مقدمة

حينما ظهر النوع البشري، فإنه لم يكن يعرف الخبز ولا الملابس، وكان الإنسان يسير على قدميه ويديه ويأكل الأعشاب بفمه كما يفعل الحيوان، ويشرب من ماء الأنهار.

نص سومري قديم

مرت فكرة نشأة الإنسان عند المصريين القدماء بعدة مراحل، يبدو أن أولها كان الاعتقاد بأن الإنسان هو سليل الآلهة. وفي حوالي بداية الألف الثانية قبل الميلاد ساد الميتولوجيا المصرية أن الإنسان قد نشأ عن دموع الإله «رع»، وبعد ذلك أصبح الاعتقاد أن الإله «خنوم» يشكل الناس واحدًا بعد الآخر من الطين.

هذا الاهتمام بالإنسان، نشأته وتطوره — كما توضحها أفكار الشرق القديم — لا تمثل بدايات هذا الفكر، بل لعل الإنسان بدأ يتعجب من نفسه منذ أن ظهر على الأرض، وبدأ يشق طريقه للسيطرة على الأرض وسيادتها. وقصة الإنسان الذي وجد آثار أقدام أراد أن يتتبعها ليعرف صاحبها، وانتهى به الأمر إلى أن يدرك أنها أقدامه هو، هي في الواقع رمز لمدى ما يجهله الإنسان عن نفسه، ورغبته المتأصلة في استكشاف المجهول بالتقصي والمغامرة والبحث والدراسة.

والإنسان هو أكثر الكائنات الحية على كوكبنا الأرضي غموضًا؛ لتفرده الفكري بين جميع الكائنات التي تدب على سطح الأرض أو تَسْبَح في مسطحات الماء، وهو برغم ذلك أحدث من ظهر إلى الوجود الأرضي. فعمر الأرض يتراوح بين أربعة وستة مليارات من السنين، والديدان عمرت التربة منذ ٤٥٠ مليون سنة، وظهرت الأسماك غير ذات الفك منذ ٤٠٠ مليون سنة، وعمر العقرب ٣٥٠ مليونًا، والأسماك ذات الهيكل العظمي ٣٠٠ مليون، والأمفيبيات ٢٧٠ مليونًا، والزواحف ٢٥٠ مليونًا، والحشرات الطائرة ٢٢٥ مليونًا، والطيور ١٤٠ مليونًا، والحيوانات ذات الأكياس ٨٠ مليونًا. أما الإنسان — بمقدماته وأشباهه — فلا يتجاوز عمره حدود المليون من السنين إلا قليلًا، بينما ظهر أجداد سلالاتنا المعاصرة قبل قرابة ٣٠ ألف سنة فقط.

لقد ظهر الإنسان بعد أن انقرضت أنواع من الحياة عاشت ملايين السنين، ومع ذلك لم يكتب لنوع من الحياة أن يسود ويسيطر على أجزاء العالم مثل الإنسان، ولم يغير كائن من مورفولوجية الطبيعة وأشكال الحياة النباتية والحيوانية مثلما فعل الإنسان، وهو بعد أعزل من جميع أسلحة القوة التي تتمتع بها أشكال الحياة الأخرى. لكنه تفوق عليها باستخدام قدراته العقلية، مع احتفاظه بقوى الغرائز جميعًا.

لقد تحايل الإنسان على البقاء في كل بيئة طبيعية، وتعايش مع كل أنواع الإيكولوجيات البيئية والنباتية والحيوانية وعاش عليها. ومع كثير من التضحيات، وعلى فترة زمنية طويلة، انتصر الإنسان وبقي وتكاثر حتى ملأ ظهر الأرض.

لم ينتصر الإنسان لأنه الوحيد بين الكائنات الذي يقف على قدميه طوال حياته، ولم ينتصر لأنه الوحيد الذي يستخدم يديه في القبض على الأشياء والأدوات بإحكام تام، ولم ينتصر لأنه الكائن الذي يرى الأشياء مجسمة ببعدها الثالث، ولم ينتصر لأنه يستخدم قواه الذهنية. لم ينتصر لأنه الوحيد بين الكائنات الذي يملك كل هذه الميزات فقط، بل انتصر لأنه لا يوجد «إنسان فرد»، بل إنسان جماعي حضاري يظهر من خلاله الإنسان الفرد في الظروف المواتية.

حقًّا؛ هناك كائنات كثيرة تؤلف حياة جماعية، لكن الغرائز البيولوجية وحدها تجمعها في تجمعاتها الهيراركية النمطية التي لا تحيد عنها طوال حياتها وإلا انتابها الهلاك. بينما التجمع الإنساني ليس نمطيًّا منذ الأزل وإلى الأبد، بل تتغير أنماطه وقوالبه استجابة للمواقف المختلفة، والفضل في ذلك راجع إلى الحضارة الإنسانية.

والحضارة هي الوجه الآخر للإنسان: تشتمل على كل مقدرات الإنسان وأعماله، من الحصول على الغذاء إلى أدواته الإنتاجية وكل منتجاته التنظيمية وأيديولوجياته وأفكاره الغيبية وإبداعه الفني. لهذا لا يوجد مجتمع بشري بدون حضارة مهما كانت درجة بدائيته، ولأن الإنسان الجماعي يتعلم حضارته منذ نعومة أظفاره، أمكنه — بواسطة هذه القدرة على التوارث الاجتماعي والحضاري — أن يبني باستمرار فوق ما تلقاه من ميراث. وبذلك تنمو الحضارة وتنفتح آفاق جديدة أمام المغامرة الإنسانية المادية أو التكنولوجية أو المعنوية والفكرية. ونحن اليوم نحتفظ في داخلنا الحضاري بتجارب المليون سنة الماضية: على سبيل المثال تجارب محاولة الوقوف المنتصب على القدمين، ونمر بها سراعًا ليصبح في إمكاننا الآن أن ننتقل بسرعة هائلة من مكان إلى آخر نتيجة لتقدم تكنولوجية إنتاج وسائل النقل. وفي الوقت نفسه نحتفظ بتجارب ومحاولات النطق باللغة دون أن نقف عندها، بل نمر عليها سراعًا لنتعلم أو نكتب روائع الأدب.

وإذا كان الإنسان كائنًا عضويًّا، فإن الحضارة هي الأخرى كائن عضوي تنبع من الواقع وتعيش عليه وتتغذى بالوراثة وتنمو بالتجربة الجديدة، وتستجيب لكافة أنواع المؤثرات الداخلية النابعة من المجتمع، والخارجية القادمة من مجتمع حضاري آخر. ويترتب على ذلك أن تثري الحضارات أو تتفاعل وتذوب، أو تتشكل في صورة جديدة، أو ترفض التعليم فتنعزل وتذبل ثم تموت مع مجتمعها.

ولأن الحضارة كائن عضوي مستجيب لكل المؤثرات، فإنها أخذت أشكالًا مختلفة عند المجتمعات المختلفة. لقد أدى تفاوت الظروف الخاصة لكل مجتمع — سواء كانت ظروفًا مكانية أو زمانية أو تاريخية — إلى تفاوت كبير في أنواع الحضارات وأشكالها: بعضها أخذ يتجمد لفترة طويلة، والبعض ينمو بسرعة لفترة ما، والبعض الآخر ينصهر ويذوب في حضارات متوسعة، أو يموت وينقرض. لقد أدى كل هذا إلى أن يغطي سطح الأرض المسكون لوحة من الفسيفساء الحضارية، تحاول الحضارة الصناعية أن تغزوها كلها وتسيطر عليها منذ بداية هذا القرن.

هذا هو إرثنا الحضاري الحالي.

إن الاختلاف السلالي والحضاري منذ القدم، قد أدى إلى تصنيف نسبي موحد عند كل مجتمع في العالم — في الماضي وفي الحاضر: هناك «الناس» وهم بنو جلدتي ومجتمعي ولغتي وحضارتي أنا، وهناك «الناس غيرنا» وهم غيرنا من المجتمعات والحضارات. ولقد كان «الناس غيرنا» دائمًا مثار التعجب والاستغراب عند العامة من «الناس»، ومثار فحص وتمحيص عند الخاصة من «الناس»، ومن هنا كانت بداية دراسة الإنسان.

والآن ماذا يفعل علم الإنسان «الأنثروبولوجيا» في هذا الخضم من الناس والحضارات. إنه باختصار شديد يقوم بما كان يفعله في الماضي الخاصة من «الناس» — تحري طبيعة الإنسان وطبيعة الحضارات — ولكن على أسس علمية منهجية. وهذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم يفعل هو الآخر ما فعله الأقدمون والمحدثون. إنه محاولة لمزيد من المعرفة عن الإنسان؛ كي يعطينا قدرًا من المعلومات تساعدنا على اتخاذ المواقف الصحيحة من قضايا التغير الحضاري في عالمنا المعاصر الذي قصرت فيه المسافات إلى الحد الزمني الأدنى، وزادت فيه تفاعلات المجتمع العالمي كتمهيد لوحدة حضارية ذات أداء نسعى إلى تناسقه وانسجامه.

محمد رياض

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤