مدخل إلى دراسة الإنسان

مفهوم ومهام وحقل الأنثروبولوجيا

(١) الحاجة إلى دراسة الإنسان

قال أوجستين Augustine: «إن الإنسان يتعجب من البحر المائج والماء المندفع ومنظر السحب وأشكالها، ونسي أن أكثر العجائب دعوة للعجب هو الإنسان نفسه.»١
والحقيقة التي نلمسها في هذا التعبير تبرر دراسة الإنسان. فكلمة الأنثروبولوجيا كلمة مُركَّبة مستمدة من اللغة الإغريقية، القسم الأول منها أنتروبوس Anthropos بمعنى إنسان، ولوجيا Logia بمعنى دراسة. فالإنسان أعظم عجائب العالم يستحق دراسة خاصة به، حتى ولو لم تكن نتائج هذه الدراسة سوى مجرد إشباع الرغبة في الغوص في أعماق العقل الإنساني. ولكن دراسة الأنثروبولوجيا أكثر من هذا، فهي في الحقيقة تؤدي إلى زيادة معلوماتنا عن الإنسان، ويترتب عليها زيادة القوة التي تمكننا من فهم القوى البيولوجية والوراثية لدى الإنسان وضبطها إن أمكن، كما تساعد على تشكيل حضارة ومجتمع الإنسان. وهكذا فإن الأنثروبولوجيا أداة فعالة في يد الإنسان؛ لأنها تؤدي إلى فهم طبيعة الإنسان ومحاولة إيجاد أسس علمية ومنهجية لفهم مشكلاته وتطوير مجتمعاته بطريقة أكثر اتفاقًا مع كم الظروف البيئية والتاريخية والاجتماعية. والحقيقة أنه لا غنى لكثير من العلوم الاجتماعية عن نتائج الدراسة الأنثروبولوجية.

لقد كانت الأنثروبولوجيا موضوعًا يرضي ويسر حب الاستطلاع عند المثقفين، ولقد ظل لفترة طويلة موضوعًا محببًا عند محبِّي غرائب الأمور. فإن الكتابات التي تصف العادات الغريبة والقوانين الجنسية المختلفة والسلوكيات الدينية والسحرية البدائية وأشكال الفنون المختلفة، تجد في نفس الصغير والكبير هوى مؤكد. ولا شك في أن اتصال العالم المعروف بالعوالم الجديدة في أمريكا وأفريقيا وآسيا بعد عصر الكشوف، قد ساعد على نمو غزير في معلوماتنا عن الكم الحضاري والثقافي والعقيدي والفني تضمنتها كتابات المستكشفين في تلك الفترة، وبذلك فإن كثيرًا من الكتابات القديمة تحتوي على مصادر جيدة للأنثروبولوجيا.

لكن نضوج الأنثروبولوجيا كعلم، وتطور مناهج البحث وأساليب التحليل وتَقَدُّمها، وإن ساعد على تخصص العلم أكثر وأكثر، إلا أنه لم يسلب منه جاذبيته الإنسانية الذاتية في كونه بحثًا في الإنسان. ولقد أدت الكشوف العلمية في ميدان ما قبل التاريخ سواء منها كشوف الهياكل الحفرية للإنسان وطلائعه، أو الكشوف الخاصة بتطور معارف الإنسان التكنولوجية والصناعية، أدت إلى إطالة هائلة فيما نعرفه عن تاريخ الإنسان وحضارته ووضع الإنسان المعاصر في محله في تصنيف الحياة على الأرض، وأعطانا أدلة باهرة على الطاقة الخلاقة والمبدعة عند كل الناس عبر مئات الآلاف من السنين.

وكذلك أدت هذه الدراسات الخاصة بوصف وتصنيف الإنسان ككائن بيولوجي (الأنثروبولوجيا الطبيعية — علم الإنسان الطبيعي) بالاشتراك مع الدراسات النفسية إلى مناهضة الاعتقادات السائدة الخاصة بالتمييز العنصري وممارساته. كذلك ساعد التقدم في مناهج البحث في السلوك والمعتقدات واللغة والفن بين مجموعات حضارية مختلفة على التقدم في مجال إدراك الشخصية والحضارة والنظم الحضارية والتطور الذي انتابها، ومن دراسة النظم والقوانين التي تحكم المجتمعات دراسة مقارنة وظيفية أمكن استخراج عدة أنماط لدراسة التغير الحضاري.

وفي عالمنا المعاصر شديد التشابك والاحتكاك أصبحت الحاجة إلى إعطاء دروس في الأنثروبولوجيا في الكليات والجامعات والمدارس شديدة الإلحاح، وذلك بعد أن تبين للعلماء والمدرسين مدى الفائدة التي يمكن أن يترتب عليها الإلمام بهذا العلم كتمهيد لعدد من العلوم الإنسانية، وخاصة بالنسبة لبرامج السياسة التعليمية والتخطيط الاقتصادي الاجتماعي؛ لأن الأنثروبولوجيا هي — كما يدل اسمها — المدخل العريض جدًّا لدراسة الإنسان ومجتمعاته المختلفة المتغايرة أبدًا.

(٢) تطور مفهوم الأنثروبولوجيا

الأنثروبولوجيا العامة علم من العلوم القليلة التي تجمع بين العلوم الطبيعية والإنسانية، فالإنسان جزء مما نسميه جميعًا الطبيعة؛ أي القوى التي تخلق مظاهر العالم المادية. ومن ثم فإن الإنسان مظهر طبيعي؛ لأنه جزء من العالم العضوي المادي، ولأنه نوع بيولوجي من أنواع المملكة الحيوانية، وتاريخ نموه وتطوره كنوع من أنواع الحياة أصبح جزءًا هامًّا من علوم التاريخ الطبيعي؛ لذلك نرى المتاحف الدولية للتاريخ الطبيعي تحتوي على قسم خاص بالأنثروبولوجيا، تعرض فيه لتاريخ وتطور الإنسان ككائن بيولوجي.

ولكن الأنثروبولوجيا في الواقع أكثر من مجرد كونها دراسة بيولوجية للإنسان، فهي تتناول دراسة الإنسان وكل أعماله. فالأنثروبولوجيا بمعناها الكامل علم يدرس السلالات والعادات والإنتاج الإنساني أيًّا كان؛ ولهذا فإن الدراسة الخاصة بالإنتاج المادي والفكري والديني والفني والعادات والنظم الاجتماعية، تجعل من الأنثروبولوجيا علمًا من العلوم الإنسانية الاجتماعية.

والأنثروبولوجيا علم قديم وحديث في آن واحد، فهو قديم لأن الموضوعات التي يهتم بها تناولها كثير من الكتَّاب القدماء بالبحث والدراسة، وكان غالبيتهم من الفلاسفة؛ ولهذا نجد كثيرًا من موضوعات علم الأنثروبولوجيا، ومن أهمها الديانة وفكرة الإله والتمايز والاختلاف الحضاري، وتقسيم المجتمع إلى طبقات وسلالات قد اقترنت بأبحاث الفلاسفة وبالصبغة الفلسفية. وبطبيعة الحال، أُدْرِجَتْ هذه المباحث في الماضي تحت راية الفلسفة كما كان متبعًا في كل العلوم عند بداية نشأتها.

ويجب علينا أن نلاحظ أن آثار هذه الصبغة الفلسفية لموضوعات الأنثروبولوجيا لن تندثر تمامًا. فلا زالت هناك بعض بقاياها، خاصة عند بداية انسلاخ هذا النوع من الدراسة وظهوره في صورة علم مستقل في العصر الحديث.

وعلى سبيل المثال، نذكر أن المدرسة النمساوية الألمانية في الإثنولوجيا Völkerkunde, ethnologie ارتبطت بنظرية أفلاطون،٢ وأن دافيد هيوم David Hume كان له دور هام في المراحل الأولى لنشأة المدرسة الأنثروبولوجية الإنجليزية، وفيما يقول الفلاسفة أن دافيد هيوم في نظرياته ككل متأثر بنظرية الفيلسوف الإغريقي القديم ديمقراط Democritus المادية.٣
كذلك نجد ديكارت Descartes قد تأثر بالنظريات الأفلاطونية، ومعروف أن «ديكارت» قد أثر بصورة ملحوظة على المدرسة الإثنولوجية الفرنسية في بداية نشأتها.

والأنثروبولوجيا من الناحية الأخرى علم حديث؛ لأنه لم يَمْضِ على هذا العلم بصورته الحالية أكثر من قرن واحد، وهو إلى الآن لم يصل بعد إلى حد التكامل في بعض النقاط وبعض الشعب والأقسام، وأساس ذلك راجع إلى عدم استقرار المنهج كما هو الحال في معظم العلوم الاجتماعية الحديثة التي تأثرت وتتأثر بشدة بالأبحاث الحقلية العديدة التي تجري في معظم جهات العالم إلى جانب تأثرها بالتطور العلمي الحديث.

وتتضح الاختلافات في الكلمات التي ذكرها الأستاذ رادكليف براون R. Radclif fe-Brown في المحاضرة التي ألقاها أمام الجمعية البريطانية الملكية للأنثروبولوجيا سنة ١٩٣١:

إنه من المستحيل التوفيق بين النظريات المختلفة في علم الأنثروبولوجيا، أو حتى التوصل إلى أسس منهجية تجمع عليها الآراء. إن كل مدرسة أنثروبولوجية تخط طريقها وحدها، وتبني تركيبها النظري وحدها دون محاولة تقصي النقاط التي يمكن أن تلتقي فيها مع الأخرى، وقد تحولت هذه المدارس إلى حواريي عقيدة وليس تلامذة علم.

والحقيقة أن تعدد المداخل إلى الأنثروبولوجيا — كما ذكر براون — لا يشمل كل أقسام الأنثروبولوجيا، إنما هذا التعدد وهذا الاختلاف ينفرد بهما ما يُسمَّى باسم الإثنولوجيا Ethnologie دون الفروع الأخرى التي يقل فيها تعدد المداخل إلى الحد الأدنى المتبع في معظم العلوم الحديثة. وعلى الرغم من صحة الكثير مما جاء في كلام الأستاذ راد كليف براون؛ إلا أننا لا نوافق على مجموع كلامه، وخاصة ما أكده من استحالة التوفيق في مناهج الإثنولوجيا التي تتبعها المدارس الإثنولوجية المختلفة.

هذه الشعبة من الأنثروبولوجيا — أي الإثنولوجيا — تستمد أصولها من موضوع واحد، وهو المجتمعات الإنسانية في شتى صورها. وتعدد المناهج وتضارب المداخل ليس كله تنافرًا في صورة فوضوية. بل إن نظرة محايدة قد توضح لنا أن هذه الاختلافات تعطينا في النهاية بيانات مترابطة يعتمد بعضها على البعض، ويمكن استغلالها لإعطاء تفسيرات مفيدة لحياة المجتمعات المختلفة من وجهات نظر متعددة؛ إما هي ذات أبعاد تاريخية، وإما ذات أعماق تفسر نوع البناء الاجتماعي وترابطه. فهذه المناهج المختلفة إذن مكملة لبعضها البعض في حدود معينة، وليست متضاربة تضاربًا مطلقًا.

وأقسام الأنثروبولوجيا الحالية كانت بلا شك في البداية موضوعًا واحدًا، كما يدل على ذلك البيان الذي صدر عن أهداف إنشاء الجمعية الإثنولوجية الفرنسية في باريس سنة ١٨٣٩. أهم ما ورد في هذا البيان ما يلي:
إن العناصر الأساسية التي تُستخدَم لتمييز السلالات البشرية هي:
  • التركيب الطبيعي.

  • الصفات الفكرية والخلقية.

  • اللغات.

  • التقاليد التاريخية.

هذه العناصر المختلفة لم تُدرَس بَعْدُ بطريقة يُؤسَّس عليها بحق علم الإثنولوجيا، ومن أجل تحقيق هذا وتعيين حقيقة السلالات البشرية تأسست في باريس «الجمعية الإثنولوجية الفرنسية».

والواضح من هذا البيان أن الأنثروبولوجيا كان في بدايتها تهدف إلى دراسة السلالات وتمييزها عن بعضها، مستعينة في ذلك بدراسات لغوية وحضارية. وقد نشأ هذا الاتجاه في وقت لم يكن فيه هناك تمييز وتوضيح لمفاهيم السكان والسلالة واللغة، وفي هذا الوقت أيضًا كان العلماء يتكلمون عن سلالات لا وجود لها مثل السلالة الهندو-أوروبية أو السلالة السامية أو السلالة الكلتية Celtic أو السلالة الجرمانية. كانوا يتكلمون عن مثل هذه السلالات الوهمية ويخلطون فيها بين الشعب واللغة، ولا يظهر فيها أدنى ارتباط بمفهوم السلالة البيولوجي. ولكن ذلك كان داعيًا من دواعي العصر الذي كانت فيه الحضارات المختلفة تُفهَم على أنها نتيجة خلق سلالات معينة. بعبارة أوضح حينما كانت النظرية العنصرية في بداية تبرعمها الحديث.
وقد بلغت هذه الآراء الذروة عند الكونت جوبينو Gobineau في مقال باسم Essei sur l’inegalitê des Races «مقال في عدم تساوي السلالات» سنة ١٧٥٥، وفي مقال آخر للأستاذ تشمبرلين Chamberlain نُشِرَ في سنة ١٨٩٩ بعنوان des 19 jahrhundert Grundlagen «أسس القرن ١٩».
هذه الآراء العنصرية ما زالت تروح وتجيء في أذهان الناس، وأظننا نعرف لماذا استُخْدِمَتْ ولماذا تُثار من آن لآخر، ونعود إلى الموضوع الحقيقي فنقول: إن مفهوم الأنثروبولوجيا الواسع له جذور عميقة في تراث القرن ١٨ وأوائل القرن ١٩. ويتمثل هذا التراث في تلك المفهومات الخاطئة عن السلالة والشعوب التي سبق ذكرها وأصبحت حافزًا لنشأة علمية للأنثروبولوجيا المعاصرة.٤
ونحن في هذا لا نقف موقف الذي يؤنب علم الفلك؛ لأنه استفاد في الماضي من حافز معين هو التنجيم والمنجمين، وحينما نتكلم اليوم عن هذه المعلومات الخاطئة، فنحن نتكلم عن تاريخ الأنثروبولوجيا، ولا يجب أن نهمل أصول هذا العلم. ويتضح هذا حينما نبدأ بتصفح العمل الضخم الذي بدأ به قرن من الأبحاث الإثنولوجية في العالم المتكلم بالألمانية. ذلك هو بحث الأستاذ تيودور فايتز Theodor Waitz — أستاذ الفلسفة وعلم النفس في جامعة ماربورج — المسمى أنثروبولوجية الشعوب الطبيعية Anthropologie der Naturvoelker، المنشور في ٦ أجزاء في مدينة ليبزيج بين ١٨٥٨ و١٨٧٢، قد نُشِرَ أول أجزاء هذا الكتاب الضخم بعد ٣ أعوام من نشر بحث الكونت جوبينو، الذي أشرنا إليه سابقًا، وبعد خمسة أعوام من بحث آخر للأستاذ أجاسيتز Agassiz الذي أعلن فيه وجود ثمانية أنواع من السلالات؛ كل منها له أصول قائمة بذاتها. وقد نالت هذه النظريات العنصرية حظوة شعبية، وخاصة في عدد من الدوائر في الولايات المتحدة؛ فقد ظهرت وكأنها تبرير لاسترقاق الزنوج وإبادة الأميرند (الهنود الحمر). وقد وجه الأستاذ «فايتز» هجومه ضد النظريات العنصرية في هذا التاريخ المبكر، وهذا واضح من عنوان الجزء الأول من كتابه: «بحث في وحدة الأنواع البشرية والوضع الطبيعي للإنسان» Ueber die Einheit des Menschengeschlechtes und den Naturzustand des Menschen.

(٣) ميدان الدراسات الأنثروبولوجية

الأنثروبولوجيا هي الدراسة العلمية للإنسان منذ ظهوره على سطح الأرض في مجالات تكوينه وصفاته الجسدية والاجتماعية والسلوكية وتطور ونمو حضاراته. ولهذا فالأنثروبولوجيا تحتوي على عدة ميادين عمل منفصلة في مناهجها ومباحثها، ومتصلة اتصالًا وثيقًا لكونها كلها أجزاء من علم دراسة الإنسان.

ولأن الإنسان يتكون من شقين مكملين لبعضهما: المادة والناتج الإنساني غير المادي؛ فإن الأنثروبولوجيا بدورها تنقسم إلى قسمين رئيسيين؛ هما: الأنثروبولوجيا الطبيعية، والأنثروبولوجيا الحضارية. ولكل من هذين القسمين ميادين فرعية متعددة، نجملها فيما يلي:

(٣-١) الأنثروبولوجيا الطبيعية Physical Anthropology

وتنقسم إلى الميدانين الرئيسيين التاليين:
  • (١)
    ميدان دراسة التطور الإنساني والإنسان الحفري Fossil Man:

    والمهمة الأساسية لهذا الميدان هي محاولة استعادة ما نجهله عن الإنسان البائد بالكشف عن بقاياه الحفرية، ومحاولة تحليل هذه الكشوف من أجل معرفة الأسباب التي دعت إلى حدوث تغيرات مرحلية في الهيكل العظمي والنسيج المركزي العصبي، ابتداءً من الشكل والصفات التي تميز الرئيسيات إلى الشكل والصفات التي تميز الإنسان المعاصر. ونظرًا لندرة هذه الكشوف على العموم — خاصة أشباه الإنسان — فإن الذي وصل إليه البحث في هذا الميدان مجرد تصنيف عام يمكن أن يُوصَف بأنه تمهيدي يوضح أسلاف الإنسان من الوقت الحاضر حتى أشباه القردة.

  • (٢)
    ميدان دراسة الصفات الطبيعية للإنسان — علم الإنسان الطبيعي Physical Anthropology:

    يدرس هذا الجانب من الأنثروبولوجيا التغيرات البيولوجية بين مجموعات الإنسان في أقاليم الأرض الجغرافية على أساس تشريحي، وبالمقارنة مع الهياكل الموجودة في المقابر الحديثة زمنيًّا. ويؤدي ذلك إلى تصنيفات للبشر على أسس دراسة قياسية ومورفولوجية لصفات طبيعية معينة بالإضافة إلى دراسة الوراثة. ويُلاحَظ أنه يجب اتخاذ الحذر خاصةً مع استخدام مصطلحات يشيع استخدامها بمفاهيم تنطوي على التعصب أو بمعانٍ تضفي على سلالة صفات سيادية وأخرى صفات تخلفية. مثل اصطلاح نوردي أو زنجي، وبذلك أصبحت إحدى مهام هذا القسم من الأنثروبولوجيا دحض ورفض هذه الأشكال من أشباه النظريات العلمية التعصبية.

    والأنثروبولوجيا الطبيعية على هذا النحو تدرس الإنسان ككائن بيولوجي من حيث تكوينه الجسدي، وتطوره بواسطة الوراثة وبواسطة سلالاته القديمة والحديثة، ودراسة توزيع السلالات على ظهر الأرض.

    وقد أثبتت الدراسات العلمية في هذا الميدان أن السلالات البشرية الحالية تنتمي إلى نوع بيولوجي واحد، هو ما نسميه «الإنسان العاقل».

    ولكن مع ذلك، أي وحدة النوع المعاصر، فإن الأمر لم يكن كذلك خلال الفترة التي عاشها الإنسان وأشباهه على الأرض؛ فقد كانت هناك أنواع مختلفة من الإنسان وأشباه الإنسان تصارع من أجل الحياة. واليوم نجد من سلالة الإنسان العاقل أشكالًا وسلالات فرعية عديدة تكوِّن ما نعرفه الآن من مجموعات سلالية على ظهر الأرض. ويختص علم الأنثروبولوجيا الطبيعية بدراسة هذه المجموعات الإنسانية لتحديد صفاتها المشتركة التي تؤلف فيما بينها الإنسان المعاصر؛ هذا من ناحية. وحينما تبدأ الأنثروبولوجيا الطبيعية دراسة الإنسان في ما قبل التاريخ، فإن مصدرها الوحيد هو الهياكل العظمية الحفرية، بالإضافة إلى عدد ضئيل من المومياءات معظمها راجع إلى تاريخ حديث جدًّا بالمقارنة بتاريخ الإنسان الطبيعي.

    وفي هذا المجال يأمل الأنثروبولوجيون السوفيت العثور يومًا من الأيام على إنسان ما قبل التاريخ كاملًا بلحمه وشحمه وعظمه وشعره، على غرار تلك الكشوف التي أدت إلى العثور على حيوان الماموث الصوفي محفوظًا بكامله تحت ثلوج سيبيريا. وإلى أن نُوفَّق إلى ذلك فعلى الأنثروبولوجيين الاكتفاء بمصادرهم الراهنة، وهي الهياكل العظمية المتحفرة وغير المتحفرة، وتُسمَّى الدراسة العظمية Osteologie، وهي في الحقيقة أساس كل الدراسات الأنثروبولوجية الطبيعية؛ لأن الهيكل العظمي هو أساس الإنسان حيًّا أو ميتًا، وعندما يدرس الأنثروبولوجيون السلالات المعاصرة؛ فإنهم يتناولون صفات أخرى في الجسم الحي، فهم يدرسون أشكال الجسم والأعضاء والتركيب العضلي ولون البشرة ولون وشكل العين ولون الشعر ونوعه، بالإضافة إلى دراسة عدد من الأعضاء الداخلية مثل الغدد المختلفة، وفوق كل هذا دراسة الدم وفصائله. ويهدف الأنثروبولوجي من هذا إلى تمييز الأشكال الإنسانية التي تُسمَّى المورفولوجية الإنسانية Morphologie، والأنثروبولوجي هنا يستخدم مناهج وأساليب علم التشريح المقارن. من أجل هذا اتفق الأنثروبولوجيون على تحديد عدد من النقط على الجسم الإنساني تُستخدَم كأساس للقياسات المختلفة.

    وهذا النوع من البحث الأنثروبولوجي هو ما يُسمَّى بالأنثروبولوجية القياسية أو الأنثروبومترية، نظرًا للاعتماد على القياسات الإحصائية.

    ولكن الأنثروبولوجيين المحدثين لم يكتفوا بهذا النوع من الدراسات المعتمدة على معلومات ثابتة عن الجسم الإنساني، بل هم يريدون أن يعرفوا التشابه أو الاختلاف في وظائف معينة؛ مثل: سرعة النبض، أو نسبة نمو الجسم، ودرجة هذا النمو لدى الشعوب المختلفة. وهنا يستخدم الأنثروبولوجي فرعًا من الدراسات الطبية هو علم وظائف الأعضاء، ويُسمَّى هذا النوع من الدراسة الأنثروبولوجية باسم الأنثروبولوجيا الحيوية أو الأنثروبولوجيا البيومترية.

    وعلى أي حال، فإن الأنثروبولوجيا الطبيعية لها مناهجها التي عليها إجماع كبير من العلماء المتخصصين؛ نظرًا لأنه علم موضوعي ومجالات إسقاط ذاتية الباحث عليه محدودة.

(٣-٢) الأنثروبولوجيا الحضارية (Ethnologie) Cultural Anthropology

تنقسم الأنثروبولوجيا الحضارية إلى ثلاثة ميادين رئيسية، هي:
  • (١)
    ميدان الأركيولوجيا وما قبل التاريخ Archeology-Prehistory:

    تعطينا هذه الدراسة تاريخًا للشعوب المختلفة في مراحل نموها قبل كتابة تاريخها، وأقدم التواريخ المكتوبة لا يعود إلى أكثر من بضعة آلاف من السنين؛ مما يجعل بقية عمر الإنسان لمئات الآلاف من السنين موضوع هذه الدراسات. وتتم هذه الدراسات عن طريق التنقيب وكشف مخلفات الحضارة المادية لفهم تطور وتكنولوجيا القدماء، وفي بعض الأحيان فهم بعض عقائدهم وعاداتهم. وقد أدت دراسة الأدوات الحجرية إلى تصنيف معظم تاريخ الإنسان في عصور حجرية يمثل كل منها تطورًا تكنولوجيًّا ملحوظًا، ويستفيد علم ما قبل التاريخ في تصنيفه للتتابع الحضاري بالدراسات الجيولوجية لتحديد عمر الطبقات التي توجد فيها مخلفات الإنسان الحضارية.

  • (٢)
    الدراسات اللغوية Linguistics:

    يقوم الدارسون لهذا الميدان بوصف وتسجيل وتحليل الصوتيات والمفردات والنحو والتركيب اللغوي لعدد من اللغات قد يبلغ في العالم ٢٧٠٠ لغة، وهم يقدمون مقارنات لمميزات هذه اللغات من أجل الوصول إلى علاقات بين اللغات والتغير اللغوي في الماضي، وهناك أيضًا محاولات لتحديد العوامل الحضارية والاجتماعية التي أدت إلى هذه التغيرات.

    ولا يقتصر عمل الأنثروبولوجيين اللغويين على اللغات المكتوبة، بل يركزون أيضًا على اللغات غير المكتوبة بين الجماعات ذات التكنولوجيا البدائية.

  • (٣)
    الأنثروبولوجيا الحضارية (علم الإنسان الحضاري)، الإثنولوجيا Cultural Anthropology, Ethnologie:

    الاختلاف الرئيسي بين الإنسان وبقية الكائنات هو الحضارة. والحضارة يمكن أن تُوصَف بأنها الوراثة الاجتماعية التي تُنقَل من جيل إلى آخر عن طريق مستقل غير النقل البيولوجي بواسطة الخلايا الذي يميز بقية الكائنات. ويُسمَّى أخصائيو هذا الميدان: الأنثروبولوجيين الحضاريين – الأنثروبولوجيين الاجتماعيين – الإثنولوجيين – الإثنوجرافيين، حسب مفاهيم المدارس التي ينتمون إليها في أوروبا وأمريكا. ومهمتهم الرئيسية — مهما كانت مدارسهم — وصف وتحليل هذا الكم الهائل المتغير المختلف من العادات وأشكال الحياة الاجتماعية ومحاولة تفسيره، وخاصة عند الجماعات ذات الحضارات البدائية تكنولوجيًّا.

    لهذا يدرس هؤلاء الأخصائيون الحياة أو الجوانب المادية من الحضارة، وأشكال الحياة الاقتصادية، وتنظيم المجتمع، وشكل الأسرة، والتنظيم العشائري والقبلي، والجمعيات السرية والدينية، ونظام الحكم، والنظم القانونية، والعقائد والفنون، وغير ذلك من النشاط والسلوك الحضاري. وقد أدت دراسات هذا الميدان إلى إظهار تنوعات هائلة في الأنماط الحضارية في المجتمعات المختلفة، ومن ثم الإمكانات العديدة والمرونة الكبيرة في الطبيعة الإنسانية.

    ونظرًا لأن الأنثروبولوجيا الحضارية أو الإثنولوجيا تدرس الحضارة الإنسانية بأوسع معاني مصطلح الحضارة، بما في ذلك أقسام الحضارة المادية والاجتماعية والروحية والمعنوية؛ فإن هذا هو القسم الذي تدور حوله اختلافات مناهج المدارس الأنثروبولوجية. وينعكس ذلك من التسميات المختلفة التي تُطلَق عليها، ونسوق هنا مثالين:

    ويتضح من تقسيم الأستاذ هرسكوفيتس٥ الموضح أعلاه أن هناك اختلافًا جوهريًّا بين مضمون الأنثروبولوجيا الحضارية في الولايات المتحدة وإنجلترا، كما أن هناك خلطًا في استخدام أسماء فروع هذا القسم من الأنثروبولوجيا. فالأميركيون يصفون دراسات الحضارة المفردة؛ مثل: دراسة حضارة قبيلة الزوني من قبائل الهنود الحمر، أو الداهومي من قبائل غرب أفريقيا، أو بابوا في جزيرة نيوجيني في مجموعة ميلانيزيا في الشرق الأقصى، يصفونها بأنها دراسة إثنوغرافية. بينما يخصصون كلمة إثنولوجيا لدراسة الحضارات دراسة مقارنة أو دراسة عنصر حضاري في عدد من المجموعات الحضارية؛ مثل: دراسة القوس والسهم، أو دراسة طريقة صيد الأسماك، أو دراسة فكرة الإله عند مجموعات مختلفة، أو دراسة العلاقة الاجتماعية بين الراعي والحيوانات التي يرعاها. أما الأنثروبولوجيون الإنجليز فهم في مجموعهم يطلقون مصطلح إثنولوجيا على ما يقوم به مؤدو مصطلح إثنوجرافيا عند زملائهم الأمريكيين، بينما يخصون الدراسات المقارنة والنظرية بمصطلح قائم بذاته يربط بين الاجتماع والأنثروبولوجيا. وهناك بعض المدارس الأمريكية التي تأثرت بالمدرسة الإنجليزية فتسمي مسمياتها، وهناك محاولات من جانب بعض الأمريكيين للتقريب مثل تقسيم الأستاذ هوبل Hoebel٦ الذي يقسم الأنثروبولوجيا الحضارية إلى إثنوغرافيا وأنثروبولوجيا اجتماعية ولغات. وهذا الاختلاف يتزايد إذا عرفنا أن المدارس الأنثروبولوجية في ألمانيا والنمسا وسويسرا تسمي هذا القسم من الدراسات باسم إثنولوجيا، بينما يشيع استخدام مصطلح إثنوجرافيا في الاتحاد السوفيتي. وسوف نحاول قدر الإمكان تسمية هذا القسم بالإثنولوجيا لكي نُفرِّق بينها وبين الأنثروبولوجيا الطبيعية التي سنتفق مع الأوروبيين على تسميتها الأنثروبولوجيا فقط.

    وفيما يلي سنحاول أن نلخص الفروق الرئيسية في استخدام المسميات الأنثروبولوجية بين الدول المختلفة:

    وعلى هذا النحو تنقسم وتتعدد ميادين الأنثروبولوجيا، ومناهج البحث في كل ميدان تختلف لاختلاف موضوع البحث، وترتبط مناهج البحث في الميدانين الأول والثاني (تطور الإنسان الحفري، الأنثروبولوجيا الطبيعية) بالمناهج البيولوجية والوراثية ارتباطًا أساسيًّا. لكنها مع ذلك علوم اجتماعية؛ لأن التطورات البيولوجية التي حدثت على الإنسان في تطوره، قد تأثرت أو حدثت بواسطة البيئة الاجتماعية أو البيئة الجغرافية.

    ومن الناحية الأخرى نجد أن الأنثروبولوجيا الحضارية واللغات والدراسات التي تنطوي عليها من دراسات للنظم الاقتصادية والدينية والفنية للجماعات الأمية، بعيدة في مناهجها كل البعد عن العلوم البيولوجية وطرقها في البحث.

    ولا شك أن ميادين الأنثروبولوجيا تخدم معًا من أجل مزيد من إدراك أكمل لتاريخ الإنسان، ومعرفة أكمل لطبيعة التكوين الطبيعي لسكان العالم ومميزاتهم الحضارية والعقلية. وقد ساعدت الأنثروبولوجيا على القضاء — أو محاولة القضاء — على التعصب للحضارية المحلية، وفتحت آفاقًا إنسانية واسعة من أجل فهم أكثر تنويرًا للإنسان وسلوكه. ولا يعني هذا أن كل أنثروبولوجي يحمل داخله هذه الرسالة أثناء أبحاثه في الحقل والمكتب، لكن أعمال الأنثروبولوجي ونشاطه هي مساهمة في المعرفة وزيادة في موارد بناء عالم أفضل يمكن فيه الإفادة من كل إمكانات الإنسان.

(٤) من مشكلات الأنثروبولوجيا كعلم

لأن الأنثروبولوجيا علم الإنسان، فإن ذلك قد أدى بها إلى استخدامات لغوية لها نظير في اللغات اليومية. لكن هذه المصطلحات في الوقت ذاته إحدى مشكلات العلم؛ لأن لها في الاستخدامات اللغوية اليومية مفاهيم غير ما يريده لها الأنثروبولوجي، فضلًا عن أنها تُستخدَم أحيانًا في علوم أخرى بمفاهيم أخرى. ومن الأمثلة على ذلك مصطلحات: جنس – سلالة – بدائي – جنس متخلف – سلالة أصلية – حضاري – غير متحضر – بربري – بربرية – الجماعات البدائية – السحر – الجمعيات السرية – العشيرة – القبيلة – الدولة – الزعيم – الملكية – المدنية – الحضارة – الطوطم – الروح – الأرواح – البدو. هذه مصطلحات لا غنى عن استخدامها، لكن لا بد من تحديد معانيها داخل الأنثروبولوجيا خشية انتقال المفهوم إلى غير ما يُراد.

(٥) مهام علم الأنثروبولوجيا

لهذا العلم أهداف واضحة محددة على النحو التالي:
  • (١)

    وصف مظاهر الحياة البشرية والحضارة وصفًا دقيقًا.

  • (٢)

    تصنيف تلك المظاهر بعد درسها للوصول إلى أنماط عامة.

  • (٣)

    تحديد أصول وأسباب التغير وعملياته مع وصف التغير وعمليات التغير بدقة.

  • (٤)

    استخلاص مؤشرات أو توقعات للاتجاه المحتمل للتغير في الظاهرات المدروسة.

وعلى هذا فالأنثروبولوجيا كعلم تحاول استخلاص قواعد تاريخية واجتماعية تصف وتدرس العمليات والاتجاهات السائدة في الحضارات التاريخية وما قبل التاريخية، ولكي تحقق ذلك يجب أن تكون الأنثروبولوجيا أولًا وصفية وزمنية وملتزمة بالحقائق للحصول على معطيات يمكن على أساسها إجراء التعميمات واستخلاص القواعد.

لكن الأنثروبولوجيا لم تصل بعد إلا إلى عدد قليل من القواعد، ولم تتمكن إلا فيما ندر من أن تعطي هذه القواعد الصورة الرياضية، والبحث عن القواعد والقوانين عادةً أمر سهل بسيط إذا كان هناك دراسات عديدة متشابهة لظاهرة معينة، بحيث يمكن للباحث أن يهمل السلوك الفردي المختلف أو الحالات الشاذة القليلة أو غير ذلك من التفصيلات؛ لكي يمكنه أن يُعبِّر عن السلوك العام الذي يُمارَس مِنْ قِبَل الكتلة الكبيرة من الناس في موقف مشابه.

وذلك هو عين ما يفعله الكيميائي أو الفزيائي أو البكتريولوجي، فهؤلاء يصفون السلوك العام لعديد من الوحدات، والقوانين التي يضعونها ما هي إلا نوع من التقريب الإحصائي.

ولا شك أن البحث عن قوانين وقواعد تصبح عملية صعبة حين تصبح الظاهرات المسجلة قليلة عدديًّا، وملتزمة بوقت ومكان وظروف معينة، ومليئة بتسجيل التفصيلات الشاذة التي تهم الباحث أثناء البحث. وتزداد الصعوبة عندما يتعذر على الباحث عزل مشاعره الخاصة أو تحيزاته؛ أي ألا يتمكن من أن يكون موضوعيًّا إزاء الظاهرات المسجلة، وهذه هي إحدى الصفات التي تصحب البحث في موضوعات الإنسانيات.

(٦) علاقة الأنثروبولوجيا العامة بالعلوم الأخرى

(٦-١) الأنثروبولوجيا

البيولوجيا Biology

العلاقة بين الأنثروبولوجيا وبين البيولوجيا واضحة؛ لأن الدراسة الطبيعية للإنسان هي في جوهرها دراسة بيولوجية.

الباليونتولوجيا Palaeontologie

ومعناها الدراسات القديمة جدًّا. ومثل هذه الدراسة على جانب كبير من الأهمية للتعرف على سطح الأرض في العصور المختلفة، وعلى الأحوال الإيكولوجية Ecology في تلك العصور، وهي التلاؤم بين الإنسان والمحيط الطبيعي المكون من تلاؤمات أخرى هي:

التشريح

وعلاقة الأنثروبولوجيا بعلم التشريح قوية جدًّا؛ لأنهما يعالجان عددًا من المشكلات المشتركة. فعلم الأنثروبولوجيا أساسًا يدرس الإنسان ويحلل الاختلافات السلالية لدرجة أصبح معها تدريس الأنثروبولوجيا الطبيعية يتم داخل أقسام التشريح بكليات الطب، وقد قيل عن صدق إن أحدًا لا يمكنه أن يتخصص في هذا الفرع من الأنثروبولوجيا دون معرفة جيدة بالتشريح، وزيد على ذلك أن الأنثروبولوجي بحاجة ليس فقط إلى دراسة التشريح، ولكن أيضًا الإلمام ببقية فروع الطب العامة.

علم الوراثة Heredity, Human Genetics

وعلى الأخص الوراثة البشرية — وهذه لا تحتاج إلى تفصيل.

الأركيولوجيا وما قبل التاريخ

وهي بفضل نوع دراستها ترتبط بعلوم الأرض وأهمها الجيولوجيا العامة، وهي تمكن الأنثروبولوجي من التعامل مع منهج التنقيب والحفر من أجل الحصول على بقايا عظمية للإنسان، وتمكنه في الوقت نفسه من دراسة استراتيجرافية المكان الذي عُثِر فيه على العظام المنشودة، وبالتالي إمكانية إعطاء زمن أو عمر لهذه الحفريات استراتيجرافيًّا.

(٦-٢) الإثنولوجيا

العلاقة بعلم الاجتماع

لا شك أن دخول الإثنولوجيا ميدان البحث في التنظيم والترتيب الاجتماعي يقرب الإثنولوجيا من علم الاجتماع. فالقول إن دراسة أنماط وأنواع النظم الاجتماعية هي إحدى أشكال الحضارة، وبالتالي تقع ضمن دائرة اختصاص الإثنولوجيا، لا يغير هذا القول من الحقيقة الواقعة، وهي أن هناك علمين اجتماعيين: الإثنولوجيا وعلم الاجتماع، ويقومان بدراسة موضوع واحد.

والفاصل الشائع بين العلمين يقول إن الإثنولوجيا هي علم الحضارة، بينما علم الاجتماع يختص بالمجتمع. وهذا التمييز بين العلمين يؤدي في رأي الأستاذ ويلمز Emilio Willems٧ إلى فصل خاطئ، كما يؤدي إلى الخطأ في فهم مناهج وهدف العلمين، فهما معًا — كما يقول فيلمز — يدرسان المجتمع على أساس أنه مجموعة من النظم التي تنظم علاقات الأفراد. ولكننا إذا نظرنا إلى العلمين نظرة تاريخية، فإننا نجد في تاريخ كل منهما ما يميز الآخر، وأهم أوجه الاختلاف هي:
  • (١)

    اختلاف النشأة.

  • (٢)

    ميدان التخصص.

  • (٣)

    مناهج البحث.

ففي عصر هربرت سبنسر Herbert Spencer (١٨٢٠–١٩٠٣) وإدوارد تايلور E. Taylor (١٨٣٢–١٩١٧) كان العلمان قريبين من بعضهما، ولكن بدخول المنهج التطوري الدارويني في التفكير؛ بدأ الانفصال والابتعاد يتضح ويزداد. فلقد ظهرت في الإثنولوجيا في ذلك الوقت اتجاهات منهجية واتجاهات علمية وتجريبية تربط بين الإثنولوجيا والتاريخ الطبيعي البشري. وكما كان تخصص علماء النبات وعلماء الحيوان وعلماء الجيولوجيا، أصبح إثنولوجيو هذه الفترة ينظرون إلى الحضارة — دراستها ووصفها — على أنها أهم إن لم تكن كل موضوع تخصصهم.

وفي الوقت ذاته اتجه علم الاجتماع بقوة ناحية الفلسفة والمظاهر الاجتماعية، وإلى جانب هذا الاختلاف في التوجيه لكل من العلمين، نجد الإثنولوجيا في ذلك الوقت تختص بدراسة المجتمعات البدائية، وأحيانًا تدرس الحضارات العليا القديمة، وأحيانًا أخرى تدرس المجتمعات المعاصرة غير الأوروبية الأصل.

أما علم الاجتماع فقد قصر نفسه على دراسة المجتمعات في الغرب المتمدن، وأخذ كل من العلمين يطور مناهج تعكس الاختلافات التركيبية للموضوع الاجتماعي. ولكن الإثنولوجيا في الفترة الأخيرة قد بدأت تهتم بعدد من المسائل النظرية للمجتمع والحضارة؛ مما جعل العلمين يعودان إلى الاقتراب من بعضهما مرة أخرى. ومع ذلك فإن غالبية أبحاث الإثنولوجيا ما زالت — وكما كانت — متركزة على النظم الحضارية والتركيبات الاجتماعية، بينما يميل الاجتماع أكثر وأكثر إلى عدد من الظاهرات المعينة مثل الإجرام والانتحار، مشكلات المجتمع الريفي، مشكلات المجتمع المديني وغير ذلك. ولا شك أن أهم ما تقدمه الإثنولوجيا إلى علم الاجتماع هي الدراسة المقارنة الحضارية، وهي من أهم الموضوعات التي تفيد علم الاجتماع.

العلاقة بعلم النفس الاجتماعي

هناك علاقة واقتراب كبير بين الإثنولوجيا وعلم النفس الاجتماعي. ذلك أن دراسة الارتباطات بين الحضارة والشخصية قد أصبحت منهج عدد لا بأس به من الإثنولوجيين، مما خلق اتجاهًا جديدًا لدراسة عملية تكوين الشخصية تحت تأثير أشكال حضارية مختلفة من ناحية، ودراسة النواحي النفسية من خلال عمليات التغير الحضاري من ناحية أخرى.

العلاقة بعلم التاريخ

أكد عدد من الإثنولوجيين أن الإثنولوجيا هي علم تاريخ الشعوب غير الألف بائية، وعلى الرغم من أن الإثنولوجيا مرت بمرحلة مناهضة للتاريخ والاتجاه التاريخي، إلا أن اهتمام الإثنولوجيين بعدد من المشكلات التاريخية كان دائمًا ظاهرًا وقويًّا. وقد كانت المدرسة الإثنولوجية التطورية في العالم ومدرسة التاريخ الحضاري النمساوية، هما أهم المدارس التي ظهر فيها الاتجاه التاريخي. ولكن هاتين المدرستين نُقِدَتا بما فيه الكفاية، بحيث أصبح الإثنولوجيون في هذه المدارس أكثر اعتدالًا وخاصةً مدرسة التاريخ الحضاري، وقد أصبح في الإمكان اليوم لمؤيدي هذا المنهج، بعد الدراسات العديدة في مختلف ميادين العلم، أن يحاولوا التأريخ للشعوب غير الألف بائية باستخدام:
  • (١)

    استخدام المادة الإثنوجرافية في الكتابات القديمة، من أمثلة ذلك الكتابات الهيروغليفية لوصف حالة الشعب المصري، أو الشعوب السوداء في جنوب مصر أو شعوب الشرق الأدنى.

  • (٢)

    استخدام نتائج أبحاث وحفائر ما قبل التاريخ والإركيولوجيا.

  • (٣)

    المقارنات الحضارية وخاصة حيث نجد سجلات تاريخية عن الهجرات والاحتكاك الحضاري بين الشعوب المختلفة. وهكذا يرتبط الدارسون لهذه الموضوعات ارتباطًا وثيقًا بمصادر التاريخ الذي يرتبط به المؤرخون أيضًا.

العلاقة بالجغرافيا

لا شك أن علاقة الإثنولوجيا، بل الأنثروبولوجيا بمجموعها بالجغرافيا علاقة وثيقة، بل إن كثيرًا من الجغرافيين القدماء قد كتبوا في موضوعات هي الآن تخصص الإثنولوجيا. ولا أدل على ذلك من أبحاث عدد الجغرافيين العظام؛ مثل: فريدريك راتزل Frederich Ratzel، إدوارد هان Eduard Hahn.
وقد أدى ذلك، وخاصة كتابات الأستاذ Ratzel، إلى خلق تخصص في الجغرافيا باسم الجغرافيا البشرية والأنثروبوجغرافيا Anthropogeographie — وتهدف هذه الدراسة إلى إظهار وتمييز الإقليم الحضاري؛ أي إن هناك ارتباطًا شديدًا في دراسة الحضارة بين الإثنولوجيا والجغرافيا.

ولكن المناهج تختلف تمامًا، كما أن الهدف يختلف. فحيث يدرس الإثنولوجي مكونات الحضارة وتطورها وتغيرها ونظمها وهجرات عناصرها، فإن الجغرافي الاجتماعي يحاول أن يجد توزيعًا جغرافيًّا إقليميًّا للحضارة من ناحية، ويحاول من ناحية أخرى تفسير أنماط الحضارة في أقاليم جغرافية معينة. والحضارة عند الجغرافي هي كم النشاط والتفاعل الإنساني العملي والتكنولوجي مع المحيط الطبيعي والعلاقات المكانية والزمانية الجغرافية. ويقترب العلمان كثيرًا حينما يدرسان النظم الاقتصادية والأنماط السكنية وأدوات الإنتاج عند الشعوب غير الأوروبية الأصل.

هكذا نرى أن الجغرافي قد اهتم كثيرًا بالتفاعلات التي تنجم بين البيئة والحضارة أكثر من الأنثروبولوجي، الذي كان يأخذ البيئة الطبيعية على علاتها دون تمحيص أكثر. وعلى ذلك أصبح هناك اتجاه بين بعض الإثنولوجيين — مثل اتجاه الأستاذ هرسكوفيتز — يؤكد أن أثر البيئة لا يجب أن يُغفَل أو أن يُقلَّل من أهميتها؛ وذلك لأن الإنسان ليس فقط عضوًا في سلسلة بيولوجية، بل إنه يعيش في محيط له كيانه المستقل عن الإنسان. ومن هذا المحيط يستخرج الإنسان خاماته لصنع الأدوات والآلات التي يستخدمها لكي يعيش.

علاقة الإثنولوجيا بالعلوم الاقتصادية والسياسية

أصبح هناك اتجاه متزايد من جانب الإثنولوجيين إلى ارتباطات أكثر بالعلوم الاقتصادية والسياسية. ولقد وضحت أهمية الاقتصاد بعد أن زادت حاجة الإثنولوجيين إلى ارتباطات أكثر لدراسة وتسجيل النظام الاقتصادي للمجتمعات التي يدرسونها. وكذلك أصبح هناك عدد من الاقتصاديين المهتمين بالنظم الاقتصادية من أجل اكتشاف الطرق العديدة التي كان الإنسان يحل بها مشكلاته الاقتصادية، ومن ثم استفاد علم الاقتصاد استفادة واضحة من نتائج الدراسات الإثنولوجية في مجال دراسة النظم الاقتصادية. ومن ناحية أخرى أدت الدراسات الإثنولوجية إلى زيادة المعرفة عن تاريخ النظم السياسية وتعددها، وزادت من معلوماتنا بدقائق وطبيعة ومعنى ووظيفة أشكال الحكم في المجتمعات الإنسانية.

وهكذا يتضح لنا كيف تمد الإثنولوجيا علمًا كالسياسة والحكم بمعلومات لا مثيل لها داخل مناهجه الحالية التي تظهر في سياق وصياغة الدساتير والتشريعات والقوانين الأوروبية في المجتمعات غير الأوروبية. وتوضح لنا هذه الدراسات تعدد أعماق التفكير البشري في سَنِّ القوانين والتشريعات بما يتفق وحضارة المجتمع؛ مما قد يساعد الساسة المعاصرين على فهم أعمق لمشكلات المجتمعات المتخلفة تكنولوجيًّا ويشجعهم على عدم فرض قوانين حديثة بدون مبرر، والتروي في فرض هذه القوانين الجديدة.

علاقة الإثنولوجيا بعلوم أخرى

لا شك أن علاقة الإثنولوجيا بعلوم الإنسانية كبيرة، ولو أنها غير معروفة على وجه الدقة؛ وذلك لأن الإثنولوجي غير مهيأ ولا معد تمامًا لدراسة اللغة والفنون والموسيقى، وهي علوم متخصصة لها مناهج خاصة. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن معظم الدراسات الإثنولوجية المعاصرة قد استغرقتها دراسات مقارنة في النظم الاجتماعية أكثر من غيرها من موضوعات الإثنولوجيا والحضارة، ومن ثم كان هناك تجاهل للقاعدة الكبيرة الشاملة لدراسة الحضارة ومفهومها.

ولكن في الوقت الذي انكبَّ فيه معظم الإثنولوجيين الأنجلوساكسونيين على دراسة المجتمع والتركيبات الاجتماعية (المدرسة الوظيفية والسيكولوجية)؛ فإن الدراسات الإثنولوجية الألمانية النمساوية لم تَخْلُ من الخوض في الدراسات اللغوية والفنية والموسيقية إلى جانب اهتماماتها الكثيرة بالحضارة المادية والمشكلات النظرية.

ولا شك أن ظهور أنواع الفنون التشكيلية وغيرها من أفريقيا المدارية وغير ذلك من المناطق البدائية في المتاحف العالمية جنبًا إلى جنب مع الإنتاج الأوروبي الحديث في مجال الفنون، قد زاد من الشعور بالرغبة في دراسة الدور الاجتماعي للفن، وهو فرع جديد يقع حقله بين دراسات الفن من ناحية والدراسة الاجتماعية من ناحية أخرى.

والدفعة القوية لهذا الفرع من المعرفة الإنسانية أصبحت تأتي من جانب دارسي المجتمعات غير الألف بائية؛ أي من جانب الإثنولوجيين. فهؤلاء الإثنولوجيون لم ينجحوا فقط في نشر أشكال غريبة من الفن وتحليل ماهياتها، بل إنه عن طريق ما قدموه من استنباط تكاملي للمظاهر الحضارية التي خلقت هذه الفنون قد نجحوا في محاولة تعيين معنى الفن بالنسبة للناس، وشرح الدوافع التي تحفز الفنان في وظيفته بين الفن والمجتمعات.

وفيما يختص بدراسة المآثر الأدبية، نجد الإثنولوجي يقوم بالدراسة حسب خطة دراسة الآداب عامة؛ أي دراسة مشكلات الأسلوب والتسلسل القصصي والعقدة التي يدور حولها الإنتاج الأدبي وطريقة التشويق والإثارة وشد الأعصاب التي تقود إلى قمة القطعة الأدبية. كذلك دراسات مشكلات التغيير والتبديل في القصة حينما تنتقل من شعب إلى آخر، بما في ذلك من تغير الأسلوب حسب الذوق الأدبي للشعوب المختلفة.

وأخيرًا تأتي دراسة مشكلة أصل القصة ومصدرها وانتشارها، وبذلك يتجمع لدى الإثنولوجي مصدر جديد لدراسة العلاقات والهجرات الحضارية. وتحت هذا انطوت أخيرًا دراسة «النكتة»، وخاصة تلك التي تشير إلى العلاقات الجنسية لتفهُّم كثير من دقائق الحياة الفردية في المجتمعات.

وثمة حقل آخر من هذا النوع من الدراسة، هو الموسيقى المقارنة أو الموسيقولوجية، وهي إحدى الحقول الحديثة التي بدأ الإثنولوجي يهتم بها. فكل الشعوب تصوغ الموسيقى حسب قواعد وأصول مرعية، ولكن المؤلف الموسيقي لا يدرس هذه القواعد أثناء إنشائه للقطعة الموسيقية تمامًا كما يفعل كل الناس حين يتكلمون؛ فهم لا يبحثون عن الأجرومية (القواعد) قبل كل لفظة أو جملة تنطلق بها ألسنتهم. وذلك لأن المتكلم والموسيقي (المؤلف) في الحالتين ينشئ ما يفعله على ضوء القواعد الراسبة في العقل الباطن، وتسجيل موسيقى العالم يعطينا أداة طيبة لدراسة واختبار الاستقرار الحضاري والفردية التي تظهر أثناء القيام بالأداء الموسيقي وإعادة اللحن (التلحين) على أنغام قديمة في محيط حضاري جديد أو متغير. ولا شك أن هذه الأنغام تقدم للمؤلف الموسيقي إيحاءات وإلهامات جديدة؛ مثل: سترافنسكي وتأثره بموسيقى الهنود الحمر والجاز الأمريكي والتأثير الأفريقي عليه، وسيد درويش والأنغام القديمة الشائعة في مصر.

١  Hoebel. E.A. “Man in the Primitive World” New York 1958, P. 1.
٢  Koppers, W. “Der Urmensch und sein Weltbild” Wien 1949.
٣  Bidnev, D. “The Ethnology of Religion and the Problem of Human Evolution”, in American Anthropologist Feb. 1954, P. 2.
Also: A. E. Heath, “Scientific Thought in the Twentieth Century”, London 1951, P. 101.
٤  Heine-Geldern. R., “One Hundred years of ethnological theory in the German-speaking countries,” in “Conference on the History of Anthropology”, New York 1962.
٥  Herskovits, M. J. “Cultural Anthropology” New York, 1964, P. 8.
٦  Hoebel E. A., “Man in the Primitive World” New York, 1949, P. 6.
٧  Willems, E., “Ethnologie” in “Soziologie” Fisher Lexikon ed. R., Koenig, Frankfurt, 1958. P. 53.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤