المدارس الإثنولوجية
يمكننا الآن أن نعرض بإيجاز لمدارس الفكر الإثنولوجية بعد أن عرفنا الكثير عن مشكلة الحضارة وأنواعها وبعض مشكلات التنظير، ويمكننا أن نقول إن المدارس الإثنولوجية في العصر الحديث تنحصر في عدد من الاتجاهات التاريخية والتطورية والنفسية والوظيفية والتحضيرية، وذلك بالإضافة إلى الاتجاه العملي الذي ينحو دائمًا نحو المونوجرافية ويبعد كثيرًا عن مشاكل التنظير.
ومهما قيل عن هذين المبدأين، فإنهما يُستخدَمان بكثرة عند غالبية الإثنولوجيين استخدامًا ضمنيًّا أو صريحًا، وإن كان الإثنولوجيون في الماضي يميلون إلى واحد من المبدأين ميلًا واضحًا، إلا أن الإثنولوجيين المحدثين يستخدمونهما معًا حسب الظروف الحضارية المختلفة.
ولقد كان ظهور المدارس والمناهج الإثنولوجية الحالية أمرًا غير مفاجئ، بل سبقه دراسات عديدة منذ أقدم عصور الكتابة كما سنحاول توضيحه في المراحل التالية:
(١) فترة الرواد
(١-١) الفكر الإثنولوجي منذ أقدم العصور حتى الكشوف الجغرافية
في القرن الخامس قبل الميلاد، نجد أوائل الكتابات الإثنولوجية عند الإغريق، ولو أننا نرجح وجود مفاهيم وكتابات في الموضوع الإثنولوجي في عصور سابقة، غير أننا نحتاج إلى كثير من التعمق في تاريخ وأركيولوجية شعوب البحر المتوسط القديمة، وعلى الأخص في مصر والعراق وفينيقيا. وفي مصر القديمة نجد أول إشارات إلى الموضوع الإثنولوجي في التمييز الذي أعطاه المصريون للمجموعات الحضارية المجاورة بواسطة الرسوم الملونة على الجدران؛ فقد أعطوا للغربيين (الليبيين) البشرة البيضاء والعيون الزرق والشعر المموج وللنوبيين البشرة السوداء والشعر الصوفي، وللآسيويين اللون الأبيض والأنف المحدب والذقن الطويلة، وأعطوا لأنفسهم اللون الأحمر مع بعض المميزات الوجهية والذقن الحليقة. ولا شك في أنه كانت هناك تفسيرات كثيرة للارتباطات الحضارية عند هؤلاء الجيران في شكل تصفيف الشعر وفي الملبس والأسلحة والثروة الاقتصادية (أغنام وماشية وزراعة حبوب) وغير ذلك من المميزات الحضارية المادية والاقتصادية للشعوب المجاورة. ولا شك أيضًا في أنه كانت هناك كتابات وقصص شعبية عن بعض الممارسات الحضارية الاجتماعية المرتبطة بهؤلاء الجيران. لكن الأمر يحتاج — كما قلت — إلى استخراج ذلك كله من سجلات التصوير والكتابة المصرية القديمة، ولعل ذلك يحدث فيما بعد؛ ليس فقط بالنسبة لمصر، ولكن بالنسبة للحضارات القديمة الأخرى أيضًا.
وهناك كتاب آخرون في الفترة التالية والعصر الروماني، لكنهم لم يضيفوا جديدًا إلى الموضوع الإثنولوجي. ثم تأتي الفترة العربية برحَّالتها وجغرافييها ومؤرخيها العظام الذين يوجد في كتاباتهم الكثير من المواد الإثنولوجية، وهم في ذلك يشابهون هيرودوت وسترابو على وجه خاص. وما زالت هذه الكتابات مصدرًا عظيمًا لم تتناوله الإثنولوجيا الحديثة بالدرس كما يجب، وإن كانت تجد صدًى واسعًا للإثنوجرافيين والحضاريين السوفيت، بحكم أن الكثير من الكتابات العربية قد تكلمت كثيرًا عن شعوب وسط آسيا والقوقاز والهند. لكن هناك أيضًا كتابات هامة عن أفريقيا، على رأسها كتابات ابن بطوطة والمسعودي وكتاب المغرب. ولعل أهم الكتابات العربية في الموضوع الإثنولوجي النظري هي كتابات ابن خلدون الإثنوجرافية والإثنولوجية العظيمة. وقد ركز ابن خلدون كثيرًا في «مقدمته» على العلاقات الحضارية الاقتصادية بين الحضر والبداوة، وأهمية البدو ودورهم في التاريخ العام والتاريخ الحضاري على وجه خاص. ومهما قيل عن تحيز ابن خلدون ضد البدو؛ فإن فلسفته الحضارية ممتازة، وقد مسَّت إحدى أهم مراحل البناء الحضاري في العالم الجاف منذ القرن الرابع عشر الميلادي. وقد نقل الأوروبيون الكثير عن ابن خلدون، ولكن لا شك في أن هناك كتابات أخرى مماثلة لم تُسلَّط عليها الأضواء بما فيه الكفاية.
(١-٢) مرحلة الكشوف الجغرافية حتى بداية القرن التاسع عشر
يتميز الفكر الإثنولوجي في هذه المرحلة بالكثير من المونوجرافات التي تصف الشعوب الغريبة التي شاهدها الأوروبيون في مراحل توسعهم الكشفي التجاري والاستعماري خلال القرون الثلاثة: السادس عشر إلى الثامن عشر.
وكذلك يدخل لافيتو إلى دراسة عدد من النظم الاجتماعية، مثل دراسة ثمن العروس (بقاياه الحالية هي المعروفة باسم الصداق أو المهر)، طقوس البلوغ، وبعض الدراسات الدينية (محاولة استقراء وجود فكرة الإله الأعلى عند الجماعات البدائية)، وبذلك فإن الأب لافيتو يحتل مركزًا عاليًا في الدراسات الإثنولوجية المبكرة.
(١-٣) مرحلة الفصل بين الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا (١٨٠٠–١٨٥٨)
وفي هذه الفترة أيضًا ظهرت آثار الثورة الفرنسية والرومانتيكيين ونمو القومية في كثير من الدراسات اللغوية والإثنوجرافية، وكذلك ظهور فلسفات مثالية وتأثيرات من العلوم الطبيعية على محاولة تفهم الحضارات المختلفة. ففي ألمانيا تبلورت الجغرافيا والمدرسة التاريخية في الدراسات الإنسانية والحضارية، ونمو علوم اللغة الهندوجرمانية، وفي فرنسا نمت الأنثروبولوجيا الطبيعية. وبرغم هذه الاتجاهات ظهرت في هذه الفترة بعض الدراسات الإثنوجرافية عن الصين أو القوقاز أو شمال أوروبا أو سيبيريا أو أمريكا اللاتينية وأفريقيا وبولينيزيا … إلخ، ومعظمها كان في صورة رحلات علمية ووصف دقيق للمشاهدات والملاحظات، ومحاولة للتفسير في بعض الأحيان، مثل رحلات وكتابات الأمير الألماني مكسميليان فون فيد عن البرازيل والولايات المتحدة، ورحلات مونجو بارك وهاينريخ بارت في أفريقيا.
ولقد كان للأنثروبولوجيا الطبيعية حظ أوفر من الإثنولوجيا؛ وذلك لأن القائمين بها كانوا أساتذة في كليات الطب الجامعية. ويُضاف إلى ذلك أن الاهتمام العام كان موجهًا إلى دراسة الاختلافات الجسدية بين سلالات البشر كجزء من النظريات العنصرية أو المناهضة لها.
(١-٤) مرحلة تدعيم الإثنولوجيا ١٨٥٩–١٩٠٥
ويؤكد فايتز أن كل الشعوب قد بدأت من درجة الصفر: الإنسان الطبيعي بدون حضارة، ويتساءل عن كيفية حدوث الاختلافات الكبيرة في حضارات الناس، ويعود ليؤكد أن مرد هذه الاختلافات لا يرجع إلى هبات أو قدرات عقلية؛ فهذه متساوية عند كل الناس، ولكن الفروق في رأيه قد نجمت عن اختلاف الفرص التي هيأتها الظروف الطبيعية، وخاصةً المناخ والموقع الجغرافي والعلاقات التاريخية.
وبغضِّ النظر عن بعض مشكلات التنظير التي نادى بها باستيان والتي سبق نقدها، مثل العقلية البدائية وعقلية الشعوب؛ كان باستيان يميل إلى مبدأ الأصل المستقل لكثير من المتشابهات الحضارية في نظرة تطورية اجتماعية. لكنه لم يرفض أيضًا في بعض الأحيان مبدأ الانتشار الحضاري، ففي الحضارات البدائية يُرجع باستيان المظاهر الحضارية إلى نمو محلي مرتبط بعوامل البيئة والمناخ، ومع ذلك فهو يعترف بتأثيرات الاحتكاك الحضاري والمبدأ التاريخي من معالجته للأقاليم الجغرافية للحضارات البدائية. وقد حاول باستيان كثيرًا أن يدخل مبدأ التأثيرات النفسية كعامل شديد التأثير في النمو الحضاري المحلي. وأكبر ما يعيب باستيان هو أن كتاباته من ناحية الأسلوب شديدة التعقيد قليلة الوضوح، إلى حد أن الكثيرين من الألمان وجدوا صعوبة شديدة في متابعة تسلسله الفكري.
ولا شك في أن المراحل الثلاث تركيب نظري بحت وخاصة المرحلة الأولى، وقد اعتمد باخوفن كثيرًا على كتابات هيرودوت عن النظام الأموي عند أهل ليكيا في آسيا الصغرى. وعلى أي حال، فإن باخوفن قد أثار موضوعًا إثنولوجيًّا هامًّا سوف يظل يتكرر عند عدد من الإثنولوجيين القدماء والمحدثين في دراساتهم المونوجرافية. إن الأب لافيتو سبق باخوفن في دراسة النظام الأموي عند بعض سكان أمريكا الشمالية (على نحو ما أوضحنا من قبل)، ولكن هناك اختلاف بين معالجة لافيتو التاريخية المحضة لهذه الظاهرة الحضارية ومعالجة باخوفن النابعة عن وظيفة النظام الأموي ودوره في التركيب الاجتماعي.
وفي هذا الوقت نجد في أمريكا وبريطانيا عالمين من كبار الإثنولوجيين، يمكننا أن نقول عنهما إنهما فعلًا من بناة الإثنولوجيا الحديثة؛ هذان العالمان هما لويس مورجان وإدوارد تيلور.
ومن ناحية التنظير الإثنولوجي وجد مورجان أن نمط القرابة الهاوائي هو الدليل المادي على وجود مرحلة الشيوع في الزواج التي أعلنها باخوفن، واستنتج أن نظام الزواج في هذه المرحلة كان زواجًا جماعيًّا: مجموعة من الرجال تتزوج مجموعة من النساء، ثم تحول إلى نظام الزواج الأموي (زوجان ونسب أموي)، ثم النظام الأبوي (رجل وعدة زوجات)، وأخيرًا الزواج الأبوي الوحدوي (زوج وزوجة ونسب أبوي)، وبذلك فإن خير ما قدمه مورجان هو ربط أنماط القرابة بشكل الزواج ونمط الأسرة.
ويرى مورجان أن الانتقال من مرحلة إلى أخرى قد تم بناءً على كشوف تكنولوجية هامة، وإلى مورجان يرجع الفضل في إعلان وتأكيد الترابط والتفاعل بين نظم الحصول على الغذاء، والنظم الاقتصادية، والتكنولوجيا، والتركيب الاجتماعي، والنظم القانونية. ولم يكن لمورجان جَلَد على تفسير النظم الدينية للقبائل المختلفة، وقد وصفها بأنها ديانات شاذة وغير مفهومة إلى حد كبير.
وفيما يختص بمبدأ التطور المحلي والانتشار، نجده لا يهتم بأي منهما كثيرًا إلا حينما يطرأ شكل من الأشكال المتشابهة بين الحضارات، حينئذٍ يلجأ إلى الأصل الواحد والهجرة البشرية، كتفسيره ارتباط أصول الزولو (جنوب أفريقيا) والتاميلي (جنوب الهند) والهاوائيين والأيروكويز في الماضي البعيد لإيجاد سبب لانتشار نفس نظم القرابة الطبقية.
وكان تيلور أول من درس طرق إشعال النار عند البدائيين، وطريقة الطهو بالحجارة الساخنة عند الجماعات التي لا تعرف صناعات الفخار. كذلك كان ممن درسوا بعناية نظام الزواج الاغترابي المحلي ونظام الزواج مع أنساب الأم (ابن الخال أو الخالة)، وقد اتفق مع باستيان كثيرًا في مبدأ الفكر البدائي، وربط النمو الحضاري بوحدة الناس النفسية والتطور المحلي. وفي هذا يقول تيلور: إن الحضارة مثل النبات تتصف بالانتشار أكثر من أن تتطور. ويرى أن الناس قد أخذوا الكثير عن جيرانهم أكثر مما اخترعوا أو اكتشفوا بأنفسهم.
وفي هذا المجال يرى تيلور أن هناك عددًا كبيرًا من الاكتشافات التي نشأت في مكان واحد وانتشرت منه إلى أماكن العالم، مثال ذلك الفخار الذي انتشر في أمريكا من المكسيك، وكذلك القوس والسهم، والشطرنج الذي نشأ في الهند وانتشر في العالم وعبر المحيط الهادي إلى المكسيك. وكذلك يقول إن هناك ترابطات تاريخية ناجمة عن الانتشار الدائم للحضارة في صورة مجمعات حضارية.
(٢) اتجاهات البحث والمدارس الإثنولوجية
بعد الطفرة التي حدثت في الكتابات الأنثروبولوجية والإثنولوجية، وتجمع عدد كبير من المعلومات نتيجة الدراسات العملية والنظرية التي قام بها رواد الإثنولوجيا؛ نجد أنه قد أصبح واضحًا منذ بداية هذا القرن وجود عدة اتجاهات في الدراسة ارتبطت بها عدة مدارس إثنولوجية، ويمكن أن نلخص هذه الاتجاهات في أربعة اتجاهات هي: التطورية، النفسية، الوظيفية، الانتشارية أو التاريخية، وأخيرًا التحضيرية.
(٢-١) الاتجاه التطوري Evolution
ولقد وُجِّه نقد شديد إلى فكرة التطور البسيطة، كما أثبتت الدراسات الإثنولوجية اللاحقة أن الكثير من النقل الحضاري بين الجماعات المختلفة بواسطة الانتشار والهجرة الحضارية والبشرية قد أسهم بصورة أكبر في تطور الحضارات عما اعتقد التطوريون الأول. كذلك فإن المنهج المقارن الذي أكد عليه تيلور في تأكيده للتطور البسيط، عبارة عن دراسة لعناصر حضارية غير مترابطة، بينما يجب أن ندرس جميع العناصر الحضارية كوسائل مترابطة للحياة عند أي مجموعة بشرية. فالحضارة ليست تجميعًا لعناصر مفردة، بل مجموعة التفاعلات والترابطات بين عدد من العناصر.
ولزلي هوايت في موقفه الأساسي يبدو كما لو كان يعيد صياغة آراء لويس مورجان ومراحله الحضارية، على أساس التقدم العلمي وما وصله العلم الراهن من معلومات هائلة عن المجتمعات الإنسانية القديمة والبائدة والحديثة، إلى جانب الدراسات المختلفة في النواحي الاقتصادية والاجتماعية ومجمل النواحي الإنسانية.
يعيد هوايت فكرة المراحل الحضارية من خلال قوة دافعة محركة للتطور؛ هي الطاقة. فعهد الوحشية يتميز بأن الإنسان كان يعيش على طاقته العضلية فقط: جمع الغذاء النباتي والصيد البري والسماكة. وحينما استأنس النبات والحيوان استطاع أن يحصل على طاقة أعلى من طاقته العضلية، وأن يتحكم في طاقة الإنبات بدلًا من الاعتماد على الطاقة الطبيعية للنمو النباتي، وهكذا فإن زيادة الطاقة قد أدت إلى انتقال الإنسان من مرحلة الوحشية إلى البربرية. وهنا يرى هوايت أن هناك جماعات ظلت في مرحلة الوحشية، حتى برغم انتقال الإنسانية إلى مرحلة المدنية المعاصرة. والأهمية التي يعلقها هوايت على ذلك هي أن المراحل التي يذكرها لا تمثل مرحلة محددة في التاريخ، لكنها مرحلة من مراحل التطور الحضاري نجدها متمثلة في أي فترة تاريخية قديمة أو معاصرة حسب الظروف الحضارية المختلفة. وبذلك فإن هوايت ينفي فكرة المرحلة من الحتمية التاريخية ويجعلها ممكنة في أي فترة زمنية، وهذا بدون شك إضافة توضيحية لموقف التطورية في الحضارة الإنسانية عامةً.
وبغض النظر عن أخطاء التطورية القديمة ومغالاة التطورية الجديدة في استبعاد العامل النفسي في الدراسة الحضارية؛ فإن التطورية قد أعطت للإثنولوجيا عددًا من النقاط الهامة في المنهج وفي تكوين العلم؛ ذلك أن أبحاث التطوريين قد ساعدت على تطوير وتحديد مفهوم مصطلح «الحضارة» بالمعنى الذي نفهمه منها الآن، كما ساهمت في فصل مصطلحي «الحضارة» و«السلالة» فصلًا واضحًا بعد أن كان اللبس بينهما قائمًا بصفة مستمرة. كذلك أعطى التطوريون للإثنولوجيين الأقسام المختلفة التي تتكون منها الحضارة، والتي نسميها الآن المظاهر أو العناصر الحضارية، واتضحت من حقول دراساتهم أهمية دراسة هذه العناصر ومشكلاتها مستقلة عن بعضها البعض، وأخيرًا فإنهم أيضًا قد أعطوا للإثنولوجيا مفهوم «الاستمرار» في الحضارة والنمو المستمر المنتظم للعناصر الحضارية.
ولا شك أن الاتجاه التطوري في الدراسة الحضارية أمر لا يمكن إنكاره، فغير واقعي أن ننكر وجود مراحل أو طبقات تاريخية سابقة داخل الحضارة، وخاصة في الجانب المادي من المنتجات الحضارية؛ حيث تظهر أشكال قديمة وحديثة من الإنتاج تعبر عن تطور واضح. وفي الوقت الذي يعترف فيه كثيرون من الإثنولوجيين الأمريكيين وبعض الأوروبيين بهذه الصورة من التطورية في المجال المادي من الحضارة، نجدهم يتساءلون في تشكك: وما قيمة الحصول على صورة تطورية في نظام النسب على سبيل المثال؟! ما هي أهمية أن نعرف أن نظام النسب الأموي كان سائدًا في الماضي، ثم تطور النسب الأبوي؟! وبغض النظر عن القيمة العلمية المعلقة على معرفة أشكال النسب أو نظم الزواج أو أشكال العقائد في الماضي؛ فإن اعتراضات هؤلاء العلماء غير مفهومة علميًّا. وبما أن الحضارة كلٌّ متفاعل مترابط كما هو متفق عليه، فكيف نوافق التطوريين حينما يطبقون منهجهم في الجوانب المادية من الحضارة ونعارضهم حينما يتتبعون النظم الاجتماعية بالدراسة التطورية؟! وفوق ذلك: أليس نمط النسب أو شكل الأسرة مرتبطًا بمجموعة كبيرة من القوانين والاعتيادات الحضارية، مثل نظام الوراثة وقوانين الملكية والنظم القضائية من بين أشياء أخرى كثيرة؟
(٢-٢) الاتجاه النفسي في الإثنولوجيا
ولهذا فإن النقد الأساسي الذي وُجِّه إلى مدرسة التحليل النفسي، هي أنها قامت على أساس ممارسات واعتيادات الحضارة الغربية كما وجدها ودرسها فرويد، وبالتالي لا يمكن تطبيقها على المجتمعات غير الأوروبية. وكذلك توجه انتقادات كثيرة إلى استخدام منهج رور شاخ في الدراسات النفسية التي تحدث على الجماعات البدائية؛ لأنه أيضًا يُبنَى على أساس ما هو موجود في الحضارة الغربية.
- (١) التضاريس الحضارية Cultural Configuration: وهو اتجاه إثنولوجي صرف، يهتم أساسًا بالتنظيمات الحضارية المختلفة في صورة الأنماط والقوالب — كما سبق أن ذكرنا — ومن خلالها تتكون شخصية المجموعة. ومن أهم أنصار هذا الاتجاه: روث بنديكت R. Benedict، ومرجريت ميد M. Mead، وإدوارد سابير E. Sapir. وثلاثتهم من الإثنولوجيين الأمريكيين، ويميل هؤلاء إلى الاعتقاد بأن شخصية الفرد تتشكل وتذوب في شخصية الجماعة.
- (٢) الشخصية المنوالية Modal Personality: ويركز هذا الاتجاه على انعكاسات الفرد على الحضارة التي يُولَد فيها، وبذلك فإن التركيز هنا على الفرد وليس على الحضارة. ويستخدم هذا الاتجاه التحليل النفسي، وهو بذلك يرتبط كثيرًا بمبدأ فرويد الأساسي، ويبتعد عن الدراسة الإثنولوجية للحضارة.
- (٣)
دراسة الشخصية بواسطة الاختبارات المختلفة، وهذا اتجاه نفسي صرف، وقد يساعد في بعض نواحي الدراسة الإثنولوجية للحضارة والفرد.
ولا شك أن دراسة الحضارة في احتياج إلى مزيد من المعرفة عن الفرد والشخصية، لكن يجب أن تكون هناك حدود للاهتمامات بين الإثنولوجيا والدراسات النفسية، بحيث لا تطغى مشكلة الفرد والشخصية على الدراسة الحضارية؛ فإن الاتجاهات النفسية القديمة والمعاصرة في الإثنولوجيا لم تضع منهجًا يمكن الركون إليه في تفسير الحضارة الشامل؛ لأنها تنظر إلى الموضوع من زاوية واحدة.
(٢-٣) الوظيفية في الإثنولوجيا Functionalism
ومن خلال أبحاث مالينوفسكي عن منطقة المحيط الباسيفيكي بدت له الحضارة في صورة كم حي متفاعل، وأخذ يتضح له أن لكل وحدة ومظهر من مظاهر الحضارة معنًى ومفهومًا من خلال وظيفته وعلاقته ببقية المظاهر الحضارية الأخرى. وانتهى مالينوفسكي إلى أن هناك عددًا من الاحتياجات الفردية في مقابلها استجابة من جانب الحضارة. وقد عدَّد سبعة احتياجات أساسية من أهمها: التكاثر والأمان والحركة والنمو، وفي مقابلها استجابات الحضارة: نظام القرابة والحماية والنشاط والتدريب. وهناك مجموعة من الاحتياجات الأخرى يسميها مالينوفسكي الملزمات الحضارية، ويقابلها استجابة حضارية أيضًا. مثال ذلك: أن الأدوات والسلع المنتجة يجب أن تُنتَج وتُستخدَم وتُصان وتُجدَّد بواسطة إنتاج جديد. إن مجموعة الملزمات هذه يقابلها في الاستجابة الحضارية التنظيم الاقتصادي، وبالمثل تستجيب الحضارة بالضوابط الاجتماعية لمقابلة ملزمات حضارية من نوع آخر؛ كالسلوك الإنساني في ميادين العادات والتقاليد والقوانين، وكذلك تستجيب لمجموعات أخرى من الملزمات بالتعليم والتنظيم السياسي.
وعند راد كليف براون نجد الوظيفية تأخذ طابعًا نظريًّا متكاملًا مستمدًّا مباشرةً من العالم الفرنسي إميل ديركهايم. ويقول براون: إن الوظيفة هي نتيجة للنشاط، ومن ثم فهي عملية مستمرة. ويرى أن مفهوم الوظيفة يتضمن التركيب الاجتماعي، وأن عملية الوظيفة في الحضارة تؤدي إلى المحافظة على التركيب الحضاري وتساعد على استمرارية الحضارة. وينتهي براون إلى فكرة الوحدة الوظيفية، وهي فكرة نظرية بحتة. ويرى براون أن نتائج الدراسة الوظيفية تنتهي إلى أن درجة الوحدة الوظيفية بين التكامل والتعارض في المجتمعات المختلفة هي المقياس الموضوعي في الدراسة الحضارية. وأهم ما ركز عليه براون في الاتجاه الوظيفي هو: (١) أن التركيب معادل ومرتبط بالوظيفة. (٢) فكرة الوظيفية الاجتماعية في مقابل فكرة الاحتياجات الأساسية عند مالينوفسكي؛ فالوظيفة عند مالينوفسكي مرتبطة باحتياج الفرد، بينما هي عند براون مرتبطة باحتياجات المجتمع.
ولقد أوجد براون الكثير من الشبه بين الوظيفية الحضارية والوظائف البيولوجية، ومن ثم فإن المجال المناسب لدراسة الحضارة كجهاز عضوي هو دراسة التركيب، وليس دراسة نمو أو تطور الحضارة. فإن كانت الوظيفية كذلك؛ تشريح وفسيولوجيا اجتماعية، فإنها برفضها المطلق والصريح لكل الأفكار التطورية والتاريخية تصبح علمًا ناقصًا؛ لأن علم الحيوان أو النبات لا يقتصر على التشريح ووظائف الأعضاء فقط، بل يدرس الأصول وعوامل النمو. والملاحظ أن كل الوظيفيين قد تركوا جانبًا الأصول التاريخية أو التغيرات التي تطرأ على المجتمع أو العلاقات المتبادلة بين الحضارات، وبذلك فإن دراساتهم — برغم جودتها — ليست إلا قطاعات في الحضارة، ولا تشمل الحضارة ككل؛ لأنها تطرح جانبًا مشكلات التغير الحضاري والعلاقات الجغرافية والتاريخية.
(٢-٤) الانتشارية في الإثنولوجيا Diffusion
هذا المبدأ هو أكثر المبادئ انتشارًا في الكثير من الفكر الإثنولوجي منذ أوائل هذا القرن حتى الآن، ولأنه مبدأ مقبول فقد تعددت صورة الانتشارية بين الأنثروبولوجيين في العالم تعددًا كبيرًا ارتبط بالمدارس الإثنولوجية المختلفة. فالانتشارية في عمومياتها تحاول إيجاد حلقات لربط الحضارات معًا نتيجة تفاعلها في المكان الجغرافي، وعلى البعد الزمني. ومن ثم فإن الانتشارية تدين أيضًا بالمبدأ التاريخي في علاقات الحضارات بعضها بالبعض الآخر؛ ولهذا أيضًا كان هناك سعي عند الكثيرين من أصحاب المبدأ الانتشاري في الحضارة إلى محاولة كتابة التاريخ الحضاري للناس، وهذه هي النقطة التي تجاهلها أصحاب الاتجاه النفسي في خلال تحيزهم لفكرة أن الدوافع واحدة عند كل الناس، ومن ثم فالتركيبات الحضارية تنبع من داخل الناس دون إمكانية تلقي دوافع أخرى خارجية. وكذلك تجاهل الوظيفيون التاريخ الحضاري للناس معتمدين على فكرة أن الدوافع تنزع إلى الاختلاف عند الناس، ومن ثم تختلف أيضًا التركيبات الحضارية دون إمكانية تلقي دوافع خارجية.
- (١)
المدرسة المصرية أو المدرسة الشمسية، وهي عبارة عن اتجاه أسسه بعض العلماء الإنجليز.
- (٢)
مدرسة التاريخ الحضاري أو المدرسة الألمانية النمساوية، وقد اشتُهِرَتْ في أواسط هذا القرن باسم مدرسة فيينا.
- (٣)
الاتجاهات الانتشارية عند بعض الأنثروبولوجيين خارج ألمانيا والنمسا.
أولًا: المدرسة المصرية

وبرغم انتهاء هذه النظريات الانتشارية المغالية، إلا أن أنواعًا من الانتشارية المحدودة ما زالت قائمة في عدد من الدراسات الإثنولوجية المعاصرة، وكذلك فإن بعض الكشوف الأركيولوجية الحديثة تؤدي إلى إعادة النظر من جديد في بعض الآراء الانتشارية القديمة.
والعودة إلى الشكوك في الهجوم الذي رُفِضَتْ فيه آراء المدرسة المصرية، تعيد من جديد الرغبة في إعادة تقييم المدرسة المصرية على أضواء مختلفة (الدين – التقويم السنوي – التنظيم السياسي … إلخ)، خاصةً وأن هناك تشابهًا كبيرًا في الشكل بين عدد من المنتجات المادية: فنون المايا ورسومهم التي تشبه في كثير الرسوم المصرية في مبدأ رسم القوارب ورمز الماء وتصوير الأشجار، وكذلك التشابه الغريب بين إله الذرة عند المايا، والصقر الذي يوجد فوق رأسه، وبعض تماثيل الملوك المصرية مع صقر حوريس.
ثانيًا: مدرسة التاريخ الحضاري: الاتجاهات في ألمانيا والنمسا
وبرغم أن هذه البداية في مدرسة الدوائر الحضارية والتاريخ الحضاري كانت مجرد منهج ميكانيكي مستند إلى التوزيع الجغرافي للعناصر الحضارية؛ إلا أنها فتحت عهدًا جديدًا في الفكر الإثنولوجي، وذلك بغض النظر عن النقد الذي قِيلَ فيها؛ إذ علينا أن نلاحظ أن هذه الأفكار الجديدة إنما نشأت مبكرة جدًّا قبل نشأة الأفكار الوظيفية والقوالب الحضارية والتكامل الحضاري، وغير ذلك من المشكلات التي تظهر الآن (بعد أكثر من نصف قرن) في الإثنولوجيا المعاصرة.
ولا شك أن مثل هذه الدوائر الحضارية باتساع رقعتها المكانية، وتعقد مركباتها الحضارية، تستغرق زمنًا طويلًا لكي تنبني وتمتد مكانيًّا. وتبعًا للمقياس الزمني لا يمكن أن تتكون مثل هذه الدوائر الحضارية المركبة؛ ولذلك فإن أهم نقد يُوجَّه إليها هو أنها تركيب نظري أكثر منها تركيب واقعي. وقد كان كل من جرايبنر وشميت يبحث عن مجموعات من الصفات الحضارية يُؤسَّس عليها الهجرة والانتشار الحضاري أكثر مما كان يبحث عن ترابط واقعي بين العناصر الحضارية وكم الحضارة. كذلك فإن جرايبنر وشميت لم يأخذا بعين الاعتبار مسألة الأبعاد المكانية الشاسعة التي تفصل بين المتشابهات الحضارية، وفي الوقت نفسه لم يدخلا الفارق الزمني بين الحضارات الاعتبار الدقيق، إنما كان التشابه بين العناصر الحضارية الرائد الأساسي في التطبيق.
- (١)
حيث إن الحضارة والإنسان (منذ نشأته) متزامنان، فإن التاريخ — بأوسع معانيه — يشتمل على كل الفترة التي ظهر فيها الإنسان على الأرض حتى اليوم.
- (٢)
لا ينكر أي باحثٍ — قديمًا وحديثًا — أن الانتشار الحضاري ودرجة انتقاله وتقبله حقيقة واقعة.
- (٣)
إن الانتشارية مبدأ هام في الدراسات الإثنولوجية ودراسات ما قبل التاريخ، ونتيجة لنقص الوثائق المكتوبة، فإن الأمر يحتاج إلى دراسات مقارنة للصفات الحضارية من أجل الحصول على العوامل المكانية والزمنية والسببية.
- (٤)
يجب أن يستخدم الانتشاريون مقياس الشكل والعدد المعروف عن المنهج التاريخي (الذي أكَّده كل من جرايبنر وشميت وكوبرز)، ولا شكَّ أن هذا المنهج لن يؤدي إلى تاريخ مماثل لما نجده في الكتابات التاريخية العلمية. فالعنصر الحضاري هنا يمثل دليلًا قائمًا على الصلات، كما أن هذا الدليل يزداد قوة نتيجة لمدى ترابط العنصر الحضاري ببقية الحضارة. ولا يمكننا أن نهمل هذه الأدلة على أنها مجرد إشارات، بل إنها تمثل جزءًا من العملية التاريخية.
- (٥)
الانتشار الحضاري لا يمثِّل كل أحداث التاريخ، فدراسة العناصر الحضارية لا تحل محل الوثائق التاريخية، لكنها تعطي إضافات هامة في هذا الاتجاه التاريخي، وفي حالة نقص الوثائق التاريخية — كما هو الحال عند دراسة ما قبل التاريخ والجماعات البدائية — يصبح من غير المعقول أن نمتنع عن تفسير الحقائق في الإثنولوجيا والأركيولوجيا.
- (٦)
تقوم الدراسات الانتشارية على المتشابهات الحضارية، وحتى في الحالات التي لا نستطيع فيها التأكد من وجود ارتباطات وهجرات بين المتشابهات الحضارية، فلا شكَّ أن تأكيدنا بأن الظاهرتين المتشابهتين قد نشأتا نشأة مستقلة يصبح غير مقبول؛ لأنه يفترض شيئًا أبعد تحققًا من الارتباطات السابقة، وعلى العموم يمكننا أن نترك الباب دون اتخاذ قرار.
- (٧)
إن الانتشار والنقل والتقبل لا تسير كلها حسب قواعد معينة، فهناك دائمًا فرصة متعددة للقبول أو التعديل، وهي فرصة الاختيار الحر عند غالبية الجماعات.
- (٨)
يترتب على ذلك أن كل حالة من حالات الانتشار الحضاري يجب أن تُعالَج قائمة بذاتها وحسب ظروفها.
وصفوة القول أنه برغم انتهاء فكرة الدائرة الحضارية، فإنها في مجموعها كانت وسيلة ومنهجًا أدق وأحسن من أفكار الانتشاريين البريطانيين الأُوَل، الذين لم يعطوا للإثنولوجيا سوى فكرة بدون منهج. وكذلك يُضاف إلى حسنات الانتشارية الألمانية عامة والنمساوية خاصة، التدقيق الشديد في المصادر والمراجع، والاتجاه إلى الدراسات الميدانية بصورة أساسية، وكثرة التوثيق في الكتابات الإثنولوجية.
ثالثًا: الاتجاهات الانتشارية والتاريخية خارج ألمانيا والنمسا
هناك اتجاهات انتشارية متفرقة ترتبط ببعض الأساتذة والباحثين في إسكندنافيا وهولندا وبلجيكا وفرنسا وسويسرا، وفي بريطانيا أحيانًا. ويمكن أن يُقال إن في أمريكا — بصورة من الصور — الكثيرين من دارسي الأنثروبولوجيا الحضارية الأمريكية الذين مسُّوا الموضوع التاريخي والانتشاري مسًّا يختلف بين التأكيد عليه وبين المرور العابر، وعلى الأخص مدرسة فرانز بواس.
والحقيقة أن الاتجاهات الانتشارية بين الأنثروبولوجيين في أمريكا — كما قلنا — لم تظهر في صورة منهجية نتيجة تأثيرات عديدة، نذكر منها تأثير بواس على بدايات هذه الدراسات في أمريكا، وكذلك فإن ميدان الدراسات الميدانية في أمريكا كان بسيطًا غير معقَّد؛ فالأمريند في معظمهم من جامعي الغذاء وقليلون منهم من الزرَّاع، كما أن الدراسة تمت في فترة تدهور الأمريند بعد إبادة جزءٍ كبيرٍ منهم، وطردهم من مواطنهم نتيجة الغزو والتوسع الاستيطاني الأبيض، وانعزال الأمريند في معازل خُصِّصَتْ لهم. ولهذا فإن أهم عملية عند الأمريند كانت وما زالت التغير الحضاري نتيجة تغير أسس النظام الاقتصادي، ونتيجة الاحتكاك بالحضارة والتكنولوجيا الأوروبية الحديثة، ونتيجة اضطهادهم عنصريًّا، ومن ثم فإن معظم الدراسات الأنثروبولوجية الأمريكية قد انعكست عليها هذه المؤثرات، فاصطبغت بدراسة التغير الحضاري، وبعدت عن المشكلات الحضارية المختلفة التي يلعب فيها التاريخ الحضاري والانتشار الحضاري دورًا كبيرًا. وذلك على عكس المشكلات الحضارية المعقدة التي يجدها الإثنولوجيون في دراسة الحضارات الأفريقية أو الآسيوية بوجه خاص. فالتفاعلات الحضارية هنا على أشدها نتيجة لوجود الحضارات العليا والطرق التجارية واستمرار العلاقات المكانية وقلة فرص العزلة إلَّا فيما ندر (البشمن في أفريقيا الجنوبية، والأندمان وبعض القبائل في غابات الهند الصينية وإندونيسيا إلى جانب مجموعة قبائل أستراليا وتسمانيا، كانت تكوِّن أكثر الجماعات عزلة في العالم القديم). وحتى الأقزام في غابات وسط أفريقيا — الذين اعتبرتهم مدرسة فيينا الحضارية في أوائل عهدها جزءًا من الدائرة الحضارية الأزلية — كانوا في اختلاط واحتكاك دائم مع جيرانهم الزنوج.
(٢-٥) التحضيرية في الإثنولوجيا Accultration
وأهم موضوعات التحضيرية والتغير الحضاري في العالم المعاصر، هي دراسة التأثير الحضاري الذي تعرضت وتتعرض له الجماعات غير الأوروبية من جانب المضمون الحضاري الغربي الصناعي عامة وجوانبه المادية بوجهٍ خاص. وفي هذا المجال نجد اتجاهين مختلفين في الهدف، لكنهما يشتركان معًا في الدراسة الإثنولوجية للحضارات غير الأوروبية المهددة بالفناء والتغير الشامل، نتيجة عمليات التحضير الصناعية الغربية القوية. الاتجاه الأول والأقدم هو استخدام عدد من الحكومات والإدارات في المستعمرات (خاصة البريطانية) السابقة للإنثروبولوجيين والإثنولوجيين لدراسة المجتمعات البدائية من أجل إقامة حكم غير مباشر. وفي هذا المجال أيضًا كانت حكومة الولايات المتحدة تدرس الأمريند في معازلهم للغرض نفسه وإن لم تكن المسألة ذات أهمية سياسية كما كانت في المستعمرات الأوروبية عامة. والهدف الصريح من وراء ذلك هو المحافظة على حضارات البدائيين من التغير العنيف، ولكن التجربة بعد التجربة قد أثبتت أن الهدف الحقيقي كان يكمن في توطيد الحكم الاستعماري بالعزلة وتوقيف العمليات التحضيرية التلقائية لمثل هذه الجماعات، خاصةً إذا كانت هذه العمليات تأتي من جانب حضارة غير مرغوبة من جانب الحكومة الاستعمارية.
- (١)
ترك السودان الجنوبي كنوع من المتحف الحي لحضارات قديمة عُزِلَتْ عن علاقاتها الحضارية الطبيعية (بما في ذلك العلاقات الاقتصادية).
- (٢)
تدعيم عوامل الفصل بين سكان السودان الجنوبي وبقية سكان السودان بعدد من شكليات التوجيه التحضيري شديد الغرابة (أوروبي عنصري) بالقياس إلى تيار التحضير الطبيعي (أفريقي عربي).
- (٣)
في النهاية ظهرت حركة الجنوب التي تهدف إلى فصل السودان الجنوبي منذ خروج الإنجليز من السودان، والتي تغذِّيها تيارات سياسية خارجية مختلفة، والحالات مماثلة ومتكررة؛ مثل الهند وباكستان، ومثل حركة الإيبو (بيافرا) في الانفصال عن بقية نيجيريا.
والاتجاه الثاني في دراسة التغير الحضاري: هو ذلك الذي سعت له مدرسة فيينا الإثنولوجية في أوائل الخمسينات من هذا القرن؛ فقد اهتم الأستاذ الراحل روبرت فون هايني-جلدرن بإنشاء لجنة دولية ومجلة علمية لنشر أبحاث أو مؤشرات لأبحاث عن الحضارات التي تتهددها تيارات تحضيرية غربية عنيفة تؤدي بها بسرعة. وقد تكللت هذه المساعي بالنجاح حينما خصصت لها هيئة «اليونسكو» الدولية ميزانية محدودة للنشر والبحث. وقد عُرِفت هذه اللجنة باسم «اللجنة الدولية للمشكلات الأنثروبولوجية العاجلة».
وهكذا تقوم اللجنة بالمساعدة على التعرف على مشكلات التحضير الحالية دون أن يكون من ورائها أهداف معينة سوى؛ أولًا: خدمة العلم. ثانيًا: خدمة المجتمعات التي تقع تحت تأثير عمليات التحضير بالمساعدة الدراسية على تخطي مرحلة التغيير بطريقة صحية (إذا كانت الحكومات مستعدة لتطبيق مثل هذه المساعدات العلمية).
وبغض النظر عن أهداف الدراسات التحضيرية، فإن هذه الدراسات أو تلك قد ساعدت بدون شك على غنى كبير في المادة الإثنولوجية في العالم، كما ساعدت أيضًا على ظهور الكثير من الأفكار النظرية في الموضوع الإثنولوجي، كذلك أوضحت أن درجة التغير في القطاع المادي من الحضارة أسرع بكثير من النواحي غير المادية. وفي الوقت نفسه أوضحت هذه الدراسات أن العناصر الحضارية الجديدة في مجموعها لا تجد تقبُّلًا متشابهًا عند الجماعات المختلفة، وذلك بتأثير المدى الواسع للاختيار عند المجتمعات الإنسانية، وبذلك أصبح لدى العلم مادة كبيرة عن عملية التغير الحضاري وتكامل الحضارات، ودور ذلك أيضًا على شخصية الفرد. وقد أدَّى هذا كله إلى كثيرٍ من الاتجاهات التحضيرية عند علماء وباحثي الحضارة في أمريكا، بحيث أصبح من المتعذر أن نجد مدرسة واحدة أو مدارس واضحة بالمعنى المفهوم في الإثنولوجيا الأمريكية المعاصرة، برغم أنها الآن أنشط الهيئات الإثنولوجية وأغناها وأغزرها من حيث الدراسات التفصيلية في الفترة الأخيرة من تاريخ الإثنولوجيا.
ولقد ظهرت بعض الآراء التي تقول إنه يمكن دراسة المجتمعات المتغيرة دون اعتبار لتأثرها بعملية التحضير. وقد يبدو هذا من الناحية النظرية ممكنًا، لكنه في واقع الأمر مستحيل؛ فالجماعات لا تعيش في عزلة، خاصةً خلال الفترة الأخيرة التي يحدث فيها الاتصال الحضاري بوسائل حديثة (الراديو – التلفزيون) دون أن يكون هناك اتصال مادي بين الجماعات.
(٣) خاتمة
لقد رأينا في العرض السابق أن اتجاهات الفكر الإثنولوجية منذ بداية هذا القرن قد بدأت بداية تطورية في المجال الاجتماعي للإنسان، تحاول أن تجد عند كل مجتمعات الإنسان قواعد أساسية واحدة يُبنَى عليها التطور الحضاري. ولا شكَّ أن المدرسة التطورية بتأكيدها على مبدأ وحدة النوع البشري حضاريًّا إنما كانت تؤكد ذلك في وجه النظريات العنصرية المغالية في التفريق بين سلالات وحضارات الإنسان. وعلى نحو مماثل، حاول فرويد — والاتجاه النفسي — توحيد الأسس الجوهرية عند كل المجتمعات البشرية بإرجاع التطور الحضاري إلى عدد من الأصول المشتركة. وبذلك لم تكن المدرسة النفسية هي الأخرى غير تعبير عن التكافؤ البشري في جذوره وأصوله. وتلافيًا للنقص الذي ظهر من المدرستين التطورية والنفسية نجد المدرسة الانتشارية القديمة تحاول أن تخصص مصدرًا واحدًا للكثير من العناصر الحضارية العليا، وبرغم هذا التخصيص فإن مجرد تقبُّل المجتمعات الأخرى لمثل هذه العناصر المهاجرة دليل على تساوي البشر في قدرتهم العقلية، ولكن هذه المغالاة قد أدَّت إلى رفض مباشر لآراء هذه المدرسة. أمَّا المدارس الانتشارية الأخرى فلا تميل إلى تخصيص مصدر واحد لكافة مجمع الحضارة العليا، بل ترى أن هناك مصادر مختلفة للكثير من العناصر الحضارية تنتشر في أقاليم محدودة أو أقاليم واسعة. ومهما يكن الأمر فإن كافة المدارس الإثنولوجية ونتائج الدراسات الأركيولوجية والتاريخية تشير إلى منطقة الشرق الأوسط كمصدر موحَّد لعدد من مركبات الحضارات العليا المرتبطة بالزراعة واستئناس الحيوان وتشغيل المعادن، انتشرت منه إلى بقية أجزاء العالم. وأخيرًا نجد الاتجاهات المختلفة الانتشارية والتحضيرية والنفسية والوظيفية تظهر في كثيرٍ من المدارس الإثنولوجية الأنجلوساكسونية والأوروبية.
- (١)
أن هناك عددًا من التشابه الشكلي لعددٍ من الصفات الحضارية بين كل الحضارات مهما كانت درجة اختلافها وتباعدها، وهذه تكون حقائق التشابه العالمي للإنسان والحضارات البشرية. من بين هذه المتشابهات الشكلية وجود قواعد خلقية معينة ومقاييس معينة للتمتع بالجمال والحقيقة، وهناك أيضًا إلى جانب ذلك متشابهات عالمية في المضمون مثل حقيقة التجمع البشري في صورة مجتمع، وحقيقة التنظيم الاقتصادي للمجتمع، وحقيقة الانقسام الجنسي والعلاقة بين الجنسين وتقسيمات العمل، وحقيقة الطموح الفردي أو حقيقة الطموح على مستوى المجموعة من بين أشياء أخرى متشابهة مثل المعتقدات الغيبية والدينية.
- (٢)
أن الحضارات في مجموعها ليست ساكنة جامدة، بل هي دائمة التغير في صورة كمية متزايدة، وبسرعة مختلفة حسب درجة النمو الحضاري ومصدر هذا النمو: من الداخل أو من الخارج. ومهما انتاب هذا التغير من توقف نتيجة عزلة طبيعية أو مفروضة؛ فإن هذا لا يمثل سوى مرحلة زمنية محددة تعود بعدها أشكال التغير الكمية والكيفية إلى الظهور. ومن ثم، فإن حدود الدراسة الإثنولوجية — مهما كانت غامضة المنهج — لن تخرج في النهاية عن مبدأين: النمو الحضاري الذاتي والنمو الحضاري بدوافع خارجية. ومعنى ذلك أن الدراسة لن تتعدى — في جوهرها — المنهجين التطوري والانتشاري بأوسع معانيهما.
- (٣)
أن تفسير النمو والتغير الحضاري (أو التوقف في أقصى مراحل التطرف) يجب أن يعتمد على أدوات معينة. وهذه الأدوات هي العوامل النفسية للفرد والمجتمع، ووظيفة التركيب الحضاري والعناصر الحضارية داخل هذا التركيب، ومن ثم تتم دراسة عملية التغير الحضاري بالإضافة إلى البعد الزمني (العلاقات التاريخية).
White, L., “Kroeber’s Configurations of Culture Growth”, Am. Anthropologist, 1946, pp. 78–93.
White, L., “Diffusion vs. Evolution: An Anti-Evolutionist Fallacy” Am. Anthropologist 1945, pp 84.
White, L., “Energy and the Evolution of Culture” Am. Anthropologist, 1943, pp 33–348.
Jettmar, K., “Die Anfaenge der Rentierzucht”, anthropos, vol. 48, pp. 737–759, Fribourg 1952.
Jettmar, K., “Les plus anciennes civilizations d’éleveurs des steppes d’Asie centrale” Cahiers d’Histoire Mondiale, vol. I. No. 4, pp. 760–783, Paris 1954.
Zeuner. F. E., “Domestication of Animals” pp. 327–352 in C. Singer et al. “History of Technology”, vol. I, “From Early Times to the Fall of Ancient Empires”, Oxford 1954.
وقد ترجمه إلى الإنجليزية S. A. Sieber بعنوان The Culture Historical Method of Ethnology في نيويورك ١٩٣٩.