تحديث المعلومات عن تطور الإنسان

مرت ٤١ سنة على صدور الطبعة الأولى من كتابي المعنون: «الإنسان: دراسة في النوع والحضارة» (دار النهضة العربية – بيروت ١٩٧٢)، ومع ذلك فالإطار العام للتطور البشري ما زال كما كان، بمعنى أن بعض أنواع وفروع سلالات بشرية أو شبيهة بها أو سابقة عليها قد تطورت، وأخرى توقفت عند سد بيئي أو ديموجرافي يحيلها إلى نوع منقرض، أو على الأقل اشتبك جينيًّا في فترة ما مع نوع آخر نتج عنه خط تطوري جديد، تشترك فيه المورثات بنسب مختلفة.

ولما كان الكتاب يعالج موضوعين؛ الأول: عن التطور السلالي للإنسان، والثاني: عن الحضارة والثقافة وتنظيم المجتمع. فقد رغبت أن يكون نشر الكتاب في مجلدين تسهل قراءتهما بدلًا من مجلد واحد من ٦٠٠ صفحة.

هذا إذن القسم الأول من كتاب الإنسان الذي نُشِرَ في ١٩٧٢، مضافًا إليه بعض المعلومات الجديدة الناجمة عن تراكم المكتشفات الحفرية عن الإنسان وأشباه الإنسان خلال العقود الأربعة الماضية. عمر الإنسان وأشباهه في المتوسط لا يزيد عن ثلاثة إلى أربعة ملايين سنة، وهي فترة ضئيلة جدًّا من عمر كوكبنا الأرضي الذي نعيش عليه ونتشارك فيه مع كل أشكال الحياة النباتية والحيوانية والبحرية والميكروبية، التي بدأت منذ نحو ٥٠٠–٦٠٠ مليون سنة، وهي أيضًا مدة زمنية قصيرة من عمر الأرض التي قد تتجاوز أربعة مليارات ونصف المليار مما نعد من السنين.

لماذا اخترت أن تكون البداية بالجانب الطبيعي من تكوين الإنسان؟ هو موضوع فيه كثير من الالتباس، قد يبدو أن ملخصه معركة بين نظرية الخلق وبين النتائج العلمية لتفسير الظواهر. والأمر غير ذلك، والمعركة مفتعلة منذ قرن، تثور وتخبو كلما ظهر كشف علمي جديد؛ فإنه يجدد على الفور نقده ونقضه من أصحاب الرأي الآخر.

لماذا؟

أي إنسان عالي الثقافة أو محدودها هو دائمًا ربيب أفكار سابقة أو مسبقة متداخلة في نسيج ثقافة مجتمعه بطريقة تلقائية، ومن ثم فهو غالبًا ما يرفض للوهلة الأولى أفكارًا أخرى قد تبدو معارضة أو مغايرة لما لديه من مفاهيم جاهزة؛ فتكون ردة الفعل الأولى رفض الجديد دفاعًا عن موجوداته الفكرية، سواء كان يعرف دقائقها أو مصدقًا لها باعتبارها الأكثر شيوعًا والأكثر ممارسةً، والأكثر الذي يجعله في صفوف الأغلبية خاصةً إذا ارتبطت بمذاهب وعقائد إيمانية …

ومن بين أكثر الأفكار المسبقة المتداولة: التعارض بين أفكار الخلق، وأفكار نظريات التطور التدريجي للإنسان. حينما دخلت التطورية مجال الفكر الإنساني منذ نحو قرن ونصف القرن، بادرت كل الأديان — وبخاصة السماوية الرسولية — إلى نفيها، باعتبار ما ورد أن الخلق الإلهي للإنسان تم مرة واحدة وبهدف واحد: حياة دنيوية على الأرض؛ كاختبار وامتحان يؤدي في النهاية إلى الحياة الآخرة الدائمة، أو عقاب أبدي على أعمال ضد شرعة الحياة.

ولكن هل الأديان تنفي التغير والتدرج مثلًا من الميلاد إلى الوفاة كظاهرة طبيعية؟! هل تنفي تغيير الناس لعاداتهم التقليدية المشينة كالرق أو وأد البنات؟! وأشياء أخرى كثيرة حضت الأديان على تغييرها مرة واحدة أو بالتدريج. المنهي عنه يتناول أصول الإيمان بالخالق. ولأن نفي التطورية جاء كالرعد القاصف دون تمحيص مطلوب، بل أيضًا بإضافات شعبية لم تأتِ بها البحوث؛ مثلًا بساطة الجملة الاستنكارية حول القرد كجد مباشر للإنسان! جملة بسيطة لكنها كقصف المدفع لا يذر ولا يرحم، فمن ذا الذي يرتضي هذا النسب حتى لو كان أقبح من قرد، كما وصف الشاعر بشار بن برد نفسه في إحدى هجائياته؟! لهذا أصبحت هناك حساسية شديدة لموضوع تطور البشر، برغم وجود فكر التطور الكمي والكيفي في المنهج العقلاني المعملي والتنظيري.

إذا أُخِذَتِ التطورية على أنها إعمال للعقل؛ فليس معنى هذا نفيًا للإيمان أو جهالة به. ربما الشيء الواضح في هذا الموقف أن فكرة الخلق أكثر تقبلًا وإقناعًا؛ لأنها متممة للإيمان. فالخلق محكم من البداية للنهاية بهدف وغرض واحد، هو الحصول على الخلود في الحياة الآخرة. أما التطورية فهي تبدو كهدف معرفي يقوم على منهج البحث العلمي، ويعتمد على ما لديه من معرفة قد تتأكد أو تُنفَى بنتائج البحوث، وهي بالتالي ليست نقيض الخلق.

الفرق إذن هو في الدليل النهائي شكلًا؛ فالإيمان جملة واحدة متكاملة مع العقيدة، ومع الرغبة الجارفة للنفس البشرية أن تحيا مرة أخرى بعيدًا عن فناء الجسم البشري على الأرض. حب الحياة متمم للحياة، وإلا انتهت الحياة إذا استعجل الناس الآخرة. حتى لو كانت حياة شخص تعسة على الأرض، يظل هناك أمل في تعويض الآخرة. ولأن أي بحث منشغل بتحصيل نتائج محددة؛ فإن أي بحث نظري أو علمي أو تطبيقي لا يتطرق إلى مضامين داخل علم الغيب الذي لا يعرفه سوى علَّام الغيوب.

فهلَّا نستفيد معرفيًّا وبعد ذلك لكلٍّ شأن، حسب تدريب وتأهيل طاقاته الفكرية مرونةً أو جمودًا؟!

ليست هذه الأسطر اعتذارية، بل محاولة للفهم: من نحن؟ وكيف أصبحنا؟ وماذا نتوقع للبشرية اجتماعيًّا وفكريًّا؟ لأن الجسم وهياكله العظمية هي بالأساس واحدة أصابها نمو هنا وضمور هناك، حسب الاستخدام المتوافق مع مناسيب الحياة المتغيرة، مع الاستعانة بمساعدات تقنية نبتكرها لتيسير الحياة منذ أن دبت فينا الحياة.

محمد رياض
القاهرة في ٥ / ١١ / ٢٠١٣

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤