الفصل الحادي عشر

حتى جرانت الذي لا يعرف التردد كان يمرُّ بالطبع بلحظات من عدم اليقين.

إذ قال له صوته الداخلي، وهو يصعد على متن طائرة لندن في بلدة سكون: «أيها الأحمق! تفرِّط في يوم من أيام إجازتك الثمينة من أجل مطاردة سراب.»

«لا أطارد سرابًا. أريد فقط أن أعرف ما حلَّ ببيل كينريك.»

«وماذا يمثل بيل كينريك لك حتى تتخلى من أجله عن ساعة حتى من وقت فراغك؟»

«أنا مهتم به. إن كنت تريد أن تعرف، فأنا معجب به.»

«أنت لا تعرف عنه شيئًا. لقد صنعت لنفسك إلهًا على صورتك، وأنت مشغول بعبادته.»

«أعرف كثيرًا عنه. لقد استمعت إلى تاد كولين.»

«شاهد متحيِّز.»

«شابٌّ لطيف، وهذا أهم. كانت لديه مجموعةٌ واسعة من الأصدقاء ليختار من بينهم في مؤسسة مثل أورينتال كوميرشال، واختار بيل كينريك.»

«كثير من الشُّبَّان اللطفاء اختاروا أصدقاء مجرمين.»

«على ذكر هذا، لقد عرفتُ أنا نفسي بعض المجرمين اللطفاء.»

«حقًّا؟ كم عددهم؟ وكم عدد الدقائق التي أنت على استعداد للتخلي عنها من إجازتك من أجل أحد أصدقائك من فئة المجرمين؟»

«ولا حتى ثلاثين ثانية. لكن كينريك ليس مجرمًا.»

«ليس التزامًا كبيرًا للقانون أن تتجول بمجموعةٍ كاملة من أوراق رجلٍ آخر، أليس كذلك؟»

«سأبحث في هذا الشأن قريبًا. أما الآن فاخرس ودعني وشأني.»

«هاه! ارتبكت، صحيح!»

«اغرب عني.»

«تُعرِّض نفسك للخطر من أجل شاب لا تعرفه وأنت في سنك هذه!»

«من الذي يعرِّض نفسه للخطر؟»

«لم يكن يتعين عليك السفر في هذه الرحلة بالطائرة على الإطلاق. كان بإمكانك العودة على متن القطار أو بالسيارة. لكن لا، كان عليك أن تتدبَّر أن توضع في صندوق مغلق. صندوق لا فيه نافذة ولا باب يُفتح. صندوق لا تستطيع أن تهرب منه. صندوقٌ ضيِّق صامتٌ مغلقٌ مُوصَد …»

«اخرس!»

«هاه! أنفاسك تتلاحق بالفعل! ستُصيبك الأزمة في غضون عشر دقائق. ينبغي عليك أن تفحص دماغك يا ألان جرانت، بالتأكيد عليك أن تفحص دماغك.»

«يوجد جزءٌ واحد من أجهزة جمجمتي لا يزال يعمل على نحوٍ رائع.»

«وما هو؟»

«أسناني.»

«أتعتزم أن تمضغ شيئًا؟ ليس هذا علاجًا.»

«لا. أعتزم أن أصرَّ عليها.»

قطع جرانت تلك الرحلة في سلام، سواء كان ذلك بسبب ازدرائه لشيطان نفسه أو بسبب وقوف بيل كينريك بجواره طوال الطريق. أما تاد كولين فقد استرخى على الكرسي إلى جواره وراح في غفوة من فوره. أغلق جرانت عينيه، فجعلت الأنماط تتشكل في ذهنه ثم تتلاشى وتتبدد لتتكوَّن من جديد.

لماذا كان بيل كينريك متخفيًا؟

من كان يحاول أن يخدع؟

لماذا كان من الضروري أن يخدع أي أحد؟

وبينما كانت الطائرة تدور لتهبط بهم استيقظ تاد، ومن دون أن ينظر من النافذة بدأ يُعدِّل من ربطة عنقه ويسوِّي شعره. يبدو أن حاسةً سادسة في ذهن الطيار ظلَّت تحسب السرعة والمسافة والزاوية حتى وهو غير واعٍ.

قال تاد: «عُدنا إلى أضواء لندن وويستمرلاند العتيقة.»

فقال جرانت: «لا يلزمك أن تعود إلى فندقك. يمكنني أن أعطيك سريرًا.»

«هذا لطفٌ بالغ منك يا سيد جرانت، وأقدِّر لك ذلك. لكن لا يلزم أن أرهق زوجتك … أو … أو أيًّا كان الشخص الذي …»

«مدبِّرة منزلي.»

«لا يلزم أن أرهق مدبِّرة منزلك.» ثم قال وهو يربِّت على جيبه: «لديَّ من المال الكثير.»

«حتى بعد — كم كانت المدة؟ — أسبوعين في باريس؟ أهنئك.»

«أوه، حسنًا. لا أظن أن باريس كما اعتدناها أن تكون. أو ربما الأمر فحسب أنني افتقدت بيل. على أي حال، لا أريد أن أرهق أي أحد بإعداد سرير من أجلي، ومع ذلك شكرًا لك. وإن كنت ستغدو منشغلًا فلن ترغب في أن أكون في الجوار. لكنك لن تستبعدني من هذا الأمر، أليس كذلك؟ ستبقيني «معك»، كما يقول بيل. أقصد، كما كان يقول.»

«سأفعل بالتأكيد يا تاد، سأفعل بالتأكيد. لقد ألقيت طُعمًا في فندق في أوبان، واصطادك من بين جميع الناس في هذا العالم. وبالتأكيد لن أتركك الآن.»

افترَّ ثغر تاد عن ابتسامةٍ خفيفة. ثم قال: «أظن أنك تعرف ما تتحدث عنه. متى ستلتقي بذلك الرجل لويد؟»

«هذا المساء إن كان في بيته. أسوأ ما في المستكشفين أنهم إن لم يكونوا يستكشفون فإنهم يُلقون محاضرات؛ لذا قد يكون في أي مكان بين الصين وبيرو. ما الذي أجفلك؟»

«كيف عرفت أنني أُجفلت؟»

«عزيزي تاد، إن مُحيَّاك البشوش المرح لم يُخلَق من أجل البوكر ولا الدبلوماسية.»

«لا، كل ما في الأمر فقط أنك اخترتَ مكانَين كان بيل يختارهما دائمًا. كان معتادًا على أن يقول: «من الصين إلى بيرو».»

«أحقًّا كان يفعل ذلك؟ يبدو أنه كان يعرف الكاتب الذي يحبه حق المعرفة.»

«الكاتب الذي يحبه؟»

«أجل. هذا اقتباس. من صامويل جونسون.»

«أوه. أوه، فهمت.» بدا تاد خجلًا بعض الشيء.

«إن كنت لا تزال تشكُّ بأمري يا تاد كولين، فمن الأفضل أن تأتي معي الآن إلى سكوتلانديارد في إمبانكمنت ليشهد بعض زملائي لي.»

استحال شحوب وجه السيد كولين إلى تورُّدٍ شديد. وقال: «أنا آسف. للحظةٍ ظننت … بدا الأمر وكأنك كنت على معرفة ببيل. اغفر لي شكوكي يا سيد جرانت. أنا مُرتبِك تمامًا، كما تعرف. فأنا لا أعرف أي أحد في هذا البلد. ويتعين عليَّ أن آخذ الناس بما يُبدونه لي. أقصد ظاهريًّا. بالطبع، أنا لست متشككًا بشأنك. بل أنا ممتنٌّ لك كثيرًا حتى إنني أعجز أن أجد الكلمات المناسبة لوصف امتناني. صدِّقني في ذلك.»

«بالطبع أصدق ذلك. كنت فقط أمازحك، ولم يكن من حقي ذلك. سيكون غباءً منك ألا تكون متشككًا. هاك عنواني ورقم هاتفي. سأهاتفك بمجرد أن ألتقي بلويد.»

«ألا تظن أنه ينبغي أن آتي معك؟»

«لا. أظن أن وفدًا من اثنين سيكون كثيرًا بعض الشيء على مناسبةٍ تافهة كهذه. ما الوقت الذي ستتواجد فيه في ويستمرلاند مساء اليوم حتى يمكنك أن تتلقى اتصالًا هاتفيًّا؟»

«سيد جرانت، سأجلس ويدي على الهاتف حتى تتصل.»

«من الأفضل أن تتناول بعض الطعام. سأهاتفك في الثامنة والنصف.»

«حسنًا. الثامنة والنصف.»

كانت لندن عبارة عن لونٍ رمادي ضبابي بزركشةٍ قرمزية، فأخذ جرانت يتطلع إليها بكثير من المودة. كانت ممرضات الجيش يرتدين تلك الأزياء الخاصة؛ باللونين الرمادي والقرمزي. وبطرقٍ ما كانت لندن تبث في نفس المرء إحساس الحَظوة والقوة نفسه الذي كان يتماشى مع هذا الزي الموحَّد للممرضات الشبيه بزي الراهبات. أحاسيس الجلال، والعطف الكامن تحت اللامبالاة السطحية، والجدارة بالاحترام التي تعوِّض عن الافتقار إلى الزخارف الجميلة. أخذ جرانت يشاهد الحافلات الحمراء وهي تجعل اليوم الغائم أكثر جمالًا، وباركها. يا له من أمرٍ سعيد أن تكون حافلات لندن حمراء اللون! كانت الحافلات في اسكتلندا مطلية بأكثر الألوان بؤسًا؛ اللون الأزرق. لونٌ بائس كثيرًا، حتى إنه كان مرادفًا للاكتئاب. لكن الإنجليز، باركهم الرب، كان لديهم أفكارٌ أكثر مرحًا.

وجد السيدة تينكر تفرِّغ محتويات غرفة النوم الإضافية من أجل تنظيفها. لم تكن توجد أدنى حاجة لأي أحد أن ينظِّف غرفة النوم الإضافية، لكن السيدة تينكر كانت تحصل من تنظيف الغرف على المتعة نفسها التي يحصل عليها الناس من كتابة سيمفونية أو الفوز بكأس في لعبة الجولف أو عبور القنال الإنجليزي سباحةً. كانت تنتمي لذلك الصنف الغفير الذي وصفته لورا بإيجازٍ دقيق قائلةً: «من نوعية النساء اللواتي ينظِّفن عتبة المنزل كل يوم وشَعرَهن كل ستة أسابيع».

أتت السيدة تينكر إلى باب غرفة النوم الإضافية حين سمعت المفتاح يدخل في القفل وقالت: «الآن جئت! ولا يوجد أي طعام في المنزل! لماذا لم تُعلمني بأنك ستعود من خارج البلاد قبل أن تأتي؟»

«لا بأس يا تينك. لا أريد طعامًا الآن على أي حال. لقد عرَّجت فقط من أجل أن أترك أمتعتي. أعدِّي شيئًا من الطعام واتركيه لي حين تغادرين، حتى يكون هناك شيء أتناوله الليلة.»

كانت السيدة تينكر تعود إلى منزلها كل ليلة؛ من ناحية لأنه كان يتعين عليها إعداد وجبة العشاء لشخص أشارت إليه باسم «تينكر»، ومن ناحية أخرى لأن جرانت كان يحب دومًا أن يكون وحده في شقته في المساء. لم يلتقِ جرانت «تينكر» هذا قَط، ويبدو أن صلة السيدة تينكر الوحيدة به كانت تتألف من مسألة إعداد وجبة العشاء وبعض الأمور الزوجية. كانت حياتها الحقيقية في ١٩ تينبي كورت، المنطقة البريدية الجنوبية الغربية ١.

سألها جرانت وهو يقلِّب في مفكِّرة الهاتف: «هل من مكالمات؟»

«اتصلت الآنسة هالارد لتطلب منك أن تتصل بها وتتناول معها الطعام بمجرد أن تعود.»

«أوه. هل سارت أمور المسرحية الجديدة على ما يرام؟ كيف كانت الملاحظات عليها؟»

«رديئة.»

«كلها؟»

«كل ما رأيت، على أي حال.»

في أيام كانت السيدة تينكر حرة، قبل وجود تينكر، كانت تعمل مساعدة ممثلة في المسرح. وحقًّا، لولا طقس إعداد وجبة العشاء هذا لكان من المرجَّح أن تظل تساعد شخصًا ما في ارتداء ملابسه كل مساء في المنطقة البريدية الغربية ١ أو الغربية الوسطى ٢ بدلًا من تنظيف غرف النوم الإضافية في المنطقة البريدية الجنوبية الغربية ١. لذا كان اهتمامها بأمور المسرح يعد اهتمام أحد الخبراء.

«هل شاهدتِ المسرحية؟»

«لم أشاهدها. إنها إحدى تلك المسرحيات التي تعني شيئًا آخر. أنت تعرف ما أقصد. إنها تُبقي كلبًا خزفيًّا على رف الموقد، لكنه ليس كلبًا خزفيًّا على الإطلاق، بل زوجها السابق، وحين ينكسر الكلب، إذ يكسره صديقها الحميم الجديد، تُصاب بالجنون. ليس أن تتصرف بجنون كما تعلم، بل إنها تصاب حرفيًّا بالجنون. لكنني أظن أنها إن كانت تريد أن تُصبح سيدةً نبيلةً فعليها أن تمثِّل مسرحياتٍ رفيعة المستوى الثقافي. فيمَ كنت تفكِّر حين طلبت طعامًا للعشاء؟»

«لم أكن أفكِّر في شيء.»

«يمكنني أن أعدَّ لك بعض السمك الطيب المسلوق في ماء ساخن.»

«لا تُعدِّي سمكًا، إن كنتِ تحبينني. لقد تناولت من السمك في الشهر الماضي ما يكفيني دهرًا. لا أمانع تناول أي شيء ما دام ليس سمكًا أو لحم ضأن.»

«في الواقع، لقد تأخَّر الوقت الآن على إحضار كلاوي من السيد بريدجز، لكن سأرى ما يمكنني فِعله. هل كانت إجازتك جيدة؟»

«كانت إجازةً رائعة للغاية.»

«هذا جيد. لقد امتلأتَ وزاد وزنك قليلًا. وأنا مسرورة لرؤية ذلك. ولست بحاجة أيضًا لأن تربِّت على بطنك بهذا الشكل المريب. فقليل من الوزن لا يضر أحدًا. ليس من الجيد أن تكون نحيلًا كقضيبٍ حديدي. فليس لديك مخزون كبير من الدهون.»

انتظرت السيدة تينكر بينما كان جرانت يبدِّل ملابسه ويرتدي أفضل حلة لديه، وأخذت تفشي ببعض القيل والقال الذي تصادف أنه تناهى إلى سمعها. ثم أشار إليها أن تعود إلى لذَّتها المتمثلة في تنظيف حجرة النوم الإضافية، وتعامل مع أمورٍ صغيرة كانت قد تراكمت أثناء غيابه، وخرج في ساعةٍ مبكرة من أمسيات شهر إبريل الهادئة. انعطف متجهًا نحو المرأب، وأجاب عن أسئلة عما فعله في صيد السمك، واستمع إلى ثلاث قصص عن صيد السمك كان قد استمع إليها قبل أن ينطلق إلى منطقة المرتفعات الاسكتلندية قبل شهر، واستعاد سيارته الصغيرة ذات المقعدين التي كان يستخدمها في شئونه الخاصة.

تطلَّب العثور على المنزل الكائن في ٥ بريت لين بعض البحث. كانت كافة أنواع التعديل والتهيئة قد أُجريت في هذه الجمهرة من المنازل العتيقة. إذ أصبحت الإسطبلات أكواخًا، وتحوَّلت أجنحة المطابخ إلى منازل، وأضحت الطوابق الغريبة الشكل من البيوت شققًا صغيرة. بدا أن المنزل الكائن في ٥ بريت لين مجرد رقم على بوابة. وكانت البوابة في جدار من الطوب، وبدا لجرانت أن أخشاب البلوط المعشَّقة بالحديد فيها متأثرة بعض الشيء بامتدادٍ بسيط من طوب لندن التقليدي. لكنها كانت متينة وعادية في حد ذاتها، وكانت تُفتَح بسهولة عند محاولة ذلك. كانت تؤدي إلى ما كان باحة مطبخ حين كان المنزل رقم ٥ مجرد جناحٍ خلفي لمنزل في شارعٍ آخر تمامًا. أما الآن فقد أصبحت تلك الباحة فناءً صغيرًا مرصوفًا به نافورة في المنتصف، وأما ما كان يومًا ما جناحًا فأصبح منزلًا مسطحًا صغيرًا من الجص يتكون من ثلاثة طوابق، مدهونة بلونٍ أصفرَ شاحب، وبها نوافذ مؤطَّرة بأُطرٍ خضراء. وبينما كان جرانت يقطع الفناء الصغير نحو الباب لاحظ أنهم استخدموا بلاطات في عملية الرصف، وكان بعضها قديمًا لكن أكثرها كان جميلًا. كما كانت النافورة جميلة أيضًا. أثنى جرانت في نفسه على هيرون لويد لأنه لم يستبدل بالجرس الكهربائي اللندني الذي يعمل بالضغط على زر جرسًا فاخرًا آخرَ أجمل؛ كان الجرس اللندني يوحي بذوقٍ طيب لم تكن البوابة غير المناسبة قد حسمته.

كان داخل المنزل أيضًا يتَّصف بالعراء والمساحات الخالية التي تتصف بها شبه الجزيرة العربية دون وجود ما يوحي بأن قطعةً من الشرق قد نُقِلت إلى لندن. تمكَّن جرانت أن يرى، وراء جسد الخادم الذي فتح له الباب، الحوائط النظيفة والسجَّاد الفاخر؛ إذ كان الطابع العربي طرازًا متَّبَعًا، وليس ديكورًا منقولًا. وهنا تعاظم شعوره بالاحترام تجاه هيرون لويد.

بدا الخادم عربيًا؛ عربيًّا من الحضر، ممتلئ الجسد، ذا عينَين برَّاقتين وأسلوبٍ مهذَّب. استمع الرجل إلى استفسار جرانت وسأله بإنجليزيةٍ لطيفةٍ صحيحة للغاية إن كان لديه موعدٌ سابق. فأجاب جرانت بالنفي، لكنه لن يأخذ من وقت السيد لويد أكثر من بضع دقائق. إذ يمكن أن يكون السيد لويد عونًا في تقديم معلوماتٍ ذات صلة بشبه الجزيرة العربية.

«هلا دخلت فضلًا، وألتمس منك أن تنتظر لحظة.»

أرشد الرجلُ جرانت إلى حجرةٍ صغيرة في الداخل بجوار الباب الأمامي تمامًا، وبالنظر إلى مساحتها المحدودة وفرشها القليل قرَّر جرانت أنها كانت تُستخدم لغرض الانتظار فقط. افترض أن شخصًا مثل هيرون لويد لا بد أن يكون معتادًا على ظهور الغرباء على عتبة منزله طالبين مساعدته أو اهتمامه. أو ربما ليطلبوا توقيعه فحسب. هذا التصور جعل من تطفُّل جرانت أمرًا أقل استهجانًا.

بدا أن السيد لويد لم يُطل في الجدال بشأن ما إذا كان جرانت مرغوبًا فيه؛ إذ عاد الرجل في غضون لحظات.

«هلا أتيتَ من فضلك؟ سيُسَرُّ السيد لويد كثيرًا لرؤيتك.»

كانت تلك العبارة صيغةً مكرَّرة، لكنها صيغةٌ لطيفة. بينما كان جرانت يتبع الرجل على الدرج الضيق وإلى الغرفة الكبيرة التي كانت تشغل مساحة الطابق الأول بأسره، فكَّر في أن الأدب والخصال الحميدة بالفعل يلطِّفان الحياة.

قال الرجل، وهو يتنحَّى جانبًا من أجل أن يسمح لجرانت بالدخول: «السيد جرانت، «أيها الحاج».» وقعت الكلمة على مسامع جرانت وفكَّر في نفسه: هذا هو أول مظاهر التصنع: من المؤكَّد أن الإنجليز لا يحجُّون إلى مكة.

تساءل جرانت، وهو ينظر إلى هيرون لويد بينما كان يرحِّب به، عما إن كان لويد قد فكَّر في البداية في الذهاب إلى صحراء شبه الجزيرة العربية لأنه بدا عربيًّا بدويًّا، أم إنه أصبح يبدو عربيًّا بدويًّا بعد أن أمضى سنوات في صحراء شبه الجزيرة العربية. كان لويد يبدو رجلًا عربيًّا بدويًّا إلى أبعد الحدود. فكَّر جرانت، مُتندِّرًا، في أنه كان يبدو عربيًّا كأولئك الذين تجدهم في كتب مكتبات تأجير الكتب. على صهوة خيول عربٍ مثل هيرون لويد اختُطفت ربَّات بيوت عفيفات من الشوارع الملتوية والطرق والشوارع الصغيرة وحُملنَ إلى مصيرٍ أسوأ من الموت. العينان السوداوان، والوجه البُني الهزيل، والأسنان البيضاء، والجسد الذي يشبه السوط، واليدان الرقيقتان، والحركات الرشيقة؛ كان كل ذلك موجودًا، جليًّا وواضحًا. كان على جرانت أن يذكِّر نفسه كَرهًا بأنه يجب ألا يُصدر أحكامًا بناءً على المظاهر.

وذلك لأن هذا الرجل قام برحلاتٍ تاريخية في عالم الاستكشاف، وكتب عنها بلغةٍ إنجليزية، كانت تعدُّ أدبية حتى ولو كانت مبالِغةً بعض الشيء في التنميق (كان جرانت قد اشترى نسخةً من أحدث كتبه في سكون ظُهر يوم أمس). لم يكن هيرون لويد شيخًا من شيوخ الصالونات.

كان لويد يرتدي ثيابًا لندنيةً تقليدية وكان أسلوبه يلائم ما يرتدي من ثياب. لو لم يكن المرء قد سمع به من قبلُ كان سيراه لندنيًّا ينتمي إلى الطبقات المهنية الميسورة الحال. أو ربما كان سينتمي إلى طبقةٍ أكثر تأنُّقًا بقليل؛ ممثل أو ربما أحد مستشاري هارلي ستريت أو أنه مصوِّر مجتمعي، ولكن، مع أخذ كل شيء في الاعتبار، كان سيراه لندنيًّا يمتهن مهنةً تقليدية.

قال وهو يصافح جرانت: «سيد جرانت، يقول محمود إن بوسعي أن أقدِّم لك خدمة.»

دُهِش جرانت من صوته. إذ كان بلا قوام، وكان ذا نبرةٍ متبرِّمة بعض الشيء لم تكن ذات صلة بفحوى الكلمات ولا بحالته وهو يقولها. أخرج علبة سجائر من طاولة القهوة القصيرة وقدَّمها له. وقال إنه لم يكن يدخِّن؛ لأنه كان قد اتبع التقاليد الإسلامية أثناء إقامته الطويلة في الشرق، لكنه سيزكِّي هذه السجائر لجرانت لو كان يرغب في تجربة شيء طعمه خارج نطاق المألوف.

أخذ جرانت السيجارة بشغف، كما كان يأخذ كل تجربة وإحساس جديدَين، واعتذر عن تطفُّله. كان يريد أن يعرف ما إن كان شابٌّ يافع يُدعى شارل مارتن قد أتاه في أي وقت في العام المنصرم أو نحو ذلك طلبًا لمعلومات عن شبه الجزيرة العربية.

«شارل مارتن؟ لا. لا، لا أظن ذلك. يأتي أناسٌ كثيرون، بالطبع، لمقابلتي بشأن شيء أو آخر. ولا يمكنني دائمًا تذكُّر أسمائهم بعدها. لكنني أظن أنني سأتذكَّر أي شخص يحمل هذا الاسم البسيط. أتُحب هذا التبغ؟ أعرف نصف الهكتار الذي زُرِع فيه. مكانٌ جميل لم يتغيَّر منذ أن مرَّ الإسكندر المقدوني من ذلك الطريق.» ثم ابتسم قليلًا وأضاف: «عدا بالطبع أنهم تعلموا كيف يزرعون هذا التبغ. أدرك أن التبغ يتماشى جيدًا جدًّا مع نبيذ الكرز غير المفرِط الجفاف. وهذا شيءٌ آخر من الملذات الكُبرى التي أتحاشاها، لكنني سأشرب عصير فاكهة لأونسك.»

قال جرانت في نفسه إن عادات الضيافة البدوية تجاه الغرباء فلا بد أن تكون مكلفةً بعض الشيء في لندن، حيث كان لويد شهيرًا، وكان بوسع الجميع دون استثناء أن يزوروه. ولاحظ جرانت أن الملصق على الزجاجة التي أمسك بها لويد كانت تمثِّل ضمانةً كما كانت تمثِّل إفادة. بدا أن لويد لم يكن فقيرًا ولا بخيلًا.

فقال جرانت: «كان شارل مارتن معروفًا أيضًا باسم بيل كينريك.»

أنزل لويد الكوب الذي كان على وشك أن يملأه وقال:

«كينريك! لكنه كان هنا منذ بضعة أيام فحسب. أو بالأحرى، حين أقول منذ بضعة أيام، فإنني أقصد قبل أسبوع أو أسبوعَين. مؤخرًا على أي حال. ما الداعي لأن يكون له اسم مستعار؟»

«لا أعرف سبب ذلك. أنا أسأل عنه نيابةً عن صديقه. كان من المقرر أن يلتقي بصديقه في باريس مطلعَ شهر مارس. يوم الرابع من مارس على وجه التحديد. لكنه لم يأتِ. وقد اكتشفنا أنه تُوفي جرَّاء حادث في اليوم نفسه الذي كان مقررًا أن يلتقيا فيه في باريس.»

وضع لويد الكوب من يده ببطء على الطاولة.

ثم قال بتلك النبرة المتبرِّمة التي لم يكن يقصد بها أن يكون متبرمًا: «ذلك إذَن السبب في عدم عودته. يا له من مسكين! مسكين ذلك الفتى.»

«أكنتَ قد اتفقتَ معه على مقابلته مجددًا؟»

«أجل. وجدت أنه جذَّاب وذكي جدًّا. كان قد صار مهووسًا بالصحراء! لكن لعلك تعرف ذلك. كانت لديه أفكار عن الاستكشاف. ما زال يوجد قلة من الشباب ممن لديهم مثل هذه الأفكار. ما زال يوجد مغامرون، حتى في هذا العالم المسيج المزخرف. وهو أمر لا بد أن يكون المرء مسرورًا به. ماذا حلَّ بكينريك؟ حادث سيارة؟»

«لا. سقط على متن قطار وكُسرَت جمجمته.»

«يا له من بائسٍ مسكين! يا له من بائسٍ مسكين! يا للخسارة! كان يمكن أن أمُدَّ الآلهة الغيورة مكانه بدزينة أخرى من الأشخاص الذين يمكن الاستغناء عنهم. يا لها من كلمة فظيعة؛ يمكن الاستغناء عنهم. التعبير عن فكرةٍ ما كانت حتى ستكون قابلة للاستيعاب قبل بضع سنوات. لقد قطعنا شوطًا طويلًا في الدرب نحو همجيَّتنا المطلقة. لماذا تريد أن تعرف إن كان كينريك قد أتى لزيارتي؟»

«أردنا أن نقتفي أثره. حين مات كان متخفيًا تحت اسم شارل مارتن، وكان معه مجموعةٌ كاملة من أوراق ثبوتية باسم شارل مارتن. نريد أن نعرف في أي مرحلة بدأ يكون شارل مارتن. ولأن الصحراء كانت قد صارت هوسًا لديه، كنا شبه واثقين من أنه سيأتي ليلتقي ببعض الخبراء في الموضوع في لندن، وبما أنك، يا سيدي، أشهرهم فقد بدأنا بك.»

«فهمت. حسنًا، من المؤكد أنه أتى لمقابلتي باسم كينريك، بيل كينريك بحسب ما أظن. شابٌّ ذو بشرةٍ داكنة، جذَّاب جدًّا. كما كان صلبًا، على نحوٍ لطيف. أقصد أن خصاله الحميدة كانت تخفي إمكاناتٍ غير معلومة. وجدته مرحًا مبهجًا.»

«هل جاءك بخطط بعينها؟ أقصد، هل أتاك باقتراحٍ محدد؟»

ابتسم لويد قليلًا. ثم قال: «لقد جاءني بأحد أكثر الاقتراحات شيوعًا من بين ما يعرض عليَّ في العادة. حملةٌ استكشافية إلى موقع مدينة عُبار. أتعرف مدينة عُبار؟ إنها مدينة شبه الجزيرة العربية الأسطورية. إنها تمثل «مدائن السهول» في شبه الجزيرة العربية. يا لتكرار هذا النمط في الأسطورة! إن الجنس البشري يشعر بذنبٍ أبدي حين يشعر بالسعادة. لا يمكننا حتى أن نعلِّق على صحتنا الجيدة من دون أن نلمس الخشب أو نجعل أصابعنا متقاطعة أو أي طريقةٍ أخرى تمنع غضب الآلهة من رفاهة البشر الفانين. وهكذا لدى العرب مدينة عُبار؛ المدينة التي دمَّرتها النار بسبب ثرائها وآثامها.»

«وقد ظن كينريك أنه اكتشف موقعها.»

«كان واثقًا من أنه اكتشف موقعها. يا للفتى المسكين، أتمنى أنني لم أكن عصبي المزاج معه.»

«أتظن إذَن أنه كان مخطئًا؟»

«يا سيد جرانت، أسطورة عُبار موجودة في كل مكان من البحر الأحمر عبر شبه الجزيرة العربية حتى الخليج الفارسي، وتقريبًا في كل ميل من تلك المسافة يوجد موقعٌ مزعومٌ مختلف لهذه المدينة.»

«ولا تعتقد أن أحدًا ما يمكن أن يعثر عليه مصادفةً؟»

«مصادفةً؟»

«كان كينريك طيارًا. من المحتمل أن يكون قد رأى المكان حين جرفته الريح بعيدًا عن مساره، أليس كذلك؟»

«هل تحدَّث إلى صديقه عن الأمر إذَن؟»

«لا. لم يتحدث إلى أي أحد أعرفه. كان ذلك استنتاجًا من جانبي. ما الذي يمنع أن يجري الاكتشاف بتلك الطريقة؟»

«لا شيء، بالطبع، لا شيء؛ إن كان المكان موجودًا من الأساس. لقد قلتُ إنها أسطورة تكاد تكون منتشرة في العالم أجمع. لكن حين تتبع الناس القصص عن الأطلال وصولًا إلى مصادرها، كان يتبين دائمًا أن تلك «الأطلال» شيءٌ آخر. تشكُّل طبيعي للصخور، أو سراب، أو حتى تشكيلات للسحب. أظن أن ما رآه كينريك المسكين كان فوَّهة نيزك. لقد رأيت ذلك المكان بنفسي. اكتشفه أحد أسلافي حين كان يبحث عن عُبار. بشكل لا يُصدَّق يبدو المكان هناك وكأنه من صُنع بشر. فالأرض المنقوضة التي تشكَّلت جرَّاء سقوط النيزك لها قمم ومرتفعات مدبَّبة تبدو خربة. أظن أن لديَّ صورةً له في مكانٍ ما. ربما ترغب في إلقاء نظرة عليها؛ إنها صورة مميزة.» ثم نهض وسحب للخلف لوحًا في الجدار الخشبي المطلي العاري، فظهرت رفوف من الكتب تمتد من الأرض وحتى السقف. تابع يقول: «ربما من رحمة الرب بنا أن النيازك بأحجامها المختلفة لا تسقط على الأرض كل يوم.»

التقط مجموعةَ صورٍ فوتوغرافية من الأرفف التحتية، وعاد يسير عبر الغرفة وهو يبحث عن المكان في مجموعة الصور. ومن دون سابق إنذار، تملَّك جرانت إحساسٌ بأنه التَقى لويد في مكانٍ ما من قبلُ.

نظر إلى الصورة التي وضعها لويد أمامه. كانت تبدو غريبة بلا شك. كانت تبدو مثل محاكاةٍ فنية ساخرة لمنجزٍ بشريٍّ عظيم. لكن ذهنه كان مشغولًا باللحظة الغريبة تلك التي شعر فيها بأنه تعرَّف على لويد.

أكان الأمر فحسبُ أنه رأى صورة هيرون لويد في مكانٍ ما؟ لكن لو كان الأمر كذلك، لو كان مجرد أنه كان قد رأى وجه لويد كملحق لوصفٍ ما لرحلاته الاستكشافية، فإن هذا الشعور بأنه تعرَّف عليه كان سيأتيه عندما دخل الغرفة لأول مرة ورآه. لم يكن الإحساس الذي اعترى جرانت هو إحساسًا بالتعرف بقدر ما كان إحساسًا بأنه يعرف لويد من مكانٍ آخر. في ظروفٍ محيطةٍ أخرى.

كان لويد يقول: «أترى؟ حتى على الأرض، يتعيَّن على المرء أن يقترب منها قبل أن يتأكد من أن الأمر ليس من صنع البشر. فلا بد أن الأمر أكثر تضليلًا من الجو.»

وافقه جرانت قائلًا: «أجل»، لكنه لم يصدِّقه. وذلك لسببٍ وجيه جدًّا. من الجو كانت الفوَّهة ستبدو واضحة تمامًا. من الجو كانت ستبدو على حقيقتها تمامًا؛ هالة دائرية تحيط بها أرضٌ منقوضة. لكنه لم يكن سيخبر لويد بذلك. فليدع لويد يتحدث. كان اهتمامه بلويد يتزايد.

«ذلك المكان يقع على مقربةٍ شديدة من مسار كينريك عبر الصحراء، كما وصفه هو، وأظن أن ذلك ما رآه.»

«أتعرِف إن كان قد حدَّد المكان بدقة؟»

«لا أعرف ذلك. لم أسأله. لكنني أظن أنه فعل. الانطباع الذي كوَّنته عنه أنه شابٌّ في غاية الذكاء والكفاءة.»

«لم تسأله عن تفاصيل؟»

«سيد جرانت، لو أخبرك أحدهم أنه اكتشف شجرةً مقدسة تنمو في وسط بيكاديلِّي في مواجهة نادي إن آند أوت مباشرةً، فهل كنت ستُبدي اهتمامًا؟ أم كنت ستظنُّ فحسب أن عليك أن تتحلى بالصبر معه؟ إنني أعرف الربع الخالي مثلما تعرف أنت بيكاديلِّي.»

«أجل، بالطبع. إذَن لم تكن أنت من ودَّعه في المحطة؟»

«سيد جرانت، أنا لا أودِّع «أي أحد» مطلقًا. فالوداع هو خليط من المازوخية والسادية لطالما شعرت تجاهه بالأسى. ودَّعته إلى أين، بالمناسبة؟»

«إلى سكون.»

«إلى منطقة المرتفعات الاسكتلندية؟ فهمت أنه كان يتوق إلى بعض المرح. لماذا كان ذاهبًا إلى هناك؟»

«لا نعرف. هذا أحد الأشياء التي نحن في غاية التشوق لمعرفتها. لم يقل لك شيئًا يمكن أن يرشدنا إلى دليل؟»

«لا. لقد أشار إلى العثور على شخصٍ آخر يدعمه. أقصد، حين تبيَّن له أنني لست بالعون المطلوب. ربما وجد شخصًا آخر يدعمه، أو كان يأمل أن يجده، وذلك الشخص يعيش هناك. لا يمكنني أن أتذكَّر أحدًا الآن. يوجد كينزي-هيويت، بالطبع. لديه صلات في اسكتلندا. لكنني أظن أنه في شبه الجزيرة العربية في الوقت الراهن.»

في الواقع، على الأقل، قدَّم لويد أول تفسير منطقي للزيارة السريعة للشمال التي أخذ فيها كينريك حقيبة سفر صغيرة. لكي يتحدث إلى أحد الداعمين المحتملين. لقد وجد داعمًا له في اللحظة الأخيرة، تقريبًا في نفس الوقت الذي كان من المقرر فيه أن يقابل تاد كولين في باريس، فانطلق شمالًا للقائه. كان ذلك التفسير مناسبًا جدًّا. كانوا يحرزون تقدمًا. لكن لماذا كان ذاهبًا بصفته شارل مارتن؟

وكأن الفكرة قد انتقلت، إذ قال لويد: «بالمناسبة، إن كان كينريك يسافر تحت اسم شارل مارتن، فكيف تعرَّفوا عليه باسم كينريك؟»

«لقد سافرت على متن ذلك القطار إلى سكون. ورأيته حين كان ميتًا، واسترعى انتباهي عدة أبياتٍ شعرية كان قد كتبها.»

«كتبها؟ على ماذا؟»

فقال جرانت، وهو يتساءل ماذا يهم لويد فيما كان كينريك يكتب عليه: «على مساحةٍ فارغة من صحيفةٍ مسائية.»

«أوه.»

«كنتُ في إجازة، ولم يكن لديَّ شيءٌ آخر أفعله؛ لذا سلَّيت نفسي بالأدلة التي قُدِّمت.»

«لعبت دور المحقق.»

«أجل.»

«ما هي مهنتك يا سيد جرانت؟»

«أنا موظفٌ حكومي.»

«آه، كنت على وشك أن أقترح أنك في الجيش.» ثم ابتسم قليلًا وأمسك بكوب جرانت ليعيد ملأه. وأضاف: «برتبةٍ عالية بالطبع.»

«ضابط أركان عامة من الدرجة الأولى؟»

«لا. ملحق دبلوماسي، على ما أظن. أو في المخابرات.»

«لقد عملت قليلًا في المخابرات أثناء عملي بالجيش.»

«إذن فقد اكتسبت هناك ولعك بهذه الأمور. أو مَيلك، إن جاز لي التعبير.»

«شكرًا لك.»

«لم تكن موهبةً عادية تلك التي تعرَّفت بها على أن شارل مارتن هو بيل كينريك. أم إنه كان يحمل أمتعة تخص كينريك مما جعل أمر التعرف على شخصيته ميسورًا.»

«لا. بل دُفن على أنه شارل مارتن.»

توقَّف لويد للحظة بينما كان يضع الكوب المملوء من يده ثم قال: «ذلك مألوف جدًّا من تلك الطريقة الاسكتلندية في التعامل مع حالات الوفاة المفاجئة، التي تتسم بالإهمال. إنهم متعجرفون دائمًا بشأن افتقارهم إلى التحقيقات. أظن شخصيًّا أن اسكتلندا تمثِّل مكانًا مثاليًّا للإفلات من عقوبة ارتكاب جريمة قتل. ولو حدث يومًا أنني خططتُ لجريمة قتل، فسأستدرج ضحيتي شمالًا إلى ما بعد الحدود.»

«ثَمة تحقيق أُجري. إذ وقعت الحادثة بعد وقتٍ قصير من مغادرة القطار محطة يوستن.»

«أوه.» وأخذ لويد يفكِّر مليًّا في ذلك ثم قال: «ألا تظن أنه ينبغي تبليغ الشرطة بهذا؟ أعني حقيقة أنهم دفنوا شخصًا باسمٍ غير صحيح.»

كان جرانت على وشك أن يقول: «الدليل الوحيد لدينا على أن شارل مارتن المتوفى كان كينريك هو أنني تعرفت عليه في صورة لم تكن ملتقَطة جيدًا.» لكن شيئًا ما أوقفه. وبدلًا من ذلك قال: «نودُّ في البداية أن نعرف لماذا كان يحمل أوراقًا باسم شارل مارتن.»

«أجل. فهمت. بالطبع هذا موضع شك بما فيه الكفاية. فالمرء لا يحصل على أوراق شخصٍ آخر من دون بعض الإجراءات التمهيدية. هل يعرف أحد من هو شارل مارتن … أو من كان؟»

«أجل. لقد ارتضت الشرطة بما توصلت إليه من نتائج حول هذا. لم يكن ثَمة غموض في الأمر.»

«الغموض الوحيد يتمثَّل في كيفية حصول كينريك على أوراقه. أفهم سبب إحجامك عن الذهاب إلى المصادر الرسمية. ماذا بشأن ذلك الرجل الذي كان يودِّعه؟ في يوستن. أيمكن أن يكون هو شارل مارتن؟»

«أظن أن ذلك ممكن.»

«أو ربما فقط استعار الأوراق. فبطريقة ما لم يبدُ لي أن كينريك … لِنَقُل، من النوع الميَّال إلى الشر.»

«لا. استنادًا إلى كل الأدلة المتوافرة، لم يكن كذلك.»

«الأمر برُمَّته غريب جدًّا. هذه الحادثة التي تقول إنها وقعت له: أظن أنه لا يوجد أي شك في أنها كانت حادثة، أليس كذلك؟ لم تكن توجد أي دلائل على وقوع شجار؟»

«لا، كانت مجرد حادثةٍ عادية. سقطة يمكن أن تحدث لأي شخص.»

«هذا أمرٌ مفجع. كما قلت، قلةٌ قليلة جدًّا من الشباب حاليًّا لديها مزيج من الشجاعة والذكاء. يأتيني شبانٌ كثيرون جدًّا، ويسافرون مسافاتٍ طويلةً حقًّا لمقابلتي …»

وتابع الحديث، فيما جلس جرانت يشاهد ويستمع.

أكان من يأتونه كثيرين فعلًا؟ بدا لويد مسرورًا جدًّا بالجلوس مع شخصٍ غريب والتحدث إليه. ولم يكن يوجد ما يوحي بأن لديه ارتباطات في المساء أو أنه ينتظر قدوم ضيوف على العشاء. لم يكن يوجد أيٌّ من السكتات اللطيفة التي يتركها المضيف في المحادثة حتى يتسنَّى للزائر العابر من خلالها أن ينصرف. جلس لويد وأخذ يتحدث بصوته الرفيع الحماسي ويطيل النظر في يديه اللتين كانتا على فخذَيه. كان يغيِّر من وضعية يدَيه باستمرار، ليس على هيئة إيماءات تأكيد على عبارةٍ ما، بل كرجل يقوم بعمل ترتيبٍ جديد لديكورٍ ما. وجد جرانت انشغاله شبه النرجسي هذا باهرًا. وأخذ يستمع إلى صوت الصمت في ذلك المنزل الصغير، الذي يقع بعيدًا عن المدينة وازدحامها. في تلك السيرة الذاتية التي كانت موجودة في «دليل الشخصيات البارزة»، لم يكن يوجد أي ذكر لزوجة أو أطفال لديه؛ وهي أشياء عادةً ما يكون من يملكها فخورًا بذكرها؛ لذا لا شك أن المنزل كان يتألف من لويد وخادمه. فهل كان لديه من الاهتمامات ما يكفي لتعويض الافتقار إلى رفقةٍ بشرية؟

كان آلان جرانت نفسه يملك منزلًا، مثل هذا المنزل، يفتقر إلى الدفء البشري، لكن حياته كانت مليئة بالناس لدرجة أن عودته إلى شقته الفارغة كانت أمرًا يمثل رفاهية ولذةً نفسية له. فهل كانت حياة هيرون لويد حافلة وهانئة؟

أم إن نرجسيته لم تكن قَط في حاجة لأي رفقة عدا ذاته؟

تساءل جرانت عن عمر الرجل. لا شك في أنه أكبر مما كان يبدو عليه، كان عميد مستكشِفي شبه الجزيرة العربية. خمسة وخمسون عامًا أو أكثر. ربما أقرب إلى الستين. لم يقدِّم الرجل تاريخ مولده في تلك السيرة الذاتية عنه؛ لذا كانت الاحتمالات تقول إنه يشارف على الستين. لا يمكن أن يكون قد تبقَّى له كثير من سنوات الحياة الشاقة، حتى بالنظر إلى حالته الجسدية الجيدة وظروف حياته. ماذا سيفعل الرجل في السنوات المتبقية له؟ هل سيقضيها في تأمُّل يدَيه والإعجاب بهما؟

كان لويد يقول: «الديمقراطية الحقيقية الوحيدة الموجودة في عالم اليوم، ويجري تدميرها بواسطة الشيء الذي نطلق عليه الحضارة.»

مرةً أخرى، راوَد جرانت ذلك الإحساس بالألفة، بأنه يعرفه. أكان الأمر أن التَقى بلويد من قبلُ؟ أم إن لويد كان يذكِّره بأحدٍ ما؟

إن كان يذكِّره بأحدٍ ما، فبمن؟

لا بد أن يبتعد ويفكِّر في الأمر. على أي حال، كان قد حان الوقت لأن يستأذن في الانصراف.

سأل وهو يستعدُّ للانصراف: «هل أخبرك كينريك أين كان يقيم؟»

«لا. كما تفهم، لم نحدد موعدًا قاطعًا للقاءٍ آخر. طلبت منه أن يأتي لزيارتي ثانيةً قبل أن يغادر لندن. وحين لم يأتِ اعتقدت أنه استاء، وربما غضب، من غياب … تعاطفي، إن كان يجوز قول ذلك؟»

«أجل، لا بد أن الأمر مثَّل صفعة له. وفي واقع الأمر، لقد أخذتُ كثيرًا من وقتك، وكنتَ معي صبورًا حليمًا. أنا ممتنٌّ لك كثيرًا.»

«سُرِرتُ كثيرًا بأنني كنت عونًا لك. وأخشى أن عوني لم يكن ذا قيمةٍ كبيرة جدًّا. إن كان يوجد أي شيءٍ آخر يمكنني فعله في هذه المسألة، آمل مخلصًا ألا تتردد في أن تطلبه مني.»

«في الواقع … يوجد شيءٌ آخر، لكنك كنت لطيفًا كثيرًا بحيث أكره أن أطلبه منك. خاصةً أنه غير ذي صلة بعضَ الشيء.»

«وما ذاك؟»

«أيمكنني استعارة الصورة الفوتوغرافية؟»

«الصورة؟»

«صورة فوهة النيزك. لاحظت أن الصورة مدرجة ضِمن ألبوم صورك، وغير ملصوقة فيها. أود كثيرًا في أن أُريَها لصديق كينريك. وأعدك بكل صدق أن أعيدها. وبحالةٍ ممتازة …»

«بالطبع يمكنك الحصول على الصورة. ولا تزعج نفسك بإعادتها. لقد التقطت هذه الصورة بنفسي، وأحتفظ معي بالصورة السالبة منها. يمكنني طبع بديل لهذه الصورة في أي وقت بسهولة.»

أخرج لويد الصورة من مكانها في الألبوم بعناية، وسلَّمها إلى جرانت. ونزل إلى الطابق السفلي مع جرانت ورافقه إلى الباب، ثم تحدَّث قليلًا عن الفناء الصغير حين أبدى جرانت إعجابه به، وانتظر في كياسة حتى وصل جرانت إلى البوابة ثم أغلق الباب.

فتح جرانت صحيفة المساء التي كانت موضوعة على مسند السيارة، ووضع الصورة بحرص وعناية بين طياتها. ثم قاد سيارته باتجاه النهر وعلى طول منطقة إمبانكمنت.

فكَّر جرانت في نفسه أن هذا المكان القديم يبدو كالمعتاد؛ كومة شنيعة من الركام غارقة في الغسق. وكذلك كان قسم البصمات حين وصل إليه. كان كاترايت يطفئ سيجارةً في صحن كوب شايٍ بارد كان قد شرب نصفه ويبدي إعجابه بآخر أعماله؛ مجموعة كاملة من بصمات يدٍ يُسرى.

وقال وهو يرفع ناظرَيه عندما سقط عليه ظل جرانت: «رائعة، أليس كذلك؟ ستؤدي هذه البصمات إلى شنق بينكي ماسون.»

«ألم يكن بينكي يملك ثمن زوج من القفازات؟»

«هاه! كان بإمكان بينكي أن يشتري شركة دينتس للقفازات بأكملها. كل ما في الأمر أنه لم يصدِّق — بينكي الحاذق — أن الشرطة ستنظر في الواقعة باعتبارها أي شيء آخر إلا حادث انتحار. القفازات لحثالة وصغار المجرمين، كلصوص المنازل ومن على شاكلتهم، وليس لعقول مدبِّرة مثل بينكي. أكنت مسافرًا؟»

«أجل. ذهبت لصيد السمك في منطقة المرتفعات الاسكتلندية. إن لم تكن مشغولًا للغاية، فهل بإمكانك أن تقوم بشيءٍ غير رسمي من أجلي؟»

«الآن؟»

«أوه، لا. لا بأس بغد.»

نظر كاترايت إلى الساعة. وقال: «ليس لديَّ شيء أفعله حتى ألتقي بزوجتي عند المسرح. سنذهب لمشاهدة مسرحية مارتا هالارد الجديدة. لذا يمكنني فعل ذلك الآن إن شئت. أهي مهمةٌ صعبة؟»

«لا. بل في غاية السهولة. هاك، في الزاوية اليُمنى السفلية من هذه الصورة الفوتوغرافية، توجد بصمة إبهام جيدة. وأظن أنك ستجد على الوجه الآخر مجموعة لا بأس بها من بصمات الأنامل. أريد أن أتحقَّق من وجود تلك البصمات في الملفات.»

«حسنًا. هل ستنتظر؟»

«أنا ذاهب إلى المكتبة. وسأعود.»

في المكتبة أخذ جرانت «دليل الشخصيات البارزة» وبحث عن كينزي-هيويت. وكانت الفقرة المكتوبة عنه متواضعة جدًّا مقارنةً بنصف العمود المكتوب عن هيرون لويد. كان كينزي-هيويت يبدو رجلًا أصغر في العمر بكثير، وكان متزوجًا ولديه طفلان، ويقطن في لندن. بدا أن «الصلة الاسكتلندية» التي كان لويد قد أتى على ذكرها تتألف من حقيقة أنه كان الابن الأصغر لشخص يُدعى كينزي-هيويت، والذي كان يملك منزلًا في منطقة فايف الاسكتلندية.

في الواقع، الاحتمال قائم دومًا بأنه كان حاليًّا، أو مؤخرًا، في اسكتلندا. فتوجَّه جرانت إلى أحد الهواتف واتصل بعنوانه في لندن. فردَّت عليه امرأةٌ جميلة الصوت وقالت إن زوجها لم يكن في المنزل. لا، لن يكون في المنزل لبعض الوقت؛ كان في شبه الجزيرة العربية. وهو في شبه الجزيرة العربية منذ شهر نوفمبر، وعَوْدته ليست متوقَّعة حتى شهر مايو على أقل تقدير. شكرها جرانت ووضع السماعة. لم يكن كينزي-هيويت هو من ذهب إليه بيل كينريك. غدًا، سيتعيَّن عليه أن يبحث وسط الخبراء المتعددين في شبه الجزيرة العربية، واحدًا تلو الآخر، ويطرح عليهم السؤال نفسه.

وبعد أن أمضى بعض الوقت بصحبة أصدقاء له كان قد التَقى بهم مصادفةً في تلك الساعة، عاد إلى كاترايت.

«هل أحضرت الصورة أم إنني أبكرت في الحضور؟»

«لم أحضرها فحسب، بل بحثت عنها في الملفات من أجلك. الإجابة هي لا.»

«لا، لم أظن حقًّا أنه سيكون ثَمة شيء. كنت فقط أُجري تصفيةً. لكن شكرًا لك على أي حال. سآخذ الصورة معي. ظننت أن عرض هالارد المسرحي الجديد تلقَّى تعليقاتٍ سيئة.»

«أحقًّا؟ لم أقرأ تلك التعليقات قط. ولا بريل. إنها تحب مارتا هالارد فحسب. وأنا أيضًا، إن تطلب الأمر ذلك. فهي تملك ساقَين طويلتَين رائعتَين. طاب مساؤك.»

«طاب مساؤك، وشكرًا مجددًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤