الديانة والسحر والفنون
الديانة
توجد الديانة والسحر والفنون بأشكال ومفاهيم مختلفة عند كل المجتمعات مهما كانت بسيطة أو غير منطقية، لكن هذه الموضوعات عامة لم تَحْظَ بدراسة موضوعية بالقدر الكافي، وخاصةً الديانة والسحر؛ وذلك نتيجة لعيب جوهري، هو صعوبة فهم ونقل المعاني التي تعبر عنها المفاهيم المجردة من لغة مجتمعٍ ما إلى لغة الباحثين من الإثنولوجيين. ومن ثم، تظهر الأفكار الدينية والميثولوجية في كثيرٍ من المونوجرافات غير منطقية أو مليئة بالكثير من الجزئيات دون الشمول؛ مما يؤدي إلى ظهورها في صور متناقضة. ولكن هذه أيضًا سمة من سمات القطاع الفكري والرمزي من الحضارات، فمن الصعب على غير من تعايش مع المجتمع مع نعومة أظفاره أن يدرك إدراكًا كليًّا مشتملات الدين وطقوسه ومعتقدات السحر والعبادة. وعلى هذا، فإن هذا القطاع من الحضارة يمثل بحق القطاع الخاص جدًّا لكل حضارة على حدة، وبالتالي فهو يعبر تمامًا عن التركيز الذاتي (إتنوسنتريزم) للحضارة المعنية، على عكس قطاعات الحضارة الأخرى المادية والاجتماعية التي يمكن أن تتشابه أو تنفتح على الحضارات الأخرى.
ويبدو منطقيًّا أن الفكر الديني قد تدرَّج عند الجماعات المختلفة من أفكار غيبية بسيطة إلى التجريد في الصورة التي تعطينا إيَّاها الأديان السماوية، وكذلك اعتقد عدد من العلماء بأن الفكر الديني قد انتابته مراحل متعددة، لكن علماء آخرين يرون عكس ذلك تمامًا. وأيًّا كان الوضع، فإنه يمكننا أن نلقي الضوء على هذا القطاع من الحضارة بمعالجة بعض الموضوعات الدينية معالجة منفصلة في صورة أيديولوجيات خاصة لها وجود في عالم الحضارات البدائية والعليا إلى اليوم.
الإحياء أو الاستحياء Animism
بدأ إدوارد تيلور هذه الفكرة منذ قرابة قرن، وفحواها الاعتقاد بوجود كينونة غير مفهومة وغير محسوسة، أو كائنات غير مادية قد تكون أرواحًا أو أشباحًا أو عفاريت للسلف أو الحيوان أو النبات أو أيٍّ من الجماد المحيط (نهر – بحيرة – جبل … إلخ). وأصل هذا الاعتقاد مختلف، ولكن لعله راجع إلى عدد من الظواهر المادية غير المفهومة؛ كالرؤى والأحلام والهلوسة المؤقتة الناجمة عن تأثيرات مختلفة الأسباب. مثل هذه الأشياء تُؤَوَّل على أنها أحداث روحية قادمة من عالم غير عالمنا المحسوس. كذلك قد يستحيي البدائي في عقله أرواحًا للمستنقع أو النهر نتيجة انعكاسات أضواء غامضة (قد يكون مصدرها أنواعًا من الأسماك أو الغازات المتصاعدة)، أو عفاريت للموتى في صورة أشباح تتراقص عند القبور (وهي عادة عبارة عن غازات متصاعدة ناجمة عن تحلل جثث الموتى)، أو أرواحًا للجبال والوديان نتيجة تردد الصدى.
هذه الأفكار التطورية التي أعلنها تيلور لم تجد لها حتى الآن من الأدلة ما يدعمها أو ينفيها، وقد لا توجد أدلة بهذا المعنى؛ لأن الفكر الديني قديم، ويغزو الإنسان في كثير من تصرفاته منذ أقدم العصور حتى الآن. وأكثر المجتمعات بدائية في الوقت الحاضر تتعايش مع أيديولوجيات الاستحياء جنبًا إلى جنب مع أيديولوجية الإله الواحد. فهل هذا مردُّه إلى الاحتكاك الحضاري مع جماعات ذات ديانة وحدانية؟ لهذا لا يمكن تأكيد هذه المراحل التطورية تاريخيًّا.
كذلك فإن أصحاب الديانات الوحدانية يمارسون إلى الآن أنواعًا من المعتقدات في أشياء غير مادية ذات قوى، ويؤمنون بإمكان تسخيرها لخدمة أغراضهم. فهل هذه بقايا معتقدات الاستحياء القديمة، أم أن الإنسان يعتقد في كل هذه الأيديولوجيات الدينية الاستحيائية والإلهية جملةً وتفصيلًا — جنبًا إلى جنب — منذ البداية؟ فكما أنه من الصعب نفي أو تأكيد صحة الأفكار التطورية؛ فإنه من الصعب أيضًا نفي أو تأكيد الأفكار المضادة — مثل آراء فيلهلم شميت التي تؤكد أن فكرة الإله موجودة عند كل المجتمعات منذ البداية بوحي إلهي — فإذا كانت آراء شميت صحيحة، فلماذا نجد مراحل تاريخية مثبتة ومُدوَّنة تتعدد فيها الآلهة؟ ولماذا نجد قوى الاستحياء عند البدائيين المعاصرين أشدَّ فعالية على مستوى الحياة من فكرة إله كبير موجود لكنه بعيد في السماء ولا يتحرك للإشراف على حياة القبيلة؟ كل هذا يجعلنا نعتقد أن الخوض في هذا الموضوع هو من قبيل الجدل المنطقي، ولا يؤدي إلى نتائج حاسمة؛ لأنه لا يمكننا معرفة الطقوس والأيديولوجية الدينية عند سكان العصور الحجرية على وجهٍ مُرْضٍ.
المانا Animatism-Mana
هذا مفهوم آخر خاص بالغيبيات وما بعد الطبيعة، لكنه ليس واسع الانتشار كما هو الحال في الاستحياء، والمانا لها مصطلحات مختلفة عند الأمريند في أمريكا الشمالية، بينما يشيع مصطلح «مانا» عند الميلانيزيين. ومفهوم المانا أنه جوهر لا مادي لا يُشخَّص له بأي رمز أو شيء موجود في عالم الطبيعة، ولا يُرى، ويسود في كل شيء، ويظهر نفسه من خلال بعض أشكال الحياة أو الجماد، ويمكن استخدامه أو تركيز التحكم فيه كمصدر لقوى عظيمة ذات نتائج وأفعال معجزة وخارقة، أو مجرد وجوده ليساعد على الأعمال اليومية كالصيد أو قطع الأشجار بنجاحٍ وسرعة. وهذا المفهوم هو عكس الأيديولوجية الاستحيائية؛ حيث لا يمكن السيطرة على عالم الأرواح.
وربما تكون هذه الفكرة قديمة مثل الاستحياء، ولا يوجد ما يمنع من وجودها جنبًا إلى جنب مع الاستحياء رغم تعارضها أيديولوجيًّا، كما هو الحال في ميلانيزيا.
تعدد الآلهة Polytheism
يظهر تعدد الآلهة كمعتقد ديني بصورة واسعة عند كثير من المجتمعات البدائية، ولكنه أكثر تقدمًا وتعقدًا عند أصحاب الحضارات العليا القديمة، كما كان في مصر الفرعونية وبابل وآشور واليونان والرومان. وفي مثل هذه الحضارات كانت هناك مجموعات مختلفة من الآلهة للمظاهر الطبيعية المختلفة: كآلهة البحر والصحراء، أو للمظاهر المعنوية: كآلهة الخصب والحب والموت والحياة، أو مظاهر حضارية مختلفة. وكان هناك أيضًا آلهة الشر، ويكون هؤلاء جميعًا مجمع آلهة يرأسه إله كبير، لكن نفوذه ليس حاسمًا بالنسبة لتصرفات كل الآلهة الأخرى، بل يتحايل على تنفيذ رغباته بأساليب إنسانية كالمكر. وفي مصر كانت هناك آلهة محلية وآلهة شعبية وآلهة رسمية حكومية لها غالبًا السيطرة على مجمع الآلهة، ويتغير الإله الأكبر بتغير مكان الحكم أو الأسرة الحاكمة. وكانت الآلهة عامة تتغير بالتغير الحضاري والشعوبي، كما حدث في اليونان؛ حيث نستطيع أن نميز مجموعة آلهة قديمة معاصرة للحضارة الإغريقية، وآلهة أحدث معاصرة للحضارة الهلينية والهلينستية. وقد تميزت مجمعات الآلهة في حوض البحر المتوسط بعدم التعصب وإمكان ضم إلهٍ جديد من منطقة حضارية إلى مجمع آلهة منطقة حضارية أخرى. وقد تطور لاهوت هذه الديانات وتعقد بحيث لم يَعُدْ يدركه سوى أولئك الذين يُختَارون للتخصص والتعمق في دراسته، وبذلك نشأت طبقة رجال الدين. وبارتباط الدين بالدولة في الحضارات القديمة العليا أصبح للدين وظائف سياسية اقتصادية هامة، ونشأت أصول النفوذ الذي مارسه رجال الدين على حياة الناس السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.
الوحدانية Monotheism
هذه الفكرة الدينية قد تبدو حديثة الظهور، إلا أن لها سوابق شكلية عند البدائيين برغم وجود أيديولوجية الاستحياء. فمثلًا عند النيليين في جنوب السودان وشمال أوغندا، نجد الاعتقاد في إلهٍ واحد كبير في السماء، لكنهم لا يتقربون إليه كثيرًا على عكس تقربهم وعباداتهم وأضاحيهم لروح الملك الإله مؤسس القبيلة. وعلى هذا فأنصاف الآلهة أكثر فعالية عن الإله الواحد عند البدائيين، وأكثر قربًا منهم. ويدعونا هذا إلى التساؤل عما إذا كانت فكرة الإله الواحد عند أصحاب الحضارات العليا مشابهة لتلك التي عند البدائيين. وفي الحقيقة نجد اختلافًا وظيفيًّا كبيرًا بين الفكرتين؛ فعند أصحاب الديانات العليا نجد للإله الواحد كل القوى ولأفعاله كل التأثير على الناس، بالإضافة إلى أنه خالقهم ومميتهم، وهو الذي يبعثهم من جديد في الآخرة. بينما لا نجد هذه الصفات الخلقية واللاهوتية عند إله البدائيين الواحد، كما أن فكرة الحياة الأخرى أيضًا غير واضحة، وفكرة الخلق عندهم ليست مرتبطة بالإله مباشرةً، وإنما قد ترتبط به بطريق الصدفة. وتحل كثير من الصدف محل الفعل الإلهي في خلق الجماعات والناس، وبذلك فإن مجرد وجود فكرة الإله الواحد الذي في السماء عند بعض المجتمعات البدائية أو الأمية، ليس دليلًا على التوحيد الغريزي أو الإلهي، كما يشير بعض الإثنولوجيين وعلى رأسهم الأب فيلهلم شميت، وأندرو لانج، وبول رادين. بل إن وجود هذا الإله لا يمنع وجود وممارسة أيديولوجيات أخرى كالاستحياء والمانا والسحر والعرافة.
وإذا كان التطوريون يعتقدون بأن الوحدانية هي آخر مراحل الفكر الديني، فإن هناك عددًا آخر من الدارسين يعتقد أن الوحدانية كانت أسبق على فكرة تعدد الآلهة، وأن التعدد قد نشأ نتيجة تجميع عدة آلهة وحدانية لعدة جماعات محلية في تجمع سياسي إقليمي أو في دولة سياسية واحدة. ومرةً أخرى نستطيع أن نقول إن لكل رأي وجاهته، ولكن لا يوجد دليل مادي تاريخي ملموس على صحة أو خطأ أي من هذه الآراء المتعارضة.
الإلحاد Atheism
هذه الأيديولوجية التي تنفي تمامًا وجود أي طاقة روحية في أي صورة من الصور، هي فكرة حديثة ظهرت في المدنية الصناعية كما ظهرت من قبل في الهند. ومن الصعب أن نتخيل المجتمعات البدائية بدون اعتقاد في أي من أنواع الأرواح التي تساعد أو تعرقل أعمالهم، ولم يعثر الباحثون حتى الآن على مجتمع بدائي ينفي وجود الطاقات والقوى فوق الطبيعية.
السحر Magic
السحر عبارة عن نوع من السلوك مرتبط ومعتمد على اعتقادٍ ما في نوع أو أنواع من القوى والطاقات فوق الطبيعية، وليس من الضروري أن يكون السحر مرتبطًا بالدين، ولكن الكثير من الحالات توضِّح ارتباطًا وثيقًا به؛ ذلك أن أيديولوجيات الاستحياء والمانا وتعدُّد الآلهة مليئة بالقوى الروحية التي يمكن استخدامها للمساعدة على تنفيذ أعمال مرغوبة — وهي بذلك تكون أساسًا طيبًا للممارسة السحرية عند المجتمعات البدائية. وعلى هذا، فإن التفريق بين الدين والسحر عند المجتمعات البدائية ليس سهلًا؛ لأنهما يعتمدان على الاعتقاد بوجود قوى فوق الطبيعة. كذلك نلاحظ أن الكثيرين ممن يمارسون السحر هم من رجال الدين، كما كان السحرة في أوروبا العصور الوسطى يستخدمون نصوصًا من الكتب المقدسة.
ويقوم السحرة في المجتمعات البدائية بعدد من الطقوس لاستجداء المساعدة المطلوبة من القوى والأرواح، بما في ذلك تقديم الأضاحي والقرابين. وفي بعض الأحيان — وخاصة في مجتمعات الحضارات العليا القديمة وبعض المجتمعات الزراعية الغنية في غرب أفريقيا وأندونيسيا — نجد لبعض الأرواح والآلهة نهم إلى القرابين البشرية، مثلما كان الحال في مصر الفرعونية (عروس النيل استرضاءً لإله النيل أن يفيض النهر في موعده)، وحضارات أمريكا الوسطى (الآزتك والأنكا) من أجل إنقاذ المحصول أو إبعاد الأعداء والنصر عليهم أو القضاء على الأمراض والأوبئة … إلخ. ويبدو أن المجتمعات السامية القديمة كانت تمارس أيضًا تقديم الأضاحي البشرية في أوقات معينة، واستبدلت هذه الأضاحي بالفدى — على نحو ما ورد في الكتب المقدسة. وبرغم أن الأضاحي البشرية قد تكون جزءًا من العبادات والطقوس، إلا أن لها ذلك المدلول السحري من أجل الحصول على رضاء الأرواح أو الآلهة أو مساعدتها للمجتمع في أوقاتٍ معينة.
لكن القرابين السحرية المعتادة تتكون غالبًا من جزء من المحصول أو نوع معين من الحيوان أو الطير، يُضحَّى بها في خلوة الساحر أو في مجتمع طقسي. ولعل القرابين والهدايا والرقص الطقسي في طقوس «الزار» أو «البوري» في مصر وحوض النيل ومناطق أخرى من أفريقيا، هي بقايا سحرية دينية ملتصقة بالحضارة الشعبية من أجل استجداء الأرواح و«الجان» لأغراض التطبيب البدني أو النفسي.
وأيًّا كان الأمر، فإن السحر عبارة عن طقوس وإجراءات ميكانيكية، ويقوم بالعمل السحري أوتوماتيكيًّا كل من له دراية بهذه الطقوس والإجراءات. وعلى هذا فإن السحر والدين هنا عبارة عن تكنيكين مختلفين، وإن كانا يكملان بعضهما بواسطة الشخص الممارس — وهو غالبًا رجل الدين والساحر معًا.
ويعتقد جيمس فريزر أن السلوك السحري والاعتقاد فيه يشابه العلم؛ لأنهما يفترضان أن تسلسل الحوادث مرتبط ببعضه، وأن الحدث السابق يصبح مسببًا للاحق. لكن السحر عبارة عن قائمة إجرائية تتضمن المعتقد والشكل والسلوك، وهي قائمة غير قابلة للنقد أو الاختبار والتجربة والتعديل كما هو الحال في المنهج العلمي. وإلى جانب ذلك فالسحر لا يعترف بوجود أدلة مناهضة، بل على العكس يتطلب اقتناعًا مؤمنًا لا يعتريه الشك، وبذلك فهو علم دوجماتيكي سيئ جدًّا، لكنه مقبول تمامًا عند المؤمنين به.
ويُقدِّم تيلور أربعة أسباب لإيمان الشعوب الأمية بالسحر، وهي في رأينا أيضًا الأسباب التي تدعو أعضاء الحضارات الشعبية في مجموعة الحضارات العليا إلى الإيمان بقوى السحر. السبب الأول: هو أن بعض نتائج السحر تحدث فعلًا، ولكن لا شك في أن ذلك من قبيل الصدفة، والثاني: أن الساحر غالبًا ما يستخدم الخداع والإيحاء والإيهام والتلاعب بالألفاظ العمومية التي تحتمل كافة التأويلات الشخصية، والسبب الثالث: أن المؤمنين بالسحر يُذهَلون من النتائج التي تحدث ويتأثرون بها، ولكنهم ينسون أن الكثير من الرغبات أو الطلبات لم تتحقق. وأخيرًا، فإن عدم تحقق المرغوب والمطلوب يُفسَّر دائمًا بوجود قوى سحرية أخرى مضادة تعمل على عدم إنجاح المطلوب، وتتطلب أعمالًا سحرية أخرى ضد السحر المضاد (حلقة مفرغة مثل الصواريخ المضادة للمضادة وهكذا).
ويرى مالينوفسكي أن السحر يكون جانبًا هامًّا من حياة المجتمعات البدائية؛ حيث تتخلف كل الوسائل التكنولوجية — بما في ذلك الطب والعلوم — وبذلك فإن السحر عند البدائيين ليس سوى أداة للتعبير عن الفكر المرغوب والسلوك المأمول والأمل المنشود، والرغبة في إمكان تنفيذ هذه الآمال التي تقصر عنها تكنولوجيتهم المادية، بمساعدة القوى الخفية التي تحركها الطقوس المرعية. وعلينا أن نلاحظ أن الاعتقاد في السحر ليس قاصرًا على الشعوب البدائية، بل يشترك في ذلك كثيرون من الأفراد في الشعوب المتقدمة أيضًا، ولعل هذا — كما قلنا — بقية حضارية أو جزء من تكوين الإنسان الحضاري وتراثه.
الفرق بين الدين والسحر
وأخيرًا فإن هناك عدة مقاييس للتفريق بين الدين والسحر، برغم ظهور ترابطهما معًا. فالدين في مجموعه — والطقوس الدينية خاصة — عبارة عن عمل له أغراض وأهداف اجتماعية يوافق عليها المجتمع ويشترك في أدائها في بعض الأحيان، بينما جانب من السحر — السحر الأسود على الأقل — مرهوب يخشاه الناس، وهو عمل فردي غالبًا يتم سرًّا. كذلك فإن طقوس الدين تستدعي نوعًا من الخشوع والإيمان والتقوى ولا تنتظر نتائج مباشرة، بينما يتوقع الناس نتائج السحر تلقائيًّا. وعلى هذا، فإن هدف الديانة عام وموزع على الناس، بينما هدف السحر محدود بمطلب معين ومحدد الأثر بأفراد معينين.
أفكار الخلود والحياة الآخرة وبقاء الروح
قليل جدًّا من المجتمعات البسيطة هي التي تعتقد في بقاء الأموات في حالة غير مادية أو في صورة أرواح لمدة طويلة. فرغم أن كل المجتمعات تعتقد في وجود أشباح وأرواح المتوفين حديثًا، إلا أن خلود هذه الأرواح إلى الأبد لا يوجد كاعتقاد ديني عند عدد كبير من المجتمعات. وفي الحقيقة لا تتلهف المجتمعات البدائية على الحياة الآخرة ولا تنظر إلى الحياة في صورة روحية بعد الممات نظرة التوقع والاغتباط. فكثيرون من البدائيين يهتمون كثيرًا بمحاولة إبعاد أشباح أقاربهم المتوفين حديثًا بعيدًا عن مساكنهم، ويذهبون في ذلك مذاهب شتى: بعضهم لا يخرج جثة الميت من باب البيت، بل من فتحة جانبية تُصنَع خصيصًا لذلك، ثم تُسَدُّ مرةً أخرى كي لا يتعرف الشبح أو الروح على طريق للعودة، والبعض يترك المسكن نهائيًّا حتى لا تتبعهم روح الميت، أو يعيدون طلاء البيت بلونٍ آخر لتضليل الشبح، وبعض الجماعات تطلق البخور وتتلو الكثير من التعاويذ والتراتيل لمنع الروح من العودة إلى المسكن. ولعل الذبائح التي يحرص بعض الناس في العالم العربي على ذبحها عند عتبة الباب أثناء خروج الجثة مباشرةً، هي نوع آخر من أنواع إبعاد الروح عن العودة إلى البيت. ومن قبيل ذلك أيضًا وضع الإسكيمو بعض السكاكين على العتبة لمنع الروح من العودة، وكذلك يفرض الإسكيمو تحريمًا على ذكر اسم الميت خوفًا من عودة الروح إلى البيت إذا ذكرها الناس.
وأيًّا كانت الوسائل المتبعة، فإن الواضح أن الإنسان في مجموعه يكره أن تزوره أرواح الموتى أو تؤرقه أو تتبعه أو تتبع أعماله وتتجسس عليه، حتى ولو كان الميت وثيق الصلة أو القربى به.
وتحتوي ميثولوجية الشعوب وأساطيرهم الكثير من الوصف لرحلات الأرواح إلى العالم الآخر، أو وصف ذلك العالم الآخر وطرق معيشة الموتى فيه. لكن الاعتقاد بخلود الروح إلى الأبد — كما قلنا — ليس شائعًا بين كل الناس؛ وذلك برغم بناء المقابر منذ العصر الحجري. فالأديان البدائية لا تهتم كثيرًا بهذا الموضوع، وإنما كل ما يهمها هو الطقوس المعينة التي يجب تأديتها عند الوفاة أو بعدها في مواسم معينة أو عند ذكرى الوفاة كما تحددها تقاليد المجتمع. وعلى هذا، فإن فكرة خلود الروح إلى الأبد مرتبطة بصورة أكثر بالحضارات العليا القديمة في حوض البحر المتوسط على وجه الخصوص. وأكبر مثال على ذلك أن المصريين قد شغلوا جزءًا كبيرًا من حضارتهم، وجزءًا كبيرًا من نشاطهم وأفكارهم في الوصول إلى الخلود في العالم الآخر.
الطب والسحر والدين
نجد في كل المجتمعات قوائم للتطبيب والعلاج بواسطة الأعشاب المختلفة، وهي تعرف كيف تضمد الجروح وتعمل الجبائر وتخلع الأسنان، وغير ذلك مما تلجأ إليه في حالات الأمراض البدنية الظاهرة ذات الأسباب المادية الملحوظة، لكن هناك الكثير من الأوجاع والأمراض التي يعزوها البدائيون إلى أسباب غير مادية. وعلاج هذه المجموعة من الأمراض يحتاج إلى التطبيب السحري، مثل إعادة الروح المفقودة للجسد الحي، أو تخليص الجسد من سم أعطاه له ساحر أو «شامان» ممن لهم دراية بالتحكم في القوى فوق الطبيعية مقابل أجور يتقاضاها من طالبي المساعدة.
ويزعم الشامان أن له أوثق الصلات المباشرة مع الكائنات فوق الطبيعية، وتنتابه في أحيانٍ كثيرة حالات ذهنية أو عاطفية شاذة، كعلامات على اتصالاته بالقوى الخارجية عن الكون. وقد تكون هذه الحالات مؤقتة، أو ذات ديمومة طويلة، لكنها من علامات الشامانية الحقة.
ويمكن أن تكون بداية ظهور طائفة رجال الدين قد حدثت في المجتمعات البسيطة الغنية (كمجتمع السماكة في الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية)، وقد تمثلت هذه البدايات في صورة تكوين جمعيات خاصة أو سرية من بعض الرجال الميسورين، تولت أمر الترتيبات الخاصة بإجراء الطقوس المختلفة السحرية والدينية معًا. وبالتدريج — وفي المجتمعات الزراعية — أخذت هذه الفئة من المتخصصين في التعمق في الأمور اللاهوتية والطقسية، وبذلك كبر حجم العبادات وتعقد بحيث كان يقتضي تخصصًا كاملًا كمهنة لبعض الأشخاص، وهكذا نشأت طبقة رجال الدين في المجتمعات ذات الحضارات العليا. وفي العادة لم يفقد رجال الدين صلاحياتهم السحرية، وإنما غلبت عليهم صفة التخصص في العبادات. وبما أن المجتمعات العليا كانت تتميز بتعدد الآلهة، فقد انقسم رجال الدين إلى طوائف يختص كل منها بمعبود واحد. وكثيرًا ما تصارع كهان الآلهة ضد بعضهم بعضًا من أجل الحصول على مركز أعلى لمعبودهم، وبالتالي مركز ذي نفوذ لهم كسدنة لهذا المعبود. ولم يكن مثل هذا الصراع بعيدًا عن الأحداث السياسية في المجتمع. وكثيرًا ما استعان كهنة معبود بالحكم على كهنة معبود آخر. وفي حالاتٍ كثيرة أصبح للكهنة دور هام في السياسة وتعيين الحكام وإقالتهم، كما كان يحدث وقت ضعف الحكم في مصر الفرعونية، ودراسة الجانب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لمؤسسات الدين قديمًا وحديثًا من الموضوعات الشائقة التي تُعبِّر بصدق عن الدور الحضاري لنوع من التنظيم الأيديولوجي وتأثيره على غالبية أشكال التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية على مر العصور. وقد بَلَغ هذا الدَّوْرُ أَوْجَهُ في أوروبا العصور الوسطى، حين سيطرت الكنيسة على كل مقدرات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويبلغ الآن مرحلة الحضيض في أوروبا ومناطق الحضارة الصناعية منذ أواخر القرن الماضي. كما يمكننا أن نقول: إن نفوذ طبقة رجال الدين قد بلغ مرحلة متناهية الصغر في الدول العلمانية عامةً والماركسية خاصةً، بحيث لم يَعُدْ عنصرًا حضاريًّا مؤثرًا. وتحوَّلَ رجال الدين إلى التقوقع عند حد الوظائف الدينية التي تُقدِّمها المؤسسات الدينية لأتباعها، خاصة بعد أن أشرفت الدول العلمانية — بصور ودرجات مختلفة — على المقومات الاقتصادية للمؤسسات الدينية.
والخلاصة أنه لا يمكن تحديد الدين بسهولة، ومن الخطأ أن نأخذ مظهرًا أو أكثر من المظاهر الدينية العامة لِنُعمِّمَها على كل الأديان؛ فكل ديانة كلٌّ متكامل متفاعل، له كثير من الارتباطات الوظيفية بمحيطه الحضاري. ولا شك في أن الدين واحد من العناصر الحضارية التي لا تقبل التغيير السريع، ولكنه مع ذلك قابل للتغيير نتيجة ظهور كثير من المؤثرات الخارجية والداخلية في المجتمع، وخاصةً الجوانب التنظيمية في الدين لارتباطها الوثيق بالمجتمع والحضارة.
الدين والفن
والأوجه الدينية التي تُعالَج فنيًّا كثيرة؛ فالأساطير لا تُقَص كتاريخ وإنما كشعر ونثر رفيع، والأدعية والصلوات والأناشيد الدينية والأذكار لا تُقرَأ، بل تُرتَّل وتُنشَد وتُصاغ صياغة شعرية أو قريبة من ذلك. ولا تُنفَّذ الرقصات السحرية الدينية تنفيذًا آليًّا بل تقترن بكثير من الإيقاع والتلوين، والأقنعة الطقسية تنم عن المهارة أو العبقرية الفنية للصانع. ويبدو أن الإجادة الفنية للطقوس المختلفة: شعر، وأناشيد، وموسيقى، ورقص، وإيقاع، وأمتعة، وملابس … إلخ. تجعل لهذه الطقوس جاذبية خاصة، وتؤثر على تعميق إيمان الممارسين لعقيدتهم. وإذا كان ذلك ملاحظًا في المجتمعات البدائية، فإنه موجود أيضًا في الأديان السماوية، فالصلاة الخاشعة في رحاب بساطة المسجد أو زخرف الكنيسة تؤدي إلى اندماج المصلين في حالة روحية ونفسية يصعب تصويرها، وتلاوة القرآن بصوتٍ حسن كما يفعل مشاهير المقرئين تجلب مزيدًا من عمق الإحساس الديني عند المنصتين، وكذلك جودة الترانيم الكنسية وجمال الأداء الصوتي والموسيقي تقيم في قلوب المؤمنين جوًّا من الإيمان العميق. ومن المعروف أن المعبد الفرعوني أو الإغريقي الروماني، قد ساهم في تدعيم الفنون الموسيقية والكورالية. وقد نقلت الكنيسة الأوروبية هذا التراث عن الحضارة الإغريقية الرومانية، وفي رحاب الكنيسة نبعت أصول مبادئ كثيرة من الفن الأوبرالي والموسيقي بأنواعها المختلفة، مع الإضافات العبقرية للفنون والنغم الشعبي وعمالقة التأليف الموسيقي الكلاسيكي.
الفنون Art
تندرج فنون الشعوب البدائية تحت أربعة أقسام هي: الفنون الشفاهية، والموسيقى، والرقص، والفنون التشكيلية. ولا تكاد أي حضارة تخلو من أحد هذه الأقسام الأربعة، ولكن الفروق تصبح شاسعة بين مجتمع وآخر في طريقة الأداء، وفي الشكل والإخراج، وفي النوع والجودة، وفي التوظيف الاجتماعي لهذه الفنون.
وتحاول الإثنولوجيا أن تدرس هذا الميدان الحضاري الشاسع الآفاق دراسة علمية في مجالات تحديد الأصول والتغيرات التي تطرأ على مر الزمن، كما تحاول دراسة المحتوى الفني وعناصره وأسلوبه والشكل الذي يتخذه هذا الأسلوب، والدور الاجتماعي للفنون كوظيفة من وظائف الحضارة. ويميل الإثنولوجيون في أحيانٍ قليلة إلى الحكم على أنواع الفنون المختلفة من الناحية النوعية، ولكنهم في مجموعهم يتجنبون مثل هذه الأحكام على اعتبار أن مصدرها يجب أن يكون واحدًا من المشتغلين بالفن.
- (١)
هناك أدوات أو مصادر تُستخدَم في التعبير الفني؛ مثل: اللغة، القصص، الصوت، الجسم، الألوان، الأنسجة، الطين، الحجارة، المكاشط، السكاكين … إلخ.
- (٢)
لكل مجتمع تراث اجتماعي خاص بتكنيك استخدام تلك الأدوات والمصادر المذكورة.
- (٣)
يتدرب الأشخاص سنوات طويلة لتعلم هذا التكنيك حتى يصلوا إلى درجة البراعة في الأداء.
- (٤)
قليلون من الذين بلغوا مرحلة البراعة هم الذين يمكنهم أن يتخطوا التقليد، وأن يكتشفوا بعبقريتهم آفاقًا جديدة للتعبير والأداء، ومن ثم يمكنهم تغيير التكنيك أو الإضافة إليه، وتغيير الأسلوب والشكل في صورة خلق فني جديد ومبتكر، وهذا هو ما يفرق بين البراعة في الأداء والخلق والابتكار في الفن.
وعلى هذا النحو، يحدث التطور في الفنون. وهي بذلك جزء مماثل لأشكال الحضارة الأخرى التي تتغير وتتطور باستمرار. وهناك ميل بين الباحثين إلى الاعتقاد بأن أنواعًا معينة من الفنون التشكيلية تنزع إلى التغير بسرعة أكثر من أنواع أخرى؛ ولهذا فإن الاستمرارية في الأسلوب الفني تكاد لا توجد؛ لأن الفنون تتغير باستمرار. ويرى كثيرون أنه لا يمكن القول إن فنون الحفر على العظام لدى الإسكيمو هي استمرار للفنون المشابهة عند أصحاب الحضارة المجدلينية (الحجري القديم الأعلى)، وكذلك ترفض فكرة استمرار فنون التلوين عند أصحاب الحضارة الكبسية (كانت تسود في شمال أفريقيا في الحجري القديم الأعلى) إلى الفنون المشابهة عند البشمن المعاصرين (جنوب أفريقيا).
وقد اقترح كثيرون من الباحثين أن المراحل الأولى من الفنون كانت تمثل التعبيرات الواقعية، ثم تطورت إلى الهندسية والرمزية والزخرفية مع ميل إلى التبسيط. وتوجد أدلة على ذلك لكنها تتعلق فقط بالفنون التشكيلية في مناطق أوروبا الغربية (الرسوم والنقوش في الكهوف التي تعود إلى العصور الحجرية)، وبفنون النحت في غينيا الجديدة، وبفخار أمريكا الوسطى. كذلك دُرِسَتْ بعناية أطوار الفن التشكيلي عند الأنكا والمايا، ووُجِدَ أيضًا التسلسل المنطقي من الأسلوب القديم إلى النضوج، ثم مرحلة الإبداع، وأخيرًا فترة التدهور والذبول.
وبرغم ذلك يرى الكثيرون أن المراحل الفنية المختلفة لتطور الفنون شديدة التعميم، ولا تعطي نتائج دراسية تفصيلية طيبة، كما أن فكرة الانتشار الحضاري أو الاستعارة الحضارية في الفن غير واردة في النظرة التطورية. ونظرًا لأن الفنون عادةً إبداع خاص مرتبط بالفنان والتراث السائد والأدوات المستخدمة؛ فإن المراحل الفنية التي نراها يمكن أن تُفسَّر بالارتباط بالظروف التاريخية والحضارية السائدة التي يعمل من خلالها التعبير الفني كوظيفة اجتماعية اقتصادية وسياسية ودينية في بعض الأحيان. وبعبارةٍ أخرى، تتطور الفنون بتأثيرات تكنولوجية وأيديولوجية من الداخل والخارج معًا.
وفي الوسع القول على وجه العموم أن الأسلوب الفني في المجتمعات البدائية قد لا تكون موحدًا بالنسبة لأشكال الفنون جميعًا؛ فقد نجد أسلوبًا واقعيًّا جنبًا إلى جنب أسلوب رمزي أو هندسي بالنسبة للمنتجات الفنية المختلفة. ويعتمد ذلك على مدى ما حققه المجتمع المعين من تقدم في تكنيك إنتاج نوع ما (الفخار أو النسيج مثلًا) بالقياس إلى نوعٍ آخر من المنتجات الفنية (قلة المعرفة بالألوان أو تشغيل المعادن مثلًا). ويترتب على ذلك أن تشتهر جماعة بإنتاجٍ فني معين وجماعة أخرى بنوعٍ آخر (يجب أن يُضاف إلى ذلك أيضًا وجود أو ندرة الخامة المستخدمة ومدى التوارث الحضاري في هذا المجال).
وعلى وجه العموم، فإن مبدأ الانتشار الحضاري في الفن أمر متفق عليه بين الدارسين، ويشتمل على انتشار الأسلوب أكثر من انتشار المحتوى الذي تدخل عليه عمليات صياغة أخرى نابعة من المنطقة التي تلقت التأثير. كما أن بعض المؤثرات الواردة من الخارج تتخذ تفسيرات جديدة ووظائف غير تلك التي كانت لها في منطقتها الأصلية؛ مثلًا: أن يكون الرمز دينيًّا وينتقل ليصبح رمزًا للحكم أو الشمس … إلخ.
وأخيرًا، فإن دور العبقرية في الفن دور معروف ومتفق عليه، ولكن لا توجد أي قياسات للظروف التي تؤدي إلى تكرار نشأة العبقرية الفردية، لا وراثيًّا ولا حضاريًّا. ولعل الأسلم أن نقول إن العبقرية هي درجة عالية من الأصالة والابتكار، تتفتق في ظل ظروف خاصة لا تتكرر.