الفصل الرابع

المدارس الإثنولوجية

يمكننا الآن أن نعرض بإيجاز لمدارس الفكر الإثنولوجية بعد أن عرفنا الكثير عن مشكلة الحضارة وأنواعها وبعض مشكلات التنظير، ويمكننا أن نقول إن المدارس الإثنولوجية في العصر الحديث تنحصر في عدد من الاتجاهات التاريخية والتطورية والنفسية والوظيفية والتحضيرية، وذلك بالإضافة إلى الاتجاه العملي الذي ينحو دائمًا نحو المونوجرافية ويبعد كثيرًا عن مشاكل التنظير.

ولقد كانت هذه الاتجاهات ناجمة عن عدد من الأصول القديمة في العصور الإغريقية والعربية، ووجدت لها منطلقًا في مونوجرافات عصر الكشوف الجغرافية الكبرى، وارتبطت كل هذه الأعمال أولًا بمشكلة التفريق السلالي، ثم انفصلت الإثنولوجيا عن الأنثروبولوجيا. وبدأت مرحلة التنظير في الإثنولوجيا بين مبدأين أو وجهتي نظر رئيسيتين تصارعتا بصفة مستمرة، وهذان هما الأصل الواحد أو المتعدد لظهور المجمعات والصفات الحضارية. ولقد سُمِّيَ المبدأ الأول بالانتشارية Diffusion، وسُمِّي الثاني بالتطورية المحلية Evolution ويجب بادئ ذي بدء أن نوضح أن التطورية هنا ليست مماثلة تمامًا للتطورية البيولوجية التي بدأها داروين في تطور الأنواع على ظهر الكرة الأرضية. فالداروينية تعود بالأنواع إلى أصول واحدة مشتركة، بينما التطورية الحضارية تعود بالظاهرة الحضارية المتشابهة إلى نشأة متعددة في أماكن جغرافية وحضارية مختلفة، وهو ما يمكن أن يُسمَّى على وجه الدقة: توازي النشأة Parallels. أما الانتشاريون فكانوا أحيانًا من المغالين في التطور (على الصورة الداروينية) بتمسكهم بالأصل الواحد للكثير من الظاهرات الحضارية — ومن ثم الانتشار من مركز واحد إلى بقية المجتمعات الحضارية.

ومهما قيل عن هذين المبدأين، فإنهما يُستخدَمان بكثرة عند غالبية الإثنولوجيين استخدامًا ضمنيًّا أو صريحًا، وإن كان الإثنولوجيون في الماضي يميلون إلى واحد من المبدأين ميلًا واضحًا، إلا أن الإثنولوجيين المحدثين يستخدمونهما معًا حسب الظروف الحضارية المختلفة.

ولقد كان ظهور المدارس والمناهج الإثنولوجية الحالية أمرًا غير مفاجئ، بل سبقه دراسات عديدة منذ أقدم عصور الكتابة كما سنحاول توضيحه في المراحل التالية:

(١) فترة الرواد

(١-١) الفكر الإثنولوجي منذ أقدم العصور حتى الكشوف الجغرافية

في القرن الخامس قبل الميلاد، نجد أوائل الكتابات الإثنولوجية عند الإغريق، ولو أننا نرجح وجود مفاهيم وكتابات في الموضوع الإثنولوجي في عصور سابقة، غير أننا نحتاج إلى كثير من التعمق في تاريخ وأركيولوجية شعوب البحر المتوسط القديمة، وعلى الأخص في مصر والعراق وفينيقيا. وفي مصر القديمة نجد أول إشارات إلى الموضوع الإثنولوجي في التمييز الذي أعطاه المصريون للمجموعات الحضارية المجاورة بواسطة الرسوم الملونة على الجدران؛ فقد أعطوا للغربيين (الليبيين) البشرة البيضاء والعيون الزرق والشعر المموج وللنوبيين البشرة السوداء والشعر الصوفي، وللآسيويين اللون الأبيض والأنف المحدب والذقن الطويلة، وأعطوا لأنفسهم اللون الأحمر مع بعض المميزات الوجهية والذقن الحليقة. ولا شك في أنه كانت هناك تفسيرات كثيرة للارتباطات الحضارية عند هؤلاء الجيران في شكل تصفيف الشعر وفي الملبس والأسلحة والثروة الاقتصادية (أغنام وماشية وزراعة حبوب) وغير ذلك من المميزات الحضارية المادية والاقتصادية للشعوب المجاورة. ولا شك أيضًا في أنه كانت هناك كتابات وقصص شعبية عن بعض الممارسات الحضارية الاجتماعية المرتبطة بهؤلاء الجيران. لكن الأمر يحتاج — كما قلت — إلى استخراج ذلك كله من سجلات التصوير والكتابة المصرية القديمة، ولعل ذلك يحدث فيما بعد؛ ليس فقط بالنسبة لمصر، ولكن بالنسبة للحضارات القديمة الأخرى أيضًا.

وإذا عدنا إلى الحضارة الإغريقية حيث تتوافر الكتابات والسجلات التي وصلت إلينا، والتي دُرِسَتْ دراسة كافية، نجد أن بداية الموضوع الإثنولوجي قد سجله المؤرخ المشهور هيرودوت في حوالي القرن الخامس قبل الميلاد. وإذا كان هذا المفكر الفذ يُعَدُّ «أبا التاريخ»؛ فإنه في الواقع أيضًا «أبو الإثنولوجيا». فكتاباته التاريخية تزخر بذكر الصفات الحضارية للشعوب التي زارها وسجل عنها ملاحظاته. ولعل ميزة هيرودوت أنه كان يسجل كثيرًا ويُنظِّر قليلًا، فأعطانا خامة جيدة لما كانت عليه بعض العادات والطقوس والاحتفالات في هذا التاريخ المبكر، وسنرى أن ملاحظاته عن شعب ليكيا Lycia في آسيا الصغرى قد أثارت فكرة إثنولوجية هائلة في تطور مراحل الأسرة من النسب الأموي إلى النسب الأبوي.
وفي القرن نفسه نجد أحد المفكرين الإغريق يحاول أن يُصنِّف شعوب الأرض باستخدام العلاقات الإيكولوجية والنفسية. ذلك هو الفيلسوف أبقراط Hippokrates (٤٦٠–٣٣٧ق.م) المعروف ﺑ «أبو الطب». ويهتم أبقراط (ويسميه العرب بقراط) بنفسيات الشعوب على ضوء العوامل المناخية، فيقسم الناس إلى شعوب العروض الشمالية والعروض الوسطى والعروض الجنوبية، وكذلك يقسم المؤرخ الإغريقي ديكايرخ Dicaearchus المسيني (٣٢٠ق.م) الشعوب إلى ثلاث مراحل حضارية، هي الصيد والرعي والزراعة، ويأخذ عنه الاقتصادي الإنجليزي آدم سميث فيما بعد هذا التقسيم.
وفيما بين القرن الأول والثاني قبل الميلاد يقسم الفيلسوف الآسيوي الهلنستي بوسيدون Poseidonius الشعوب إلى مراحل حضارية مختلفة، وذلك بناءً على أسفاره العديدة، ويكتب مونوجرافًا جيدًا عن الكلتيين، ويضع لأول مرة مصطلح «الشعوب الطبيعية» (أي البدائية)، ويمثل سكان شمال أوروبا — في وقته — بالشعوب الطبيعية. كذلك نجده يعطي صفات سيكولوجية للشعوب، فيقول: إن سكان البحر المتوسط يميلون إلى استخدام المنطق، وإن طاقاتهم الروحية كبيرة، وإنهم نتائج المدنية والغرائز معًا. أما سكان الشمال فيصفهم بالإقدام والشجاعة والغضب المجنون والعواطف المحمومة والشهوة.
أما لوكريت Lukretus (القرن الأول قبل الميلاد)، فهو غالبًا أول النظريين القدماء، وكان أهم ما أضافه هو مراحل التطور الحضارية: الحضارات العتيقة = الحضارات الحجرية، ثم اكتشاف النار كمرحلة حضارية هامة وحضارات النحاس ثم البرونز وأخيرًا حضارة عصر الحديد. وفي القرن الأول أيضًا نجد كتابات سترابو Strabon الجغرافية الناجمة عن رحلات كثيرة ومشاهدات وملاحظات دقيقة، ويحاول سترابو أن يوضح آثار العوامل الجغرافية والمناخية على شكل الحضارات وتطورها.

وهناك كتاب آخرون في الفترة التالية والعصر الروماني، لكنهم لم يضيفوا جديدًا إلى الموضوع الإثنولوجي. ثم تأتي الفترة العربية برحَّالتها وجغرافييها ومؤرخيها العظام الذين يوجد في كتاباتهم الكثير من المواد الإثنولوجية، وهم في ذلك يشابهون هيرودوت وسترابو على وجه خاص. وما زالت هذه الكتابات مصدرًا عظيمًا لم تتناوله الإثنولوجيا الحديثة بالدرس كما يجب، وإن كانت تجد صدًى واسعًا للإثنوجرافيين والحضاريين السوفيت، بحكم أن الكثير من الكتابات العربية قد تكلمت كثيرًا عن شعوب وسط آسيا والقوقاز والهند. لكن هناك أيضًا كتابات هامة عن أفريقيا، على رأسها كتابات ابن بطوطة والمسعودي وكتاب المغرب. ولعل أهم الكتابات العربية في الموضوع الإثنولوجي النظري هي كتابات ابن خلدون الإثنوجرافية والإثنولوجية العظيمة. وقد ركز ابن خلدون كثيرًا في «مقدمته» على العلاقات الحضارية الاقتصادية بين الحضر والبداوة، وأهمية البدو ودورهم في التاريخ العام والتاريخ الحضاري على وجه خاص. ومهما قيل عن تحيز ابن خلدون ضد البدو؛ فإن فلسفته الحضارية ممتازة، وقد مسَّت إحدى أهم مراحل البناء الحضاري في العالم الجاف منذ القرن الرابع عشر الميلادي. وقد نقل الأوروبيون الكثير عن ابن خلدون، ولكن لا شك في أن هناك كتابات أخرى مماثلة لم تُسلَّط عليها الأضواء بما فيه الكفاية.

(١-٢) مرحلة الكشوف الجغرافية حتى بداية القرن التاسع عشر

يتميز الفكر الإثنولوجي في هذه المرحلة بالكثير من المونوجرافات التي تصف الشعوب الغريبة التي شاهدها الأوروبيون في مراحل توسعهم الكشفي التجاري والاستعماري خلال القرون الثلاثة: السادس عشر إلى الثامن عشر.

والكتابات في هذه المرحلة كثيرة، وبعضها يكوِّن خامة طيبة لدراسة بعض العناصر الحضارية، ولكن يوجد شك دائم نتيجة المبالغات المقصودة وإظهار روح البطولة لهؤلاء الكشافين والكتَّاب، كذلك احتمالات الشك قائمة لقصور منهج البحث والكتابة. ومع ذلك فهناك من تحروا الكثير من الدقة في التسجيل والوصف، وبعضهم تحول إلى الكتابة من أجل مصلحة الشعوب والقبائل في العوالم الجديدة، وطالبوا بحماية «الأهالي» الأصليين بعد أن راعتهم عملية إبادتهم العمدية وغير العمدية (كطردهم من مناطقهم الأصلية إلى مواطن فقيرة، أو بنشر الخمور والأمراض التي لا تتوفر لديهم مناعة ضدها). وهذه المشاعر الإنسانية قد عبَّر عنها بصدق بعض تجار الرقيق السابقين؛ مثل بارتولوميو دي لاس كازاس B. de Las Casas (١٥٠٢) الذي تحول إلى الرهبنة والتبشير في أمريكا الوسطى، كذلك كتب الدبلوماسي النمساوي سيجموند هربرشتاين S. Herberstein (١٥٧٧) عن الروس والفينو — أوجريين، وشيفر J. schaeffer (١٦٧٥) عن اللاب في شمال إسكندنافيا ونظمهم الشامانية والدينية التقليدية، ودابر O. Dapper (١٦٨٦) الذي ارتحل كثيرًا في أفريقيا وكتب عن عادات الزنوج ونظمهم الاجتماعية، وبيتر كالب P. Kalb (١٧٠٠) الذي كتب مونوجرافًا ممتازًا عن الهوتنتوت في جنوب أفريقيا. ومن الكتابات الهامة في هذه المرحلة أيضًا كتابات الأب جبرائيل ساجار G. Sagard عن أمريند الهورون (منطقة البحيرات العظمى) التي ظهرت في كتاب «الرحلة الكبيرة إلى بلاد الهورون» عام ١٦٣٢، وكتابات الأمير الرحالة الألماني ماكسميليان فون فيد-نوي فيد M. Wied-Neuwied عن أمريند السهول العظمى الأمريكية والتي ما زالت مرجعًا كلاسيكيًّا للباحثين في هذه المنطقة.
ولكن أهم كتَّاب هذه المرحلة الأب الجزويتي الفرنسي جوزيف لافيتو J. Lafitau (١٦٧٠–١٧٤٠)، وأهم كتبه هو ما يصف حضارة قبيلة الإيروكويز١ في شمال شرق الولايات المتحدة. وهو كتاب ضخم من أربعة مجلدات يلخص دراسة لافيتو التي استمرت خمس سنوات بين الإيروكويز. وعنوان الكتاب يوضح أن الدراسة قد انتهت إلى أن التنظيمات الاجتماعية عند الإيروكويز تساوي التنظيمات البدائية للإنسان، وهو في ذلك يقارن بين سكان ليكيا كما أوردها هيرودوت وبين الإيروكويز.
ويكتشف لافيتو التشابه بين النظام الأموي Mutterecht-Matriarchate عند الإيروكويز مع ذلك النظام الذي وصفه هيرودوت فيما قبل الميلاد، ويتجه فكره فورًا إلى أن ذلك راجع إلى انتشار هذا النظام، وبذلك يصبح لافيتو أول الإثنولوجيين المبكرين الذين حاولوا التنظير، ومن أوائل من نادوا بمبدأ الانتشار الحضاري.

وكذلك يدخل لافيتو إلى دراسة عدد من النظم الاجتماعية، مثل دراسة ثمن العروس (بقاياه الحالية هي المعروفة باسم الصداق أو المهر)، طقوس البلوغ، وبعض الدراسات الدينية (محاولة استقراء وجود فكرة الإله الأعلى عند الجماعات البدائية)، وبذلك فإن الأب لافيتو يحتل مركزًا عاليًا في الدراسات الإثنولوجية المبكرة.

وقد أثارت كتابات الرحالة والدارسين ردود فعل كثيرة بين الفلاسفة والمفكرين النظريين الأوروبيين، وقد تبلور رد الفعل بصور مختلفة لكنها كادت أن تتركز في فرنسا. فهنا نجد دراسات مقارنة يقوم بها دي بروس C. de Brosses عن الديانة المصرية القديمة وديانات الزنوج في غرب أفريقيا (١٧٦٠)، ومونتسكيو Montesquieu في كتابه «روح القوانين» (١٧٤٨) الذي يركز فيه على أثر المناخ على الاقتصاد والنظم الاجتماعية ونفسية الشعوب. ولكن رد الفعل قد تبلور بصورة شديدة التأثير في عودة الفكر إلى «دولة الطبيعة» أو «المدينة الفاضلة» كما أوضحه كتاب جان جاك روسو J. J. Rousseau «العقد الاجتماعي» (١٧٥٦)، بعد أن استوعب كتابات لافيتو وقرأ من بين سطوره ما دفعه إلى الاتجاه التحرري الذي وُجِد صداه فيما بعد في شعارات «الإخاء والحرية والمساواة» التي ميزت الثورة الفرنسية. وعلى عكس روسو نجد فولتير ينادي بأن العقل هو أساس كل تقدم، وأنه لا توجد «الجنة» التي دعا إليها روسو في حياة البدائيين.
وفي ألمانيا كان رد الفعل مركزًا في يوهان جوتفريد هردر J. G. Herder (١٧٤٤–١٨٠٣) الذي كتب عن الشعوب والروح الفردية والتطور الحضاري المحلي، وكتب جوستاف هوجو G. Hugo (١٧٩٩) عن التطور الحضاري من الجماعين إلى السماكين والصيادين ثم الزراع والرعاة والحرفيين. ويُعتبَر هوجو مؤسس المدرسة التاريخية في تطور القوانين، ومن بين الأسماء اللامعة: الباحثون الطبيعيون الألمان يوهان رينهولد فورستر Furster وابنه جيورج فورستر، اللذان اشتركا في رحلات الكابتن كوك في البحار الجنوبية وتيرادلفويجو، وكانت أبحاثهما تنصبُّ على عدد من الأسئلة: ما هي التلاؤمات البشرية والعقلية عند البدائيين؟ وما هي تجاربهم وآراؤهم؟ وما هي إمكانات تطورهم إلى المدنية؟ ما هي أوجه التفريق التشريحي والفسيولوجي والخلقي بين السلالات والشعوب؟ وما هي مقاييس هذه الدراسة؟ وأخيرًا، ما هو الشعب؟ وخلاصة أبحاث فورستر الأب والابن أن هناك ثلاث مراحل حضارية؛ هي: الوحشية والبربرية والمدنية، تماثل مراحل التطور الفردي من الطفولة إلى البلوغ إلى النضوج.
أما في بريطانيا، فقد كاد أن يقتصر رد الفعل للكشوف الجغرافية على الاقتصادي الإنجليزي المعروف آدم سميث A. Smith الذي ميز ثلاث مراحل مشابهة لما فعل الإغريقي القديم ديكايرخ: الصيد – الرعي – الزراعة.

(١-٣) مرحلة الفصل بين الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا (١٨٠٠–١٨٥٨)

تبدأ هذه الفترة في ألمانيا بأبحاث الأخوين فيلهلم وألكسندر همبولت Humboldt، وقد كان لكل منهما اهتمام خاص. فيلهلم همبولت اهتم كثيرًا بدراسة اللغات، وساعد كثيرًا في فصل الإثنولوجيا عن الأنثروبولوجيا، وبدأ في توجيه الإثنولوجيا إلى وجهة تاريخية. أما ألكسندر همبولت، فقد اتجه إلى دراسة النواحي الطبيعية، وأسس مدرسة الجغرافيا الحديثة في ألمانيا، ولكن اهتماماته بالبيئة والإنسان كانت شاملة. وقد وقع فيلهلم همبولت تحت تأثير جيورج فورستر في الدراسات المقارنة، وقد أدخل الكثير من العناصر الاجتماعية والفكرية كعوامل مؤثرة في اللغات، بل وأيضًا العوامل النفسية، وبذلك كان اهتمامه موجهًا إلى التفاعلات البشرية العديدة.

وفي هذه الفترة أيضًا ظهرت آثار الثورة الفرنسية والرومانتيكيين ونمو القومية في كثير من الدراسات اللغوية والإثنوجرافية، وكذلك ظهور فلسفات مثالية وتأثيرات من العلوم الطبيعية على محاولة تفهم الحضارات المختلفة. ففي ألمانيا تبلورت الجغرافيا والمدرسة التاريخية في الدراسات الإنسانية والحضارية، ونمو علوم اللغة الهندوجرمانية، وفي فرنسا نمت الأنثروبولوجيا الطبيعية. وبرغم هذه الاتجاهات ظهرت في هذه الفترة بعض الدراسات الإثنوجرافية عن الصين أو القوقاز أو شمال أوروبا أو سيبيريا أو أمريكا اللاتينية وأفريقيا وبولينيزيا … إلخ، ومعظمها كان في صورة رحلات علمية ووصف دقيق للمشاهدات والملاحظات، ومحاولة للتفسير في بعض الأحيان، مثل رحلات وكتابات الأمير الألماني مكسميليان فون فيد عن البرازيل والولايات المتحدة، ورحلات مونجو بارك وهاينريخ بارت في أفريقيا.

ولقد كان للأنثروبولوجيا الطبيعية حظ أوفر من الإثنولوجيا؛ وذلك لأن القائمين بها كانوا أساتذة في كليات الطب الجامعية. ويُضاف إلى ذلك أن الاهتمام العام كان موجهًا إلى دراسة الاختلافات الجسدية بين سلالات البشر كجزء من النظريات العنصرية أو المناهضة لها.

ولكن الإثنولوجيا — لكي تصبح علمًا مستقلًّا — كان عليها أن تنمو كدراسة علمية جامعية من خلال علوم أخرى. وأكثر العلوم التي ساعدتها في نموها في ألمانيا كانت الجغرافيا، وخاصة بعض الجغرافيين المهتمين بالدراسات البشرية، وعلى رأسهم كارل ريتر C. Ritter الذي كتب كتابه المشهور: «علاقة الجغرافيا بالطبيعة وتاريخ البشر» في ١٨١٧، و«أطلس الشعوب» الذي نشره هاينريخ برجهاوس H. Berghaus عام ١٨٣٦. وفي فرنسا نمت الإثنولوجيا من خلال علم الاجتماع الذي بدأه لأول مرة أوجست كونت A. Comte في كتاباته التي نُشِرَتْ بين ١٨٣٠–١٨٤٢ باسم Cours de Philosophie positive، وفي هذه الكتابات أطلق كونت اسم الاجتماع لأول مرة في تاريخ العلوم.
ولكن أكبر خطوة في سبيل انفصال الإثنولوجيا جاء في فرنسا عام ١٨٣٩، حينما أنشأت الجمعية الإثنولوجية في باريس نتيجة لجهود كثيرة كان على رأسها إدوارد W. Edward العالم الطبيعي الإنجليزي المقيم في فرنسا، والذي تأثر كثيرًا بالمؤرخ الفرنسي Thierry. وهذه هي أول جمعية علمية تحمل اسم إثنولوجيا، برغم أنه سبقها بسنة واحدة إنشاء جمعية حماية الأهالي الأصليين في لندن بواسطة مجموعة من الإنسانيين، وبرغم اهتمام الجمعية الفرنسية بمشكلة السلالة، إلا أنها أيضًا كانت توجه مزيدًا من الاهتمام إلى النواحي الاجتماعية واللغوية.٢
وقد كان لإنشاء الجمعية الإثنولوجية آثارها على الدول الأخرى؛ ففي ١٨٤٢-١٨٤٣ أُنشِئت الجمعية الإثنولوجية في نيويورك والجمعية الإثنولوجية في لندن، وقد سبق ذلك إنشاء جمعية حماية الأهليين الأصليين عام ١٨٣٧ في أمريكا بواسطة هودجكين Hodgkin، وكان واحدًا من الكويكرز الذين يحاربون الرق. وفي هذه الجمعية ظهر تياران: التبشيري والعلمي؛ مما أدى إلى صراع شديد انتهى إلى أن أسس هودجكين الجمعية الإثنولوجية الأمريكية. وظلت هذه الجمعية إلى أن تحولت عام ١٨٦٣ إلى الجمعية الأنثروبولوجية.

(١-٤) مرحلة تدعيم الإثنولوجيا ١٨٥٩–١٩٠٥

أهم ما تتميز به هذه الفترة هي سيادة نظرية التطور الدارويني، وفكرة التطور عامةً أسبق من داروين، لكنه هو الذي صاغ وبنى النظرية العلمية الحديثة لتطور الحياة. ومن خلال الداروينية نمت الأنثروبولوجيا الطبيعية نموًّا هائلًا. في فرنسا فصل بول بروكا P. Broca الجمعية الأنثروبولوجية الفرنسية عن الجمعية الإثنولوجية، وفي بريطانيا أنشأ الدكتور هنت James Hunt الجمعية الأنثروبولوجية البريطانية، وكذلك كان لدراسات بوشيه دي برث Boucher de Perthes الفرنسي عن آثار ومخلفات ما قبل التاريخ في وادي السوم أثر في الاتجاه التطوري في دراسة الحضارات الإنسانية.
وفي ألمانيا بدأ تيودور فايتز T. Waitz الدراسات الإثنولوجية الألمانية الحديثة، وذلك برغم أنه كان يستخدم دائمًا مصطلح أنثروبولوجيا، إلا أن كل ما كتبه كان عن الحضارة والتطور الحضاري للشعوب البدائية أو شعوب الطبيعة. وقد أكد فايتز في الجزء الأول من كتابه «أنثروبولوجية الشعوب الطبيعية» الذي صدر عام ١٨٥٨ (قبل سنة واحدة من نشر كتاب «أصل الأنواع» لداروين)، أن اختلاف الشعوب فيما بينها يرجع إلى تأثير البيئة عامةً والمناخ خاصةً، وإلى نوع الغذاء وطريقة الحياة، وإلى التطور الحضاري وأخيرًا إلى الطفرات. وكان يعتقد أيضًا أن دراسة اللغات تعطي للباحثين أسسًا أفضل، في دراسة الشعوب واختلافها عن بعضها؛ مما يعطيه الاعتماد على دراسة شكل الرأس. ولكنه في هذا الصدد لم يكن قد تخلص من الخلط بين السلالة واللغة، فكان يعتبر الترك والهنغاريين من سلالات غير السلالة البيضاء؛ لأن لغاتهم ليست جزءًا من المجموعة الهندو-أوروبية.

ويؤكد فايتز أن كل الشعوب قد بدأت من درجة الصفر: الإنسان الطبيعي بدون حضارة، ويتساءل عن كيفية حدوث الاختلافات الكبيرة في حضارات الناس، ويعود ليؤكد أن مرد هذه الاختلافات لا يرجع إلى هبات أو قدرات عقلية؛ فهذه متساوية عند كل الناس، ولكن الفروق في رأيه قد نجمت عن اختلاف الفرص التي هيأتها الظروف الطبيعية، وخاصةً المناخ والموقع الجغرافي والعلاقات التاريخية.

وكذلك تناول فايتز موضوعًا شائكًا، لا يزال كذلك حتى الآن: مبدأ الانتشار أو النشأة المستقلة لكثير من العناصر الحضارية المتشابهة، وقد تكلم عن ظاهرة حضارية تُسمَّى Couvade٣ التي تظهر في مناطق متفرقة متباعدة: أفريقيا – الباسك في شمال إسبانيا – في الأناضول القديمة – في إندونيسيا – وفي أمريكا الجنوبية. ولا يحاول فايتز تفسير ظهور مثل هذه الظاهرات الحضارية، ولكنه يقبلها كأمر واقع — وإن كان اتجاهه إلى تأييد مبدأ النشأة المستقلة في كثير من الأحيان أكبر من تأييده لفكرة الأصل الواحد. وعلى أي حال فإن اتجاهات فايتز على العموم كانت حكيمة لنقص المعلومات الإثنولوجية عامةً، ولنقص دراسات ما قبل التاريخ خاصةً، ولكننا نجده يميل إلى مبدأ الانتشار حينما يعالج المتشابهات الحضارية الكبرى، كالمتشابهات بين أمريكا الشمالية وسيبيريا والهند وبولينيزيا. ويؤكد أن التشابه في نظام تقسيم السنة عند الآسيويين والمكسيكيين — كما درسها همبولت من قبله — تعود إلى مبدأ الانتشار الحضاري، ولا يمكن بحال اعتبارها منفصلة النشأة. وهو يرى أن الانتشار الحضاري قد تم من آسيا عبر مضيق بيرنج إلى أمريكا، ولكنه لا ينفي احتمال الانتشار عبر جزر المحيط الهادي مباشرةً إلى المكسيك.
وبطبيعة الحال، فإن الكثير مما كتبه فايتز في مجلداته الستة عن الشعوب الطبيعية٤ قد تقادم عليه العهد نتيجة الأبحاث العديدة في كافة الميادين من خلال القرن الذي يفرق بيننا وبينه، ولكنه كان من الرواد الإثنولوجيين العظام في القرن التاسع عشر، كما كان في أغلب الأحيان يتميز بالحكمة وعدم التحيز، وكان لتأكيده على دور العوامل الجغرافية والتاريخية في نمو الحضارات أثرٌ واضح في الإثنولوجيا عامةً، والإثنولوجيين الألمان خاصةً.
وبرغم أهمية فايتز في الإثنولوجيا؛ إلا أن دوره في إنشاء كرسي خاص بهذا العلم لم يكن كبيرًا، وقد كان الفضل في ذلك يرجع إلى أستاذ ألماني آخر هو أدولف باستيان A. Bastian الذي نشر أول كتبه في الإثنولوجيا في ليبزيج أيضًا٥ بعد سنتين من ظهور أول أجزاء كتاب فايتز. ويختلف دور باستيان عن فايتز اختلافًا كبيرًا، فهو أكثر من نادى بضرورة الإكثار من الأبحاث الميدانية بين الشعوب البدائية بدلًا من الإثنولوجيا النظرية، وهو الذي كافح حتى أسس كرسي الإثنولوجيا في جامعة برلين عام ١٨٦٩، كما أسس المتحف الإثنولوجي الألماني عام ١٨٨٦ في برلين، وكان أكبر متحف من نوعه لفترة طويلة. ولكن أهمية باستيان ليست في نظرياته التي سبق أن ناقشنا أسسها، إنما دوره الأساسي يتركز في أنه استطاع بشخصيته القوية أن يفصل تمامًا بين الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا فصلًا كاملًا بتأسيس كرسي الإثنولوجيا والمتحف وإنشاء الجمعية الإثنولوجية في برلين عام ١٨٦٩ أيضًا، وكذلك كان لرحلات باستيان ومنشوراته الكثيرة مثل هذا الدور في تدعيم استقلال الإثنولوجيا في ألمانيا.

وبغضِّ النظر عن بعض مشكلات التنظير التي نادى بها باستيان والتي سبق نقدها، مثل العقلية البدائية وعقلية الشعوب؛ كان باستيان يميل إلى مبدأ الأصل المستقل لكثير من المتشابهات الحضارية في نظرة تطورية اجتماعية. لكنه لم يرفض أيضًا في بعض الأحيان مبدأ الانتشار الحضاري، ففي الحضارات البدائية يُرجع باستيان المظاهر الحضارية إلى نمو محلي مرتبط بعوامل البيئة والمناخ، ومع ذلك فهو يعترف بتأثيرات الاحتكاك الحضاري والمبدأ التاريخي من معالجته للأقاليم الجغرافية للحضارات البدائية. وقد حاول باستيان كثيرًا أن يدخل مبدأ التأثيرات النفسية كعامل شديد التأثير في النمو الحضاري المحلي. وأكبر ما يعيب باستيان هو أن كتاباته من ناحية الأسلوب شديدة التعقيد قليلة الوضوح، إلى حد أن الكثيرين من الألمان وجدوا صعوبة شديدة في متابعة تسلسله الفكري.

وفي الوقت الذي غرقت فيه الإثنولوجيا الألمانية في أفكار باستيان البدائية ودراساته الميدانية العديدة القيِّمة، فإن بريطانيا وأمريكا كانتا على عتبة التنظير الإثنولوجي العظيم بواسطة مورجان وتيلور، ولكن ظهر قبلهما بقليل في الكتابات الألمانية كتابٌ أثار مشكلة رئيسية في التنظير الإثنولوجي ما زالت لها قيمتها حتى الآن. ذلك هو كتاب «حق الأم Das Mutterrecht» الذي نشره باخوفن J. J. Bachofen عام ١٨٦١؛ أي بعد سنة من نشر كتاب باستيان الآنف الذكر، وفي هذا الكتاب يضع باخوفن تتابعًا زمنيًّا لنظم الزواج والأسرة والميراث والتركيب الاجتماعي. وخلاصة آرائه هي أنه كانت هناك عدة مراحل: أقدمها مرحلة الشيوع في الزواج Hetaerismus-Promiscuity، تليها مرحلة ثورة المرأة على هذه الأوضاع وتأسيسها مرحلة النظام الأموي Matriarchate الذي تثبت فيه صلات الأم بالأبناء، ويسميها باخوفن المرحلة الأمازونية Amazonentum (سيادة المرأة). ويربط باخوفن هذا النظام بمجموعة من الوظائف الاجتماعية: الأسرة الأموية، والنسب الأموي، والإرث الأموي، ونظم دينية تسيطر عليها إلهة الأرض وتقوم فيها النساء بدور رئيسي في النظام الكهنوتي، عادات وطقوس الخصوبة. وأخيرًا، يسيطر القمر (بصيغة المؤنث) على الشمس. ثم تأتي المرحلة الثالثة حيث تسقط وظيفة المرأة السياسية والدينية ويحل محلها النظام الأبوي Patriarchate. وتظهر في هذه المرحلة الأسرة الحقيقية وتسيطر آلهة السماء على إلهات الأرض، والشمس على القمر. ولكن بقايا النظام الأموي لا تزال تظهر في بعض العناصر الحضارية كنظام وراثة ابن الأخت للخال ونظام «الكوفاده» السابق ذكره، ونظام الزواج الأموي المكان … إلخ.

ولا شك في أن المراحل الثلاث تركيب نظري بحت وخاصة المرحلة الأولى، وقد اعتمد باخوفن كثيرًا على كتابات هيرودوت عن النظام الأموي عند أهل ليكيا في آسيا الصغرى. وعلى أي حال، فإن باخوفن قد أثار موضوعًا إثنولوجيًّا هامًّا سوف يظل يتكرر عند عدد من الإثنولوجيين القدماء والمحدثين في دراساتهم المونوجرافية. إن الأب لافيتو سبق باخوفن في دراسة النظام الأموي عند بعض سكان أمريكا الشمالية (على نحو ما أوضحنا من قبل)، ولكن هناك اختلاف بين معالجة لافيتو التاريخية المحضة لهذه الظاهرة الحضارية ومعالجة باخوفن النابعة عن وظيفة النظام الأموي ودوره في التركيب الاجتماعي.

وفي ألمانيا نجد أخيرًا الجغرافي الألماني المشهور فردريك راتزل F. Ratzel الذي تحول إلى الإثنولوجيا، وخلص هذا العلم من الركود الذي حل به حينما نشر كتابه «علم الشعوب Voelkerkunde» (١٨٨٥–١٨٨٨). وقد أكد راتزل في كتابه الكثير من المبادئ والآراء الجديدة التي تتركز كلها حول أهمية الاتصالات والعلاقات الحضارية بين الشعوب ودورها في النمو الحضاري. وقد أثر راتزل كثيرًا في الإثنولوجيا الألمانية إلى أوائل القرن العشرين، وخاصةً بواسطة تلميذين من تلامذته؛ هما: هاينريخ شورتز H. Schurtz ووليو فروبينيوس L. Frobenius.

وفي هذا الوقت نجد في أمريكا وبريطانيا عالمين من كبار الإثنولوجيين، يمكننا أن نقول عنهما إنهما فعلًا من بناة الإثنولوجيا الحديثة؛ هذان العالمان هما لويس مورجان وإدوارد تيلور.

أما لويس مورجان L. Morgan (١٨١٨–١٨٨١) فهو قانوني أمريكي تأثر كثيرًا بكتاب حق الأم وأبحاث لافيتو، وقام بنفسه بدراسة واسعة بين أمريند الإيروكويز وغيرهم من سكان الشمال الشرقي الأمريكي، وقد بدأ منشوراته الإثنولوجية مبكرًا. ففي ١٨٥١ نشر مونوجرافًا ممتازًا باسم «عصبة الإيروكويز» League of the Ho-Dé-No- Sau-Nee or Iroquois، وقد أبرز مورجان في هذه الدراسة الكبيرة المبكرة النظام الأموي. وحينما نُشِر كتاب باخوفن بعد عشر سنوات، كانت هناك مشاركة فعلية في آراء مورجان وباخوفن من حيث دور ووظيفة النظام الأموي في التركيب الاجتماعي.
وكان اهتمام مورجان بنظم القرابة والنظم الاجتماعية والسياسية كبيرًا، فقام برحلات واسعة بين الأمريند، وأتبع ذلك بإرسال أسئلة إلى كثير من المبشرين في أنحاء العالم البدائي عن نظم القرابة والتنظيمات الاجتماعية للقبائل التي يقومون بالتبشير بينها. وإلى جانب ذلك استوعب مورجان كتاب السير هنري مين عن «القانون القديم» الذي نُشِر عام ١٨٦١. ونتيجة لكل هذه المعلومات والأبحاث أخرج مورجان موسوعته الضخمة التي نُشِرَتْ عام ١٨٧١ باسم «نظم القرابة الدموية وصلات القربى Systems of Consanguinity and Affinity of the Human Family»، وأخيرًا أصدر مورجان كتابه ذا الشهرة العالمية «المجتمع القديم Ancient Society» عام ١٨٧٨.
وقد أسهم مورجان في الكثير من البناء الإثنولوجي في مجال التركيب الاجتماعي ونظم القرابة، وكان أول من اكتشف نظام القرابة الطباقي Classificatory system، وهو ذلك النظام الذي تُسمَّى بمقتضاه مجموعة من الأقارب باصطلاح تصنيفي واحد: مثلًا الأب وأخوة الأب وأبناء عمومته يُسمَّون جميعًا «أب»، والأم وأخوات الأم يُسمَّين «أم»، وأبناء العم يصبحون «إخوة» … وهكذا. وقد وجد مورجان في هاواي هذا النظام ممثلًا أحسن تمثيل، وبمقتضاه يصبح الجيل الأعلى أبًا أو أمًّا، والجيل الأدنى أخوة وأخوات، وسماه مورجان بنوع القرابة الهاوائية (نسبة إلى جزيرة هاواي)، وكذلك سمى مورجان نظام القرابة الشائع في أوروبا وغيرها باسم القرابة الوصفية التي تصف فيها المصطلحات قرابة الشخص إلى آخرين وصفًا دقيقًا (العم – الخال – الخالة – العمة – ابن العم – ابن الخال … وهكذا).
وقام مورجان أيضًا بإضافات قيِّمة في دراسة نظام الزواج الاغترابي Exogamy وتنظيم العشائر.

ومن ناحية التنظير الإثنولوجي وجد مورجان أن نمط القرابة الهاوائي هو الدليل المادي على وجود مرحلة الشيوع في الزواج التي أعلنها باخوفن، واستنتج أن نظام الزواج في هذه المرحلة كان زواجًا جماعيًّا: مجموعة من الرجال تتزوج مجموعة من النساء، ثم تحول إلى نظام الزواج الأموي (زوجان ونسب أموي)، ثم النظام الأبوي (رجل وعدة زوجات)، وأخيرًا الزواج الأبوي الوحدوي (زوج وزوجة ونسب أبوي)، وبذلك فإن خير ما قدمه مورجان هو ربط أنماط القرابة بشكل الزواج ونمط الأسرة.

وقد تلا ذلك عند مورجان التنظيم العام التطوري للنظم الحضارية العالمية، كما ورد في كتابه المجتمع القديم. ويميز مورجان عدة مراحل أقدمها الوحشية Savagery، وفيها ثلاث مراحل فرعية، ومرحلة البربرية Barbarism، وتتميز بثلاث مراحل فرعية مرتبطة باختراع الفخار وباستئناس الحيوان ثم معرفة الزراعة، وأخيرًا مرحلة المدنية Civilisation التي تبدأ بمعرفة الكتابة وتتميز بنشأة الملكية الفردية والزواج الوحدوي.

ويرى مورجان أن الانتقال من مرحلة إلى أخرى قد تم بناءً على كشوف تكنولوجية هامة، وإلى مورجان يرجع الفضل في إعلان وتأكيد الترابط والتفاعل بين نظم الحصول على الغذاء، والنظم الاقتصادية، والتكنولوجيا، والتركيب الاجتماعي، والنظم القانونية. ولم يكن لمورجان جَلَد على تفسير النظم الدينية للقبائل المختلفة، وقد وصفها بأنها ديانات شاذة وغير مفهومة إلى حد كبير.

وفيما يختص بمبدأ التطور المحلي والانتشار، نجده لا يهتم بأي منهما كثيرًا إلا حينما يطرأ شكل من الأشكال المتشابهة بين الحضارات، حينئذٍ يلجأ إلى الأصل الواحد والهجرة البشرية، كتفسيره ارتباط أصول الزولو (جنوب أفريقيا) والتاميلي (جنوب الهند) والهاوائيين والأيروكويز في الماضي البعيد لإيجاد سبب لانتشار نفس نظم القرابة الطبقية.

ولقد تُرجِم كتاب «المجتمع القديم» إلى لغات كثيرة، وذاع صيته وانتشر بكثرة، واستخدمه فردريك إنجلز F. Engels٦ وكارل ماركس في تدعيم نظرية المادية التاريخية الماركسية.
أما إدوارد تيلور E. Tylor (١٨٣٢–١٩١٧) فهو ثاني بناة الإثنولوجيا الحديثة، وقد بدأ حياته العلمية برحلة إلى المكسيك عام ١٨٥٦، ولم يكن حاصلًا على شهادة جامعية، إلا أنه كان رئيس متحف الجامعة في أكسفورد، ومُنِح لقب أستاذ عام ١٨٩٦ بعد أن حصل على شهرة عالمية في ميدان البحث العلمي. ولم يقم تيلور برحلات أو دراسات ميدانية حقيقية مثل مورجان، لكنه كان دقيق الملاحظة، كما كان يدرس بعض الأشياء عند الصناع، مثل دراسة فن الخياطة أو سلخ الجلود عند القصابين. ولم يكن تيلور ينظر إلى الإثنولوجيا من زاوية معينة، ولم يتخصص في اتجاه معين مثل بعض زملائه (مثلًا جيمس فريزر وأندرولانج تخصصا في الفولكلور والديانات، وتخصص ريفرز في التنظيم الاجتماعي، وتخصص بت ريفرز وهادون في الفنون والتكنولوجيا). لكنه كان يدرس الموضوع الإثنولوجي متكاملًا مع اهتمامات بما قبل التاريخ واللغويات.
وأهم أعماله «أبحاث في التاريخ المبكر للإنسان ونمو المدنية» المنشور في لندن ١٨٦٥ Researchs into the Early History of Mankind and the Development of Civilisation.
ولكن كتابه العالمي الذي يرتبط باسمه أكثر من منشوراته الأخرى هو «الحضارات البدائية Primitive Culture» الذي نُشِر في لندن في جزئين عام ١٨٧١.

وكان تيلور أول من درس طرق إشعال النار عند البدائيين، وطريقة الطهو بالحجارة الساخنة عند الجماعات التي لا تعرف صناعات الفخار. كذلك كان ممن درسوا بعناية نظام الزواج الاغترابي المحلي ونظام الزواج مع أنساب الأم (ابن الخال أو الخالة)، وقد اتفق مع باستيان كثيرًا في مبدأ الفكر البدائي، وربط النمو الحضاري بوحدة الناس النفسية والتطور المحلي. وفي هذا يقول تيلور: إن الحضارة مثل النبات تتصف بالانتشار أكثر من أن تتطور. ويرى أن الناس قد أخذوا الكثير عن جيرانهم أكثر مما اخترعوا أو اكتشفوا بأنفسهم.

وفي هذا المجال يرى تيلور أن هناك عددًا كبيرًا من الاكتشافات التي نشأت في مكان واحد وانتشرت منه إلى أماكن العالم، مثال ذلك الفخار الذي انتشر في أمريكا من المكسيك، وكذلك القوس والسهم، والشطرنج الذي نشأ في الهند وانتشر في العالم وعبر المحيط الهادي إلى المكسيك. وكذلك يقول إن هناك ترابطات تاريخية ناجمة عن الانتشار الدائم للحضارة في صورة مجمعات حضارية.

ولكننا نرى في آراء وكتابات تيلور تناقضًا صريحًا بين اعتناقه مبدأ الانتشار الحضاري ومبدأ التطور المنفصل البسيط، نتيجة لاعتقاده بوحدة النفس الإنسانية، وأن انعكاساتها تصبح متشابهة تحت تأثير الظروف المتشابهة في أي مكان. فمثلًا يقول إن تشابه الناس في اعتقادهم بالحياة الآخرة راجع إلى أن الناس في أي مكان وزمان يحلمون دائمًا بأقربائهم وغيرهم الذين ماتوا، ومن ثم يتصورون أنهم يعيشون في حياة أخرى. كذلك كان يظن في البداية أن العناصر الحضارية ذات أصل واحد، لكنه يعود بعد ذلك إلى فكرة تعدد الأصول. مثلًا التحريم الخاص بالعلاقة مع «أم الزوجة» يرتبط بنظام الزواج الأمي المكان Uxorilocal، والتحريم الخاص بالعلاقة مع «أب الزوج» مرتبطة بنظام الزواج الأبوي المكان Virilocal. وليس ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن هذه التحريمات أو تلك قد نشأت في مكان واحد.
وعلى هذا يعتقد تيلور أن مبدأ الارتباط Adhesion بين بعض المظاهر في المجتمعات الحضارية هو أساس تفسير مثل هذه الظواهر دون حاجة إلى مبدأ الأصل الواحد، وقد حاول أن يطبق هذا المبدأ على أسس إحصائية فيقول: ما هو تكرار التحريم الخاص بأم الزوجة في حالات الزواج الأمي المكان؟ أي ما هي درجة الارتباط بين الظاهرة والمجمع الحضاري.
ومجموع أفكار تيلور تضعه في مصاف أنصار التطورية البسيطة: من أسفل إلى أعلى، ومن البسيط إلى المركب، ومن اللامعقول إلى المعقول،٧ ومن ثم فإنه أرَّخ للنظم الحضارية تأريخًا تطوريًّا، فالنظام الأموي أقدم من النظام الأبوي، وطقوس الكوفاده — مهد الرجل — (المشار إليها آنفًا) مرحلة وسط في التطور تختلط فيها النظم الأموية والأبوية. ومن ثم فإن بقاء طقوس الكوفاده داخل النظام الأبوي عبارة عن «بقايا Survival» حضارية تشير إلى شكل حضاري قديم. والملاحظ أن تيلور في تصويره للتطور الحضاري قد ارتبط بشدة بآراء باستيان في التطور الميكانيكي البسيط، ومن ثم فبرغم النتائج القيِّمة التي توصل إليها فإن تيلور قد طغى عليه الاعتقاد بأن تفكير الإنسان ورغباته ونشاطه تتفق مع قوانين محددة كتلك التي تتحكم في حركة الأمواج ونمو النبات والحيوان، وبذلك ألغى تيلور الاختلافات الحقيقية وبسطها في تطور بسيط، وهو — على هذا النحو — لا يحس بوجود مشكلات معينة في تحديد تدرج العقائد والعادات.
ومن الأمثلة على النظرة التطورية عند تيلور: نظرية الإحياء (إعطاء شكل الحياة لأشكال جامدة أو غير مدركة إدراكًا عقليًّا) Animisim، وهي النظرية التي أسسها تيلور لتفسير الديانة وتطورها العالمي. لقد بدأت الديانات عنده بالاعتقاد في الأرواح التي يستحييها في أشكال شتى من الحياة الطبيعية، ثم تطورت إلى أرواح السلف ثم إلى فكرة الإله العالي في المدنية، وتبدو هذه النظرية منطقية وتجد تأييدًا كبيرًا لهذا السبب.
وفيما بين العملاقين مورجان وتيلور نجد عددًا من العلماء الإثنولوجيين المعاصرين لهما، على رأسهم سير هنري مين H. J. S. Maine (١٨٢٢–١٨٨٨) أستاذ القانون في كمبردج الذي نشر في ١٨٦١ كتابه «القانون القديم Ancient Law»، وبذلك فهو مؤسس علم القانون المقارن، وبرغم أنه عاش موجة التطورية في أوجها؛ إلا أنه رفض التطورية تمامًا وأكد دور الانتشار الحضاري في تاريخ الحضارات العالمية. أما ماكلينان J. F. Mclenan (١٨٢٧–١٨٨١)، فكان من أنصار التطورية، ونشر أبحاثه في كتاب باسم «دراسات في التاريخ القديم» عام ١٨٧٦، وفيه الكثير من آراء مورجان وتيلور، ولكن ماكلينان هو الذي اكتشف التفريق بين الزواج المغترب والزواج الداخلي والزواج بالخطف، ودراسته للنظام الطوطمي Totemism على أنه نظام اجتماعي أيديولوجي واسع الانتشار. ويجيء بعد ذلك هربرت سبنسر H. Spencer الاجتماعي الإنجليزي المشهور (١٨٢٠–١٩٠٣)، وقد ميز بين النمو المحلي للحضارة Development والتطور العام للحضارات Evolution: وهو يرى أن النمو المحلي راجع إلى الأعمال الفردية للأشخاص (وجهة نظر ليبرالية)، وأن التطور راجع إلى عوامل خارجية بيئية وحضارية.

(٢) اتجاهات البحث والمدارس الإثنولوجية

بعد الطفرة التي حدثت في الكتابات الأنثروبولوجية والإثنولوجية، وتجمع عدد كبير من المعلومات نتيجة الدراسات العملية والنظرية التي قام بها رواد الإثنولوجيا؛ نجد أنه قد أصبح واضحًا منذ بداية هذا القرن وجود عدة اتجاهات في الدراسة ارتبطت بها عدة مدارس إثنولوجية، ويمكن أن نلخص هذه الاتجاهات في أربعة اتجاهات هي: التطورية، النفسية، الوظيفية، الانتشارية أو التاريخية، وأخيرًا التحضيرية.

(٢-١) الاتجاه التطوري Evolution

أقدم هذه الاتجاهات هو الاتجاه التطوري Cultural Evolution الذي ظهر واضحًا وجليًّا في كثير من كتابات الرواد الأولى، وعلى الأخص في كتابات مورجان وتيلور وباستيان. ولا شك أن ذلك الاتجاه قد ظهر ونما بتأثير ظهور نظرية التطور الداروينية، التي أثرت كثيرًا على أغلبية العلوم والمعارف الإنسانية في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي.
وملخص آراء التطوريين هو أن تاريخ الإنسانية والحضارة يمثل خطًّا متصاعدًا من العادات والعقائد والتنظيمات والأدوات والآلات والأفكار، وأن ذلك الخط المتصاعد البسيط من أسفل إلى أعلى متشابه في أجزاء العالم نتيجة الوحدة النفسية للإنسان في كل مكان وزمان. وفي هذا المجال نلاحظ أن كل التطوريين قد رفضوا بشدة فكرة اختلاف القدرات الإنسانية على أنها راجعة إلى اختلافات وراثية سلالية. وبعبارة أخرى، كان التطوريون من أشد مناهضي النظريات العنصرية. ولقد أوضح كل الإثنولوجيين التطوريين فكرة التطور البسيط هذه، على أساس أن المجموعات البشرية البدائية المعاصرة تمثل المراحل الأولى للتطور الإنساني، لكنها ما زالت تعاصرنا في عالمنا الراهن، وكذلك اعتقد التطوريون أن وجود بعض «البقايا» الحضارية Survivals عند كل المجتمعات هي تعبير ودليل على أن هذه المجتمعات قد مرت بمراحل حضارية سابقة.

ولقد وُجِّه نقد شديد إلى فكرة التطور البسيطة، كما أثبتت الدراسات الإثنولوجية اللاحقة أن الكثير من النقل الحضاري بين الجماعات المختلفة بواسطة الانتشار والهجرة الحضارية والبشرية قد أسهم بصورة أكبر في تطور الحضارات عما اعتقد التطوريون الأول. كذلك فإن المنهج المقارن الذي أكد عليه تيلور في تأكيده للتطور البسيط، عبارة عن دراسة لعناصر حضارية غير مترابطة، بينما يجب أن ندرس جميع العناصر الحضارية كوسائل مترابطة للحياة عند أي مجموعة بشرية. فالحضارة ليست تجميعًا لعناصر مفردة، بل مجموعة التفاعلات والترابطات بين عدد من العناصر.

وكذلك هُوجِمَتْ فكرة المراحل التاريخية التي ذكرها لويس مورجان على أنها مراحل مفتعلة ونظرية، ولا يوجد ما يؤيدها من الأدلة الواقعية. وبرغم النقد الذي يُوجَّه إلى التطورية؛ فإننا نجد عددًا من الإثنولوجيين لا يزالون من أنصار هذه المدرسة، مع كثير من التعديل والتطوير، وعلى رأس هؤلاء لزلي هوايت الذي يؤكد أن نقَّاد التطورية قد خلطوا بينها وبين التاريخ الحضاري للناس، كما يستبعد هوايت دراسة السلوك الإنساني كموضوع الدراسة الحضارية، ويطالب بأن تخضع الحضارة لدراسة علم حضاري Culturology وليس سلوكيًّا أو نفسيًّا.٨ وفضلًا عن هذا فإن التطوريين لم يرفضوا فكرة الانتشار الحضاري. فمورجان أحيانًا يصبح انتشاريًّا متطرفًا (مثل فكرة الربط بين النسب الأموي في أماكن جغرافية متباعدة، بغض النظر عن العلاقات المكانية)، وتيلور أيضًا لا يرفض الانتشارية في كثير من المواقف. ويؤكد لزلي هوايت (١٩٤٥) أن التطوريين لم يرفضوا الانتشارية، ولكن التطورية لا تسأل لماذا تتغير الحضارات؛ فهو مجال التاريخ، وإنما تسأل كيف يتم التغير الحضاري؟

ولزلي هوايت في موقفه الأساسي يبدو كما لو كان يعيد صياغة آراء لويس مورجان ومراحله الحضارية، على أساس التقدم العلمي وما وصله العلم الراهن من معلومات هائلة عن المجتمعات الإنسانية القديمة والبائدة والحديثة، إلى جانب الدراسات المختلفة في النواحي الاقتصادية والاجتماعية ومجمل النواحي الإنسانية.

يعيد هوايت فكرة المراحل الحضارية من خلال قوة دافعة محركة للتطور؛ هي الطاقة. فعهد الوحشية يتميز بأن الإنسان كان يعيش على طاقته العضلية فقط: جمع الغذاء النباتي والصيد البري والسماكة. وحينما استأنس النبات والحيوان استطاع أن يحصل على طاقة أعلى من طاقته العضلية، وأن يتحكم في طاقة الإنبات بدلًا من الاعتماد على الطاقة الطبيعية للنمو النباتي، وهكذا فإن زيادة الطاقة قد أدت إلى انتقال الإنسان من مرحلة الوحشية إلى البربرية. وهنا يرى هوايت أن هناك جماعات ظلت في مرحلة الوحشية، حتى برغم انتقال الإنسانية إلى مرحلة المدنية المعاصرة. والأهمية التي يعلقها هوايت على ذلك هي أن المراحل التي يذكرها لا تمثل مرحلة محددة في التاريخ، لكنها مرحلة من مراحل التطور الحضاري نجدها متمثلة في أي فترة تاريخية قديمة أو معاصرة حسب الظروف الحضارية المختلفة. وبذلك فإن هوايت ينفي فكرة المرحلة من الحتمية التاريخية ويجعلها ممكنة في أي فترة زمنية، وهذا بدون شك إضافة توضيحية لموقف التطورية في الحضارة الإنسانية عامةً.

وكذلك يضيف هوايت: «أن التطور الاجتماعي ينجم عن التطور التكنولوجي، ولكن في الوقت الذي تعتمد فيه الأنظمة الاجتماعية على الشكل التكنولوجي الذي أوجدها؛ فإنه لا شك أن الأنظمة الاجتماعية بدورها تتحكم في تشغيل الأنظمة التكنولوجية التي تعتمد عليها. وعلى هذا فالعلاقة مشتركة لكنها ليست بالضرورة متساوية الفعالية في التأثير والتأثر؛ فقد يؤدي نظام اجتماعي إلى تنمية وتشغيل تكنولوجيته أو قد يشل هذا التشغيل ويبطئ سيره أو يخنقه.»٩ وحينما يفرض النظام الاجتماعي قيودًا على نمو النظام التكنولوجي، فإن التطور الحضاري يتوقف، ولا يمكن تجديد التطور إلا بالحصول على مصدر جديد للطاقة بالحجم الذي يستطيع أن يطيح بالنظام الاجتماعي الذي يقيد النمو التكنولوجي. وينجم عن التكنولوجيا الجديدة نظام جديد يتناسب مع نموه، ومن ثم يتحرك موكب الحضارة من جديد. ولعل أوضح مثال لما يشير إليه هوايت هو الثورة الفرنسية أو الثورة البلشفية، وكلاهما مؤرخ بما لا يدع للشك، ولعل الدراسات الأركيولوجية والإثنولوجية في مجتمعات الحضارات العليا القديمة تعيد تأكيد هذا التركيب التطوري للحضارة في الماضي.

وبغض النظر عن أخطاء التطورية القديمة ومغالاة التطورية الجديدة في استبعاد العامل النفسي في الدراسة الحضارية؛ فإن التطورية قد أعطت للإثنولوجيا عددًا من النقاط الهامة في المنهج وفي تكوين العلم؛ ذلك أن أبحاث التطوريين قد ساعدت على تطوير وتحديد مفهوم مصطلح «الحضارة» بالمعنى الذي نفهمه منها الآن، كما ساهمت في فصل مصطلحي «الحضارة» و«السلالة» فصلًا واضحًا بعد أن كان اللبس بينهما قائمًا بصفة مستمرة. كذلك أعطى التطوريون للإثنولوجيين الأقسام المختلفة التي تتكون منها الحضارة، والتي نسميها الآن المظاهر أو العناصر الحضارية، واتضحت من حقول دراساتهم أهمية دراسة هذه العناصر ومشكلاتها مستقلة عن بعضها البعض، وأخيرًا فإنهم أيضًا قد أعطوا للإثنولوجيا مفهوم «الاستمرار» في الحضارة والنمو المستمر المنتظم للعناصر الحضارية.

ولا شك أن الاتجاه التطوري في الدراسة الحضارية أمر لا يمكن إنكاره، فغير واقعي أن ننكر وجود مراحل أو طبقات تاريخية سابقة داخل الحضارة، وخاصة في الجانب المادي من المنتجات الحضارية؛ حيث تظهر أشكال قديمة وحديثة من الإنتاج تعبر عن تطور واضح. وفي الوقت الذي يعترف فيه كثيرون من الإثنولوجيين الأمريكيين وبعض الأوروبيين بهذه الصورة من التطورية في المجال المادي من الحضارة، نجدهم يتساءلون في تشكك: وما قيمة الحصول على صورة تطورية في نظام النسب على سبيل المثال؟! ما هي أهمية أن نعرف أن نظام النسب الأموي كان سائدًا في الماضي، ثم تطور النسب الأبوي؟! وبغض النظر عن القيمة العلمية المعلقة على معرفة أشكال النسب أو نظم الزواج أو أشكال العقائد في الماضي؛ فإن اعتراضات هؤلاء العلماء غير مفهومة علميًّا. وبما أن الحضارة كلٌّ متفاعل مترابط كما هو متفق عليه، فكيف نوافق التطوريين حينما يطبقون منهجهم في الجوانب المادية من الحضارة ونعارضهم حينما يتتبعون النظم الاجتماعية بالدراسة التطورية؟! وفوق ذلك: أليس نمط النسب أو شكل الأسرة مرتبطًا بمجموعة كبيرة من القوانين والاعتيادات الحضارية، مثل نظام الوراثة وقوانين الملكية والنظم القضائية من بين أشياء أخرى كثيرة؟

والراجح أن كثيرين من الإثنولوجيين في أوروبا الغربية وفي أمريكا، قد تكونت لديهم حساسية خاصة تجاه التطورية بعد أن أصبحت هذه التطورية الحضارية جزءًا لا يتجزأ من الماركسية من ناحية والنظرة المادية للأشياء من ناحية ثانية. ومن ثم كان الهجوم على التطورية لا يعني الهجوم على المنهج هجومًا بنَّاءً، وإنما هجوم تقليدي يرفض فكرة التطور برغم ثبات هذه الفكرة حتى الآن.١٠ صحيح أن الكثير مما قاله التطوريون الأُوَل لم يَعُدْ صالحًا بعد تقدم الدراسات والكشوف العلمية في ميادين العلوم الإنسانية، ولكن المبدأ التطوري قائم، وهو أوضح ما يكون في الدراسات الحضارية للعصور السابقة للتاريخ نتيجة لاستمرار الكشوف الأركيولوجية في مناطق عديدة من العالم، وعلى رأس علماء ما قبل التاريخ الذين يدافعون عن التطور الحضاري في الوقت الحاضر: الأستاذ جوردون تشايلد.١١

(٢-٢) الاتجاه النفسي في الإثنولوجيا

بدأ هذا الاتجاه بالدراسات التي قدَّمَها العالم النفسي سيجموند فرويد S. Freud، وأضاف إليها روهايم Roheim الكثير بدراساته عن الأستراليين الأصليين، ولم يؤسس فرويد مدرسة تحليل نفسي في الإثنولوجيا، لكنه حاول أن يفسر الكثير من الشكل الحضاري على ضوء الفترة الأولى للطفولة، وما يترتب عليها من تكوين شخصية الفرد. والعقدة الأساسية في أبحاث فرويد هي «عقدة أوديب» التي يعبر بها عن الكره والحقد الذي يُكِنُّه الابن لأبيه منذ الطفولة وفي مرحلة البلوغ. وقد نشر فرويد عام ١٩١٣ كتابه المشهور «الطوطم والمحرم Totem and Taboo»، الذي يمكن أن نعده المحاولة الوحيدة من جانب فرويد في الدراسات الحضارية والإثنولوجية عامةً، وفي هذا الكتاب خلاصة لآراء فرويد عن نشأة العقائد والأديان، فهو يفترض وجود جماعة بدائية تعيش تحت سطوة أب قاسٍ يحتكر كل نساء المجموعة مما أدى بالشبان إلى الانحراف، ثم أدى بهم الحقد إلى التجمع وقتله سويًّا، وتترك الجريمة في نفوس الأبناء شعورًا بالجرم لا يمكن تناسيه، ومن خلال إلحاح الجريمة ومحاولة التطهر منها يروي فرويد القوى الدافعة في تاريخ الإنسانية وتطور الأديان.
وبرغم أن هذا هو الكتاب الذي يحتوي على الكثير من المادة الإثنولوجية من بين ما كتبه فرويد، إلا أنه هُوجِم بشدة ورُفِض من جانب الإثنولوجيين. وقد كان مالينوفسكي — العالم الإثنولوجي البريطاني — أكثر من وجَّه النقد إلى هذا الكتاب. فعقدة أوديب تفترض العداء بين الابن والأب، بينما في المجموعات البدائية التي تعيش على أساس النسب الأموي يجد مالينوفسكي عداء الأبناء موجهًا إلى الخال،١٢ وفي هذه المجتمعات يصبح الخال الأب الاجتماعي. وبعبارة أخرى فإن العداء يكون موجهًا إلى الأب البيولوجي أو الاجتماعي، ومن ثم تسقط أسس نظرية فرويد؛ لأن العداء عند فرويد مرتبط بالجنس، ولا توجد مثل هذه العلاقة بين الأم والخال (الأب الاجتماعي).

ولهذا فإن النقد الأساسي الذي وُجِّه إلى مدرسة التحليل النفسي، هي أنها قامت على أساس ممارسات واعتيادات الحضارة الغربية كما وجدها ودرسها فرويد، وبالتالي لا يمكن تطبيقها على المجتمعات غير الأوروبية. وكذلك توجه انتقادات كثيرة إلى استخدام منهج رور شاخ في الدراسات النفسية التي تحدث على الجماعات البدائية؛ لأنه أيضًا يُبنَى على أساس ما هو موجود في الحضارة الغربية.

وبرغم ذلك فإن الاتجاه النفسي في الدراسة الحضارية يجد تقبلًا واضحًا ينعكس في الدراسات التي يقوم بها عدد من الإثنولوجيين عن مرحلة الطفولة، وتكوين الشخصية، وتحليل الأحلام، وتحليل مطول للتاريخ الشخصي (التراجم) Autobiography لعدد من أعضاء الجماعات البدائية، وكلها اتجاهات جديدة في الدراسة الحضارية. لكن الخطورة الوحيدة هي تلك التي تكمن في أن تسجيل وتحليل كل هذه المظاهر يتم على أسس ومناهج مستمدة من الحضارة الغربية، ومن ثم فإن بعض المظاهر التي تُسجَّل قد يكون لها أهميتها عند الدارسين، وهي في واقع الأمر مظاهر عارضة ليس لها هذه الأهمية عند البدائيين أو غير الأوروبيين. ومن الأمثلة على ذلك أن لي-آن-شي Li-An-Chi الإثنولوجي الصيني — بحكم صفاته الجسدية المغولية المشابهة للأمريند — استطاع أن يحصل على صورة مغايرة تمامًا للصورة التي أعطاها «الزوني Zoni» (من قبائل جنوب غرب الولايات المتحدة) للدارسين الأمريكيين.١٣
وفي الوقت الحالي توجد ثلاثة اتجاهات نفسية في الإثنولوجيا؛ هي:
  • (١)
    التضاريس الحضارية Cultural Configuration: وهو اتجاه إثنولوجي صرف، يهتم أساسًا بالتنظيمات الحضارية المختلفة في صورة الأنماط والقوالب — كما سبق أن ذكرنا — ومن خلالها تتكون شخصية المجموعة. ومن أهم أنصار هذا الاتجاه: روث بنديكت R. Benedict، ومرجريت ميد M. Mead، وإدوارد سابير E. Sapir. وثلاثتهم من الإثنولوجيين الأمريكيين، ويميل هؤلاء إلى الاعتقاد بأن شخصية الفرد تتشكل وتذوب في شخصية الجماعة.
  • (٢)
    الشخصية المنوالية Modal Personality: ويركز هذا الاتجاه على انعكاسات الفرد على الحضارة التي يُولَد فيها، وبذلك فإن التركيز هنا على الفرد وليس على الحضارة. ويستخدم هذا الاتجاه التحليل النفسي، وهو بذلك يرتبط كثيرًا بمبدأ فرويد الأساسي، ويبتعد عن الدراسة الإثنولوجية للحضارة.
  • (٣)

    دراسة الشخصية بواسطة الاختبارات المختلفة، وهذا اتجاه نفسي صرف، وقد يساعد في بعض نواحي الدراسة الإثنولوجية للحضارة والفرد.

ولا شك أن دراسة الحضارة في احتياج إلى مزيد من المعرفة عن الفرد والشخصية، لكن يجب أن تكون هناك حدود للاهتمامات بين الإثنولوجيا والدراسات النفسية، بحيث لا تطغى مشكلة الفرد والشخصية على الدراسة الحضارية؛ فإن الاتجاهات النفسية القديمة والمعاصرة في الإثنولوجيا لم تضع منهجًا يمكن الركون إليه في تفسير الحضارة الشامل؛ لأنها تنظر إلى الموضوع من زاوية واحدة.

(٢-٣) الوظيفية في الإثنولوجيا Functionalism

إن الاتجاه إلى دراسة الوظيفة داخل الحضارة اتجاه عام قديمًا وحديثًا، والغرض الأساسي من الدراسة الوظيفية في الحضارة هو إيجاد الروابط المختلفة التي تتشكل وتتفاعل معها مجموعة عناصر الحضارة، وقد قام عدد من الإثنولوجيين بهذه المهمة قبل أن تصبح الوظيفية اتجاهًا ذا صفات خاصة في الإثنولوجيا الإنجليزية. ومن أمثلة ذلك أبحاث ريفرز W. H. Rivers (أحد رواد الإثنولوجيا البريطانية) على الميلانيزيين (١٩٠٦، ١٩١٤). وقد حاول ريفرز أن يربط الميلانيزيين بالحضارات المحيطة متتبعًا العلاقات الوظيفية في مفردات الحضارة.
لكن الوظيفية البريطانية بدأت بمقالات عدة كتبها برونسلاف مالينوفسكي B. Malinowski، كان أولها عام ١٩٢٦ في دائرة المعارف البريطانية، واختتمها بكتابه عن نظرية الحضارة عام ١٩٤٤.١٤ وفي سنة ١٩٣٥ بدأت الوظيفية البريطانية تتخذ شكلًا نظريًّا متكاملًا في صورة مقال نشره راد كليف براون A. R. Radcliffe-Brown.١٥

ومن خلال أبحاث مالينوفسكي عن منطقة المحيط الباسيفيكي بدت له الحضارة في صورة كم حي متفاعل، وأخذ يتضح له أن لكل وحدة ومظهر من مظاهر الحضارة معنًى ومفهومًا من خلال وظيفته وعلاقته ببقية المظاهر الحضارية الأخرى. وانتهى مالينوفسكي إلى أن هناك عددًا من الاحتياجات الفردية في مقابلها استجابة من جانب الحضارة. وقد عدَّد سبعة احتياجات أساسية من أهمها: التكاثر والأمان والحركة والنمو، وفي مقابلها استجابات الحضارة: نظام القرابة والحماية والنشاط والتدريب. وهناك مجموعة من الاحتياجات الأخرى يسميها مالينوفسكي الملزمات الحضارية، ويقابلها استجابة حضارية أيضًا. مثال ذلك: أن الأدوات والسلع المنتجة يجب أن تُنتَج وتُستخدَم وتُصان وتُجدَّد بواسطة إنتاج جديد. إن مجموعة الملزمات هذه يقابلها في الاستجابة الحضارية التنظيم الاقتصادي، وبالمثل تستجيب الحضارة بالضوابط الاجتماعية لمقابلة ملزمات حضارية من نوع آخر؛ كالسلوك الإنساني في ميادين العادات والتقاليد والقوانين، وكذلك تستجيب لمجموعات أخرى من الملزمات بالتعليم والتنظيم السياسي.

وعند راد كليف براون نجد الوظيفية تأخذ طابعًا نظريًّا متكاملًا مستمدًّا مباشرةً من العالم الفرنسي إميل ديركهايم. ويقول براون: إن الوظيفة هي نتيجة للنشاط، ومن ثم فهي عملية مستمرة. ويرى أن مفهوم الوظيفة يتضمن التركيب الاجتماعي، وأن عملية الوظيفة في الحضارة تؤدي إلى المحافظة على التركيب الحضاري وتساعد على استمرارية الحضارة. وينتهي براون إلى فكرة الوحدة الوظيفية، وهي فكرة نظرية بحتة. ويرى براون أن نتائج الدراسة الوظيفية تنتهي إلى أن درجة الوحدة الوظيفية بين التكامل والتعارض في المجتمعات المختلفة هي المقياس الموضوعي في الدراسة الحضارية. وأهم ما ركز عليه براون في الاتجاه الوظيفي هو: (١) أن التركيب معادل ومرتبط بالوظيفة. (٢) فكرة الوظيفية الاجتماعية في مقابل فكرة الاحتياجات الأساسية عند مالينوفسكي؛ فالوظيفة عند مالينوفسكي مرتبطة باحتياج الفرد، بينما هي عند براون مرتبطة باحتياجات المجتمع.

وقد لخص فورتس في مقاله عن الأنثروبولوجيا الاجتماعية أسس المدرسة الوظيفية الإنجليزية بقوله: «… وكل عادة (أو نظام) مهما كان تاريخها، لها قيمتها ووظيفتها في علاقاتها بالنظام العام. وبعبارة أخرى: إن «الوظيفية» هي وسيلة للتوصل إلى نتائج خاصة وجماعية في حدود رسمتها البيئة وأحداث التاريخ والتركيب البيولوجي للإنسان والحاجة إلى إقامة حياة اجتماعية منظمة. وينتج عن ذلك أنه لا يمكن فهم عادة ما فهمًا كاملًا، إلا خلال نشاطها وعلاقات الأفراد والمجموعات.»١٦
ولا شك في أن للمدرسة الوظيفية — بما دخلها من مساهمات كبار الأنثروبولوجين الإنجليز أمثال: سليجمان، إيفانز برتشارد، فورتس، فيرث جلوكمان، شابيرا، وغيرهم — فضلًا كبيرًا في توجيه العناية إلى دراسة نظم القرابة وتصنيفها وتقنينها، إلى جانب الكثير من المونوجرافات الإثنوجرافية. لكن التركيز الشديد على ناحية واحدة من نواحي التنظيم الاجتماعي؛ أي نظم القرابة والزواج، ليس كل شيء في الحضارة، وادعاء فورتس أن هذه الناحية تكوِّن «الحضارة كلها لمجموعة ما مبرزة في إطار نظري.»١٧ لا يوافقه عليه غالبية الإثنولوجيين.

ولقد أوجد براون الكثير من الشبه بين الوظيفية الحضارية والوظائف البيولوجية، ومن ثم فإن المجال المناسب لدراسة الحضارة كجهاز عضوي هو دراسة التركيب، وليس دراسة نمو أو تطور الحضارة. فإن كانت الوظيفية كذلك؛ تشريح وفسيولوجيا اجتماعية، فإنها برفضها المطلق والصريح لكل الأفكار التطورية والتاريخية تصبح علمًا ناقصًا؛ لأن علم الحيوان أو النبات لا يقتصر على التشريح ووظائف الأعضاء فقط، بل يدرس الأصول وعوامل النمو. والملاحظ أن كل الوظيفيين قد تركوا جانبًا الأصول التاريخية أو التغيرات التي تطرأ على المجتمع أو العلاقات المتبادلة بين الحضارات، وبذلك فإن دراساتهم — برغم جودتها — ليست إلا قطاعات في الحضارة، ولا تشمل الحضارة ككل؛ لأنها تطرح جانبًا مشكلات التغير الحضاري والعلاقات الجغرافية والتاريخية.

والواضح أن الوظيفية كانت تبتعد كثيرًا عن الإثنولوجيا وتتجه بشدة إلى ما تسميه «الاجتماعية النظرية». ويظهر ذلك من كتابات راد كليف براون المتأخرة،١٨ ومن اتجاهات فيرث وتالكوت بارسونز وغيرهم. وقد أثار ذلك الاتجاه هجومًا على المدرسة الإنجليزية من جانب كثير من الإثنولوجيين في أوروبا وأمريكا. ومن أمثلة ذلك مقال مردوك١٩ الذي أثار عدة نقاط، منها أن هذه المدرسة نادرًا ما تستفيد بمؤلفات الإثنولوجيا الأمريكية أو الأوروبية، بل تتقوقع على نفسها ونظريتها، وأنها مدرسة غير تاريخية في موقفها؛ لأنها تقصر همها على بحث التفاعلات الوظيفية في الجماعات القليلة التي تدرسها المدرسة، ويُرَدُّ ذلك إلى موقف براون منذ أواسط ثلاثينات هذا القرن. كما يُلاحَظ أن هذه المدرسة لا تهتم بالنواحي النفسية برغم أن أحد مؤسسيها — مالينوفسكي — قد بحث كثيرًا في علاقات الأفراد والمجتمع، ويهاجم مردوك رأي براون القائل بإمكان التوصل إلى قوانين عالمية تخضع لها المجموعات القبلية نتيجة دراسة دءوبة لعدد قليل من الجماعات، ويخلص مردوك إلى القول بأن هذه المدرسة يجب أن تُوضَع في صف واحد مع علماء الاجتماع في عشرينات هذا القرن.
ونتيجة لكثير من النقد، ولتطور وصقل المبادئ والمناهج، والمؤتمرات الدولية، وعوامل أخرى كثيرة؛ نجد أن المدرسة الوظيفية قد قللت كثيرًا من تطرفها، ويتضح ذلك جليًّا من مقال رايموند فيرث R. Firth عن الوظيفية عام ١٩٥٥؛ إذ يقول إن كلمة الوظيفية لم تعد تظهر كثيرًا في الآونة الأخيرة، وإن كانت الكتابات الأنثروبولوجية تتضمن أبحاثًا عن المنهج الوظيفي. «وقد ظهر في الفترة الأخيرة (أوائل الخمسينات) نقص في الاهتمام بإعادة النظر في مفهوم «الوظيفية»، وإن كان هناك استعداد لاستخدام الأفكار التي طورتها «الوظيفية»، إما مع استخدام المصطلح «الوظيفي» أو عدم استخدامه … ويبدو أن النقاش قد تعدى المعارك اللفظية المجدبة عن معنى الوظيفة إلى تكوين اقتراحات وافتراضات أكثر صقلًا وموضوعية تستخدم أفكار «الوظيفية» أو على الأقل روحها.»٢٠
كذلك أعرب إيفانز برتشارد عن اعتقاده بضرورة وجود مدخل تاريخي في الدراسة الأنثروبولوجية،٢١ وبالمثل يظهر ذلك في أبحاث شابيرا الأخيرة حينما يجد أن المدخل التاريخي لمجموعة قبائل تسوانا (في دولة برتسوانا بجنوب أفريقيا) التي يدرسها ضروري لفهم وجود تركيبات طباقية ثلاثة في هذا المجتمع.٢٢

(٢-٤) الانتشارية في الإثنولوجيا Diffusion

هذا المبدأ هو أكثر المبادئ انتشارًا في الكثير من الفكر الإثنولوجي منذ أوائل هذا القرن حتى الآن، ولأنه مبدأ مقبول فقد تعددت صورة الانتشارية بين الأنثروبولوجيين في العالم تعددًا كبيرًا ارتبط بالمدارس الإثنولوجية المختلفة. فالانتشارية في عمومياتها تحاول إيجاد حلقات لربط الحضارات معًا نتيجة تفاعلها في المكان الجغرافي، وعلى البعد الزمني. ومن ثم فإن الانتشارية تدين أيضًا بالمبدأ التاريخي في علاقات الحضارات بعضها بالبعض الآخر؛ ولهذا أيضًا كان هناك سعي عند الكثيرين من أصحاب المبدأ الانتشاري في الحضارة إلى محاولة كتابة التاريخ الحضاري للناس، وهذه هي النقطة التي تجاهلها أصحاب الاتجاه النفسي في خلال تحيزهم لفكرة أن الدوافع واحدة عند كل الناس، ومن ثم فالتركيبات الحضارية تنبع من داخل الناس دون إمكانية تلقي دوافع أخرى خارجية. وكذلك تجاهل الوظيفيون التاريخ الحضاري للناس معتمدين على فكرة أن الدوافع تنزع إلى الاختلاف عند الناس، ومن ثم تختلف أيضًا التركيبات الحضارية دون إمكانية تلقي دوافع خارجية.

ونظرًا لكثرة الاتجاهات الانتشارية واختلاف مدارسها في العالم؛ فإننا سنحاول أن نركز الدراسة في عدد من المدارس، هي:
  • (١)

    المدرسة المصرية أو المدرسة الشمسية، وهي عبارة عن اتجاه أسسه بعض العلماء الإنجليز.

  • (٢)

    مدرسة التاريخ الحضاري أو المدرسة الألمانية النمساوية، وقد اشتُهِرَتْ في أواسط هذا القرن باسم مدرسة فيينا.

  • (٣)

    الاتجاهات الانتشارية عند بعض الأنثروبولوجيين خارج ألمانيا والنمسا.

أولًا: المدرسة المصرية

وتُسمَّى أحيانًا المدرسة الشمسية Heliolithic School نسبة إلى إله الشمس المصري، وقد بدأ هذا الاتجاه الانتشاري السير جرافتون إليوت سميث G. Elliot Smith أستاذ التشريح المعروف، وقد قاده تشريح المخ إلى دراسة المومياءات المصرية في مستشفى «القصر العيني» في القاهرة في أوائل هذا القرن، وقد أدى به الأمر إلى دراسة العادات الجنائزية في مصر الفرعونية، كما تأثر بشدة بالحضارة المصرية في مجموعها. وبعد دراسته للمتشابهات الحضارية المصرية خارج مصر Ethnographic Parallels، انتهى إلى الاقتناع بأن مصر كانت مركزًا للحضارة، ومنها انتقلت إلى الخارج عناصر حضارية كثيرة. ولم يكتفِ بأن يعود بأصل المتشابهات في حوض البحر المتوسط والشرق الأوسط وأفريقيا والهند إلى الحضارة المصرية، بل وأصَّل تتبعه لما اعتقده التأثير الحضاري المصري إلى إندونيسيا وعالم المحيط الهادي والأمريكتين. وقد ظهرت آراء سميث في كتابه المشهور «هجرة الحضارات Migration of Culture» الذي نشره في عام ١٩١٥.
وفي الوقت نفسه وقع الأستاذ بري W. J. Perry تحت تأثير إليوت سميث؛ فقام بدراسات أعم وأشمل أصدرها في كتابه الضخم الذي عنوانه «أبناء الشمس Children Of The Sun» الذي نشره في عام ١٩٢٣، وفي هذا الكتاب يحدد بري عنصرًا حضاريًّا واحدًا مسيطرًا على معظم مُجمع الحضارة المصرية؛ هذا هو الاعتقاد في ألوهية الملوك أبناء الشمس، وبالتالي عبادة الشمس. وإلى جانب ذلك اهتم بري بعدة عناصر حضارية مصرية في توزيعها العالمي؛ مثل: عمل المومياء، بناء الأهرام، القيمة المعطاة من جانب المصريين القدماء إلى المعادن النفيسة كالذهب واللآلئ باعتبارها مانحة للحياة المديدة،٢٣  الحضارة الميجاليتية Megalthic (وهي عبارة عن البقايا الحجرية الضخمة للأبنية القديمة التي لا يُعرَف أصلها على وجه الدقة).
وبرغم ما قدمته هذه المدرسة من أفكار انتشارية، إلا أن العيب الأساسي تركَّز في أنها كانت تأخذ الشكل ولا تربطه بالوظيفة أو المضمون الحضاري. فمثلًا بناء الأهرام في مصر والمكسيك يمكن اعتبارهما متقاربين من حيث الشكل، ولكنهما مختلفان من حيث الوظيفة: فالهرم المصري مقر أبدي لرفات الملك، وترتبط به عدة أبنية جنائزية ومعبد، بينما الهرم في المكسيك مكان للعبادة في أغلب الأحوال. كذلك اعتمدت المدرسة المصرية في تفسير الحضارات اعتمادًا أساسيًّا على الانتشار الحضاري والاستعارة الحضارية من مصر، ولم تترك مجالًا كبيرًا لنمو الحضارات مستقلة في كثير من عناصرها، وتكاد أن تحرم الإنسانية في أجزاء العالم الأخرى (غير مصر) من إمكانية الإبداع والاختراع. كذلك يهاجم جوردون تشايلد فكرة السبق الحضاري المصري بالتأكيد على أن المصريين قد استعاروا فكرة استخدام المعادن من أصول آسيوية، برغم أنه كانت لديهم كل الفرصة لاكتشاف أسرار صهر المعادن واستخدامها.٢٤
fig42
شكل ٤-١
ولا تمثل المدرسة المصرية الانتشارية المتطرفة وحدها، بل هناك مدرسة أخرى على رأسها فينكلر وهوكارت وبريدوود٢٥ كانت تعتنق فكرة أن سومر وبابل (في جنوب العراق) كانت المصدر النهائي للحضارة، ومنها انتشرت إلى مصر وغيرها من أجزاء العالم. وكذلك كانت هناك مجموعة من الباحثين في الحضارة على رأسها لورد راجلان التي كانت تعتقد أن المصدر الأساسي للحضارة كان في مكان ما غير معروف الآن terra incongnita! ويذهب راجلان في تطرفه بعيدًا، فيقول: إن الشعوب الوحشية (اصطلاح على البدائيين) لم تخترع أو تكتشف أي شيء.٢٦ وهكذا يبلغ التطرف أشده عند الانتشارية الإنجليزية عامةً باعتقادها أن شعبًا مختارًا (راجلان) أو سلسلة من الأحداث والمصادفات السعيدة، أدت إلى قيام المدنية في مصر (إليوت سميث) قد ساعدت على أن تنشر الكثير من الاختراعات والاكتشافات بين شعوب العالم، وبالتالي تخرجهم من مرحلة الوحشية المجردة من الاختراع والتقدم، وقد أدت هذه الافتراضات الغيبية أو المتطرفة إلى جمود هذه الأنواع من الأفكار الانتشارية وعقمها وبالتالي فشلها وسقوطها.

وبرغم انتهاء هذه النظريات الانتشارية المغالية، إلا أن أنواعًا من الانتشارية المحدودة ما زالت قائمة في عدد من الدراسات الإثنولوجية المعاصرة، وكذلك فإن بعض الكشوف الأركيولوجية الحديثة تؤدي إلى إعادة النظر من جديد في بعض الآراء الانتشارية القديمة.

ومن أهم الأمثلة على ذلك الكشوف الحديثة في منطقة حضارة «المايا» في أمريكا الوسطى. لقد اكتُشِفَ مؤخرًا تحت هرم معبد «بالنك Palenque» حجرة دفن مغلقة وُجِدَ فيها تابوت حجري. ويقول إيكهولم: «هذا كشف مثير ليس فقط لغرابة بناء هرم معبد فوق مقبرة — وإن لم يكن ذلك هو الحالة الوحيدة — وإنما أيضًا لروعة أشكال الحفر الحجرية والأشياء المصنوعة من الأحجار الكريمة … وإن هذا ليضيف كثيرًا إلى مجموعة فنون بالنك التي هي بدون شك أكثر فنون العالم الجديد دقة ورقة».٢٧
ووجود «هرم معبد» في أمريكا هو في الوقت نفسه مقبرة أو هرم مقام فوق مقبرة، إنما يدعو بشدة إلى التفكير في الأهرامات المصرية القائمة على أساس مماثل، وحينما هُوجِمَت الانتشارية الإنجليزية القديمة انصب الهجوم على أن الشكل وحده ليس مدعاة لإيجاد صلات حضارية انتشارية بين مصر الفرعونية وأمريكا الوسطى، بل لا بد أن يحسب حساب الوظيفة التي يقوم من أجلها البناء. وبهذا الكشف يزول جزء من الهجوم على المدرسة المصرية. فإذا كان الهرم المصري مقبرة ملكية، فإن بعض أهرامات أمريكا كانت أيضًا مقابر مماثلة تستخدم التوابيت الحجرية وتضع في حجرة الدفن الكثير من الكنوز الفنية. يبقى أن الهرم الأمريكي كان يُستخدَم أيضًا كمعبد، ولكن المعابد الجنائزية في مصر كانت تُقام إلى جوار الأهرام وليس فوقها. فهل يسمح النقل الحضاري على أبعاد زمنية مختلفة (تاريخ الأهرامات المصرية يعود إلى حوالي نهايات الألف الثالثة قبل الميلاد، بينما تُؤرَّخ بعض آثار المايا بواسطة منهج كربون ١٤ إلى حوالي سنة ٤٥٠ ميلادية بزيادة أو نقص ١١٠ سنوات).٢٨

والعودة إلى الشكوك في الهجوم الذي رُفِضَتْ فيه آراء المدرسة المصرية، تعيد من جديد الرغبة في إعادة تقييم المدرسة المصرية على أضواء مختلفة (الدين – التقويم السنوي – التنظيم السياسي … إلخ)، خاصةً وأن هناك تشابهًا كبيرًا في الشكل بين عدد من المنتجات المادية: فنون المايا ورسومهم التي تشبه في كثير الرسوم المصرية في مبدأ رسم القوارب ورمز الماء وتصوير الأشجار، وكذلك التشابه الغريب بين إله الذرة عند المايا، والصقر الذي يوجد فوق رأسه، وبعض تماثيل الملوك المصرية مع صقر حوريس.

ثانيًا: مدرسة التاريخ الحضاري: الاتجاهات في ألمانيا والنمسا

إن الاتجاهات التاريخية في الإثنولوجيا الألمانية تعود إلى أواخر القرن الماضي كرد فعل شديد ضد التطورية المتطرفة، وضد الأفكار العديدة التي قدمها أدولف باستيان، وأغرق بها الإثنولوجيا في ألمانيا لمدة جيل بأكمله. وقد بدأت هذه الأفكار والاتجاهات التاريخية في الظهور بين الجغرافيين البشريين الألمان، أمثال فردريك راتزل وإدوارد هان E. Hahn، وقد وصل هذان الباحثان — منفصلين — في ١٨٩١ إلى أن الزراعة قد اعتمدت على مبدأين: الفأس أو المحراث، ومن ثم فإن هناك اختلافات جذرية بين زرَّاع الفأس وزراع المحراث. كذلك أعلن «هان» أن استئناس الحيوان جاء بعد اكتشاف زراعة الفأس، ورغم اعتقاده بإمكان اكتشاف زراعة الفأس عدة مرات في أجزاء العالم المختلفة، إلا أنه أكد أن زراعة المحراث واستئناس الحيوان واكتشاف مبدأ العجلة، قد تمت كلها في الشرق الأدنى القديم، ثم انتشرت منه إلى بقية أجزاء العالم. وقد أصبحت هذه الأفكار الآن أفكارًا بديهية نعتنقها جميعًا على أنها حقائق معروفة، برغم أن الوصول إليها كان حديثًا جدًّا لم يمضِ عليه أكثر من ٨٠ عامًا.
وقد اشترك الإثنولوجي الألماني هاينريخ شورتز H. Schurtz بمساهمة واضحة وكبيرة في إدخال الفكر التاريخي إلى الإثنولوجيا الألمانية المبكرة. ففي سنة ١٨٩٥ نشر بحثًا عن «زينة العين والمشكلات المرتبطة بها» عند سكان ساحل أمريكا الشمالي الغربي، وربط بينها وبين الأشكال الموجودة في إندونيسيا وميلانيزيا، وبذلك كان أول إثنولوجي في العصر الحديث يكتب عن العلاقات الحضارية بين العالم القديم والجديد عبر المحيط الهادي، ونظرًا لأنه كان بحثًا مبكرًا فقد نُظِر إليه على أنه أمر غريب ولم يَلْقَ قبولًا في وقته. وفي سنة ١٩٠٢ نشر شورتز كتابه عن «طبقات السن وعصب الرجال Alterklassen und Männerbünde» وفيه يوجه نظر الإثنولوجيا — أيضًا لأول مرة — إلى مشكلات لم تَمَسَّ من قبل تنظيمات مجتمع الرجال، مثل بيت الرجال أو نادي الرجال، والجمعيات السرية — وطبقات السن … إلخ.
ولكن دور ليو فروبينيوس L. Frobenius كان طويلًا في الإثنولوجيا الألمانية التاريخية، ففي سنة ١٨٩٥ يبدأ فروبينيوس بفكرة جريئة لانتقال الحضارات عبر المحيطات: انتشار حضاري بين إندونيسيا وأفريقيا. وفي سنة ١٨٩٨ يطور الفكرة في كتابه «أصل الحضارات الأفريقية» “Der Ursprung der Afrikanischen Kulturen”, Berlin 1894.
وقد حاول أن يثبت فيه وجود دائرة حضارية Kulturkreise ماليزية زنجية في غرب أفريقيا، نتيجة لنفوذ إندونيسي حضاري قُدِّم في صورة موجة حضارية إلى الساحل الشرقي لأفريقيا، ثم عبرت القارة إلى غرب أفريقيا حيث لا تزال بقاياها موجودة، بينما طُمِسَتْ آثارها الحضارية في شرق القارة بواسطة هجرات البانتو والحاميين فيما بعد. ومهما كان لهذا الرأي من وجاهة تدعو بعض الأنثروبولوجيين الأمريكيين المعاصرين مثل مردوك وهاتون إلى تأييده، فإن الذي يهمنا هنا هو أن فروبينيوس كان أول إثنولوجي يفسر العلاقات المتشابهة بالهجرة حتى على مبعدة آلاف الكيلومترات، ولا يلجأ إلى الأفكار غير الملموسة التي يلجأ إليها آخرون لتفسير التشابه الحضاري. وكان معظم السابقين يقولون إن الوحدة النفسية للناس أو للشعوب هي التي تؤدي إلى هذا التشابه. كذلك لأول مرة يدخل فروبينيوس مصطلح «الدائرة الحضارية» إلى الإثنولوجيا، وهو المصطلح الذي تبناه من بعده جرايبنر والمدرسة النمساوية، ولكن فروبينيوس يعود بعد قليل إلى ترك هذا المصطلح ويسمي اتجاهه المتأخر باسم «المورفولوجية الحضارية Kulturmorphologie»، ويتبعه في ذلك خلفه في مدرسته ينسن Ad. e. Jensen، ولا تزال مدرسة «فروبينيوس-ينسن» مدرسة انتشارية تاريخية، لكنها تميل الآن إلى دراسة الأفكار والأساطير والطقوس مع اتجاه نفساني.
أما المدرسة التاريخية الألمانية النمساوية أو التي يُطلَق عليها مدرسة فيينا Wiener Schule، فإنها تُعرَف أيضًا باسم مدرسة الدوائر الحضارية Kulturkreise أو مدرسة التاريخ الحضاري Kulturhistorisch.
وقد بدأت هذه المدرسة بأبحاث فرتز جرايبنر F. Graebner المؤرخ الألماني، ففي سنة ١٩٠٤ قدم جرايبنر محاضرة أمام الجمعية الأنثروبولوجية والإثنولوجية ببرلين، باسم «الدوائر الحضارية والطبقات الحضارية في أوشينيا» (نُشِرَتْ في المجلة الإثنولوجية البرلينية في سنة ١٩٠٥).
وقد استخدم جرايبنر في هذا البحث منهج فروبينيوس في بحث سابق (في سنة ١٩٠٠، نشر فروبينيوس مقالًا عن التتابع الزمني للحضارات في أوشينيا على أساس التوزيع الجغرافي لعدد من العناصر الحضارية). ولكن جرايبنر استخدم عددًا كبيرًا من العناصر الحضارية لكي يدعم الدوائر الحضارية التي يتكلم عنها دعمًا إحصائيًّا كميًّا، وباستخدام التوزيع الجغرافي حاول أن يكتشف أي العناصر الحضارية التي ترتبط معًا في تكوين الدائرة الحضارية، وباستخدام التتابع الزمني لهذه الدوائر الحضارية وصل جرايبنر إلى تكوين الطبقات الحضارية، ويخلص من هذا التركيب إلى ترتيب التتابع الزمني للدوائر الحضارية وانتشارها في أستراليا وجزر المحيط الهادي.٢٩

وبرغم أن هذه البداية في مدرسة الدوائر الحضارية والتاريخ الحضاري كانت مجرد منهج ميكانيكي مستند إلى التوزيع الجغرافي للعناصر الحضارية؛ إلا أنها فتحت عهدًا جديدًا في الفكر الإثنولوجي، وذلك بغض النظر عن النقد الذي قِيلَ فيها؛ إذ علينا أن نلاحظ أن هذه الأفكار الجديدة إنما نشأت مبكرة جدًّا قبل نشأة الأفكار الوظيفية والقوالب الحضارية والتكامل الحضاري، وغير ذلك من المشكلات التي تظهر الآن (بعد أكثر من نصف قرن) في الإثنولوجيا المعاصرة.

وفي سنة ١٩١١ ينشر جرايبنر كتابه عن المنهج التاريخي،٣٠ ويعطي فيه أسس المدرسة مع الكثير من الحذر والتحفظ. ويشتمل هذا الكتاب المنهجي على عدد من الأقسام الممتازة في الدراسة المنهجية: مجموعة من المقاييس التي تلزم الباحث في الحقل والمكتب لكي يحرص على الحذر والموضوعية، فيما يختص بالمصادر الإثنوجرافية والأشخاص الذين يدلون بالمعلومات عن مجموعتهم الحضارية، وكذلك مجموعة مقاييس يسميها مقاييس الشكل والعدد وهي خاصة بمنهج الدراسة الانتشارية والتاريخية القائمة على المتشابهات الحضارية: هل هذه المتشابهات عديدة؟ وما هو ترابط هذه المتشابهات ببقية البناء الحضاري؟٣١ وفي سنة ١٩٢٣ يكتب جرايبنر بحثًا مطولًا عن الإثنولوجيا كقسم من كتاب «الحضارة المعاصرة»، وهذا البحث ربما كان أحسن ما كتبه جرايبنر في الإثنولوجيا؛ فهو يكتب من وجهة النظر الخاصة بالتاريخ الحضاري، وتختفي الدوائر الحضارية من استخداماته (إلا في منطقة أوشينيا والمحيط الهادي)، وتصبح هذه الدوائر الحضارية مجرد حضارات.٣٢
وتأثير جرايبنر في ألمانيا اقتصر على فوي W. Foy مدير المتحف الإثنوجرافي في كولونيا، ويوليوس ليبز J. Lips خليفة فوي في كولونيا، وباول ليزر P. Leser تلميذ جرايبنر. لكن أكبر تأثير لجرايبنر كان في فيينا بواسطة الأب فيلهلم شميت W. Schmidt، الذي يعتبره الكثيرون زعيم مدرسة الدوائر الحضارية. وقد بدأ شميت أعماله الإثنولوجية بتأثير من اتجاهاته في الدراسات اللغوية (معهد تبشيري في سان جابريل في ضواحي فيينا)، ولكن مقالاته الأولى (١٩٠٦–١٩١٠) لم تكن مرتبطة على الإطلاق بالمنهج الذي ابتكره جرايبنر، بل أحيانًا يتهمه بعض الإثنولوجيين٣٣ بأنه كان — دون علم — واقعًا تحت تأثير المدرسة التطورية، ويبدو أنه تحول تمامًا إلى الدوائر الحضارية والمنهج التاريخي بعد أن استوعب «منهج» جرايبنر (١٩١١). وقد غير شميت أسماء الدوائر الحضارية الجرايبنارية إلى أسماء يرتضيها (لكنها في نظر الأستاذ هايني جيلدرن تعبر عن مصطلحات التطوريين في القرن التاسع عشر).٣٤
وفي سنة ١٩٢٤ ينشر شميت وتلميذه وزميله فيلهلم كوبرز W. Koppers٣٥ خلاصة آراء مدرسة فيينا في الدوائر الحضارية، فيؤكدان وجود حضارات أزلية Urkulturen تمثل أقدم أنواع المجموعات الحضارية المعاصرة، وأن كلها حضارات قبل الحجرية (!) وهذه هي: أقزام أفريقيا وآسيا، الفيدا (سيلون)، السينوي Senoi (الملايو)، «الكوبو Kubu» (سومطرة)، توالا Toala (سلبيس). ولا شك أن استخدام هؤلاء للأخشاب بدلًا عن الحجارة، إنما يرجع إلى فقر بعض المناطق من الحجارة، ولكن المؤلفَيْن نَسِيَا أن هذه الجماعات (باستثناء الأندمان من أقزام آسيا) يستخدمون الحديد! ومن ثم لا داعي للحجارة والأدوات الحجرية. على أي حال، كانت مجموعة الحضارات الأزلية هذه تمثل الدائرة الحضارية الأولى، والدائرة الحضارية الثانية هي حضارة الرعاة التي يرى شميت أنها تَلَتِ الحضارةَ الأزلية، ونشأت عنها مباشرةً في مناطق سيبيريا ووسط آسيا (الساموييد في شمال سيبيريا استأنسوا الرنة، والتركمان استأنسوا الحصان، ثم تلا ذلك الجماعات التي أخذت منهما واستأنست الماشية والماعز … إلخ)، لكن هذه الدائرة الحضارية الرعوية قد سقطت أيضًا نتيجة للدراسات الأركيولوجية ودراسات ما قبل التاريخ في الفترة الأخيرة.٣٦
وقد نشر فيلهلم شميت أبحاثًا كثيرة، لكن كتابه عن المنهج (وهو بمساعدات من كوبرز في بعض فصوله) الذي صدر في ١٩٣٦٣٧ وتُرجِم إلى الإنجليزية عام ١٩٣٩، يلخص وجهة نظر المدرسة الانتشارية التاريخية في مجموعها، وإن كان يركز كثيرًا على فكرة الدائرة الحضارية (التي عدل عنها كوبرز وكتب نهاية لها في استعراضه القيم عام ١٩٥٩).٣٨
وفكرة الدائرة الحضارية تنطوي على شيئين: أولهما وجود الدائرة الحضارية وكينونتها، وثانيهما الدائرة الحضارية كمنهج بحث إثنولوجي. ولا شك أن الاثنين مرتبطان ببعضهما، والثاني متعلق بوجود الأولى. وفي كلمات شميت تعني الدائرة الحضارية «إذا احتوت حضارة كاملة على كل شيء: النواحي المادية والاقتصادية والاجتماعية والاعتيادية والدينية، فإننا نطلق عليها اسم «الدائرة الحضارية»؛ لأنها متكاملة وتعود على نفسها كالدائرة. إنها تكفي نفسها بنفسها، ومن ثم تؤمن استقلال وجودها، وهي — أي الحضارة — في حالة ما إذا أهملت أو فشلت في إرضاء واحد أو أكثر من الاحتياجات الإنسانية الهامة تتيح حدوث تعويض من حضارة أخرى. وكلما زاد عدد عناصر التعويض تقل هذه الحضارة عن أن تكون دائرة حضارية (مستقلة)،٣٩ والدائرة الحضارية تمتد في إقليم جغرافي كبير بحيث تشتمل على عدة شعوب أو قبائل. ويقول شميت: «إن كل مفردات الحضارة في الدائرة الحضارية متماسكة تماسكًا عضويًّا وليست مجرد ارتباطات تلقائية، وغالبًا ما تسيطر واحدة من مظاهر الحضارة في الدائرة على بقية المظاهر، ومن ثم تدمغ هذه المظاهر بصبغتها الخاصة.»٤٠ فمثلًا النسب الأموي مرتبط بالجماعات التي تعمل في الزراعة، والنسب الأبوي مرتبط بالرعاة، والجماعات التي تمارس النسب الأموي غالبًا ما تعبد القمر، بينما إله السماء هو الإله المسيطر عند الرعاة، وإله الشمس عند الجماعات الطوطمية الأبوية النسب.

ولا شك أن مثل هذه الدوائر الحضارية باتساع رقعتها المكانية، وتعقد مركباتها الحضارية، تستغرق زمنًا طويلًا لكي تنبني وتمتد مكانيًّا. وتبعًا للمقياس الزمني لا يمكن أن تتكون مثل هذه الدوائر الحضارية المركبة؛ ولذلك فإن أهم نقد يُوجَّه إليها هو أنها تركيب نظري أكثر منها تركيب واقعي. وقد كان كل من جرايبنر وشميت يبحث عن مجموعات من الصفات الحضارية يُؤسَّس عليها الهجرة والانتشار الحضاري أكثر مما كان يبحث عن ترابط واقعي بين العناصر الحضارية وكم الحضارة. كذلك فإن جرايبنر وشميت لم يأخذا بعين الاعتبار مسألة الأبعاد المكانية الشاسعة التي تفصل بين المتشابهات الحضارية، وفي الوقت نفسه لم يدخلا الفارق الزمني بين الحضارات الاعتبار الدقيق، إنما كان التشابه بين العناصر الحضارية الرائد الأساسي في التطبيق.

ومجمل القول هو أن شميت أكثر نزعة إلى التطرف من جرايبنر، ومن ثم ظل إلى نهاية وقته في عام ١٩٥٤ يكتب عن الدوائر الحضارية، بينما تخلَّى جرايبنر (في فترة سابقة) عن تعصبه لهذا الشكل في التركيب الحضاري. وإذا كان شميت قد فشل في هذا الاتجاه؛ فإنه كان صاحب فضل كبير في نواحي دراسية وعملية أخرى.٤١
وبرغم شيوع اسم مدرسة فيينا على مدرسة الدوائر الحضارية، إلا أنه من الخطأ أن نعمم هذا الاسم على كل الإثنولوجيين الذين عملوا في معهد فيينا الإثنولوجي، وفي المتحف الإثنولوجي. فلقد كان الأب كوبرز يتشكك منذ فترة طويلة في جدوى التمسك بالدوائر الحضارية كمنهج بحث، وإن ظل متمسكًا بالتاريخ الحضاري والانتشارية إلى آخر وقته. وكذلك كان روبرت فون هايني جلدرن R. von Heine-Geldern معارضًا منذ البداية للدوائر الحضارية، لكنه من أشد المتمسكين بالانتشارية، وخاصةً العلاقات الحضارية عبر المحيط الهادي إلى أمريكا، وهو في هذا أميل إلى استخدام الدراسات الأركيولوجية والتكنولوجية،٤٢ وكذلك ينحو يوسف هكل J. Haekel منحًى تاريخيًّا انتشاريًّا بعيدًا عن الدوائر الحضارية.٤٣ أما فالتر هيرشبرج W. Hirschberg؛ فقد كوَّن منذ بضع سنوات مدرسة صغيرة تنحو نحو تاريخ الشعوب Ethnohistorisch٤٤ مستمدًّا أصوله من جريبنر وآراء كوبرز الحديثة، متغاضيًا بذلك عن مرحلة نفوذ شميت، واهتم اهتمامًا متزايدًا بالأبحاث الميدانية وبالتقليل من التنظير الإثنولوجي والمعارك اللفظية للمدارس المختلفة.
ولعل البحث الذي نشره كوبرز عن «الانتشارية» في عام ١٩٥٥٤٥ يوضح بصورة بارزة أهم وجهات نظر الانتشارية النمساوية الحديثة، ويمكن أن نلخص أهم نتائج هذا البحث على النحو التالي:
  • (١)

    حيث إن الحضارة والإنسان (منذ نشأته) متزامنان، فإن التاريخ — بأوسع معانيه — يشتمل على كل الفترة التي ظهر فيها الإنسان على الأرض حتى اليوم.

  • (٢)

    لا ينكر أي باحثٍ — قديمًا وحديثًا — أن الانتشار الحضاري ودرجة انتقاله وتقبله حقيقة واقعة.

  • (٣)

    إن الانتشارية مبدأ هام في الدراسات الإثنولوجية ودراسات ما قبل التاريخ، ونتيجة لنقص الوثائق المكتوبة، فإن الأمر يحتاج إلى دراسات مقارنة للصفات الحضارية من أجل الحصول على العوامل المكانية والزمنية والسببية.

  • (٤)

    يجب أن يستخدم الانتشاريون مقياس الشكل والعدد المعروف عن المنهج التاريخي (الذي أكَّده كل من جرايبنر وشميت وكوبرز)، ولا شكَّ أن هذا المنهج لن يؤدي إلى تاريخ مماثل لما نجده في الكتابات التاريخية العلمية. فالعنصر الحضاري هنا يمثل دليلًا قائمًا على الصلات، كما أن هذا الدليل يزداد قوة نتيجة لمدى ترابط العنصر الحضاري ببقية الحضارة. ولا يمكننا أن نهمل هذه الأدلة على أنها مجرد إشارات، بل إنها تمثل جزءًا من العملية التاريخية.

  • (٥)

    الانتشار الحضاري لا يمثِّل كل أحداث التاريخ، فدراسة العناصر الحضارية لا تحل محل الوثائق التاريخية، لكنها تعطي إضافات هامة في هذا الاتجاه التاريخي، وفي حالة نقص الوثائق التاريخية — كما هو الحال عند دراسة ما قبل التاريخ والجماعات البدائية — يصبح من غير المعقول أن نمتنع عن تفسير الحقائق في الإثنولوجيا والأركيولوجيا.

  • (٦)

    تقوم الدراسات الانتشارية على المتشابهات الحضارية، وحتى في الحالات التي لا نستطيع فيها التأكد من وجود ارتباطات وهجرات بين المتشابهات الحضارية، فلا شكَّ أن تأكيدنا بأن الظاهرتين المتشابهتين قد نشأتا نشأة مستقلة يصبح غير مقبول؛ لأنه يفترض شيئًا أبعد تحققًا من الارتباطات السابقة، وعلى العموم يمكننا أن نترك الباب دون اتخاذ قرار.

  • (٧)

    إن الانتشار والنقل والتقبل لا تسير كلها حسب قواعد معينة، فهناك دائمًا فرصة متعددة للقبول أو التعديل، وهي فرصة الاختيار الحر عند غالبية الجماعات.

  • (٨)

    يترتب على ذلك أن كل حالة من حالات الانتشار الحضاري يجب أن تُعالَج قائمة بذاتها وحسب ظروفها.

وصفوة القول أنه برغم انتهاء فكرة الدائرة الحضارية، فإنها في مجموعها كانت وسيلة ومنهجًا أدق وأحسن من أفكار الانتشاريين البريطانيين الأُوَل، الذين لم يعطوا للإثنولوجيا سوى فكرة بدون منهج. وكذلك يُضاف إلى حسنات الانتشارية الألمانية عامة والنمساوية خاصة، التدقيق الشديد في المصادر والمراجع، والاتجاه إلى الدراسات الميدانية بصورة أساسية، وكثرة التوثيق في الكتابات الإثنولوجية.

ولقد حدث خلط عند الوظيفيين — وخاصة عند برونسلاف مالينوفسكي — بين أنواع ومدارس الانتشاريين،٤٦ ولعل ذلك الخلط هو الذي أدى بالوظيفيين إلى الابتعاد لفترة طويلة عن النظرة التاريخية وجمود الأنثروبولوجيا الاجتماعية الإنجليزية عند حدود معينة.

ثالثًا: الاتجاهات الانتشارية والتاريخية خارج ألمانيا والنمسا

هناك اتجاهات انتشارية متفرقة ترتبط ببعض الأساتذة والباحثين في إسكندنافيا وهولندا وبلجيكا وفرنسا وسويسرا، وفي بريطانيا أحيانًا. ويمكن أن يُقال إن في أمريكا — بصورة من الصور — الكثيرين من دارسي الأنثروبولوجيا الحضارية الأمريكية الذين مسُّوا الموضوع التاريخي والانتشاري مسًّا يختلف بين التأكيد عليه وبين المرور العابر، وعلى الأخص مدرسة فرانز بواس.

ولعل بركيت سميث K. Birket-Smith أستاذ الإثنولوجيا في الدانمرك واحدٌ من أبرز علماء الإثنولوجيا في إسكندنافيا الذي يلتزم بصورة كبيرة بالمنهج التاريخي. وفي ١٩٥٢ يؤكد بركيت سميت هذا الاتجاه بقوله: «إن للمدخل التاريخي أهمية شاملة، ولا ضرورةَ إلى إعادة القول إنه يجب أيضًا أن ندرس وظيفة الحضارة، ولكن الوظيفة لا تُفهَم إلا على خلفية النمو الحضاري. أمَّا إذا تحددت الوظيفة بدراسة نظم القرابة بصفة رئيسية — كما تبدو رغبة بعض الإثنولوجيين المحدثين — فمَن إذن هو الذي سوف يستكشف ميدان تاريخ المدنية الإنسانية؟٤٧ وكذلك يتضح الفكر التاريخي في الإثنولوجيا في النرويج كتابات جيسنج G. Gyessing
وفي فرنسا يرفض ليفي ستروس Levi-Strauss فكرة التركيب التاريخي بالاستناد إلى أبحاث الإثنولوجيا على الجماعات البدائية والأبحاث الأركيولوجية على الحضارات الحجرية، لكنه يؤكد أن نمو الحضارات راجع إلى تفاعلها معًا. فكلما كانت الحضارة جامعة، فإن ذلك يؤدي إلى زيادة احتمالات الترابط المركب المؤدي إلى النمو والتقدم الحضاري. ويقول إن التاريخ الحضاري الشامل لم ينشأ من حضارات منعزلة، ولكن بواسطة حضارات ارتبطت معًا — أرادت ذلك أم فُرِض عليها — وأن هذا الارتباط بين الحضارات يتم بواسطة عوامل كثيرة، منها الهجرات والتجارة والاستعارة الحضارية. ويؤدي هذا الارتباط بين الحضارات إلى تكوين اتحادات أو ائتلافات حضارية كبرى.٤٨
وفي بريطانيا تظهر الاتجاهات الانتشارية والتاريخية من حين إلى آخر في كتابات بعض الباحثين، مثل أبحاث إيفا ميروفتس E. Meyerowitz عن شعب الأكان في غانا، وهو دراسة تتبع تاريخ هجرات الأكان من منطقة ما في واحات الصحراء الكبرى إلى ساحل غانا.٤٩ وكذلك أبحاث ليتش E. Leach عن النظم السياسية عند قبائل الجبال في برما،٥٠ وفيه يستفيد كثيرًا من المادة التاريخية ليوضِّح تطور عملية التنظيم السياسي، وهناك أيضًا دراسات تاريخية يقدمها كريستوفر فون فيرير- هايمندورف وغيره كثيرون.
أمَّا في أمريكا، فإن النظرة الانتشارية في الحضارة كثيرًا ما تظهر في كتابات الأنثروبولوجيين الأمريكيين؛ مثل: بواس، وكرويبر، ولوي، وجولدنفايزر، وغيرهم. وكان أكثر الأنثروبولوجيين الأمريكيين اتِّجاهًا إلى الانتشارية فرانز بواس F. Boas، العالم الطبيعي الألماني الذي استهوته الأنثروبولوجيا بعد زيارة قام بها لجزيرة بافن في شمال كندا (١٨٨٣). ويُعَدُّ بواس «أبو» الأنثروبولوجيا الأمريكية الحديثة وصاحب مدرسة (مدرسة بدون منهج واضح)، تتلمذ فيها عظام الأنثروبولوجيين الأمريكيين؛ مثل: روبرت لوي، بول رادين، وجولدنفايزر، وكرويبر، وغيرهم. وقد اهتم بواس بدراسة الفنون الشعبية وحلل القصص الشعبية الشائعة عند أمريند الساحل الشمالي الغربي بطريقة تحليلية إحصائية ممتازة لدراسة انتشار النمط بين المجموعات المختلفة. ولعلَّ من أحسن أعماله مشاركته في الميدان والكتابة عن علاقات أمريند الساحل الشمالي الغربي الحضارية والإسكيمو بالمجموعات السيبيرية (التي قام بدراستها إثنولوجيون من الروس). وقد بدأ البحث عام ١٨٩٧ وانتهى عام ١٩٠٢، ونُشِرت هذه الأبحاث في عشرين جزءًا باسم بعثة جيسوب لشمالي الباسيفيك.٥١ وقد اتبع بواس المنهج الانتشاري بأسلوب خاص يستدعي أولًا: أن يكون وصف الأشكال الانتشارية سابقًا على الدراسة التحليلية لعملية الانتشار، وثانيًا: أن تكون العناصر الحضارية المنتشرة مترابطة وليست مجموعة من العناصر المستقلة التي يصنِّفها الباحث بدون موضوعية، وثالثًا: أن تكون دراسة الانتشارية جزءًا من عملية الدينامية الحضارية التي تستدعي أيضًا دراسة سيكولوجية من أجل فهم أكمل لحقيقة التغير الحضاري.
وبرغم ذلك فإن كرويبر ورادين قد هاجما منهج بواس على أنه غير تاريخي؛ لأنه كعالم طبيعي يهتم «بالعملية» أكثر مما يهتم بالتتابع الزمني للأحدث.٥٢ وفي الحقيقة لا يمكن أن نقول إن بواس قد طوَّر منهجًا خاصًّا في الأنثروبولوجيا، سوى أنه كان معارضًا بشدة للتطورية الحضارية، ومهتمًّا بالدراسات الحقلية لدرجة لم تترك له فرصة للتنظير.٥٣
أمَّا الانتشارية الأمريكية الواضحة، فتظهر في كتابات كلارك ويسلر C. Wissler الخاصة بالمناطق الحضارية ومناطق العمر التي عالجناها في الفصل السابق. ويرى فلهلم شميت أن المناطق الحضارية لا تحل محل الدوائر الحضارية؛ لأنها تمثل مجموعات من الحضارات المختلفة وجدت «اليوم» في منطقة معينة دون أن يكون هناك التزام بارتباط عضوي دائم بين هذه الحضارات المختلفة. ويخلص شميت إلى أن المناطق الحضارية لا تمثل منهجًا تاريخيًّا صحيحًا؛ لأنها مرتبطة بمكان وزمان معينين،٥٤ وبرغم نقد شميت فإن المنطقة الحضارية في جوهرها فكرة نظرية تعبر عن الانتشار الحضاري، وإن كان ذلك ضمن مكان محدود. ويميل ألفريد كرويبر A. Kroeber إلى الاتجاه الانتشاري في صورة المناطق الحضارية معدلة عن ويسلر، ويتفق مع شميت في أن هذه المناطق وإن كانت تكوِّن أساسًا لدراسة الاحتكاكات الحضارية في زمن ومكان معينين، إلَّا أنه ينقصها عامل واحد لتصبح منهجًا تاريخيًّا؛ هو دراسة التتابع الزمني للحضارات. وقد تساعد مناطق العمر Age area [راجع القسم الثاني – الفصل الثالث: بعض مشكلات التنظير الإثنولوجي] على إيجاد تتابع زمني للحضارة، ولكن المنهج في هذه النظرية يكاد أن يكون ميكانيكيًّا آليًّا، بينما الانتشار ليس كذلك، بل يميل إلى الظهور أو عدم الانتشار حسب الظروف والملابسات المرتبطة بتقبل العناصر الحضارية الوافدة.

والحقيقة أن الاتجاهات الانتشارية بين الأنثروبولوجيين في أمريكا — كما قلنا — لم تظهر في صورة منهجية نتيجة تأثيرات عديدة، نذكر منها تأثير بواس على بدايات هذه الدراسات في أمريكا، وكذلك فإن ميدان الدراسات الميدانية في أمريكا كان بسيطًا غير معقَّد؛ فالأمريند في معظمهم من جامعي الغذاء وقليلون منهم من الزرَّاع، كما أن الدراسة تمت في فترة تدهور الأمريند بعد إبادة جزءٍ كبيرٍ منهم، وطردهم من مواطنهم نتيجة الغزو والتوسع الاستيطاني الأبيض، وانعزال الأمريند في معازل خُصِّصَتْ لهم. ولهذا فإن أهم عملية عند الأمريند كانت وما زالت التغير الحضاري نتيجة تغير أسس النظام الاقتصادي، ونتيجة الاحتكاك بالحضارة والتكنولوجيا الأوروبية الحديثة، ونتيجة اضطهادهم عنصريًّا، ومن ثم فإن معظم الدراسات الأنثروبولوجية الأمريكية قد انعكست عليها هذه المؤثرات، فاصطبغت بدراسة التغير الحضاري، وبعدت عن المشكلات الحضارية المختلفة التي يلعب فيها التاريخ الحضاري والانتشار الحضاري دورًا كبيرًا. وذلك على عكس المشكلات الحضارية المعقدة التي يجدها الإثنولوجيون في دراسة الحضارات الأفريقية أو الآسيوية بوجه خاص. فالتفاعلات الحضارية هنا على أشدها نتيجة لوجود الحضارات العليا والطرق التجارية واستمرار العلاقات المكانية وقلة فرص العزلة إلَّا فيما ندر (البشمن في أفريقيا الجنوبية، والأندمان وبعض القبائل في غابات الهند الصينية وإندونيسيا إلى جانب مجموعة قبائل أستراليا وتسمانيا، كانت تكوِّن أكثر الجماعات عزلة في العالم القديم). وحتى الأقزام في غابات وسط أفريقيا — الذين اعتبرتهم مدرسة فيينا الحضارية في أوائل عهدها جزءًا من الدائرة الحضارية الأزلية — كانوا في اختلاط واحتكاك دائم مع جيرانهم الزنوج.

(٢-٥) التحضيرية في الإثنولوجيا Accultration

يمثل هذا الاتجاه الجديد في الإثنولوجيا عددٌ من الباحثين الأمريكيين خاصة والأنجلوساكسون بصورة عامة، ومفهوم التحضيرية يمكن أن ينقسم إلى قسمين مبدأيين: أولهما التحضيرية Accultration أو التكاملية Cultural Integration، وثانيهما التحضيرية بمعنى تعليم الفرد لعناصر حضارته وتساوي مصطلح encultration الذي ابتكره ملفيل هرسكوفتس (تعلم دورة الحياة للشخص داخل الحضارة التي ينتمي إليها).
والتحضيرية أو التكامل الحضاري يمكن أيضًا أن يشتمل على موضوع التغير الحضاري culture change، والمفهوم العام لهذا المصطلح أو ذاك هو الطريقة التي تقبل بها حضارة معينة عناصر حضارية وافدة أو جديدة وتهضمها داخل محتواها، بحيث تصبح هذه العناصر الجديدة أو الوافدة جزءًا لا يتجزأ عن المضمون الحضاري العام. وبذلك فإن دراسة التكاملية والتغير الاجتماعي هما عبارة عن دراسة عملية التغير والقبول في الكثير من التنظيمات والعناصر الحضارية؛ لكي تتلاءم العناصر الجديدة مع الكم الحضاري، أو يتلاءم الكم الحضاري مع العناصر الجديدة، أو أن تحدث العمليتين معًا بدرجات مختلفة حسب قوة العناصر الجديدة وأهميتها في حياة الحضارة ككل.

وأهم موضوعات التحضيرية والتغير الحضاري في العالم المعاصر، هي دراسة التأثير الحضاري الذي تعرضت وتتعرض له الجماعات غير الأوروبية من جانب المضمون الحضاري الغربي الصناعي عامة وجوانبه المادية بوجهٍ خاص. وفي هذا المجال نجد اتجاهين مختلفين في الهدف، لكنهما يشتركان معًا في الدراسة الإثنولوجية للحضارات غير الأوروبية المهددة بالفناء والتغير الشامل، نتيجة عمليات التحضير الصناعية الغربية القوية. الاتجاه الأول والأقدم هو استخدام عدد من الحكومات والإدارات في المستعمرات (خاصة البريطانية) السابقة للإنثروبولوجيين والإثنولوجيين لدراسة المجتمعات البدائية من أجل إقامة حكم غير مباشر. وفي هذا المجال أيضًا كانت حكومة الولايات المتحدة تدرس الأمريند في معازلهم للغرض نفسه وإن لم تكن المسألة ذات أهمية سياسية كما كانت في المستعمرات الأوروبية عامة. والهدف الصريح من وراء ذلك هو المحافظة على حضارات البدائيين من التغير العنيف، ولكن التجربة بعد التجربة قد أثبتت أن الهدف الحقيقي كان يكمن في توطيد الحكم الاستعماري بالعزلة وتوقيف العمليات التحضيرية التلقائية لمثل هذه الجماعات، خاصةً إذا كانت هذه العمليات تأتي من جانب حضارة غير مرغوبة من جانب الحكومة الاستعمارية.

والحالات التي تشير إلى ذلك كثيرة في الهند وأجزاء من العالم العربي وغرب آسيا وأفريقيا ككل، وقد أدى ذلك في بعض الأحيان إلى تخوف أو حتى إلى «عقدة نفسية» عند بعض الحكومات من الإثنولوجيين عامةً؛ لاعتقادهم أنهم يجمعون من الشعب معلومات خطيرة لأغراض سياسية.٥٥ وأكبر مثال على الحكومات التي كانت تستخدم الأنثروبولوجيين الحكومة الإنجليزية في السودان التي استخدمت عددًا من الأنثروبولوجيين الإنجليز الكبار على رأسهم «سليجمان C. C. Seligman» في أواخر العشرينات لدراسة جنوب السودان عامة، و«إيفانز برتشارد E. Evans-Pritchard» في أواسط الثلاثينات لدراسة الزاندي ثم النوير في جنوب السودان، و«نادل S. F. Nadel» في أوائل الأربعينات لدراسة قبائل النوبا في جنوب السودان أيضًا. ولا شكَّ أن الدراسات التي نُشِرت نتيجة لذلك ما زالت دراسات مونوجرافية قيِّمة، ولكن نتائج هذه الدراسات المتعددة قد أدت إلى وقف تيار التحضير العربي (الذي كان سائدًا لفترة لا بأس بها) والقادم من سكان السودان الشمالي والأوسط، وذلك بتحريم دخول العرب السودانيين إلى الجنوب، وترك المنطقة الجنوبية في إطار حكم محلي تسيطر على التعليم فيه البعثات التبشيرية الأوروبية التي قسَّمت السودان الجنوبي إلى مناطق نفوذ كاثوليكية وبروتستانتية، وكثيرًا ما كان النزاع يشبُّ بين الكنيستين على رعايا كل منهما. والنتيجة النهائية لهذه العملية:
  • (١)

    ترك السودان الجنوبي كنوع من المتحف الحي لحضارات قديمة عُزِلَتْ عن علاقاتها الحضارية الطبيعية (بما في ذلك العلاقات الاقتصادية).

  • (٢)

    تدعيم عوامل الفصل بين سكان السودان الجنوبي وبقية سكان السودان بعدد من شكليات التوجيه التحضيري شديد الغرابة (أوروبي عنصري) بالقياس إلى تيار التحضير الطبيعي (أفريقي عربي).

  • (٣)

    في النهاية ظهرت حركة الجنوب التي تهدف إلى فصل السودان الجنوبي منذ خروج الإنجليز من السودان، والتي تغذِّيها تيارات سياسية خارجية مختلفة، والحالات مماثلة ومتكررة؛ مثل الهند وباكستان، ومثل حركة الإيبو (بيافرا) في الانفصال عن بقية نيجيريا.

والاتجاه الثاني في دراسة التغير الحضاري: هو ذلك الذي سعت له مدرسة فيينا الإثنولوجية في أوائل الخمسينات من هذا القرن؛ فقد اهتم الأستاذ الراحل روبرت فون هايني-جلدرن بإنشاء لجنة دولية ومجلة علمية لنشر أبحاث أو مؤشرات لأبحاث عن الحضارات التي تتهددها تيارات تحضيرية غربية عنيفة تؤدي بها بسرعة. وقد تكللت هذه المساعي بالنجاح حينما خصصت لها هيئة «اليونسكو» الدولية ميزانية محدودة للنشر والبحث. وقد عُرِفت هذه اللجنة باسم «اللجنة الدولية للمشكلات الأنثروبولوجية العاجلة».

وهكذا تقوم اللجنة بالمساعدة على التعرف على مشكلات التحضير الحالية دون أن يكون من ورائها أهداف معينة سوى؛ أولًا: خدمة العلم. ثانيًا: خدمة المجتمعات التي تقع تحت تأثير عمليات التحضير بالمساعدة الدراسية على تخطي مرحلة التغيير بطريقة صحية (إذا كانت الحكومات مستعدة لتطبيق مثل هذه المساعدات العلمية).

وبغض النظر عن أهداف الدراسات التحضيرية، فإن هذه الدراسات أو تلك قد ساعدت بدون شك على غنى كبير في المادة الإثنولوجية في العالم، كما ساعدت أيضًا على ظهور الكثير من الأفكار النظرية في الموضوع الإثنولوجي، كذلك أوضحت أن درجة التغير في القطاع المادي من الحضارة أسرع بكثير من النواحي غير المادية. وفي الوقت نفسه أوضحت هذه الدراسات أن العناصر الحضارية الجديدة في مجموعها لا تجد تقبُّلًا متشابهًا عند الجماعات المختلفة، وذلك بتأثير المدى الواسع للاختيار عند المجتمعات الإنسانية، وبذلك أصبح لدى العلم مادة كبيرة عن عملية التغير الحضاري وتكامل الحضارات، ودور ذلك أيضًا على شخصية الفرد. وقد أدَّى هذا كله إلى كثيرٍ من الاتجاهات التحضيرية عند علماء وباحثي الحضارة في أمريكا، بحيث أصبح من المتعذر أن نجد مدرسة واحدة أو مدارس واضحة بالمعنى المفهوم في الإثنولوجيا الأمريكية المعاصرة، برغم أنها الآن أنشط الهيئات الإثنولوجية وأغناها وأغزرها من حيث الدراسات التفصيلية في الفترة الأخيرة من تاريخ الإثنولوجيا.

ولقد ظهرت بعض الآراء التي تقول إنه يمكن دراسة المجتمعات المتغيرة دون اعتبار لتأثرها بعملية التحضير. وقد يبدو هذا من الناحية النظرية ممكنًا، لكنه في واقع الأمر مستحيل؛ فالجماعات لا تعيش في عزلة، خاصةً خلال الفترة الأخيرة التي يحدث فيها الاتصال الحضاري بوسائل حديثة (الراديو – التلفزيون) دون أن يكون هناك اتصال مادي بين الجماعات.

ولقد وسَّع كثيرٌ من الأنثروبولوجيين الأمريكيين حقل الأنثروبولوجيا باتجاهاتهم إلى دراسة الحضارة المعاصرة في أوروبا وآسيا وأمريكا. وأهم الميادين هنا دراسة الريف كمجموعة حضارية ودراسة المدن المتغيرة حضاريًّا، وخاصةً تلك المدن التي توجد فيها أقليات لونية كالزنوج. وسعى بعض الأنثروبولوجيين أيضًا إلى دراسة حضارة أمم حديثة، كما فعلت روث بنديكت عام ١٩٤٦ حينما نشرت كتابها The Chrysanthemum and the Sword; Patterns of Japanese culture. كذلك فإن الاتجاه إلى دراسة الحضارات العليا القديمة دراسة إثنولوجية قد أخذ يظهر بصورة واضحة في كتابات الإثنولوجيين الألمان والنمساويين والفرنسيين والأمريكيين بالارتباط بالدراسات الأركيولوجية لهذه الحضارات في العالم القديم والجديد على السواء.

(٣) خاتمة

لقد رأينا في العرض السابق أن اتجاهات الفكر الإثنولوجية منذ بداية هذا القرن قد بدأت بداية تطورية في المجال الاجتماعي للإنسان، تحاول أن تجد عند كل مجتمعات الإنسان قواعد أساسية واحدة يُبنَى عليها التطور الحضاري. ولا شكَّ أن المدرسة التطورية بتأكيدها على مبدأ وحدة النوع البشري حضاريًّا إنما كانت تؤكد ذلك في وجه النظريات العنصرية المغالية في التفريق بين سلالات وحضارات الإنسان. وعلى نحو مماثل، حاول فرويد — والاتجاه النفسي — توحيد الأسس الجوهرية عند كل المجتمعات البشرية بإرجاع التطور الحضاري إلى عدد من الأصول المشتركة. وبذلك لم تكن المدرسة النفسية هي الأخرى غير تعبير عن التكافؤ البشري في جذوره وأصوله. وتلافيًا للنقص الذي ظهر من المدرستين التطورية والنفسية نجد المدرسة الانتشارية القديمة تحاول أن تخصص مصدرًا واحدًا للكثير من العناصر الحضارية العليا، وبرغم هذا التخصيص فإن مجرد تقبُّل المجتمعات الأخرى لمثل هذه العناصر المهاجرة دليل على تساوي البشر في قدرتهم العقلية، ولكن هذه المغالاة قد أدَّت إلى رفض مباشر لآراء هذه المدرسة. أمَّا المدارس الانتشارية الأخرى فلا تميل إلى تخصيص مصدر واحد لكافة مجمع الحضارة العليا، بل ترى أن هناك مصادر مختلفة للكثير من العناصر الحضارية تنتشر في أقاليم محدودة أو أقاليم واسعة. ومهما يكن الأمر فإن كافة المدارس الإثنولوجية ونتائج الدراسات الأركيولوجية والتاريخية تشير إلى منطقة الشرق الأوسط كمصدر موحَّد لعدد من مركبات الحضارات العليا المرتبطة بالزراعة واستئناس الحيوان وتشغيل المعادن، انتشرت منه إلى بقية أجزاء العالم. وأخيرًا نجد الاتجاهات المختلفة الانتشارية والتحضيرية والنفسية والوظيفية تظهر في كثيرٍ من المدارس الإثنولوجية الأنجلوساكسونية والأوروبية.

وبرغم أن الرفض أو المعارضة كانت تواجه المنهج تلو المنهج، وأن الرفض كان يؤدي أحيانًا إلى تكوين اتجاه آخر، إلَّا أننا نرى في الوقت الحاضر دعوات كثيرة لتخفيف حدة النزاع المنهجي؛ فالتطورية لم يُقْضَ عليها،٥٦ بل تجد دائمًا أنصارًا يعدِّلونها وفقًا لنتائج البحوث الجديدة. والانتشارية الوحدانية الأصل (المغالية) قد تجد من جديد أدلة جديدة على صحة بعض وجهات نظرها، أيضًا نتيجة الكشوف العلمية والأركيولوجية الحديثة. والاتجاه الوظيفي الضيق كما عرفته المدرسة الإنجليزية في النصف الأول من هذا القرن، قد بدأ ينفتح على مهام أخرى للإثنولوجيا إلى جانب الميدان الوظيفي المنحصر في نظم القرابة عند المجتمعات البدائية، وفي الاتجاهات التاريخية المختلفة إعادات كثيرة لوجهات النظر السابقة، والاتجاه التطبيقي أصبح يجد تأييدًا متزايدًا — ليس قاصرًا فقط على دراسة المجتمعات البدائية — بل تعدَّاه أيضًا إلى دراسات في المجتمعات الغربية الصناعية المعاصرة؛ كل هذا يدل على حيوية واضحة في غالبية الاتجاهات والمدارس الإثنولوجية. ولا شكَّ أن هذه الحيوية وتجديد نشاط الاتجاهات القديمة وتطويرها راجعٌ إلى كثرة الاتصال بين إثنولوجيِّي وأنثروبولوجيِّي العالم في صورة المؤتمرات الدولية والمحلية وكثرة المنشورات الدورية والمجلدات التي تحتوي على ما يشبه حلقات بحث حول موضوعات معينة يشارك فيها كتَّاب متعددون، وكثرة الاتجاه إلى الدراسات الميدانية، ووجود بعض الهيئات التي تساعد في تمويل الدراسات الميدانية أو نشر الأبحاث وسهولة الانتقال.
وخلاصة القول أن الكثير من مصطلحات أو مناهج المدارس المختلفة قد أصبحت شائعة الاستخدام في الميدان أو في التنظير بصورة أو أخرى دون أن تثير الجدل العنيف؛ فإن الاتجاه السائد الآن — بعد ازدياد علاقة الدراسة الحضارية بالاجتماع وما قبل التاريخ وتفتح الإثنولوجيا على ميادين أخرى في الدراسة الإنسانية — أن الدراسة الإثنولوجية لمجتمعٍ ما يجب أن تقوم بالاستناد إلى أي اتجاه أو منهج يخدم دراسة هذا المجتمع. فقيمة الدراسة النهائية لأيِّ مجتمع يجب أن تتعدى الحدود النظرية المحددة بواسطة منهج معين إلى منهج أو مناهج أخرى لكي تصبح هذه الدراسة متكاملة، وهذا هو ما يعبر عنه بعض الأنثروبولوجيين الأمريكيين بقولهم: إن لكل حضارة تناسبًا معيَّنًا (= التناسب الحضاري cultural relativism) يؤدي إلى منهج معين في دراستها.
ومهما بدا في هذا الاتجاه التناسبي من تفكيك للمناهج وأهداف البحث، وصعوبة التعميم على المجال العالمي؛ فإنه لا شكَّ في وجود عددٍ من الضوابط تمنع الانحراف إلى فوضى استقلالية. ومن أهم هذه الضوابط:
  • (١)

    أن هناك عددًا من التشابه الشكلي لعددٍ من الصفات الحضارية بين كل الحضارات مهما كانت درجة اختلافها وتباعدها، وهذه تكون حقائق التشابه العالمي للإنسان والحضارات البشرية. من بين هذه المتشابهات الشكلية وجود قواعد خلقية معينة ومقاييس معينة للتمتع بالجمال والحقيقة، وهناك أيضًا إلى جانب ذلك متشابهات عالمية في المضمون مثل حقيقة التجمع البشري في صورة مجتمع، وحقيقة التنظيم الاقتصادي للمجتمع، وحقيقة الانقسام الجنسي والعلاقة بين الجنسين وتقسيمات العمل، وحقيقة الطموح الفردي أو حقيقة الطموح على مستوى المجموعة من بين أشياء أخرى متشابهة مثل المعتقدات الغيبية والدينية.

  • (٢)

    أن الحضارات في مجموعها ليست ساكنة جامدة، بل هي دائمة التغير في صورة كمية متزايدة، وبسرعة مختلفة حسب درجة النمو الحضاري ومصدر هذا النمو: من الداخل أو من الخارج. ومهما انتاب هذا التغير من توقف نتيجة عزلة طبيعية أو مفروضة؛ فإن هذا لا يمثل سوى مرحلة زمنية محددة تعود بعدها أشكال التغير الكمية والكيفية إلى الظهور. ومن ثم، فإن حدود الدراسة الإثنولوجية — مهما كانت غامضة المنهج — لن تخرج في النهاية عن مبدأين: النمو الحضاري الذاتي والنمو الحضاري بدوافع خارجية. ومعنى ذلك أن الدراسة لن تتعدى — في جوهرها — المنهجين التطوري والانتشاري بأوسع معانيهما.

  • (٣)

    أن تفسير النمو والتغير الحضاري (أو التوقف في أقصى مراحل التطرف) يجب أن يعتمد على أدوات معينة. وهذه الأدوات هي العوامل النفسية للفرد والمجتمع، ووظيفة التركيب الحضاري والعناصر الحضارية داخل هذا التركيب، ومن ثم تتم دراسة عملية التغير الحضاري بالإضافة إلى البعد الزمني (العلاقات التاريخية).

١  J. Lafitau, “Moeurs des Sauvages Ameriquaines Comparé aux Moeurs des Premiers Temps”, Paris, 1724.
٢  اقرأ عن أهداف الجمعية في [مقدمة حول تعمير الأرض – هجرات الشعوب وبدايات تعمير العالم].
٣  «الكوفاده» باختصار عبارة عن تقليد الأب لكثير من الحركات والتقلصات والآلام التي تحدث للأم عندما تضع مولودها، وتُسمَّى أحيانًا «مهد الرجل»؛ لأن الأب ينام في سرير في غرفة أخرى في وقت الولادة وقبلها بفترة، ويراعي بعض المحرمات لمساعدة الأم على الولادة، وعلى الأب أن يراعي ألا يُصاب بجراح أو أمراض خلال تلك الفترة لكي يُولَد الطفل سليمًا، وإلا أُصِيبَ الطفل بها (قوى السحر التعاطفي Sympathetic Magic). وبعض النظريات تقول إن هذه الممارسات هي تعبير عن المشاركة في الأبوة، ونظريات أخرى تقول إن الأب على هذا النحو من التصرف المماثل للأم إنما يصرف عنها الأرواح الشريرة ويركزها على نفسه، فتنجو الأم ووليدها من الأذى المنتظر.
٤  Waitz, T. “Anthropologie Der Naturvoelker” Leipzig 1858–1872.
٥  Bastian, A., “Der Mensch in der Geschichte” Leipzig 1860.
٦  اعتمد إنجلز على مراحل مورجان في تفسير التطور الاجتماعي الاقتصادي العالمي في كتابه المشهور: «أصل العائلة والملكية الفردية والدولة» (الطبعة الألمانية ١٨٨٤). F. Engels, “Origin of Family, Private Property and State”.
٧  يعترف تيلور بوجود ركود وارتداد حضاري في أحيان كثيرة، لكن ذلك لا يمثل شيئًا خطيرًا في الصورة العامة للتطور الحضاري من أسفل إلى أعلى.
٨  White, L., “The Science of Culture: a Study of Man and Civilization” New York 1949.
White, L., “Kroeber’s Configurations of Culture Growth”, Am. Anthropologist, 1946, pp. 78–93.
White, L., “Diffusion vs. Evolution: An Anti-Evolutionist Fallacy” Am. Anthropologist 1945, pp 84.
White, L., “Energy and the Evolution of Culture” Am. Anthropologist, 1943, pp 33–348.
٩  White, L. A., “Energy and the Evolution of Culture” Am. Anthropologist, 1943, pp. 347-348.
١٠  ملفيل هرسكوفتس من الإثنولوجيين الأمريكيين الذين ظلوا حتى وفاتهم يعارضون التطورية، ومع ذلك فإنه يعترف بأن النزاع كان موجهًا إلى كلمة التطور قبل أن يُوجَّه إلى المنهج: «من المؤسف أن دراسة الحضارة قد وقعت في مأزق جدلي تركز حول كلمة «التطور». هذا الاستخدام قد تحوَّل في أغلب الأحيان إلى صرخة حرب بدلًا من أن يصبح أداة للبحث». وفي الفقرة نفسها يعود هرسكوفتس إلى تجاهل لويس مورجان ويؤكد أن إدوارد تيلور كان معتدلًا في تطوريته. انظر: Herskovits, M., “Cultural Anthropology”, New York 1964, pp 441-2.
١١  Gordon V. Childe, “Social Evolution” London 1951.
١٢  Malinowski, B., “The Father in Primitive Psychology”. New York 1927.
١٣  Herskovits, M., “Cultural Anthropology”. New York 1964. Pp. 339-400.
١٤  Malinowski, B., “A Scientific Theory of Culture and Other Essays” Univ. North Carolina Press, 1944.
١٥  Radcliffe-Brown, A. R., “On the Concept of Function in Social Science” 1936. وقد أُعِيدَ نشر هذا المقال مع إضافات صغيرة في كتاب باسم: “Structure and Function in Primitive Society” London 1952.
١٦  Fortes, M., “Social Anthropology” in A. E. Heath “Scientific Thought in the Twentieth Century” London 1951, p. 340.
١٧  Fortes, M, Ibid, P. 340.
١٨  يقسم براون المناهج العلمية إلى نوعين؛ الأول: يستهدف تقرير حقائق خاصة، والثاني: يستهدف التعميم. ويضم براون التاريخ والإثنوجرافيا إلى النوع الأول، والدراسات الاجتماعية النظرية أو الأنثروبولوجيا الاجتماعية إلى النوع الثاني. ويستطرد فيقول: إن الأنثروبولوجيا الاجتماعية تضم المنهجين معًا؛ لأنها مبنية على المادة التي تجمعها الإثنوجرافيا، وبذلك يتخلص براون من كلمة منهج تاريخي وغير تاريخي. وخطأ براون أنه يؤكد أن التاريخ يقرر حقائق خاصة فقط، بل إنه يعمم من الخاص كما هو معروف. راجع: Radcliffe-Brown, A., “Social Anthropology: Past and Present” in “Man”, Vol. LII jan. 1952.
١٩  Murdock, G. P., “British Social Anthropology” in, “American Anthropologist”, Vol. 53, No. 4,1951, pp. 465–473.
٢٠  Firht, R., “Function” in “Current Anthropology-Supplement to Anthropology Today” ed. W. L. Thomas, Univ. Chicago Press, 1956, p. 255.
٢١  Fürer-Haimendorf, C. von, “Culture History and Cultural Development” in “Current Anthropology” ed. W. L. Thomas, Univ. Chicago Press. 1956, p. 158.
٢٢  Shapera, I., “The Ethnic Composition of Tswana Tribes”, Monographs, Lon. Shc. Economics, London 1952.
٢٣  اعتقد المصريون القدماء أن ملامسة الجسم للمعادن النفيسة تعطي للجسم قوة الحياة، وبرغم أن الذهب وغيره في صورة أساور وعقود وما إلى ذلك من أشكال الحلي عبارة عن نقود مجمدة، إلا أننا نرى أن المصريات — وخاصة بنات البلد في المدن، وغالبية الريفيات — إلى الآن يمارسن لبس هذه الأشياء بصفة مستمرة كنوع من الاستمرار الحضاري دون معرفة أصول العادة. كذلك تدل دراستنا الميدانية في الدلتا على أن هناك اعتقادات حالية في أن اللآلئ — باستخدام طقسي معين — تساعد العاقرات على الإنجاب — أي إنها مانحة للحياة، وهذا في حد ذاته استمرار واضح لمفاهيم حضارية مضى عليها عدة آلاف من السنين دون تغيير.
٢٤  Childe, G., V., “Social Evolution” London 1951 pp. 24-25.
٢٥  يعتقد بريدوود أن الحضارات المصرية وحضارة هارابا في السند قد أخذت أصولها من مصدر واحد، هو حضارات ما بين النهرين. وهو يعتقد أن التغيرات في الإنتاج من الجمع إلى الزراعة واستئناس الحيوان — التي حدثت فجأة حوالي ٦٠٠٠ق.م — لم تؤدِّ وحدها إلى نشأة الحضارات العليا، بل إن ذلك استدعى تطورًا اجتماعيًّا سياسيًّا خلقيًّا دينيًّا ساعد على تكامل السكان المتزايدين عدديًّا في إطار مدني حضاري. Braidwood, R. J., “The Near East and the Foundations for Civilization” Oregon State system of Higher Education, Eugene, Ore., 1952.
٢٦  لورد راجلان في كتابه How Came Civilization ١٩٣٩ ص١٧٠ … عن جوردون تشايلد في كتابه المذكور آنفًا ١٩٥١ ص٢٤-٢٥.
٢٧  Ekholm, G. F., “News World Culture History” in “Current Anthropology” ed. W. L. Thomas, Uni. Chicago Press 1956, p. 104.
٢٨  Haury, E. W., “Archeological Theories and Interpretations” in “Current Anthropology”, ed. W. L. Thomas, Univ. Chicago Press, 1956, p. 119.
٢٩  في سنة ١٩٠٤ قدم برنارد أنكرمان B. Ankermann محاضرة عن الدوائر الحضارية والطبقات الحضارية في أفريقيا، مشابهة تمامًا لمحاضرة جرايبنر عن أوشينيا، برغم أن كلًّا منهما وصل إلى نتائجه منفصلًا عن الآخر. وقد نُشِر هذا البحث أيضًا عام ١٩٠٥ في المجلة نفسها.
٣٠  Graebner, F. “Methode der Ethnologie”, Heidelberg 1911.
٣١  من أمثلة المقاييس التي ابتكرها جرايبنر، وتجد ثناءً وتقديرًا من جانب غالبية الإثنولوجيين المعاصرين في أمريكا وألمانيا وفرنسا المقاييس الآتية: نقد المصادر Quellenkritik، مقاييس الشكل والعدد Qualitatives-Quantitaskriterium، مقياس الاستمرارية Kontinuitâtskriterium إلخ …
٣٢  Graebner, F., “Ethnology” in “Die Kultur der Gegenwart” Teil III, 5, pp. 435–587, Leipzig-Berlin 1923.
٣٣  Lowie, R. H. “The History of Ethnological Theory” New York, 1937. And, Heine-Geldern, R. “One Hundred Years of Ethnological Theory in the German Speaking Countries” New York 1962.
٣٤  غيَّر شميت أسماء الدوائر الحضارية التي ابتكرها جرايبنر على النحو التالي: الدائرة الطوطمية أصبحت عند شميت دائرة الزواج الاغترابي الأبوي، والدائرة الشقية Moiety أصبحت عند شميت دائرة الزواج الاغترابي الأموي، ودائرة القوس الميلانيزي أصبحت الدائرة الأموية الحرة، والدائرة البولينيزية أصبحت الدائرة الأبوية الحرة.
٣٥  Schmidt, W., & W. Koppers, “voelker und Kulturen” Re-geusburg, 1924.
٣٦  Hancar, F., “Stand und Historische Bedeutung der Pferdezucht Mittelasiens im I. Jahrtausend v. Chr.” Wiener Beitraege zur Kulturgeschichte und Linguistik, vol. I/x, Wien 1952 pp. 466–511.
Jettmar, K., “Die Anfaenge der Rentierzucht”, anthropos, vol. 48, pp. 737–759, Fribourg 1952.
Jettmar, K., “Les plus anciennes civilizations d’éleveurs des steppes d’Asie centrale” Cahiers d’Histoire Mondiale, vol. I. No. 4, pp. 760–783, Paris 1954.
Zeuner. F. E., “Domestication of Animals” pp. 327–352 in C. Singer et al. “History of Technology”, vol. I, “From Early Times to the Fall of Ancient Empires”, Oxford 1954.
٣٧  Schmidt, W., “Handbuch der Kulturhistorishen Ethnologie” Muenster 1936.
وقد ترجمه إلى الإنجليزية S. A. Sieber بعنوان The Culture Historical Method of Ethnology في نيويورك ١٩٣٩.
٣٨  Koppers, W., “Grundsaetziliches und Geschichtliches zur ethnologischen Kulturkreislechre” in “Beitraege Oesterreichs zur Erforschung der Vergangenheit …” Wein, Horn 1959, pp. 110–126.
٣٩  Schmidt, W., “The Culture Historical Method of Ethnology”, New York 1939, p. 176.
٤٠  Ibid, p. 179.
٤١  كان أهم ما يتميز به شميت — في أبحاثه وبين زملائه — سعة الاطلاع والتحري الدقيق للمصادر التاريخية، كما كان شميت يدفع تلاميذه للدراسة الحقلية وينظمها لهم بصفة مستمرة. مثلًا هو الذي دفع كوبرز ومارتن جوزينده إلى دراسة قبيلة اليامانا في تييرادلفويجو في أوائل هذا القرن. ومن ناحية أخرى فإن دراسة الديانة في الإثنولوجيا قد وجدت في شميت الشخص الملائم. وقد كتب شميت كتابه الذي يقف أمامه كل الإثنولوجيين باحترام شديد في ١٢ جزء باسم أصل فكرة الإله Der Ursprung der Gottesidee فيما بين ١٩١٢–١٩٥٤، ويهاجم نظرية «الاستحياء» عند تيلور، ويرى أن معظم الجماعات البدائية كانت تعتقد في إله أعلى قبل أفكار الأرواح وغيرها، وبذلك يحاول أن ينتهي إلى أن فكرة الله الواحد فكرة أزلية عند الشعوب، «وأن هذه الفكرة وحي من الله قبل أن ينزل الإنسان إلى الأرض.» (كوبرز ١٩٤٩). Koppers, W., “Der Urmensch und Sein Weltbild”, Wien, 1949.
٤٢  Heine-Geldern, R. “Die asiatische Herkunft der Sued-Amerikanischen Metalltechnik”, Paideuma, Frankfurt/M, vol. 5, 1954, pp. 347–423.
٤٣  Haekel, J., “Neue Beitraege zur Kulturschichtung Brasiliens” Anthropos, vol. 47, pp. 963–991, vol. 47, pp. 105–157, 1952-1953. Haekel, J., “Zum Problem des Mutterrechtes”, Paideuma, Mitteilungen zur Kulturkunde, Frankfurt/M, vol. v. No. 6, pp. 298–322, No. 7/8 pp. 481–508., 1953-1954.
٤٤  ساهم هيرشبرج في السنوات الأخيرة بالإشراف على مجلة تصدر من المعهد الإثنولوجي في فيينا تحمل اسم الاتجاه الجديد الذي يسعى إليه Wiener Ethnohistorischen Blaetter.
٤٥  Koppers, W. “Diffusion: Transmission and Acceptance”, in “Current Anthropology” ed. W. L. Thomas Chicago Univ. Press 1956, pp. 169–181.
٤٦  خلط مالينوفسكي بين جرايبنر وبواس، وبين كرويبر وشميت، برغم الفوارق الكبيرة التي تفصل بين بواس وكرويبر من ناحية وجرايبنر وشميت من ناحية أخرى. ويرى هرسكوفتز أن الفوارق كانت ضعيفة بين الوظيفيين والأنثروبولجيين الأمريكيين، بينما هي واسعة بين الأمريكيين والانتشاريين الألمان والنمساويين. ارجع إلى: Herskovits, M., “Cultural Anthropology” New York 1964, p. 462.
٤٧  Fürer-Haimendorf, C. von, “Culture History and Cultural Development” in “Current Anthropology”, ed. W. L. Thomas, Univ. Chicago Press 1956, p. 151.
٤٨  Ibid, pp. 150-151.
٤٩  Meyerowitz, E. “The Sacred State of the Akan”, London 1951, and “Akan Traditions of Origin”, London 1952.
٥٠  Fuerer-Haimendorf, G. von, Ibid, p. 159.
٥١  نشر المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي هذه الأبحاث في أجزاء بدأت عام ١٩٠٨.
٥٢  Goldenweiser, A., “Recent Trends in American Anthropology”, Am. Anthropologist, vol. 43, No. 2. 1941, p. 156.
٥٣  Beals, R. & H. Hoijer, “An Introduction to Anthropology”. 3 ed. New York 1967, pp. 713–715.
٥٤  Sehmidt, W, “The Culture Historical Method of Ethnology” tran. S. A. Seiber, New York 1939, pp. 189.
٥٥  يسمِّي بعض الإثنولوجيين هذه العقدة النفسية أحيانًا باسم «عقدة كيم»؛ نسبة إلى قصة Kim التي كتبها روديارد كبلنج — الكاتب الإنجليزي الذي وُلِدَ في الهند ونشر هذه القصة ضمن كتبه وأشعاره العديدة — في أوائل هذا القرن. وخلاصة القصة أن شابًّا يعمل لحساب المخابرات البريطانية ضد التجسس في شمال الهند (التبت وغيرها) يتخفَّى في صورة أنثروبولوجي. وقد تعرض مؤلف هذا الكتاب لهذه «العقدة» أثناء إجراء أبحاثه الإثنولوجية في جنوب السودان عام ١٩٥٤.
٥٦  يمثل روبرت لوي واحدًا من أشد معارضي التطورية الحضارية، ولكنه يقول: إن التطورية لم تَمُتْ، وواجبنا أن نحددها بدقة أكبر، كما يعتقد أنه ربما أمكن تعيين مراحل حضارية وتطور حضاري فيما بعد. راجع: Lowie, R. “The History of Ethnological Theory” New York, 1937, p. 27.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤