الفصل الثاني

الأنواع الرئيسية للحضارات

(١) أسس تصنيف الحضارات

إذا كانت الظروف الحضارية عند الجماعات الإنسانية متشابهة في عدد من النقاط الجوهرية، فإن أسبابًا عديدة طبيعية وبشرية قد أدت إلى التفرق الشديد الذي لمسنا بعضه في الإشارات الآنفة الذكر، ومن ثم فإن سطح الكرة الأرضية يمتلئ بأشكال شتى لحضارات مفردة قد تستعصي على الحصر؛ فكل جماعة لها حضارتها المفردة. وحتى إذا اشتركت عدة جماعات في أسس حضارية موحدة، فإن الاختلافات الإقليمية تلعب دورًا كبيرًا في التفريق بين الممارسات والاعتيادات عند كل مجموعة. وحتى برغم ظهور عوامل موحِّدة عالمية — مثل علاقات العالم الصناعي المعاصرة وما تخلفه من آثار في كل مكان — إلا أن الاختلافات الحضارية في بعض العادات ما زالت موجودة. وقد تكون الاختلافات غير كبيرة، لكنها تظل مع ذلك اختلافات مميزة. مثال ذلك: أن المجموعة الألمانية تضع خاتم الزواج في بنصر اليد اليمنى، أما الفرنسيون واللاتين والإنجليز فيضعونه في بنصر اليد اليسرى.

وبرغم هذه الاختلافات، فإنه يمكن إيجاد تصنيف مبسط تندرج تحت قوائمه مجموعات من الحضارات، وذلك تسهيلًا للتصنيف العام للحضارات العالمية. وهناك عدة أسس للقيام بمثل هذا التصنيف، وقد يكون الأساس الاقتصادي هو أوضح هذه الأسس لتميزه ووضوحه، ولتميز ووضوح الأقسام الرئيسية للنشاط الاقتصادي في صورة مراحل تاريخية (المرحلة هنا بمعنى مرن): اقتصاديات الجمع وتساوي الجمع والصيد، واقتصاديات الإنتاج البسيط؛ وتعني الزراعة البدائية والكثيفة والرعي من أجل الكفاية الذاتية في الغالب، واقتصاديات الإنتاج المركب؛ وتعني الزراعة والرعي التجاريين والصناعة والخدمات.

وهناك أقسام أخرى للموضوع الاقتصادي من زوايا أخرى، مثل زاوية الإنتاج والاستهلاك أو غير ذلك، لكن يكفينا في الحضارة التقسيم السابق وصفه. كذلك يمكن اتخاذ عناصر حضارية لتصنيف الحضارات، مثل اتخاذ النسب الأموي والأبوي أو بقايا النظام الأموي، أو تصنيف على أساس نوع المعتقدات الدينية في إله سماوي أو عدد من الآلهة السماوية أو عدد من الأرواح المرتبطة بمظاهر الطبيعة. وبرغم أنه توجد تصنيفات لا حصر لها لغنى وتعدد الأنماط الحضارية، فإن أكثر هذه التقسيمات شيوعًا هو الذي يقوم على الأسس الاقتصادية.

وفيما يلي محاولة لإعطاء السمات المشتركة الرئيسية لأنواع الحضارات الرئيسية الثلاث: البدائية، والعليا، والشعبية.

والحضارة البدائية — أو على الأصح مجموعة الحضارات البدائية — تقوم أساسًا على الجمع والإنتاج البسيط الزراعي والرعوي. أما مجموعة الحضارات العليا فتقوم على أساس الإنتاج البسيط أو التجاري، ولكن ليس على صورة الإنتاج التجاري المركب المعاصر؛ لاختلاف الفارق الزمني وأثره في المواصلات والنقل. وأخيرًا فإن مجموعة الحضارات الشعبية تميز مجتمعات الإنتاج التجاري المركب — أي المجموعات المعاصرة الأوروبية والأوروبية الأصل، كما نجدها عند الجماعات الأخرى التي كانت مهدًا للحضارات العليا القديمة، وأخيرًا نجدها أيضًا عند الجماعات البدائية التي تنقسم إلى طبقتين متمايزتين: الحكام أو رجال الدين أو هما معًا، وطبقة الرعية أو الشعب الذي تعبر حضارته عن النمط الحضاري السابق على غزو المجموعة الحاكمة. وبعبارة أخرى، فإن الحضارة الشعبية هي أكثر الحضارات شيوعًا؛ لأننا نجدها في سائر أشكال الحضارات وكافة المجتمعات القائمة على الأسس الاقتصادية المختلفة. بينما تقتصر الحضارات العليا على مجموعات غير معاصرة، كانت لها آثار فعالة في نشر الكثير من العناصر الحضارية وتوزيعها على أجزاء كثيرة من العالم، ولا تزال بعض هذه العناصر الحضارية تعمل كخلفية لحضارات الجماعات الأوروبية والحضارة الصناعية الراهنة. كما أن بعض العناصر الحضارية العليا قد انتقلت إلى الجماعات البدائية، ولا تزال واضحة في كثير من مجالات الحضارات البدائية، وخاصةً بالنسبة لبعض المكونات الحضارية لطبقة الحكام عند القبائل البدائية الراهنة.

(٢) مجموعة الحضارات البدائية

هناك اختلافات بين الإثنولوجيين على تسمية الشعوب التي تحمل هذه الحضارات. هل هي بدائية Primitive أم شعوب الطبيعة Natur voelker أم الشعوب الأمية Analphabetic؟ والاسم بدائي؛ يعني: من البداية. وقد شاع استخدامه كثيرًا، ولكنه أصبح يحمل معنى التخلف أيضًا. صحيح أن هناك تخلفًا في شكل الإنتاج، ولكننا لا نصف الإنتاج فقط بل مجموع الحضارة، وفي الكثير من العناصر الحضارية لا يمكن القول إن نمطًا أرقى من نمط آخر. أما مصطلح الشعوب الطبيعية أو التي تعيش على الطبيعة، فهو يَصِف حالة ارتباط الشعوب بالظروف الطبيعية إلى درجة كبيرة، ولكن ذلك ينطبق أيضًا على أشكال الحضارة المادية فقط. ويحبذ بعض العلماء استخدام مصطلح الشعوب الأمية؛ لأنه يتجنب وصفها بالتخلف أو ارتباط حضاراتها بالظروف الطبيعية.

لكننا نجد أيضًا شعوبًا أمية في مراحل اقتصادية أعلى، ومن ثم فإن أي مصطلح من المصطلحات الثلاثة يمكن استخدامه طالما أن المعنى المقصود قد نُقِل إلى الأذهان، ولعل من الأوفق استخدام مصطلح بدائي لكثرة تردده وشيوعه.

(٢-١) المميزات الخاصة بالشعوب البدائية

  • (١)

    اعتماد واضح على البيئة الطبيعية والظروف الإيكولوجية عند الجماعات التي تمارس اقتصاديات جمع النتاج الطبيعي دون تدخل في إنتاجه؛ مثل: جمع الثمار والبذور النباتية، وصيد البر والبحر. أما الجماعات التي تعيش على الإنتاج البسيط (الزراعة المتنقلة والرعي)، فإنها خَطَتْ خطوة كبيرة إلى الأمام في طريق التحرر من السيطرة الشديدة للظروف البيئية على أشكال الإنتاج.

  • (٢)

    لنوع الاقتصاد السائد وتكنولوجية الإنتاج آثار كبيرة على العلاقات بين الجنسين في مجال تقسيم العمل بينهما؛ فالزراعة تصبح من نصيب المرأة عند الجماعات التي يمارس فيها الرجال الصيد أو الرعي، وجمع الثمار يصبح من نصيب المرأة عند الجماعين والصيادين في حالة عدم معرفة الزراعة. وفي حالة المجتمعات الزراعية البسيطة دون الرعي يقع عبء الزراعة على الرجال، وتقوم النساء بزراعة «حديقة مطبخ» بجوار المسكن أو خلفه، وعند الجماعات الزراعية عامة تقوم النساء أيضًا بالتجارة الصغيرة في فائض إنتاجها من حديقتها ومن البيض، وغير ذلك من الطيور المنزلية أو بعض الحِرَف اليدوية المنزلية. ويتضح من ذلك أن الرجال يقومون بالنشاط الذي يتطلب الابتعاد عن المسكن (الصيد البري أو البحري – زراعة الحقول – رعي الحيوان) بينما تختص المرأة دائمًا بنشاط اقتصادي في الجوار السكني.

  • (٣)
    تنقسم هذه الجماعات إلى أقسام على أساس قرابة الدم أو قرابة المكان المحلي، وأكثر الأقسام شيوعًا مجموعة النسب Lineage، والعائلة Family بأشكالها المختلفة، والعشيرة clan بارتباطاتها المحلية أو انتشارها المكاني. كذلك تُقسَّم المجموعة المحلية إلى أقسام أخرى من أجل أغراض تنظيمية في أشكال الحياة: الجمعيات السرية (تقوم هذه الجمعيات غالبًا لأغراض طقسية أو خيرية) طبقات السن Age grades، أو جمعيات مهنية تضم العاملين في مهنة معينة، وطبقات السن تقوم أساسًا من أجل تقسيم العمل بين فئات السن المختلفة، وأوسع نظم التقسيم انتشارًا نظم قرابة الدم، وتتصف هذه الجماعات باحترام شديد لشخصية الفرد، وهذا الاحترام يجد دعامته في قوة روابط الدم.

    كانت بعض الآراء الماضية تعتقد أن المجتمع القديم قد مر بمرحلة ليس فيها للفردية والشخصية؛ أي دور هام، بل كان هناك شعور جماعي وشخصية جماعية، ولكن الكثيرين من الأنثروبولوجيين المحدثين يناقضون هذه الفكرة ويوجهون إليها معارضة شديدة، وهم يعتقدون أنه كانت هناك شخصية فردية لكل فرد، تختلف فيما بينها كاختلاف الشخصية في الوقت الراهن، وذلك برغم الشعور القوي عند كل شخص بأهمية انطوائه تحت لواء الجماعة.

  • (٤)
    ينبني التنظيم السياسي لهذه الجماعات على أساس القرابة إلى الأسرة أو المجموعة أو العشيرة الحاكمة، بالإضافة إلى قوة الشخصية للحاكم، ويتميز الحكم بأنه وراثي وانتخابي في آن واحد، وراثي داخل البيت الحاكم من الأب إلى الابن أو الأخ إلى الأخ أو إلى العم وابن العم، وانتخابي لأن الزعماء المحليين يشتركون في ترجيح كفة أحد المرشحين من بين من يشملهم قانون الوراثة لمنصب الزعامة المحلية أو زعامة القبيلة أو الشعب. وعند الجماعة التي يسود فيها نظام الملكية المقدس يتم ترشيح الزعماء لأحد الصالحين للوراثة، ثم تُستخار الآلهة لتنعم برضاها على المرشح الجديد. وبهذا فإن عنصرًا حضاريًّا جديدًا يدخل في البناء السياسي — الآلهة — وذلك مرتبط بقدسية شخصية الزعيم أو الملك.١

    وتتميز هذه الجماعات بعدم وجود تنظيمات طبقية رأسية في المجتمع — أي إن الناس كلهم سواسية، والاستثناء الوحيد نجده عند بعض الجماعات المتقدمة من الشعوب البدائية؛ حيث توجد طبقة الحكام أو رجال الدين والحكام معًا، وهذا النظام الطبقي مرتبط بغزو أو هجرات يترتب عليها أن يصبح الغزاة أو المهاجرون هم الحكام ورجال الدين معًا أو أحدهما فقط.

    كذلك نلاحظ أن النظام السياسي عامةً ضعيف الظهور عند الجماعات التي تعيش على جمع الغذاء والصيد، مثل أقزام حوض الكنغو. فالمجتمع الدائم صغير العدد، والزعامة موزعة على كبار السن أو قيادة عمليات الصيد الكبير أو الانتقال من معسكر إلى آخر. وفيما عدا ذلك لا يظهر للبناء السياسي دور واضح عندهم.

    وعلى أي حال، ففي الوسع أن نلخص النظام السياسي عند المجموعات البدائية عامةً بأنه ديموقراطي — مع استثناء الحكم الأتوقراطي الطبقي عند الجماعات التي ارتبط نظامها السياسي بهجرات أو غزوات خارجية. وفي هذا النظام الديمقراطي نجد أن مكانة كبار السن — بحكم تجربتهم الطويلة في شتى أشكال الحياة — ترفع أقدارهم في المجتمع إلى مكانة المجلس الاستشاري السياسي، وترفعهم في الترتيب الاجتماعي والديني إلى مراكز مرموقة داخل التنظيم والبناء الحضاري. ولعل تبجيل مشايخ البدو في الصحاري العربية الأفريقية خير دليل على النمط الديموقراطي للحكم في الماضي.

  • (٥)

    يتم تعلم حضارة المجتمع من خلال الأساطير والقصص والأشعار والأغاني التي تروي تاريخ المجتمع وعاداته وقوانينه، ويتم ذلك في مساء معظم الأيام. وعند الكثير من هذه المجتمعات مكان أو مقر — مبني أو غير مبني — يمكن أن يُطلَق عليه «نادي الرجال» أو بيت الرجال، يجتمع فيه كبار السن بالشباب من أجل إعطائهم تاريخ وعادات المجتمع في صورة قصصية أو تجارب كبار السن الشخصية في المواقف المختلفة: في الحرفة والنشاط الاقتصادي، تعلم قراءة المظاهر الطبيعية للاستفادة من الظروف المواتية؛ تربة جيدة للزراعة، مكان ممتاز للصيد، قراءة السحب المحملة بالأمطار وتتبعها إلى أماكن سقوط المطر المحتملة وقيادة القطيع إليها، أنواع الثمار المحرمة، علاقات المجتمع بالجيران، مشاكل الحصول على المياه، حكايات عن الأمراض وأعراضها وتطبيبها بالأعشاب أو الطقوس الدينية، عادات الزواج وغير ذلك من المشكلات.

    وعند المجتمعات التي تتسم بتنظيم طبقات للسن، تتعلم كل طبقة من الطبقة الأعلى منها الكثير من دقائق الحياة المطلوبة منها حينما يحل دورها للترقي إلى الطبقة الأعلى بمسئولياتها المختلفة كمًّا ونوعًا عن تلك التي عرفتها ومارستها.

  • (٦)

    النظام القانوني عند هذه المجتمعات يختلف من مجموعة إلى أخرى حسب درجة التكاثف السكني والنمط الحضاري السائد. فعند المجتمعات البسيطة يصبح لمجلس كبار السن وظيفة تنفيذ القانون ومعاقبة الخارجين عن أنماط السلوك القبلية، وفي المجتمعات التي تكون شعوبًا مثل مجتمع الزاندي في جنوب السودان وشمال الكنغو، توجد محاكم محلية ومحاكم مركزية ومحكمة عليا عند الزعيم الأكبر.

    وتتميز هذه الجماعات عامةً بوجود قانون الثأر، وإن كان تطبيقه يتصف بالمرونة الشديدة ويتراوح بين تطبيق مبدأ العين بالعين، وبين التعويض بشخص مماثل للقتيل أو التعويض بمقابل مادي (أبقار أو إبل … إلخ). وهناك الكثير من القضايا التي لا يذهب المتخاصمون فيها إلى القضاء، بل تحل محليًّا؛ لأن هناك نسبة من التعويض تذهب إلى القاضي.

  • (٧)
    هناك تركيز شديد اجتماعي وحضاري حول القبيلة ونظمها وكل ما تعنيه في مظاهر الحياة وطرائقها، وبذلك تتكون مرحلة التركيز الذاتي Ethno-centerism التي تُعتبَر كل شيء خارج القبيلة وحضارتها غريبًا وأجنبيًّا عليهما، بما في ذلك أعضاء القبائل المجاورة. وقد يرجع هذا التركيز الشديد إلى العزلة الجغرافية نظرًا لقلة عدد السكان عامةً، وللاحتياج إلى مساحات كبيرة من أجل التحرك الاقتصادي.
  • (٨)
    لا توجد عند الجماعات البدائية العقلية البدائية Voelker gedaken pre-logical التي ميزهم بها بعض الإثنولوجيين الفرنسيين (ليفي بريل Levy-Bruhl) والألمان (باستيان A. Bastian)؛ وذلك لأننا لا نجد اختلافات جوهرية بين هذه الجماعات وبين الجماعات ذات الحضارات العليا فيما يختص بالتطور الروحي والمعنوي، وإنما توجد فوارق كمية — بمعنى أن هناك تفكيرًا ومعنوية وروحية خاصة بالجماعات البدائية.

    يرتبط التفكير عند البدائيين بكثير من التخيلات، وتصبح التجارب — أيًّا كانت — مصدرًا أساسيًّا للتعليم والمعرفة. أما ما غمض فهمه وتعسر تفسيره من المظاهر الطبيعية فيُنظَر إليه ويُفسَّر على أسس أسطورية أو دينية غيبية، أو على أساس قوى سحرية (مثل فكرة صنع المطر، والأفكار الخاصة بالحياة وتكوين العالم).

    والواقع أنه إذا خلا التفكير من مبدأ السببية؛ فإنه ولا شك يؤدي إلى اختفاء النظم الاقتصادية والأفكار التكنولوجية عامة، ولو كان الأمر كذلك لتوقف البدائيون عن التقدم، ولكننا نعرف أن الكثير من الاكتشافات والاختراعات الأساسية التي طُوِّرَتْ وبُنِيَتْ عليها تكنولوجيات الحضارات العليا قد تمت بواسطة الجماعات البدائية، وهذا في حد ذاته كافٍ للتدليل على وجود التفكير المنطقي لديهم منذ القدم. وهناك مثال لا يمكن إنكاره للتدليل على عدم صحة الأفكار الخاصة بالعقلية السابقة للمنطق، فالسحر في ممارسته ما هو إلا انعكاس لفكرة السببية؛ وهي قانون من بين قوانين المنطق.

  • (٩)

    تتميز الجماعات البدائية بنظرة دينية للأشياء والتعاملات على أنها طاهرة أو دنسة، فالديانة والسحر يتعمقان ويتغلغلان في كل نواحي الحياة ومظاهرها. وفي نظر تلك الجماعات تكون الطبيعة والحضارة وحدة متكاملة، وهذه الوحدة المتكاملة تعطي للتركيز والتمركز حول القبيلة أو الجماعة عمقًا جديدًا، وتؤكد أن كل ما هو خارجي أمر غريب عن الكيان الحضاري.

  • (١٠)

    عند كل جماعة عادة شخصية ترتبط بالقوى الروحية العليا وتربطهم بها، ومثل هذه الشخصية — مؤسس القبيلة غالبًا — ينظر إليها أعضاء المجتمع على أنها حامية حمى القبيلة، وعليهم أن يتعلقوا بها لكي تنقذهم من الأحداث والمخاطر. وشخصية البطل نصف المقدس هذه تتميز بإمكانية العمل بطاقاتها الروحية بالمشاركة مع العالم غير المحسوس من أجل حماية أعضاء القبيلة.

  • (١١)

    بالرغم من أن الميزة المشتركة لهذه الجماعات هي عدم وجود الأبجدية، إلا أن بعضها طور بعض الرموز والصور ذات المعاني. لكنها على أي حال لا تصل إلى مستوى الكتابة.

    وتنتشر الجماعات البدائية انتشارًا واسعًا في قارات العالم، لكنها كلها تبعد كثيرًا عن نطاقي الحضارات العليا القديمة في البحر المتوسط وجنوب غرب آسيا وشرق آسيا، وعن نطاق الحضارة الصناعية الحديثة المتمركز أساسًا في العروض المعتدلة الشمالية من أوروبا الغربية والوسطى إلى الاتحاد السوفيتي واليابان، وعبر المحيط الهادي إلى الولايات المتحدة وجنوب كندا.

ويمكننا أن نقول إذن إن الحضارات البدائية تتركز في أطراف العالم الشمالية والجنوبية، وفي معظم النطاق المداري والاستوائي. وفيما يلي جدول يوضح أهم المجموعات القبلية في القارات المختلفة:

القارة النطاق البارد النطاق المداري والاستوائي
أوروبا اللاب – الكومي
أمريكا الشمالية الإسكيمو – الألوت – هايدا – تلنجت – كواكيوتل – شايين – كرو – ماندان – إيروكيز نافاهو – زوني – هوبي – بوما – أباتشي – بايوتي
آسيا ساموييد – تنجوس – ياكوت – يوكاجير – كورياك – تشوكشي – أينو بيل – تودا – فيدا – جارو – خاسي – ناجا – لوشاي – كارن – آخا – مياو – تاي ونج – أندمان – نيكوبار – سمانج – سلكاي – أييتا – داجاك
أفريقيا الطوارق – التبو – النيليون – معظم قبائل غرب ووسط وشرق أفريقيا – الأقزام – البشمن – الهوتنتوت – قبائل البانتو في جنوب أفريقيا
أوشينيا بابوا – تروبرياند – أرونتا – كاريرا – تاسمانيا – معظم بولينيزيا وملانيزيا وميكرونيزيا
أمريكا اللاتينية أونا – سلكنام – يامانا – بتاجونيون الكاريب – توبي – أرواك – بانو – جمه – توكانو – جوايكورو

(٣) مجموعة الحضارات العليا

إن أهم ما يميز هذه الجماعات هو أنها اكتشفت أبجدية سجلت بها تاريخها، وتختلف هذه الأبجدية من حروف مصورة ترمز إلى كلمة idiograph — وهي في الغالب أيضًا تنقل معنى الكلمة دون أن تتحدد بطريقة النطق، وهي الطريقة السائدة عند الناس في تلك الأوقات — إلى حروف مجردة ذات منطوق خاص، بالإضافة إلى اختراع الحروف المتحركة. وتتلخص مميزات جماعات الحضارات العليا في النقاط التالية:

(٣-١) الأسس الاقتصادية

قامت هذه الحضارات على أساس عدد من النظم الاقتصادية التي نصفها بأنها اقتصاديات الإنتاج البسيط، وتدور وتتركز هذه النظم حول الزراعة الكثيفة التي تستخدم المحراث الذي يجره الحيوان، وذلك على عكس الزراعة المتنقلة أو البدائية التي تستخدم أشكالًا مختلفة من الفأس وعصا الحفر، ومعنى ذلك أن أصحاب الحضارات العليا قد نشئوا بعد اكتشاف مبدأ الزراعة واستئناس الحيوان.

وبما أن هذا الكشف قد تم حوالي الألف الثامنة قبل الميلاد في منطقة ممتدة من دلتا النيل إلى القوقاز؛ فإن أقدم الحضارات العليا قد نشأت في منطقة الشرق الأوسط.

وبما أن الشرق الأوسط منطقة تتميز بالجفاف، فإن الزراعة قد نشأت في المناطق ذات الوديان الفيضية، وتكثفت التحسينات والتغيرات في مبدأي الزراعة وتربية الحيوان؛ لأن المجال الجغرافي في المنطقة عامةً لا يسمح بالتنقل ولا بزيادة كبيرة في رقعة الأرض الزراعية، وقد أدى هذا إلى استقرار السكن البشري استقرارًا دائمًا في مناطق الوديان الفيضية؛ مما أدى إلى زيادة السكان نتيجة تمتعهم بالأمان الغذائي. وقد كان لذلك آثار هائلة في نشأة الدولة كنظام سياسي وإداري لا غنى عنه، وإلى نشأة المدينة وما ترتب عليها من نمو وتطور للحضارة المحلية دفعها دفعات كبيرة في اتجاهات مختلفة إلى الأمام.

ومن أهم أشكال التقدم في مجموعة الحضارات العليا الاكتشافات الخاصة باستخدام المعادن بدلًا من الحجارة، كمادة خام أكثر تطويعًا من الحجارة وأكثر صلابة بالنسبة للاستخدامات الحرفية، وأخف وزنًا في مجموعها. ولقد بدأ الإنسان بتشغيل النحاس، ثم أضاف إليه القصدير لعمل سبيكة البرونز التي تتميز بصلابة أكثر من النحاس، وقد حدث ذلك في مصر أساسًا قبل أو قبيل بداية عهد الأسرات (حوالي الألف الرابعة قبل الميلاد)، ثم تم كشف الحديد في منطقة آسيا الصغرى حوالي الألف الثانية قبل الميلاد، وحل محل النحاس تمامًا في الاستخدامات التي يُراد لها عمر أطول وصلابة أشد.

ولم تكن المعادن وحدها هي كل إضافات الحضارات العليا إلى الحضارة العالمية — وهي في حد ذاتها دفعة قوية إلى الأمام لا تزال الإنسانية تعيش عليها وتتمتع بمميزاتها. ولكن أصحاب الحضارات العليا قد طوروا وتقدموا بصناعة الفخار وأنتجوا أنواعًا راقية من الخزف، وكذلك قدموا للإنسانية أكبر مساهمة في وسائل النقل باختراع مصري قديم في مجال صناعة السفن والقوارب. فإلى ذلك الوقت كان النقل المائي يتم بواسطة الأرماث (تجميع أخشاب في صورة سطح عائم) أو القوارب المحفورة من قطعة واحدة من جذوع الأشجار، لكن المصريين — حسب المعلومات الأركيولوجية الراهنة — كانوا أول من صنع القارب من ربط ألواح من الأخشاب إلى بعضها في صورة جانبين يلتقيان في أسفل القارب في زاوية حادة، وكذلك أضاف المصريون إلى القوارب فيما بعد الشراع والدفة. وظل مبدأ الملاحة المصري هذا قائمًا طوال عدة آلاف من السنين، حتى تم صنع السفن الحديدية وآلة الدفع البخارية في القرن الماضي.

كذلك قدم أصحاب الحضارات العليا إلى العالم مبدأ آخر هامًّا في دنيا النقل البري؛ ذلك هو اكتشاف العجلة (الدولاب) المصنوعة من الخشب، ثم طُوِّرَتْ إلى إضافة إطار حديدي إلى محيطها الخارجي لإطالة عمرها، وما زال مبدأ العجلة قائمًا حتى اليوم في كافة وسائل النقل — حتى في الطائرات. ومبدأ العجلة: نقل حركة أفقية إلى حركة دائرية، قد دخل استخدامه أيضًا في كافة أشكال الصناعة، وفي نقل ورفع الأثقال الضخمة بواسطة الرافعة (الونش).

وقد أضاف أصحاب الحضارات العليا إلى الحضارة الإنسانية أيضًا مبدأ التبادل التجاري على نطاق واسع. صحيح أن الجماعات البدائية تمارس التبادل والمقايضة إلا أن ذلك كان دائمًا وما زال على نطاق محدود ويحدث دائمًا في الجوار المكاني، ونادرًا ما يتعداه إلى إقليم جغرافي بعيد. أما التجارة في الحضارات العليا فقد نشأت أساسًا على مبدأ التخصص الإنتاجي، ونمو وسائل النقل المائي والبحري والبري، واحتياجات متزايدة لساكني المدن وطبقة الحكام إلى مزيد من الكماليات. وبذلك نشأ نمط جديد في علاقات العالم ذو الحضارات العليا بدأ أيضًا بتجارة واسعة نهرية وبحرية من مصر إلى بلاد البحر المتوسط الشرقي، وإلى البحر الأحمر وعالم المحيط الهندي، وأفريقيا المدارية. وكذلك نشأت تجارة واسعة بين حضارات ما بين النهرين بالطرق البحرية من الخليج العربي وعالم المحيط الهندي، وبالطرق البرية عبر هضاب إيران ووسط آسيا، إلى ساحل البحر المتوسط الشرقي. وفي مثل هذه النظم التجارية العالمية كانت المقايضة والتبادل والعملة هي الأسس المختلفة التي تتم بواسطتها التجارة.

وقد ترتب على اتساع آفاق التجارة انتشار واسع لبعض النظم الحضارية العليا؛ نتيجة الاتصال والاحتكاك المستمر فيما بين مراكز الحضارات العليا من ناحية، وبينها وبين الحضارات البدائية من ناحية أخرى.

(٣-٢) أنواع الحضارات العليا

نتيجة للظروف المختلفة لكل من مراكز الحضارات العليا في علاقات الناس بالأرض، وعلاقات المكان لكل مركز، تميزت الحضارات العليا بعدد من الأنواع نوجزها فيما يلي:
  • (أ)
    الحضارات العليا المتكاملة: تتمثل في حضارة مصر وسومر وبابل وغيرهما من حضارات ما بين النهرين، وحضارة الصين، والسند الأدنى. وفي العالم الجديد توجد حضارات الأزتك في وسط المكسيك والمايا في شبه جزيرة يوكتان وهندوراس، والإنكا في جبل الأنديز في بيرو على وجه خاص. وحتى في هذه الفئة نجد اختلافات واضحة، فأكمل هذه الحضارات هي منطقة الشرق الأوسط فيما بين النيل والفرات. وقد نشأ عن مواقع الحضارات في هذا الإقليم التقاء مستمر وغنًى كبير في المنتجات الحضارية في صورة مثلث حضاري كبير ترتكز رءوسه الثلاثة على مصر والفرات وآسيا الصغرى، وفي قلب هذا المثلث ونتيجة لحركة الحضارات الرئيسية فيه، نشأت حضارات عليا متخصصة في النقل والتجارة على رأسها الحضارتان الفينيقية والإغريقية.

    وفيما يختص بالحضارة الصينية، فإنها كانت أيضًا ولا شك حضارة متكاملة من حيث اتساع آفاقها الاقتصادية في سهول الصين الخصبة، واتساع معاملاتها التجارية البحرية في جنوب آسيا وجنوبها الشرقي، ومعاملاتها التجارية البرية عبر وسط آسيا إلى الشرق الأوسط وشرق أوروبا، وعبر المحيط الهادي إلى مجموعات الجزر العديدة في بولينيزيا وميكرونيزيا.

    أما معلوماتنا عن اتصالات حضارة السند الأدنى (موهانجو-دارو) فما زالت قليلة، لكنها — من حيث موقعها وإمكاناتها الاقتصادية — ترتكز على قاعدة اقتصادية متينة تكونها سهول الهند والسند، وعلاقات برية مستمرة عبر الممرات الجبلية، إلى هضاب إيران ومنطقة الشرق الأوسط، وإلى الشمال في اتجاه وسط آسيا.

    وحضارات العالم الجديد أحدث بكثير من الحضارات العليا السابقة الذكر، وقامت في عزلة جغرافية حتى تم كشفها منذ أربعة قرون. ولكن هناك من الإثنولوجيين من يعتقد أن هذه الحضارات قد اتصلت مرة أو عدة مرات بحضارات آسيا عبر جزر المحيط الهادي البحرية التوجيه،٢ ولا تزال هناك بعض الآراء التي تؤكد — دون دليل مؤكد — وجود اتصالات بحرية من العالم القديم بالعالم الجديد عبر المحيط الأطلنطي.
  • (ب)
    الحضارات العليا الثانوية أو المتبربرة: توجد في مناطق بعيدة عن مراكز الحضارات العليا الأساسية، والغالب أنها استمدت أصولها أيضًا منها في صورة هجرات أو نقل حضاري نتيجة الاحتكاك والتجارة. وأساس هذه الحضارات الزراعة، ولكنها قد لا تكون زراعة المحراث نتيجة لظروف التربة. وتتصف هذه الحضارات أيضًا بصغر رقعة الأرض التي تعيش عليها بالقياس إلى مساحة الأرض الكبيرة في الحضارات العليا الأساسية. وتوجد الحضارات الثانوية في مناطق مختلفة، مثل حضارات الزنوج العليا في غرب أفريقيا (الأشانتي واليوربا والبنين والداهومي)، وكذلك في بعض مناطق أفريقيا الشرقية: الشلك في جنوب السودان، والزاندي في منطقة تقسيم المياه بين الكنغو والنيل، والباجندا في أوغندا. كذلك توجد في بعض مناطق آسيا الجنوبية، مثل حضارات الدرافيديين في جنوب الهند وسيلان وحضارات ألتاي في تايلاند.

    ويُلاحَظ في المجموع أن هذه الحضارات أحدث بكثير من الحضارات العليا المتكاملة.

  • (جـ)
    حضارات بها بعض من عناصر الحضارات العليا: وهي مناطق تقع على المعابر الرئيسية أو نهايات طرق التجارة بين الحضارات العليا؛ ولهذا تأثرت بعض الشيء بعناصر حضارية عليا أُضِيفَتْ إلى مركباتها الحضارية. مثال ذلك حضارة البولينيزين في جزر المحيط الهادي، والباتاك في جزيرة سومطرة والهون والسكيزيون في أواسط آسيا وإيران في الماضي.

هذه التقسيمات للحضارات العليا هي تقسيمات نظرية في كثير من تفصيلاتها، وهناك صعوبة في إمكان التفريق بينهما عمليًّا، ولكن أكثر الحضارات العليا وضوحًا، وأكثرها معرفة وتأثيرًا هي الحضارات المتكاملة القديمة؛ مثل: المصرية، والسومرية، والبابلية، والصينية. أما الحضارتان «ب» و«ج» فيصعب تحديدهما تمامًا.

(٣-٣) تتميز الحضارات العليا بتقسيم داخلي للمجتمع يفرق بين الطبقة الحاكمة والعليا من جهة، والشعب من جهة ثانية

  • (أ)
    مميزات الطبقة الحاكمة: هي الطبقة الحاملة لشكل الحياة في الحضارات العليا، وهي بالضرورة صغيرة العدد، وتؤهلها ظروفها الحضارية والسياسية إلى قيادة الشعب. وأعضاء هذه الطبقة لا يقومون بأعمال إنتاجية من أجل الغذاء، بل يكونون طبقة كبار الملاك، ويترتب على هذا تمييز اجتماعي واضح، بمقتضاه تتبوأ هذه الطبقة المراكز الاجتماعية الأولى.
  • (ب)
    مميزات الطبقة الدنيا أو الشعب: يكونون الكتلة السكانية الأساسية كما يكونون المجموعة الرئيسية في النشاط الاقتصادي والإنتاج الغذائي لكافة السكان بما في ذلك الطبقة العليا، وتتميز هذه المجموعة بأنها تحتفظ ببقايا حضارية قديمة وممارسات وعادات بدائية مطعمة بالعناصر الحضارية القادمة إليهم من الطبقة العليا.
وفي داخل هذا التقسيم الثنائي توجد أيضًا أقسام أخرى مرتبة ترتيبًا تصاعديًّا في صورة طبقات أكثر تحديدًا، أو صورة طبقية مهنية. فالطبقة الحاكمة أو العليا أو النبلاء تنقسم إلى عدة مجموعات اجتماعية، على رأسها العائلة الملكية وأعضاؤها الذين يتدرجون في درجات النبالة حسب قربهم أو بُعدهم منها، وتتغير درجات النبالة بتغير الأسرة الحاكمة أو الملك في كثير من الأحيان — إذا لم تكن الوراثة من الأب إلى الابن قانونًا ملزمًا. ويُلاحَظ أن الكثير من تقاليد وعادات النبلاء تنزل إلى أسفل ليمارسها بطرق مختلفة أبناء وأعضاء الطبقات التي توجد أسفل النبلاء، وقد ذهب البعض إلى أبعاد كثيرة في هذا المجال.٣

وعلى عكس النظام الطباقي في الطبقة الحاكمة، تتمتع مجموعة الشعب بنظام ديموقراطي غير طباقي إلا في حالة تميز اجتماعي محدود لزعماء القرية ورجال الدين المحليين. والوظائف العامة ليست قاصرة على طبقة الحكام، بل نجد بعض الموظفين من الشعب، وفي أحيان نجد أيضًا بعضًا من رجال الدين من غير طبقة النبلاء أيضًا، برغم اهتمام الطبقة الحاكمة بالوظائف الدينية واحتكارهم لها؛ لما لها من أهمية في حياة الشعب وتوجيهه.

(٣-٤) تكوين الدولة

يؤدي التطور في الحضارات العليا إلى تكوين نظام الدولة في أحيان كثيرة، وتنشأ نظريات الدولة مع أيديولوجية ذات توجيه معين وتاريخ معين في كل من مراحل التطور الحضاري العالي، وفي الغالب يقوم نظام الحكم على أساس الحكم المركزي الذي تختص به الطبقة الحاكمة، ولعل أظهر نظم الحكم في هذه المرحلة هو النظام الملكي بدرجات متفاوتة من الملكية الانتخابية إلى الوراثية. ومن أهم مبادئ النظم الملكية أن التقليد الاجتماعي والديني يعطي للملك صفات فوق صفات البشر الطبيعية، وهو بذلك يكون الزعيم الزمني والديني، ويصبح الوسيط بين القوى فوق الطبيعية وبين الرعية.

ولهذا يجب أن يكون هذا الملك المقدس متمتعًا بقوى جسدية وعقلية غير مشكوك فيها. فإذا ما ضعف الجسد قُتِل الملك قتلًا مقدسًا بواسطة مجموعة خاصة من الناس لا عقاب عليهم إذا ما قتلوا الملك، بناءً على عدد من الظواهر والاستشارات مع بعض الزعماء. وترتبط ظاهرة القتل المقدس بفكرة حلول روح بطل القبيلة في جسد الملك الحاكم، وهذه الروح التي ترعى القبيلة، فإذا ما أصاب الجسد مرض أو وهن؛ فإنه يخشى أن تهجر الروح هذا الجسد بلا رجعة، وبالتالي لا تعود إلى رعاية القبيلة من الأمراض والأوبئة ولا إلى مساعدتهم في الحرب ضد أعدائهم؛ ولهذا يُقتَل الملك (بمعرفته ورضاه) قتلًا مقدسًا (بطرق مختلفة) لكي يتهيأ للروح جسد صحيح. ومثل هذا النظام شائع بين بعض القبائل الأفريقية بدرجات مختلفة، مثل الشلك والدنكا في السودان الجنوبي، والكافا في جنوب إثيوبيا، والجوكرن في شمال شرق نيجيريا، واليوربا والداهومي والأشانتي على طول ساحل خليج غانا في غرب أفريقيا، وبعض ممالك البانتو والزولو في جنوب أفريقيا، وعند الباكونجو في جمهورية زائيري الحالية. ومن الطبيعي أن هذا النظام لم يَعُدْ قائمًا بصورته التي كان عليها إلى حوالي نصف قرن مضى، بعد الاتصالات الكثيرة مع العناصر الحضارية الصناعية، والنظم القانونية الجديدة خلال عهد الاستعمار الأوروبي لأفريقيا. وقديمًا كان هذا النظام المقدس شائعًا (بصورة مختلفة) في بعض مناطق الحضارات العليا، وإن لم نتأكد حتى الآن من وجوده في مصر منذ بداية عصر الأسرات، ولعله كان موجودًا فيها من قبل، أو لعل قصة أوزوريس الدينية بقية من بقايا التنافس على الحكم والقتل المقدس فيما قبل الأسرات في مصر.٤

وبرغم نقص الأدلة المباشرة على القتل المقدس، إلا أن اتجاه الإثنولوجيين هو إلى إرجاع النظام الملكي المقدس إلى أصل مصري. وأكثر الآراء ترجح انتشاره أولًا إلى الجنوب؛ حيث نشأت مملكة نباتا ومروي في إقليم النوبة وشمال السودان — وهما مملكتان متمصرتان في كل شيء من عناصرهما الحضارية ونظامهما الاقتصادي والسياسي. وبعد انهيار مملكة مروي في حدود القرن الثالث الميلادي، انتشرت هجرات مروية حاملة لبعض أفكار النظام السياسي القديم (بعد أن فقد كثيرًا من فلسفته وأيديولوجيته) عبر القارة الأفريقية غربًا (بطريق السفانا إلى غرب أفريقيا) وجنوبًا (بطريق هضبة البحيرات إلى جنوب أفريقيا وجنوب حوض الكنغو).

وإلى جانب النظام الملكي المقدس ظهر أيضًا النظام الملكي العسكري، وخاصة في ممالك آشور وبابل، وتطور عنه نظام الحكم الوراثي المستبد في درجاته المختلفة، ثم تطور إلى نظام انتخاب الملوك من بين مجموعة الأمراء الإقطاعيين. وقد كان ذلك يحدث أيضًا في مصر القديمة في فترات ضعف الدولة ونظام الحكم المقدس، ولكنه كان دائمًا يلجأ إلى إعلان كهنوتي بأن الملك الجديد سليل الآلهة أيضًا.

وإلى جانب النظم الملكية الأوتوقراطية، نجد أن بعضًا من النظم الديموقراطية كانت تسود في أقاليم الدولة في صورة الحكم المحلي، كعامل مخفف لوطأة الحكم المركزي. لكن الرئاسات المحلية في بعض الأحيان كانت تقع في يد أفراد من أعضاء الطبقة الحاكمة لإمكان إحكام رقابتهم على كل أجزاء الدولة.

وعلى وجه العموم يتميز نظام الحكم بظهور التنافس بين النظامين المركزي الذي يمثله الملك أو الأسرة المالكة، واللامركزي الذي يدافع عنه الأمراء المحليون، إلى جانب التنافس الذي يحدث بين أمراء الأسرة المالكة بغية الوصول إلى العرش. وفي أغلب الحالات يرتبط نظام الحكم الملكي بالدين ارتباطًا وثيقًا، كما كان ذلك هو الحال في مصر وحضارات الشرق القديم.

وقد تميزت بعض الحضارات العليا بنظم حكم ديموقراطية صرفة، وكان ذلك واضحًا في بعض المدن الإغريقية وعلى الأخص أثينا، وفي بعض أوقات الحكم الروماني في روما. لكن الديموقراطية كانت قاصرة على طبقة معينة هي طبقة الأحرار؛ أي سكان البلاد من أصل إغريقي أو روماني حتى لو كانوا فقراء جهلاء، بينما بقية سكان المدينة أرقاء غير أحرار لا يمارسون أي دور في الحكم والديموقراطية. والملاحظ أن هذا النظام الديموقراطي كان يستند إلى دعامة اقتصادية أساسية؛ هي نظام العبيد (من أي جنسية أخرى غير الإغريقية بالنسبة لمدن اليونان القديمة، وغير الرومانية بالنسبة لروما) الذين كانوا من أسرى الحرب أو أسلاب الغزو والنهب البحري، أو الذين لا يستطيعون أن يوفوا ديونهم. وقد بلغت نسبة العبيد إلى مجموع سكان المدن في أحيان كثيرة إلى ٨٠٪، أما النسبة الباقية فتمثل الأحرار الذين يمارسون الحكم الديموقراطي.

(٣-٥) حياة القصور والمميزات الاجتماعية للأسر الحاكمة

ينعكس ما كانت تتميز به الأسر الحاكمة من مميزات في صورة حياة القصور والرموز والمحرمات والحريم، وغير ذلك من وسائل الرفاهية والترف النادرة المثال. وقد هيأت هذه الحياة المترفة فرصة لا نظير لها من أجل نمو الفنون المعمارية، والنحت والتشكيل والزخرفة، والحرف اليدوية الراقية من خزف وزجاج ومصوغات من المعادن والجواهر النادرة. ومعظم هذه المنتجات الفنية التي لا تُقدَّر بثمن قد وصلت إلينا، ولا تزال تعايشنا في متاحف خاصة أو متاحف الفنون في معظم المدن الرئيسية في العالم المعاصر.

(٣-٦) نشوء المدينة

نشأة المدينة وحياة المدن هي من أهم منتجات الحضارات العليا، ويعكس هذا التطور صفة الاستقرار الدائم في الأرض بممارسة الزراعة، وذلك على عكس التنقل المحدود أو الواسع الذي كان يمارسه الجماعون والصيادون والرعاة والمزارعون البدائيون. وقد أصبحت المدينة مركزًا للحكم السياسي ومركزًا للسلطة الدينية العليا، وفي أغلب الأحيان كانت هاتان الوظيفتان تتمثلان في القصر الملكي والمعبد الرئيسي؛ الواحد منهما في مواجهة الآخر، وكان الملك هو الرئيس الأعلى لهاتين السلطتين الزمنية والروحية معًا في أغلب الأحيان، وإلى جانب ذلك كان يوجد مستشارو الملك من الفنيين والعسكريين والإداريين. وفي الناحية الأخرى طبقة رجال الدين، وكان نفوذ رجال الدين يصبح قويًّا أو ضعيفًا في علاقة عكسية مع ضعف أو قوة شخصية الملك.

وإلى جانب القصر والمعبد كانت توجد مبانٍ حكومية كثيرة، ومساكن الموظفين، ومساكن التجار والحرفيين وغيرهم من سكان المدينة، ثم قلعة المدينة، وفي الغالب سور يحيط بالمدينة ويحميها.

وفي بدايات الحضارات العليا لم تنشأ المدينة دفعة واحدة، بل كان الأمر قاصرًا على بناء المعبد، وسكن قليل مجاور للأسرة الحاكمة، وقرى ريفية في الضواحي المجاورة. ومن الاستقرار السكني الصغير حول المعبد نشأت المدينة مع تزايد عدد السكان ونمو الدولة والحرف والغنى الاقتصادي والتجاري، ومع تثبيت أقدام الدولة تصبح مدينةٌ ما عاصمةً للدولة الجديدة، ومن ثم تنمو هذه المدينة بسرعة وتتسع مبانيها ومعابدها ودور حكومتها لكي تتمكن من أن تقوم بدورها في إدارة الدولة.

(٣-٧) عوامل نشوء الدولة

هناك عدة احتمالات لتفسير نشأة الدولة، والاحتمال الأول هو نظرية دولة المعبد؛ بمعنى أن المعبد يحتل المركز الذي تدور حوله الحياة العامة وتُبنَى حوله القرية ثم المدينة، والاحتمال الثاني هو نظرية دولة المدينة؛ بمعنى أن مدينة ما تصبح مركزًا لأسرة حاكمة قوية تضم إلى نفوذها القرى المجاورة، والاحتمال الثالث مرتبط بالثاني؛ وهو الذي يفسر الدولة ذات المساحة الكبيرة بأنها نجمت عن الصراع بين بعض دول المدينة المتجاورة، وينتهي الصراع لمصلحة مدينة واحدة تسيطر على المدن الأخرى وكل القرى التابعة لها. وفي مثل هذه الدولة لا تزال تبدو صفات مميزة لمدن وأقسام الدولة؛ نتيجة لما كان لها من ظروف خاصة حضارية وسياسية سابقة.

وأخيرًا، نأتي إلى مرحلة جديدة في بناء الدولة الكبيرة التي تتعدى في نفوذها السياسي إقليمها الجغرافي المحدود، وهذه المرحلة تنشأ عن قوى التجميع التي حدثت في الاحتمال الثالث؛ إذ تنشط هذه القوى من أجل التوسع وتقليل الفوارق داخل الإقليم حضاريًّا، وتوجيه النشاط الاقتصادي إلى اقتصاد مركزي مخطط، وتتم هذه الأعمال بالقوة والغزو وإخضاع الثورات التي تنشب في البداية بالقوة، ونفي الزعماء المحليين أو استمالتهم ببعض المكاسب والحقوق والزيجات وإسكانهم العاصمة المركزية؛ لكي يصبحوا تحت الرقابة المباشرة. وكذلك تبني الدولة طرق مواصلات سهلة لإمكان التكامل الاقتصادي وإحكام الإشراف على أجزاء الدولة، ونشر لغة المنطقة الأصلية أو لهجة المدينة الحاكمة، وديانة المدينة العاصمة وآلهتها، مع إضافة آلهة الأقاليم الأخرى إلى مجمع الآلهة في ترتيب طباقي.

وتدل الدراسات الأركيولوجية المختلفة على أن حضارات ما بين النهرين العليا قد نشأت أساسًا على مدينة المعبد، بينما حدث الاحتمال الثاني في مصر؛ أي مدينة الحكم، وكذلك كانت المدينة الدولة هي أساس الحضارات الأخرى العليا في البحر المتوسط: الفينيقية، والإغريقية، والرومانية.

لكن في الوقت الذي توقفت فيه الدولة عند حد المدينة في كل من الحضارتين الفينيقية والإغريقية (إلى أن جاء عهد توسع المقدونيين لفترة محدودة من الزمن)، فإن دولة المدينة سرعان ما عبرت هذه المرحلة إلى دولة الإقليم ثم الدولة الكبيرة في كل من مصر وروما، وكذلك نمت دول كبرى على أساس دولة المدينة في العراق والأناضول (الأشوريون والبابليون والحيثيون)، ولكن هذه الدول لم تَعِشْ طويلًا ولم تستقر داخليًّا؛ لأنها كانت دولًا عسكرية يعتريها الكثير من النزاعات الداخلية لعدم إمكانية التوحيد الكامل لدول المدينة القديمة.

ولا شك أن استمرار الدولة لفترة طويلة يعطي للسكان في النهاية قومية موحدة يرتبطون بها طويلًا، وهذه — حتى الآن — أعلى مراحل الدولة: الدولة القومية. وقلة من الحضارات العليا القديمة استطاعت أن تصل إلى مرحلة تكوين الدولة القومية، ومصر هي المثل الرئيسي الذي يعطيه التاريخ على تكوين الدولة القومية لفترة استمرار حضارية مذهلة. بينما يحدث ذلك لفترات محدودة في غيرها من الحضارات القديمة، ولعل ذلك راجع إلى موقع مصر وعلاقاتها المكانية وحمايتها الطبيعية ومركزية الحكم، والعمل الجماعي الملزم للكل من أجل تأمين وسلامة النشاط الاقتصادي (نظام الري وحفر الترع – نظام التعدين والصناعة) في ظل حكم ملكي إلهي وراثي مستقر، ونظام اجتماعي هرمي شديد التكامل. بينما كانت التجارة والفردية المحلية للأقاليم والمدن المستقلة أو شبه المستقلة والانفتاح المكاني على مصادر غزو مستمر من جانب البادية العربية والفارسية، سببًا من أسباب عدم الوصول إلى الوحدة والدولة القومية في حضارات ما بين النهرين إلا لفترات محدودة.٥

(٣-٨) الدولة والأسرة الحاكمة

هذه الأسر الحاكمة إما أن تكون أسرًا محلية ناشئة من داخل الدولة — كما هو الحال في معظم الحضارات العليا في الشرق القديم — وإما أن تكون الأسرة الحاكمة من أصول أجنبية جاءت مع غزو عسكري تقوم به جماعات بادية، أو أسرة حاكمة أجنبية تقيمها حضارة عليا في منطقة نفوذها داخل نطاق حضاري آخر؛ مثل: أسر السلوقيين والبطالمة الإغريقية في الشرق الأوسط ومصر. وقد تكون أيضًا ناجمة عن هجرات حضارية عليا إلى مناطق حضارية أقل تقدمًا؛ مثل ممالك أفريقيا الزنجية.

(٣-٩) الحضارات العليا وتنظيم المجتمع

في بداية تكوين الدولة يستمر بقاء التنظيم العشائري عند كل من طبقتي الحكام والرعية، ولكن تدريجيًّا تحل مجموعات القرى محل العشائر، ويحل شيخ القرية (رئاسة محلية) محل رئيس العشيرة، بتأثير نظام الدولة المركزي. أما في المدن فإن نظم العشيرة ومجموعات النسب تتحلل بسرعة وتحل محلها مجموعات مهنية نتيجة حياة المدينة، وتقسم الدولة إلى أقسام إدارية بدلًا من التنظيم العشائري تدريجيًّا، وفي بعض الأحيان تتطور قبيلة ما فتصبح دولة صغيرة بتأثير جماعات غازية أو قادمة من منطقة حضارة عليا تقوم بعملية إدماج للعشائر والقبائل الصغيرة فيتكون منها دولة قبيلة، ومن أحسن الأمثلة على ذلك: دولة قبيلة الزاندي أو الشلك أو الباجندا في أفريقيا.

وفي كل الأحوال ترفع الطبقة الحاكمة نفسها عن مستوى الشعب، وتصبح كل طبقة مجموعة زواجية داخلية، وفي داخل كل طبقة يحدث انقسام آخر؛ مثلًا: بين الأسرة الملكية وبقية النبلاء. ويظل الانفصال بين الطبقتين الرئيسيتين مستمرًّا لفترة طويلة طالما كانت الأحوال مستقرة.

(٣-١٠) الحضارات العليا والقوانين العامة

حينما تنشأ دولة نتيجة للحضارات العليا؛ فإن كثيرًا من النظام القانوني القبلي، مثل قوانين الثأر والمحاكم القبلية، يُقضَى عليه قضاء تامًّا بواسطة إدارات مركزية تسيطر عليها الدولة وتشرف على تنفيذها، وبالتالي تنشأ المحاكم العامة ووظائف القضاء على أنها وظائف حكومية وليست وظائف قبلية؛ أي إنها تستمد سلطانها وقوتها من الطبقة الحاكمة وليس من مشيخة القبيلة، وبالتالي فإن النظام الوراثي يحل محله الحصول على رضاء الطبقة الحاكمة، ويصبح الموظفون قابلين للعزل. كذلك نجد في الحضارات العليا مجمعًا للآلهة، وهذا ينتج عن ضم المدن والأقاليم التي أُدْمِجَتْ داخل الدولة، ولكن في مثل هذا المجمع يحدث ترتيب طبقي للآلهة بحيث يتزعم الآلهة إله المدينة الحاكمة، وفي بعض الأحيان يحدث نوع من التزاوج بين الآلهة فينشأ ما يُسمَّى بالثالوث، كما حدث في مصر الفرعونية في فترات طويلة، وينجم عن نشوء مجمع الآلهة نشوء طبقة كهنوتية يصبح لها أحيانًا نفوذ كبير على الأخص نتيجة لما يُوكَل إليهم من أمر إدارة الأوقاف التي تُوقَف على المعابد والتصرف في إيراداتها، ويحدث تغيير أيضًا في الأفكار الفلسفية الخاصة بنشأة الكون والخلق وخاصة عند الإغريق القدماء؛ حيث نجد أن الماء هو العنصر الأزلي الذي نشأت عنه بقية الحياة. ولكن بعد نمو الحضارة العليا الإغريقية ظهرت أفكار جديدة تنعكس في فلسفة أفلاطون وأرسطو في صورة عالم المثل عند أفلاطون، وفي صورة المحرك الأول عند أرسطو.

(٤) مجموعة الحضارات الشعبية

  • (١)

    مفهوم الحضارة الشعبية هو أنها الوحدة الحضارية التامة التي تمثل المضمون الحضاري العام للشعب داخل الحضارات العليا تمييزًا لها عن الحضارات العليا التي تمثلها الطبقة الحاكمة، والحضارة الشعبية تمثل في الواقع بقايا الحضارة القديمة داخل الحضارات العليا القديمة أو الحديثة على حد سواء.

  • (٢)

    في الحضارات الشعبية نجد أيضًا بقايا الحضارة البدائية التي تكونت منها الحضارة العالية؛ ولهذا فإن الحضارات الشعبية تتكون في الواقع من نتاج الكثير من الاختلاط والاحتكاك والاتصال الحضاري في مختلف الدرجات ومختلف العصور.

  • (٣)

    تتميز الحضارة الشعبية بأنها تتأثر بدرجات متفاوتة بالحضارة العليا التي تمثلها طبقة الحكام. ومثل هذه العناصر الحضارية التي تصبح جزءًا من الحضارة الشعبية، والتي كانت أصلًا جزءًا من كم الحضارة العليا، تُسمَّى بالعناصر الحضارية المتدهورة. ويمكننا أن نتعرف على بقايا هذه العناصر الحضارية المتدهورة في المناطق الريفية البعيدة عن مراكز الإشعاع للحضارة العليا؛ أي بعيدة عن عواصم الدول القديمة، وهذا لا يعني أن الطبقات الشعبية في مثل هذه العواصم التي تمثل الحضارة لا تتلقى هذه العناصر الحضارية، بل الواقع أنها أيضًا تتلقاها وتطورها حسب أوضاعها الخاصة بطريقة تخالف تطور مثل هذه العناصر المتدهورة في المناطق الزراعية أو المناطق البعيدة عن مراكز الإشعاع الرئيسية للحضارة العليا.

  • (٤)

    ويحدث الانصهار الحضاري بين الطبقات الشعبية في الحضارة العليا وفق تنظيمات تشرف عليها الحكومة؛ مثل التنظيمات القانونية والمهنية، إلى جانب سيادة لغة أو لهجة الطبقة الحاكمة وديانتها على بقية اللهجات والديانات الشائعة بين الطبقات الشعبية.

  • (٥)

    ومن الناحية الأخرى نجد أن بعض العناصر الحضارية الشعبية تتسرب إلى أعلى، وتصبح جزءًا من المضمون الحضاري للطبقة الحاكمة. فعلى سبيل المثال نجد أن الديانة التي تفرضها الطبقة الحاكمة ذات الحضارة العليا تتأثر بعض الشيء بالديانات والمعتقدات الشعبية، وبالتالي يدخلها بعض المعتقدات التي يطلق عليها المتعلمون والمحافظون اسم خرافات أو «خزعبلات»، مثل الاعتقاد الشديد في نفوذ وقوة بعض الأولياء والقديسين. هذه المعتقدات تصبح شيئًا غير مفهوم؛ لأنها جزء من ديانة تستمد أصولها من المعتقدات والديانات القديمة، وقد نسيت أصولها القديمة، وفقدت ارتباطاتها المعنوية، ولم يَبْقَ منها سوى التقليد وحكم العادة؛ أي إن المنطق الأصلي أو المقومات التي تفسر هذه التقاليد والعادات قد نُسِيَتْ تمامًا نتيجة لتقادم العهد عليها ولدخول وسيادة وسيطرة الديانة الجديدة، ولكن الأفعال ونتائج تلك المقومات تظل عالقة بالأذهان، ومن ثم تُمارَس على أنها اعتقاد وعقيدة دون أي تفسير منطقي داخل إطار الديانة الجديدة.

    ومن أمثلة ذلك الكثير من التقاليد والعقائد والأعمال المرتبطة بالرغبة في الإنجاب في مصر، مثل زيارة بعض المناطق الأثرية القديمة، ومثل الاستحمام في ماء النيل بعد القيام بعدد من الزيارات لأثر معين. وبلا شك لا يعرف الممارسون لهذه الطقوس أنها انعكاس لارتباط قديم بين الأرض السوداء وبين إله الخصب والنماء «أوزوريس» الذي كان في كثير من الأحيان يُمثَّل على أنه إله النيل ومسبب الفيضان السنوي.

  • (٦)

    نجد أن الكثير من المعتقدات الشعبية التي كانت أصلًا عنصرًا من الحضارة العليا لا يقتصر توزيعها الجغرافي على مناطق معينة محلية أو داخل حدود دولة معينة، بل يتعداها إلى مناطق وأقاليم جغرافية بعيدة. ويرجع ذلك إلى تشابك الحضارات العليا وهجراتها خارج الحدود السياسية، أو خارج النفوذ الجغرافي للحضارة إلى مناطق أخرى. مثال ذلك: الممارسة الطقسية لما يُعرَف في مصر باسم «الزار»، فوجوده لا يقتصر على مصر، وإنما يظهر في بعض البلاد الأفريقية في الحبشة والسودان وتونس وشمال نيجيريا، ولعل المزيد من البحوث الأنثروبولوجية يؤدي إلى اكتشاف طقوس الزار في عدد آخر من الأقاليم الأفريقية.

  • (٧)

    دراسة الحضارات الشعبية — برغم أنها دراسة فولكلورية — إلا أن هناك ارتباطات في الدراسة الأنثروبولوجية، حينما نتكلم عن مدلول هذه المظاهر الفولكلورية.

    وهذا الارتباط يأتي عن طريق الدراسة المقارنة بين بعض العناصر الحضارية الشعبية، وبين عناصر حضارية لبعض المجموعات البدائية. من أمثلة ذلك أن علم الفولكلور يستطيع أن يدرس بالتفصيل عنصرًا حضاريًّا مثل لبس الأقنعة في الحفلات التنكرية الراهنة في أوروبا، ولكنه لا يصل إلى تفسير لهذه العادة إلا بعد إجراء دراسات أنثروبولوجية مقارنة لعنصر القناع ووظيفته وتطوره وارتباطه ببقية العناصر الحضارية الأخرى عند بعض الحضارات البدائية مثل غرب أفريقيا، وذلك مرجعه إلى ما سبق أن ذكرناه؛ وهو أن الحضارة الشعبية تمثل بقايا الحضارات البدائية مع بعض التغيير. مثال آخر سبق أن ذكرناه هو دراسة «الزار»، هذه الدراسة لا يجب أن تقتصر على تحليل «الزار» في مصر أو تونس أو السودان؛ بل يجب أن نقارنها بطقوس الطب والسحر عند الجماعات البدائية في جنوب السودان أو إثيوبيا، وفي مثل هذه الحالة يمكننا أن نصل إلى مفهوم هذه الممارسة الراهنة في الأماكن البعيدة على ضوء وظيفتها داخل النمط الحضاري العام للحضارة البدائية.

(٥) ختام

هكذا نرى أن الإثنولوجيا تقوم بدراسة الحضارة بمعناها الواسع في أي صورة كانت، وعلى المستويات الزمنية الممكنة، ولا شك أن الموضوع الأول في الدراسة الإثنولوجية ما زال هو الحضارات البدائية، ولا يوجد حتى الآن أي علم من العلوم الحديثة يقوم بهذه المهمة سوى الإثنولوجيا أو الأنثرولوجيا الحضارية، باستثناء بعض الدراسات الطبية أو الاقتصادية أو الجغرافيا البشرية، وكلها تمس المجموعات البدائية من وجهة نظر معينة ومحدودة.

وفيما يختص بالدراسات الإثنولوجية للحضارات العليا القديمة والحديثة والشعبية؛ فإن الإثنولوجيا لا يمكن أن تحل محل العلوم المتخصصة (الأركيولوجيا، الاجتماع الفولكلور على الترتيب). لكن الإثنولوجيا تدرس هذه الأنواع من الحضارات؛ أولًا لكونها جزءًا من الحضارة الإنسانية، وثانيًا، وهو الأهم؛ لأن الحضارات عامةً — وعلى أي مستوى زمني — لم تكن في عزلة عن بعضها، بل تأثرت بشدة فيما بينها، ولا يزال بعضها يحمل كثيرًا من سمات وصفات البعض الآخر. ولقد أصبحت الدراسة المقارنة للحضارات البدائية تستدعي ضرورة البحث في الحضارات العليا والشعبية من أجل الوصول إلى التفسير الأرجح للعناصر الحضارية وتاريخها ومنشأها، وتحري الطرق التي تداخلت بها الحضارات وتكيفت بها العناصر الحضارية في المجمعات الحضارية المختلفة.

١  يمكن أن يمثل الشلك في السودان الجنوبي مثل هذا النظام السياسي خير تمثيل حتى وقتنا الراهن. للاستزادة: Hofmayer, W., “Die Schilluk” Wien 1925.
Riad, M., “The Divine Kingship of the Shilluk and its Origin” Archiv fuer Voelkerkunde, wien 1960.
Seligman, C. G., “Pagan Tribes of the Nilotic Sudan” London 1932.
٢  على سبيل المثال، أكد الانتشاريون البريطانيون أن حضارات أمريكا العليا قدمت من مصر. انظر: W. G. Perry, “The children of the Sun” New York 1923.
ولكن هذه الآراء المتطرفة لا تجد ما يؤيدها، وفي مقابل ذلك نجد المدرسة النمساوية الإثنولوجية تؤكد دور الانتشار إلى جانب المجمعات والدوائر الحضارية. انظر: Heine-Geldern, R. “Das Problem vor Kolumbischer Bezichungen zwischen Alter und Neuer Welt und seine Bedeutung für die allgemeine Kulturgeschichte” Anzeiger Der Osterreichischen Akademie der wissenschaften, vol. 91 no. 24, Wien, 1954.
٣  يعتقد الأستاذ هوكارت أن الحضارات الشعبية ما هي إلا الحضارات العليا في عناصر وممارسات متبربرة نتيجة تقليد الطبقات السفلى لحضارة النبلاء فيما بعد، ولكن هذه نظرة متغالية. انظر: Hocart, A. M. “Kings and Councillors” Faculty of Arts, Egy. Univ. Cairo, 1936.
٤  كتب كثيرون من الإثنولوجيين حول موضوع الملكية المقدسة وأصله وانتشاره بوصفه عنصرًا حضاريًّا مميزًا، والأسماء الرئيسية للإثنولوجيين متعددة، على رأسها: سليجمان، وهنري فرانكفورت، وويلسون، وفلندرز بتري. لكن أكثر هؤلاء الباحثين شمولًا هو سير جيمس فريزر في كتابه المشهور «الغصن الذهبي». Frazer. J, “The Golden Bough” London 1922 (1 ed. 1890).
٥  من الدراسات الاجتماعية الحديثة الجيدة في تركيب المجتمعات ذات الحضارات العالية، راجع صفحات ٥١–٥٨ من كتاب: Parsons, T., “Societies, Evolutionary and comparative prespectives” Printice-Hall, London 1966.
إلى جانب أحد العمد في دراسات الشرق القديم: Frankfort, H., “Kingship and the Gods” Chicago, 1948.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤