أنحاء الصين، ويمتاز «لاو تسو» في فلسفته وديانته بأنه ميال إلى النظريات أكثر منه إلى العمليات، وذلك ما حدا بكثير من الفلاسفة الذين أتوا بعده إلى مخالفته في بعض قواعده.

وأما الثاني وهو «كونفوسيوس» فقد ولد في عام ٥٥١ق.م فولع بالتعلم من صغره حتى لم يكد يشب إلا وهو من رجال الفلسفة المعدودين، فخطر له أن يهذب الناس ويرقِّي أخلاقهم، فأخذ يجوب البلاد ويلقي الدروس، ولم تكن إلا سنين قليلة حتى ذاع اسمه وعلم به الإمبراطور فاستقدمه واتخذه وزيرًا يدبر شئون المملكة، فدبرها بأحسن ما يكون جملة أعوام، ثم اعتكف في الخلوات، وأسس مدرسة جامعة تخرج على يديه منها «منج تسو» و«تشنج تسو» و«تسوس» و«وين تشونج تسو» وغيرهم كثيرون، وأخيرًا شرَّع الديانة الشهيرة المسماة باسمه، والتي ينتمي إليها اليوم أكثر الصينيين، وما جاءت سنة ٤٧٩ق.م حتى كان قد عجز من الكبر، فمات تاركًا بين يدي الصين مؤلفات جمة؛ جعلت بعده من الكتب المقدسة الواجبة الاتباع، وقد كان في كل تعاليمه يقول بأن هناك إلهًا واحدًا يدبر الكون بحكمته، وأن هذا الإله هو الذي يجب أن يُعبَد دون غيره، وهو يمتاز عن «لاو تسو» بالميل إلى العمليات أكثر من النظريات، ولذلك فهو أعظم من كل من عداه شهرة، وأوسع ديانة، وأقدس كلمة.

مات هذان الفيلسوفان، ثم انتهت الدولة الثالثة، وجاءت الدولة الرابعة، فحكم الإمبراطور «شي ونغ تي» وكان ظالمًا، أراد أن يغالط التاريخ، ويجعل نفسه أول ملوك الصين، فأمر بإحراق الكتب في جميع البلاد وفي خزائن المملكة، فأُحرقت، ثم اضطهد العلماء والفلاسفة ودفن في يوم واحد منهم أربعمائة وهم أحياء، فكان ذلك سببًا في تأخير العلوم الفلسفية مدة تزيد عن ألف عام.

هذا هو مجمل ما يقال عن الفلسفة الصينية، أما عن العلوم، فإن أهم علم اشتهر فيه الصينيون بعد الفلسفة هو الطب والجراحة، وقد تقدم في التاريخ أن أحد علمائهم المسمى «شانغ كيو» اخترع دواء للطاعون داوى به أناسًا كثيرين وجعلهم له حزبًا قويًّا، ثم أراد أن ينزع العرش من الإمبراطور، ولكنه خذل. ولسنا ندري إن كان ذلك صحيحًا أو لا، إلا أن الغالب على الظن أنه غير صحيح؛ لأن الطاعون قديم الوجود، فلو اكتشف له دواء لبقي معروفًا، ولكان الهنود أسبق الناس إلى التحفظ عليه، ولكن ذلك لا يقدح في تقدم الصينيين في العلوم الطبية، فإن الطاعون لا يزال إلى الآن بغير دواء شاف رغمًا عن تقلبه في أحشاء المدنيات العديدة، ولأنهم بشهادة «السمرقندي» كانوا ذوي مهارة تامة في الجراحة.

حكى «السمرقندي» عن سياحته في الصين، فقال ما مؤداه: أصابني وأنا بالصين ألم شديد في سن من أسناني، فشكوت ذلك إلى أحد أصحابي، فسار بي إلى رجل صيني قصير القامة، سبر فمي ثم اقتلع السن المصاب ووضع غيره من جراب معه بدون أن أشعر بألمٍ ما، وأخيرًا نصحني بعدم شرب الماء طوال النهار، فعملت بنصيحته، وبعد ذلك لم أعد أحس لا بأنني أتألم ولا بأنني اقتلعت أحد أسناني.

ولم يمهر الصينيون في الطب والجراحة وحدهما، بل مهروا كذلك في الفنون الحربية، وأول من برز فيها هو الإمبراطور «هوانغ تي» مؤسس الدولة الأولى، الذي اخترع السهام، وعلمهم كثيرًا من أساليب القتال، ثم «تاي تسونغ» أول ملوك الدولة الثالثة عشرة.

الآثار

آثار المدنية الصينية كثيرة عظيمة، ولكن أعظمها ثلاثة: السور الكبير، وبرج نانكين، والقنال الإمبراطوري.

فأما السور الكبير فبانيه هو الإمبراطور «شي ونغ تي» بناه لاتقاء غارة التتار، فابتدأ به من خليج بتشيلي» إلى شمال الحدود الصينية على مسافة ١٤٠٠ ميل، وجعل ارتفاعه ثمانية أمتار، وعرضه في القاعدة ثمانية أيضًا، وفي الرأس خمسة، وجملة ارتفاعه عن البحر ١٦٦ مترًا، وإذا كانت الحاجة داعية إلى إقامة الحراس والمحافظين على هذا السور، فقد جعل فيه ستة عشر بابًا وكثيرًا من الأبراج العظيمة، وقد حسب بعض المهندسين الذين رأوا هذا السور مقدار المواد التي بُني بها، فوجدوا أنها تكفي لبناء سور آخر ارتفاعه متران، وعرضه ستة وستون سنتيمترًا يحيط بالكرة الأرضية بأجمعها مرتين.

وأما برج نانكين فهو بناء شامخ بُني في تسعة عشر عامًا، قاعدته تبلغ ١٢٠ قدمًا، يعلو هذه القاعدة تسع طبقات شاهقات، وله من الداخل درج على شكل لولب يصعد فيه إلى القمة، وهو مبني من الآجر، وخارجه ملبس بالخزف الصيني.

وأما القنال الإمبراطوري فهو قنال عظيم يمتد على مسافة ٦٠٠ ميل، ويأخذ مياهه من مجموع أنهار الصين، ومن عجيب صنعه أن ارتفاع الماء فيه لا يقل ولا يزيد مهما قل أو زاد فيضان الأنهار، وأن به كباري عظيمة عالية، تمر منها أعظم السفن الشراعية دون أن يُطوى لها شراع.

الصنائع

اشتهر الصينيون بكثير من الصنائع المتقنة، كما اشتهروا بالاختراعات والعلوم والآثار، ولا غرو، فإن تلك بنت هذه، ومن كان مبلغ مدنيتهم من العلوم والاختراعات كما ذكرنا يجدر بهم أن يكونوا أسبق الناس إلى إتقان الصنائع كل الإتقان.

من جملة ما مهر الصينيون في صناعته: الحرير الملون بالألوان الجميلة الثابتة، وتاريخه يبتدئ من امرأة الإمبراطور «هوانغ تي» مؤسس الدولة الأولى، التي علمتهم تربية دود القز، ثم الأصباغ المتقنة، سيَّما ولديهم أشجار كثيرة لا توجد عند غيرهم، ومنها يستخرجون أغلب الألوان العزيزة المثال، ثم الخزف الصيني، الذي لم تستطع أوروبا إلى الآن أن تساويهم فيه، ثم التصوير، وقد قال عنهم فيه «ابن بطوطة» إنهم أتقنوه غاية الإتقان حتى لقد صوروه هو وبعضًا من أصحابه حين مروره بالعاصمة بأسرع ما يكون.

ومما ساعد الصينيين على إتقان الصنائع أن كثيرًا من إمبراطرتهم شجعوا الصناع، ووضعوا لهم القوانين الصارمة؛ فمن ذلك ما حكاه «أحمد بن شهاب الدين العمري» أنه عرف في الصين قانونًا يفرض على كل من صنع شيئًا يستجلب الأنظار أن يضعه على باب قصر الإمبراطور سنة كاملة، فإذا استطاع أحد أن ينتقده وكان محقًّا، غضب الإمبراطور على صانعه. وأما إذا لم يستطع أحد ذلك أو كان المنتقد لم يفعل إلا لحزازة في النفس، نال الصانع كل نعمة، وقُتِل المنتقد.

هذا عن الصناعة، أما عن الزراعة فمن السهل أن نعرف إلى أي حد ارتقوا إذا ذكرنا أن في ملوكهم مثل الإمبراطور «يونغ تشنغ» الذي قلنا عنه في التاريخ إنه كتب إلى حكام الولايات «بأن يرسل إليه كل منهم سنويًّا أنشط وأقنع مزارع ليكافئه بمنحه لقب «ماندارين» وإعطائه الحق في لبس ثياب القضاة، وزيارة الحكام بدون حجاب، والجلوس مع الإمبراطور نفسه لتناول الشاي.»

التمثيل والروايات

الصينيون أول من عرف التمثيل وأتقنه كل الإتقان، ولذلك فإن المطلع على تواريخهم يجد لديهم كثيرًا من الروايات التمثيلية على نوعيها «الكوميديا» و«الدراماتيك» لا تقل في شيء عن أعظم روايات الغربيين اليوم، ولم تكن الروايات التمثيلية شاغلهم الوحيد، بل إنهم اعتنوا كثيرًا بالروايات الأدبية المسماة «رومان» ولولا ضيق المقام لأوردنا شيئًا من هذه وتلك إدلالًا على فضلهم العظيم.

الصحافة

ليس في الشرق ولا في الغرب من عرف الصحافة واستعملها استعمالها الحقيقي قبل الصينيين، ولذلك فإن جريدتهم الرسمية وُجِدَت منذ مائتي عام، وهي لا تزال إلى الآن كما كانت من عهد إنشائها يومية، وباسم «كين باو» أي جريدة العاصمة، إلا أنهم وإن سبقوا العالم إلى معرفة الصحافة فإنهم اكتفوا بالجريدة الرسمية، ولم يصدروا أول جريدة أهلية إلا منذ ٢٨ عامًا حينما صدرت جريدة «شون باو» أو جريدة «شنغاي» ثم وليتها جرائد كثيرة.

وعدد الجرائد اليومية الآن ستة، وهي تطبع على ورق من الحرير ومن جهة واحدة، وترتب على هذا النظام: المقالة السياسية، ثم منشورات الإمبراطور، ثم الأخبار السياسية، ثم الإعلانات، ثم الأخبار المالية، ثم شيء من الروايات. وقيمتها زهيدة جدًّا، فثمن العدد من الجرائد الأهلية ثلاثة سنتيمات، ومن الجرائد الرسمية سنتيم واحد.

(٦) الديانة واللغة

في الصين أربع ديانات رسمية: ديانة «كونفوسيوس» وديانة «لاو تسو» وديانة «بوذا» والديانة الإسلامية، وقد عرفنا مما تقدم كيف نشأت، وامتدت الأولى والثانية والرابعة، ولم يبق إلا الثالثة التي هي الديانة البوذية، وقد دخلت الصين في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد مع بعض تجار الهنود.

أما اللغة الصينية فهي من أقدم لغات العالم، وقد بقيت على حالها إلى اليوم لا تتغير ولا تتبدل، وهي مخالفة لجميع اللغات الأخرى؛ لأنها لا تحفظ قواعد وأصولًا، ولكنها إشارات ورموز بقدر ما في النفس من المعاني، ولذلك فقد عد بعضهم إشاراتها فوجدها أربعة وأربعين ألفًا أو تزيد، وطريقة كتابتها من اليمين إلى الشمال، ومن أعلى إلى أسفل.

(٧) أخلاق وعادات

الصينيون قدريون، بحيث لو شبت النار في منزل أحدهم فليس من يهتم بإطفائها؛ ظنًّا منهم بأن الأقدار إذا شاءت أطفأتها من غير مطفئ، وإذا لم تشأ عجز عن إطفائها ألوف مؤلفة، وهذا الاعتقاد سائد فيهم حتى ليبعثهم على إهمال أهم المصالح، وربما كان السبب في قعودهم إلى الآن لا يعرفون قيمة الحياة الحقيقية ومقدار ما يجلب العمل والنشاط لأهلهما، سيَّما في أرض وافرة الغنى كالصين. لذلك تراهم لا يعتنون بشيء من معاشهم، فيكتفون بالساتر من الثياب، وبالقليل التافه من الزاد كالأرز والقطط والثعابين والفيران والكلاب.

ومن أظهر الصفات فيهم الذكاء والبخل، ثم الحقد إلى حد أن الأعوام والقرون لا تنسيهم ما استكن في الصدور، ثم الجبن، وقد رآهم الناس في حرب اليابان يلقون بالسلاح ويفرون بغير قتال.

أما عاداتهم، فمنها في الزواج أن أبا الزوج قبل أن يعقد لابنه على فتاة يذهب إلى أبيها فيأخذ منه اسمها ويوم ميلادها، ثم يقارن بينهما وبين اسم ابنه ويوم ميلاده، فإن وجد الطالع موافقًا عقد الزيجة، وإلا فلا، ومتى وقع اختيار أقارب الزوج على إحدى الفتيات فلهم الحق في ملاحظتها قبل أن تحتجب، ثم في الذهاب معها إلى الحمام ورؤية جسمها وهي عارية عن الثياب، وبعد ذلك يدفع الزوج المهر بدون أن يسمح له برؤية عروسه، وفي اليوم المضروب للزفاف ينصب قريبًا من بيت العروس صيوانان مملوءان شعيرًا وقمحًا، فيجلس العروسان بجانبهما قليلًا، ثم يمشيان في احتفال عظيم يرميهما الأهل والأقارب والأصحاب بالقمح والشعير الموجودين في الصيوانين إلى أن يبلغا بيت الزوج، فيجلسان إلى مائدة يأكلان منها بعض الشيء، وبذلك تنعقد الزيجة.

وبعد الزواج إذا خالفت المرأة رجلها في شيء أو زنت أو كانت عاقرًا أو غارت عليه من زواجه بغيرها أو أصيبت بأمراض معدية أو سرقت منه شيئًا أو كان الرجل نفسه لا يحبها ويريد أن ينفصل عنها، فله الحق في أن يطلقها.

ومنها عند الموت أن كلًّا منهم يستعد قبل وفاته على كفن خاص به، فإذا توفي كُفِّن فيه ثم زُيِّن زينة بالغة وأُعِّد للتشيع والدفن، ولكنه لا يُدفَن إلا إذا جاء عرَّاف، وأنبأ بأن الساعة موافقة لا نحس فيها، وإلا فلا دفن ولو إلى شهور، ومتى أُخرِج للتشييع سارت في مقدمة الجنازة موسيقى تلحن أناشيد الحزن أمام النعش المبسوط على عيدان من الخشب يحملها جملان، ثم سار الرجال بعد النعش بعضهم يحمل مظلة تظل الميت وديكًا أبيض، وبعضهم يحمل البيارق الحمراء، فإذا بلغت الجنازة القبر أخذ الميت أقاربه ودفنوه، ثم أدبوا بعد ذلك بجانب القبر نفسه مأدبة حافلة للمشيعين.

ومن الأصول المقررة عندهم أنه إذا كان الميت أحد الاثنين الأب والأم لبث الحزن في الأسرة ثلاث سنوات على الأكثر و٢٧ شهرًا على الأقل، ثم وجب على الابن والزوجة أولًا أن يلبسا ثياب الحداد (وهي عندهم الثياب البيضاء) المدة المذكورة، وثانيًا أن يتركا كل عمل ويمتنعا عن رؤية النساء والأصحاب سنة كاملة، وثالثًا أن لا يناما على سرير مائة يوم، ورابعًا أن يقدما كل عام قربانًا على القبر، أما إذا كان الميت هو الإمبراطور نفسه فإن الأمة جميعها تلزم باتخاذ ملابس الحداد وباجتناب الملابس الحمراء.

ومن اعتقاداتهم الراسخة أن المرء إذا مات وجب أن يدفن إلى جانب من دفن قبله من أهله وأقاربه؛ ولذلك فهم يكرهون أن يسافروا إلى أراض بعيدة خوف أن يموتوا فيدفنوا غرباء، لكنهم إذا اضطروا إلى سفر طويل أخذوا معهم جملة من الديكة البيضاء واستصحبوها في قيامهم وقعودهم؛ ظنًّا منهم بأن لها قدرة على نقل الأرواح من حيث هي مشردة إلى حيث تستقر في قبور الأهل والأقارب، وقد كان الوزير الصيني «لي هونغ تشنغ» يحمل معه أثناء تجواله في «أوروبا» منذ بضعة أعوام سبعة من الديكة لنفس هذا الاعتقاد.

ومنها في المحادثة والتزاور أنهم مولعون بالتواضع، حتى لا تراهم يقولون في التخاطب أنا وأنت أو عبدك وسيدي، بل عبدك الخاضع الفقير الغير جدير بأن ينتسب إليك، ومولاي العظيم الجليل، وإذا خاطب أحدهم آخر وسأله عن ابنته مثلًا قال: كيف هي مولاتي السيدة بنتك الجميلة؟ فيجيبه: خادمتك التي لا تستحق أن تنتمي إليك حالها كيت وكيت. وإذا ذكر أحدهم بيت غيره فلا يصفه إلا بالفخامة والجلال ولو كان كوخًا حقيرًا، أما إذا ذكر منزله هو فلا يسميه إلا كوخًا حقيرًا ولو كان قصرًا عظيمًا.

ومنها أيضًا أن الأب إذا رزق أولادًا كثيرين ولم يستطع القيام بمعيشتهم جميعًا، جاز له أن يلقي بعضهم في النهر أو يبيعهم، وأن الولد إذا ولد، ذهب أبوه إلى مائة من معارفه وأخذ من كل واحد قطعة من الدراهم القديمة، ثم جعل الجميع عقدًا يلبسه إياه؛ اعتقادًا منه أن ابنه يبقى محبوبًا من أصحاب القطع ما دام لابسه. وأن الرجال يشغفون شغفًا لا مزيد عليه بتطويل شعر الرأس، حتى لقد رأينا التتار حينما حكموا الصين أمروهم بقص ضفائرهم وإلا قتلوا، فلم يفعلوا وفضلوا القتل، ومنها أخيرًا أن أرباب الرفاه والجاه يطيلون أظافرهم علامة على أنهم لا يشتغلون بأيديهم.

بقيت كلمة عن المرأة الصينية، فنقول: إن الصينيات محتجبات مستعبدات لأزواجهن، حتى إن الواحدة منهن إذا أساءت معاملة زوجها حكم عليها بالجلد مائة مرة، أما هو فإذا أساء إليها لم يعاقب بشيء، وله في كل الأحوال أن يبيعها كما يباع المتاع، وهن مولعات بالتزين والتطيب حتى ليقضين معظم النهار أمام المرآة، ومن المعروف عندهن وضع الأقدام مدة الصغر في قوالب من الحديد لتبقى دائمًا صغيرة وجميلة.

أما تركيب جسمهن فدقيق حسن الصورة، سيَّما عيونهن السوداء وأنوفهن الصغيرة، ولذلك فقلما تجدهن في مجلس إلا وهن متفاخرات بالجمال متنابذات بالزينة وحسن الرواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤