الفصل الثالث عشر

وصل تاد، نظيفًا ومشرقًا جدًّا، قبل أن ينتهي جرانت من تناول إفطاره. لكن نفسه كانت مضطربة، وكان من المحتم أن يلاطفه جرانت ليُخرجه من حالة مزاجية متسمة بالندم («لا يسعني سوى الشعور بأنني غادرت وتخليت عنك يا سيد جرانت») قبل أن يكون ذا عون لأي أحد. وابتهج تاد أخيرًا حين عرف أنه توجد خطط محدَّدة سيضطلعان بها اليوم.

«تقصد أنك كنت جادًّا حيال تنظيف النوافذ؟ ظننت أنه ربما كان مجرد كلامٍ مجازي. كما تعرف، من قبيل: «سأبيع علب الثقاب لأكسب لقمة عيشي إن استمر الحال هكذا». لماذا سأنظِّف نوافذ منزل لويد؟»

«لأن هذه هي الطريقة النزيهة الوحيدة لدخول المنزل. يمكن لزملائي أن يُثبتوا أنك لا تملك أي حق في قراءة عداد الغاز، أو اختبار الكهرباء، أو الهاتف. لكن لا يمكنهم أن ينكروا أنك منظف نوافذ، وأنك تقوم بعملك على نحوٍ قانوني ومهني. ريتشاردز — رب عملك اليوم — يقول إن لويد يخرج من منزله قرب الحادية عشرة كل يوم، وسيأخذك إلى هناك حين يكون لويد قد غادر. سيبقى معك ويعمل معك بالطبع حتى يتسنَّى له تقديمك بصفتك مساعده الذي يتعلَّم المهنة. بهذه الطريقة ستُقبَل دون شكوك وتُترَك وشأنك.»

«إذَن سأُترَك وشأني.»

«على المكتب في الغرفة الكبيرة التي تشغل معظم الطابق الأول يوجد سجل مواعيد. سجلٌّ كبيرٌ غالي الثمن ذو غلافٍ جلدي أحمر. المكتب عبارة عن طاولة — أقصد أنه لا يوصد — ويقع في مواجهة النافذة الوسطى.»

«وبعد؟»

«أريد أن أعرف مواعيد لويد يومَي الثالث والرابع من شهر مارس.»

«أتظن أنه ربما سافر على متن ذلك القطار؟»

«أريد أن أتأكد من أنه لم يفعل، على أي حال. إن عرفت ماذا كانت مواعيده، يمكنني أن أكتشف بسهولة إن كان قد التزم بها أم لم يفعل.»

«حسنًا. ذلك سهلٌ جدًّا. إنني أتطلع إلى مهمة تنظيف النوافذ تلك. لطالما تساءلت عما يمكنني فعله حين أصبح أكبر في العمر من أن أتمكن من الطيران. يمكنني أيضًا البحث في مهنة تنظيف النوافذ. ناهيك عن النظر من بعض النوافذ.»

وغادر تاد مبتهجًا وقد نسي أن معنوياته قبل نصف ساعة كانت «في الحضيض»، وراح جرانت يفتش في ذهنه عن أي معارف ربما يكونون مشتركين بينه وبين هيرون لويد. ثم تذكَّر أنه لم يتصل بعدُ بمارتا هالارد ليبلغها بعودته إلى المدينة. ربما كان من المبكر قليلًا أن يقطع نوم مارتا، لكنه سيجازف.

قالت مارتا: «أوه، لا، لم توقظني. كدت أنتهي من تناول الإفطار وقراءة جرعتي اليومية من الأخبار. كل يوم أقسم أنني لن أقرأ الصحيفة اليومية، وكل صباح أجد ذلك الشيء اللعين ينتظرني أن أفتحه، وبالفعل أفتحه كل صباح. إن قراءة الأخبار تضرُّ عصارتي الهضمية، وتصيب شراييني بالتصلب، وتقضي على نعومة بشرتي، وتُهدِر ما قيمته خمسة جنيهات من خدمات عائشة في خمس دقائق، لكن لا بد أن أتعاطى جرعتي اليومية من السم. كيف حالك يا عزيزي؟ هل أنت أفضل حالًا؟»

استمعت لإجابته دون أن تقاطعه. كانت إحدى صفات مارتا الساحرة هي قدرتها على الاستماع. في حالة معظم صديقاته الأخريات كان الصمت يعني أنهن عاكفات على تحضير حديثهن التالي، وينتظرن فقط اللحظة المناسبة التالية كي يُفصحن عنه.

حين سمعتْ بأمر كلون وتعافيه، قالت مارتا: «تناول العشاء معي الليلة. سأكون بمفردي.»

«لنجعلها في بداية الأسبوع القادم؟ كيف تسير المسرحية؟»

«في الواقع يا عزيزي، ستسير على نحوٍ أفضل كثيرًا إن صعد روني على المسرح بين الحين والآخر وحدَّثني بدلًا من أن يتحدَّث إلى الجمهور. يقول إن الوقوف عند أنوار المسرح والسماح للصفوف الأولى من الجمهور بالشعور بدنوه الشديد منهم يؤكِّد على انفصاله عن الشخصية، لكنني أظن أن هذا من أثر أيام عمله في قاعات الموسيقى.»

وأخذ جرانت ومارتا يتناقشان بشأن روني والمسرحية قليلًا، ثم قال جرانت: «بالمناسبة، أتعرفين هيرون لويد؟»

«رجل شبه الجزيرة العربية؟ لا، ما كنت لأقول إنني أعرفه. لكنني أعرف أنه أنانيٌّ مثل روني.»

«كيف ذلك؟»

«كان روري، ابن أخي، مهووسًا حد الجنون بالسفر لاستكشاف شبه الجزيرة العربية — رغم أنني لا أستطيع أن أتخيل سببًا يجعل أي أحد يرغب في الذهاب للاستكشاف في شبه الجزيرة العربية؛ فلا يوجد هناك سوى التمر والرمل! على أي حال، رغب روري في الذهاب رفقة هيرون لويد، لكن يبدو أن لويد لا يسافر إلا بصحبة عرب. ويقول روري، وهو طفلٌ لطيف، إن هذا يرجع إلى أن لويد أصبح عربيًّا جدًّا لدرجة أنه صار «ملكيًّا أكثر من الملك»، لكنني أظن — لكونه شخصًا منحط التفكير ومارقًا ومتشردًا — أنه يعاني وحسبُ من المشكلة التي يعاني منها روني، ويرغب في المسرح كله لنفسه.»

فسألها جرانت، وهو ينسلُّ من الحديث عن هيرون لويد: «ماذا يفعل روري الآن؟»

«أوه، إنه في شبه الجزيرة العربية. لقد أخذه الرجل الآخر. كينزي-هيويت. أوه، أجل، ما كان روري يحبط من شيءٍ تافه كازدراء أحدهم له. أيمكنك أن تجعله يوم الثلاثاء؛ أقصد العشاء؟»

أجل، سيجعله يوم الثلاثاء. فقبل يوم الثلاثاء سيكون قد عاد إلى العمل، ولا بد أنه سيكون قد تناسى مسألة بيل كينريك، الذي أتى إلى إنجلترا تملؤه الحماسة عن شبه الجزيرة العربية، ومات بصفته شارل مارتن على متن قطارٍ متجه نحو منطقة المرتفعات الاسكتلندية. لم يكن أمامه سوى يوم أو يومَين آخرَين.

خرج ليقصَّ شعره، ويفكِّر في مثل هذا الجو المريح الباعث على الاسترخاء في أي شيء تركاه دون أن ينتهيا منه. وكان تاد كولين يتناول الغداء مع قائده. كان جرانت قد قال لتاد: «لن يقبل ريتشاردز بأي شيء مقابل هذا؛ لذا اصطحبه إلى الغداء واطلب له وجبةً رائعة، وسأدفع لك ثمنها.»

فقال تاد: «سأصطحبه إلى الغداء بكل سرور، ولكن فلتحلَّ عليَّ اللعنة إن تركتك تدفع لقاء ذلك. بيل كينريك كان صديقي أنا وليس صديقك.»

وهكذا جلس جرانت في صالون الحلاقة ذي الجو الدافئ العطِر، مسترخيًا هانئًا، وحاول أن يفكِّر في شيء لا يزال بوسعهما فعله ليجدا حقائب بيل كينريك. لكن تاد الذي عاد من الخارج كان هو من قدَّم الاقتراح.

اقترح تاد نشر إعلانٍ شخصي عن هذه الفتاة.

«أي فتاة؟»

«الفتاة التي معها أمتعته. ليس لديها أي سبب يجعلها تتوارى، إلا إذا استولت على محتوياتها، الأمر الذي لن يكون مجهولًا. لكن بيل يتصف … كان يتصف بأنه يُحسن الاختيار أفضل من ذلك. لماذا لا نكتب بأحرفٍ كبيرة «بيل كينريك» — لكي نلفت النظر، أفهمتني؟ — وبعدها نقول: «أي صديق له يتواصل عن طريق هذا الرقم»؟ هل يوجد ما يمنع ذلك؟»

لا، لم يستطِع جرانت أن يفكر في أي شيء يمنع ذلك، لكن عينه كانت على الورقة التي كان تاد يخرجها من جيبه.

«هل وجدت السجل؟»

«أوه، أجل. لم يكن عليَّ سوى أن أنحني لأجده. إن ذلك الرجل لا يبذل أي جهد للتحضير ودراسة الموقف، على ما يبدو. قائمة المواعيد هذه هي الأكثر مدعاة للملل خارج أيٍّ من السجون. ولا يوجد بها أي شيء مبهج من بدايتها إلى نهايتها. ولا نفع يُرجى منها لنا على أي حال.»

«لا نفع منها؟»

«يبدو أنه كان مشغولًا. هل أكتب ذلك الإعلان للصحف؟»

«أجل، اكتبه. يوجد ورق للكتابة في مكتبي.»

«إلى أي الصحف سنرسل هذا الإعلان؟»

«اكتب ستة إعلانات، ويمكننا أن نكتب العناوين المرسل إليها لاحقًا.»

نظر إلى نسخة المُدخَلات التي كتبها تاد بخط يد طفولي لمواعيد لويد. مدخلات مواعيد يومَي الثالث والرابع من شهر مارس. وبينما كان يقرؤها اتضحت له عبثية شكوكه بأسرها. ما الذي كان يفكِّر فيه؟ هل كان عقله لا يزال عقل رجلٍ مريضٍ شديد التأثر؟ كيف له أن يتخيَّل بأي شكل أن هيرون لويد يمكن أن يكون قد ارتكب جريمة قتل؟ لأن ذلك هو ما كان يفكِّر فيه، أليس كذلك؟ أن لويد، بطريقةٍ ما لم يتمكنا من تخمينها أو التفكير فيها، كان مسئولًا عن موت بيل كينريك.

نظر إلى المدخلات المهمة، وفكَّر أنه لو تمكن من إثبات أن لويد لم يلتزم بتلك المواعيد بعينها، فسيكون من غير المألوف أن يُستنتج من ذلك الغياب أي شيء أكثر من التفسير الطبيعي؛ أن لويد كان متوعكًا أو غيَّر رأيه. من الواضح أنه كان قد حضر عشاءً في ليلة الثالث من الشهر. كان نص المُدخَل كالتالي: «جمعية الرواد، نورماندي، السابعة والربع.» وفي التاسعة والنصف من صباح اليوم التالي كان من المقرر أن تصل وحدة تصوير من مجلة «باثيه» إلى منزله الكائن في ٥ بريت لين لوضعه على قائمة مشاهير المجلة في سلسلتها الوطنية. يبدو أن هيرون لويد كان لديه شواغل يفكر فيها أهم من طيارٍ مجهول ادَّعى أنه رأى أطلالًا في رمال شبه الجزيرة العربية.

قال الصوت الذي بداخله: «لكنه قال: «على ماذا؟»»

«حسنًا، قال: «على ماذا؟»! يا له من عالم ذلك الذي سيوضع فيه المرء موضع الشبهات، أو ستصدر أحكام عليه، بناءً على كل ملاحظة غير مدروسة منه.»

كان رئيس الشرطة قد قال له ذات مرة: «أنت تتمتع بأثمن سمة من سمات وظيفتك، وهي الموهبة الفطرية. لكن لا تدعها تسوقك يا جرانت. لا تسمح لمخيلتك أن تتلاعب بك. اجعلها دائمًا في خدمتك.»

كان معرَّضًا لخطر أن يسمح لموهبته بأن تشرد به. ينبغي له أن يتحكم في زمام نفسه.

سيعود إلى حيث كان قبل أن يلتقي بلويد. سيعود إلى رفقة بيل كينريك. سيعود من التخيلات الجامحة إلى الحقائق. الحقائق الواقعية المجرَّدة القاطعة.

نظر نحو تاد، الذي كان منكبًّا على الورق وأنفه يتبع قلمه عبر الصفحة كأنه كلب صيد يتبع عنكبوتًا على الأرض.

«كيف وجَدتَ الفتاة التي التقيتها في حانة الحليب؟»

فقال تاد في شرود، ودون أن يرفع عينَيه عن عمله: «أوه، لا بأس بها، لا بأس بها.»

«هل ستخرج برفقتها ثانية؟»

«آه. سألتقي بها الليلة.»

«أتظن أنها جديرة بأن تكون صديقةً دائمة؟»

قال تاد: «ربما تكون كذلك»، ثم حين أدرك اهتمام جرانت غير المعتاد رفع ناظرَيه وقال: «ما فائدة هذا؟»

«أفكِّر في أن أهجرك ليوم أو يومين، وأود أن أطمئنَّ إلى أنك لن تشعر بالسأم إن تركتك تفعل ما يحلو لك.»

«أوه. أوه، لا، سأكون على ما يرام. أظن أن الوقت قد حان لتأخذ استراحة وتهتم بشئونك. ففي نهاية المطاف، هذه ليست مشكلتك. لقد فعلت الكثير بالفعل.»

«لن آخذ استراحة. أخطط للسفر لزيارة أهل شارل مارتن.»

«أهله؟»

«عائلته. إنهم يعيشون على مشارف مرسيليا.»

عادت الحيوية إلى وجه تاد، الذي كان قد بدا للحظةٍ مثل وجه طفلٍ تائه.

«علامَ تتوقع أن تجني منهم؟»

«لا أتوقع شيئًا. إنما أحاول الإمساك بطرف خيط آخر. لقد وصلنا إلى طريقٍ مسدود فيما يخص بيل كينريك — إلا إذا استجابت فتاته المفترَضة لذلك الإعلان، وذلك لن يكون قبل يومَين على أقل تقدير — لذا سنحاول العمل على الطرف الخاص بشارل مارتن، ونرى إلى أين سنصل من هناك.»

«لا بأس. ما رأيك في أن آتي معك؟»

«لا أظن ذلك يا تاد. أظن أن من الأفضل أن تبقى هنا وتُشرِف على أمر الإعلان في الصحف. احرص على أن تُنشَر كل هذه الإعلانات وتُسلم أي ردود عليها.»

فقال تاد في استسلام: «أنت الرئيس. لكنني أرغب فعلًا في رؤية مارسيليا.»

فقال جرانت مبتسمًا: «ليست كما تتصورها على الإطلاق.»

«وكيف تعرف كيف أتصورها؟»

«يمكنني أن أتخيل ذلك.»

«أوه، حسنًا، أظن أن بإمكاني الجلوس على كرسي الحانة والتطلع إلى دافني. يا لها من أسماء طريفة تلك التي تُسمى بها الفتيات في هذه المنطقة! إنه أمرٌ مرعبٌ بعض الشيء، ولكن يمكنني أن أحصي المرات القليلة جدًّا التي يعرب فيها الناس عن شكرهم للآخرين على تقديم خدمة.»

«إن كنت تبحث عن الإثم فما ستجده منه على أرصفة ليستر سكوير بقدرِ ما ستجده في كانيبير ستريت.»

«ربما، لكنني أحب آثامي بنكهةٍ فرنسية.»

«ألا تتحلى دافني بنكهةٍ فرنسية؟»

«لا. دافني مصطنَعة جدًّا. ولديَّ شكٌّ فظيع في أنها ترتدي ثيابًا تحتية من الصوف.»

«إنها في حاجة لذلك في حانة حليب في ليستر سكوير في شهر أبريل. تبدو فتاةً لطيفة.»

«أوه، إنها لا بأس بها. لكن لا تُطل مُقامك بعيدًا، وإلا فسيَتبيَّن أن الذئب بداخلي قويٌّ جدًّا، وسأستقلُّ أول طائرة متوجهة إلى مارسيليا لأنضم إليك. متى تخطط للسفر؟»

«صباح الغد، إن تمكنت من الحصول على مقعد. تحرَّك لكي أتمكن من الوصول إلى الهاتف. فإن تمكنت من حجز رحلةٍ مبكِّرة فيمكنني بقليل من الحظ أن أعود في اليوم التالي. وإن لم يحدث، فسأعود يوم الجمعة على أقصى تقدير. كيف سارت الأمور مع ريتشاردز؟»

«أوه، نحن الآن صديقان رائعان. لكنني أشعر بشيء من خيبة الأمل.»

«بشأن ماذا؟»

«بشأن إمكانيات تلك الصنعة.»

«أليست مربحة؟»

«أتوقَّع أنها تؤتي ثمارها بعملاتٍ معدنية، لكن ليس بأي طريقةٍ أخرى، صدِّقني. وصدِّق أو لا تُصدِّق، كل ما يمكنك رؤيته من خارج النافذة هو انعكاسك أنت في الزجاج. ما أسماء تلك الصحف التي تريد مني أن أرسل هذه الأشياء إليها؟»

أعطاه جرانت أسماء الصحف الست صاحبة أكبر نطاق توزيع، وأرسله في بَركة ورعاية الرب ليقضي وقته كيفما يحلو له حتى يلتقيا مجددًا.

قال تاد مرةً أخرى، بينما كان يغادر: «أتمنى حقًّا لو أنني أتيت معك»، وتساءل جرانت في نفسه إن كانت رؤية جنوب فرنسا باعتباره مكانًا تجتمع فيه وسائل الترفيه الرخيصة أكثر عبثًا من رؤيته على أنه شجرة ميموزا مزهِرة. وهو ما كانت تمثله مارسيليا له.

قالت السيدة تينكر: «فرنسا! وقد عدتَ لتوِّك من خارج البلاد!»

«ربما تكون منطقة المرتفعات الاسكتلندية في بلدٍ آخر، لكن جنوب فرنسا ما هو إلا امتداد لإنجلترا.»

«إنه امتدادٌ مكلِّف جدًّا، كما سمعت. «مدمِّر». متى تتوقع أن تعود؟ لقد أحضرت لأجلك دجاجةً رائعة من قرية كار.»

«آمُل أن أعود بعد غد. أو الجمعة على أقصى تقدير.»

«أوه، إذَن ستبقى الدجاجة. أتريدني أن آتيَك في وقتٍ أبكر صباح الغد، إذَن؟»

«أظن أنني سأكون قد غادرت قبل أن تأتي. لذا يمكنكِ أن تأتي في وقتٍ متأخر صباح الغد.»

«المجيء في وقتٍ متأخر من الصباح لن يناسب تينكر، لن يناسبه. لكن سأنتهي من التسوق قبل أن آتي. والآن توخَّ الحذر واعتنِ بنفسك. لا تُحمِّل نفسك ما لا طاقة لها به، فتعود وقد ساءت حالتك عما كانت عليه حين سافرتَ إلى اسكتلندا في البداية. آمُل أن تسير أمورك على ما يرام!»

فكَّر جرانت في نفسه، وهو يُشرِف إلى أسفل على خريطة فرنسا في صباح اليوم التالي، أن الأمور على ما يرام بالفعل. من ذلك الارتفاع في هذا الصباح النقي الصافي لم تكن فرنسا مجرد أرض وماء ومزروعات. بل كانت جوهرةً صغيرة في بحرٍ لازوردي، وكأنها أحد إبداعات فابرجيه. لا عجب في أن الطيارين، من ناحية كونهم نوعًا من البشر، كانوا ينتهجون موقفًا متجردًا تجاه العالم. ما أهمية العالم — بأدبه وموسيقاه وفلسفته وتاريخه — بالنسبة لرجل كان يراه دائمًا على حقيقته؛ بعضًا من هراء فابرجيه؟

لم تبدُ مارسيليا، من كَثَب، من إبداع صائغ مجوهرات. بل كانت ذلك المكان المزدحم المألوف الذي يعج بضوضاء أبواق سائقي سيارات الأجرة النافدي الصبر ورائحة القهوة القديمة؛ نفس تلك الرائحة الفرنسية التي تسكن منازلها بأشباح عشرة ملايين طريقة لتحضير القهوة. لكن الشمس سطعت، وراحت المظلات المخططة ترفرف قليلًا بفعل النسيم الذي كان يهبُّ من جهة البحر المتوسط، فأخذت شجرة الميموزا تعرض زهورها الصفراء الشاحبة الباهظة الثمن بأعدادٍ كبيرة. وفكَّر جرانت في نفسه في أن مارسيليا، باعتبارها صورةً مرافقة للصورة الرمادية والقرمزية للندن، كانت مثالية. وإن صار ثريًّا يومًا ما، فسيكلِّف أحد أفضل الرسَّامين في العالم بأن يضم الصورتَين في لوحةٍ واحدة له؛ التدرج بين الضوء والظلام في لندن وتوهج مارسيليا الساطع المفعم بالإيجابية. أو ربما سيكلِّف رسامين مختلفين بذلك. فقد كان من المستبعد أن يتمكن الرجل الذي سينقل صورة لندن في يومٍ مكفهر من أيام شهر أبريل من أن يرسم روح مارسيليا ظهيرةَ يومٍ ربيعي.

توقَّف عن التفكير في الرسامين، ولم يعد يرى مارسيليا متألقةً ولا إيجابيةً حين عرف أن عائلة مارتن غادرت الضاحية قبل أسبوعٍ واحد فقط إلى مكانٍ غير معلوم. كان المكان الذي اتجهوا إليه غير معلوم لجيرانهم. وبحلول الوقت الذي اكتشف فيه بمساعدة السلطات المحلية أن ذلك «المكان غير المعلوم» كان مدينة تولون، كان قد أضاع وقتًا ثمينًا، كما أضاع المزيد من الوقت الثمين أثناء الانتقال إلى تولون والبحث عن آل مارتن بين سكانها الذين تعجُّ بهم المدينة.

لكن في النهاية وجدهم واستمع إلى ما قالوه، وما قالوا إلا القليل. قالوا إن شارل كان «ولدًا سيئًا»، بكل عداء الفرنسيين تجاه شخص ارتد عن عبادة ذلك الإله الأسمى الذي يقدسه الفرنسيون، وهو العائلة. لطالما كان جامحًا عنيدًا وكسولًا (والكسل هو كبرى الجرائم عند الفرنسيين). كان كسولًا للغاية. كان قد رحل عن أسرته قبل خمس سنوات بعد مشكلةٍ صغيرة بسبب فتاة — لا، لا، كان قد طعنها فحسب — ولم يكلِّف نفسه عناء مراسلتهم. ولم يصلهم أي أخبار عنه طوال كل تلك السنوات عدا أن صديقًا قابله مصادفةً في بورسعيد قبل نحو ثلاث سنوات. قال الصديق إنه كان يعقد صفقات لشراء سيارات مستعمَلة. فكان يشتري السيارات المتعطلة ويبيعها بعد أن يعبث فيها قليلًا. كان ميكانيكيًّا ماهرًا للغاية، وكان من الممكن أن يصبح رجلًا ناجحًا جدًّا، وأن يمتلك ورشة الإصلاح الخاصة به، وأن يكون لديه أناس يعملون لحسابه، لو لم يكن كسولًا جدًّا. في غاية الكسل. كان كسله مستفحلًا وهائلًا. كان كسله مرضًا. ولم يبلغ أسماعَهم المزيدُ عن أخباره حتى طُلب منهم أن يتعرَّفوا على جثته.

وسألهم جرانت إن كان لديهم صورة لشارل.

أجل، كانت لديهم عدة صور، لكن بالطبع كانت لشارل حين كان أصغر في العمر بكثير.

أرَوه الصور، وأدرك جرانت السبب في أن بيل كينريك، وهو ميت، لم يكن بعيد الشبه كثيرًا بشارل مارتن كما كانت أسرته تذكره. رجلٌ نحيل داكن البشرة، ذو حاجبَين مميزَين وخدَّين مجوَّفَين وشعرٍ أسودَ مسترسل، كان يبدو قريب الشبه جدًّا من أي شاب يمتلك صفاتٍ مشابهة حين تنطفئ فيه جذوة الحياة. لم يكن يتحتم حتى أن يكون لهما نفس لون العينَين. يتسلم أحد الآباء رسالة تقول: توفي ابنك جرَّاء حادثٍ مؤسف، فضلًا تعرَّف عليه وحدِّد أنه ابنك ورتِّب إجراءات دفنه. وتُقدَّم أوراق ابن الرجل المكلوم الثبوتية ومتعلقاته إليه، ويُطلب منه أن يحدِّد إن كان صاحبها هو ابنه. لا يتطرق الشك إلى عقله المتهيئ، فيتقبَّل ما يرى، وما يرى هو ما توقَّع أن يراه، لن يخطر على باله أن يقول: هل عينا ذلك الرجل زرقاوان أم بنِّيتان؟

في نهاية المطاف، كان جرانت بالطبع هو من خضع للاستجواب. لماذا كان مهتمًّا بشارل؟ وأيًّا كان الأمر، هل ترك شارل شيئًا من المال؟ هل كان الأمر وما فيه أن جرانت كان يبحث عن الورثة الشرعيين؟

لا، لقد قطع جرانت وعدًا بأن يبحث عن شارل نيابةً عن صديق له كان يعرفه على ساحل الخليج الفارسي. لا، لم يكن يعرف ما الذي كان الصديق يريده من شارل. ما فهمه هو أنه كانت توجد إشارة إلى شراكةٍ مستقبلية.

بحسب رأي عائلة مارتن كان الصديق محظوظًا.

قدَّموا له شراب آرمنياك وقهوة وبعض البسكويت المغطى بسكر باث بَن، وطلبوا منه أن يزورهم مجددًا إن أتى إلى تولون يومًا ما.

وعلى عتبة الباب سأل إن كانوا يمتلكون أوراق ولدهم. فقالوا إنهم لا يملكون سوى أوراقه الشخصية؛ خطاباته. أما أوراقه الرسمية فلم يكلفوا أنفسهم عناء الحصول عليها ولم يفكِّروا في أمرها. ولم يكن يوجد شك في أنها كانت لا تزال في حوزة شرطة مارسيليا، التي كانت قد تواصلت معهم لأول مرة حين وقع الحادث.

وهكذا أهدر جرانت مزيدًا من الوقت أيضًا في عقد صداقات مع المسئولين في مارسيليا، لكن هذه المرة لم يستنفد جهده في الأساليب غير الرسمية التي يُمليها عليه ضميره. بل قدَّم أوراق اعتماده وطلب استعارة الأوراق. تناول عصير فاكهة مركَّزًا، ووقَّع على إيصال. ولحق بطائرةٍ عصر يوم الجمعة المتجهة إلى لندن.

كان لا يزال أمامه يومان آخران. أو يومٌ واحد، ويوم أحد على وجه الدقة.

كانت فرنسا لا تزال تتخذ شكل جوهرة حين طار فوقها في طريق عودته، لكن بدا أن بريطانيا كانت قد اختفت تمامًا. إذ لم يكن يوجد شيء سوى محيط من الضباب بعد خط ساحل غرب أوروبا المألوف. بدت الخريطة في غاية الغرابة وغير مكتملة من دون الشكل المألوف لتلك الجزيرة المتفردة. وبافتراض أن تلك الجزيرة لم تكن موجودة من قبلُ قط، كيف كان سيختلف تاريخ العالم؟ كانت تلك فكرةً مذهلة. يُفترَض أن أمريكا بأكملها كانت ستصبح إسبانية. والهند كانت ستصبح فرنسية، كانت الهند ستصبح هي الهند من دون تمييزٍ عنصري، وسيحدث تزاوج بين أعراقها المختلفة حتى إنها كانت ستفقد هويتها. وكانت جنوب أفريقيا ستصبح هولندية، وستحكمها كنيسةٌ متعصبة. ماذا عن أستراليا؟ من الذي كان سيكتشف أستراليا ويستعمرها؟ رأى جرانت أن هذا لم يكن مهمًّا؛ فأي عرق كان سيُصبح، في غضون جيلٍ واحد، طويلًا ونحيلًا وصلبًا، وحاد الصوت، ويتشدق في الكلام، ومتشككًا، ولا يُقهَر. مثلما بدأ الأمريكيون جميعهم في نهاية المطاف يبدون مثل الهنود الحمر، حتى وإن كانوا قد دخلوا البلاد بصفتهم يتحدَّرون من عِرقٍ ساكسوني يتسم بضخامة الجثة.

ثم هبطت الطائرة إلى خِضمِّ السُّحب، وظهرت بريطانيا مجددًا. كانت مكانًا عاديًّا وموحلًا ومملًّا للغاية بحيث كان من المتعذر تصديق أن قد يكون قد غيَّر تاريخ عالم بأسره. كان رذاذٌ مستمر يغمر الأرض وما عليها. كانت لندن عبارة عن انعكاساتٍ رمادية على لوحةٍ مائية تتخللها بقعٌ زيتيةٌ قرمزية، حيث كانت الحافلات تقطر عبر الضباب.

كانت جميع الأنوار في قسم البصمات مضاءة مع أن ضوء النهار كان لا يزال موجودًا، وكان كاترايت جالسًا مثلما رآه جرانت آخر مرة — كما كان يراه دائمًا — وبجواره نصف كوب من الشاي عند مرفقه، ومنفضة السجائر ممتلئة بأعقاب السجائر.

قال كاترايت: «هل ثَمة شيء يمكنني فعله من أجلك في هذه الظهيرة الربيعية الجميلة؟»

«أجل. يوجد أمرٌ واحد أرغب بشدة في أن أعرفه. هل سبق لك أن شربت نصف الكوب الآخر؟»

أخذ كاترايت يفكِّر في هذا. ثم قال: «بعدما فكَّرت في الأمر، لا أعرف إن كنتُ قد فعلتُ من قبلُ. عادةً ما تأتي بيريل وتأخذ كوبي وتعيد ملأه بمشروبٍ جديد. ألدَيك تعليقٌ مرتجَلٌ آخر؟ أم إن هذه مجرد زيارةٍ اجتماعية؟»

«أجل، يوجد شيءٌ آخر. لكنك «ستعمل» لأجلي يوم الإثنين؛ لذا لا تدع سخاءك يخرج عن السيطرة.» ثم وضع أوراق شارل مارتن على الطاولة. وقال: «متى يمكنك الانتهاء من هذه لأجلي؟»

«ما هذا؟ أوراق هويةٍ فرنسية. ما الذي تحاول الوصول إليه؟ أم إنك تريد أن تحتفظ بهذا لنفسك؟»

«إنما أضع رهانًا أخيرًا على جواد يُدعى «الفطنة». إن آتى الأمر ثماره فسأخبرك. سآتي لأخذ البصمات صباح الغد.»

نظر إلى الساعة ورأى أنه إن كان تاد «يواعد» دافني، أو أي امرأةٍ أخرى، الليلة، فلا بد أنه في هذه اللحظة يتأنق في غرفة فندقه. ترك جرانت كاترايت، ومضى إلى هاتف يتسنى له أن يتحدث إلى من يهاتفه دون أن يسمعه أحدٌ آخر.

قال تاد بنبرة فرحة حين سمع صوت جرانت: «مرحى! من أين تتكلم؟ هل عدت؟»

«أجل، عدت. أنا في لندن. اسمع يا تاد، تقول إنك لم تعرف من قبلُ أحدًا يُدعى شارل مارتن. لكن هل من الممكن أنك كنت تعرفه باسم آخر؟ هل كنت تعرف من قبلُ ميكانيكيًّا ماهرًا وبارعًا جدًّا مع السيارات، كان فرنسيًّا، ويشبه بيل قليلًا؟»

أخذ تاد يفكِّر في هذا.

«لا أظن أني عرفت من قبلُ ميكانيكيًّا فرنسيًّا. لقد عرفت ميكانيكيًّا سويديًّا وآخر يونانيًّا، ولكن لم يكن أيٌّ منهم يشبه بيل على الإطلاق. لماذا؟»

«لأن مارتن عَمِل في الشرق الأوسط. ومن المحتمل أن يكون بيل قد حصل على تلك الأوراق منه قبل أن يأتي إلى بريطانيا أصلًا. ربما يكون مارتن قد باعه إياها. لقد كان مارتن — أو ما زال؛ فثَمة احتمال أن يكون على قيد الحياة — إنسانًا كسولًا، وربما كان يعاني الفاقة على فتراتٍ متقطعة. هناك، حيث لا يعبأ أحد كثيرًا بشأن الأوراق الثبوتية، ربما يكون قد حاول بيعها مقابل المال.»

«أجل، ربما يكون قد فعل. فأوراق هوية شخصٍ آخر عادةً ما تكون أقيم من أوراقك هناك. أقصد أن يسير بها المرء هنا وهناك. ولكن لماذا قد يبتاعها «بيل»؟ لم ينتهج بيل طرقًا مشبوهةً قَط.»

«ربما لأنه كان يشبه مارتن قليلًا. لا أعرف. على أي حال، ألم يصادف أن قابلت أحدًا يشبه مارتن في الشرق الأوسط؟»

«ولا في أي مكان، حسبما أتذكَّر. علامَ حصلت؟ من آل مارتن. أهو شيء ذو قيمة؟»

«يؤسفني أن أقول إنه ليس كذلك. لقد أرَوني صورًا له؛ الأمر الذي أوضح لي كثيرًا كم كان مارتن يشبه بيل إن لم يكن على قيد الحياة. وهو شيء كنا نعرفه بالفعل. وبالطبع إنه سافر إلى الشرق من أجل العمل. هل وردت أي ردود على الإعلان؟»

«خمسة.»

«خمسة؟»

«كلها من أشخاص يُدعون بيل كينريك.»

«أوه. يسألون ما الفائدة التي سيجنونها من الأمر؟»

«أصبت.»

«لم يردك أي شيء من أي شخص كان يعرفه؟»

«مطلقًا. ويبدو أنه لا توجد نتائج من ناحية شارل مارتن أيضًا. لقد غرقنا، أليس كذلك؟»

«في الواقع، حتى آذاننا، إن جاز القول. لدينا شيءٌ نافعٌ واحد.»

«حقًّا؟ ما هو؟»

«الوقت. لا يزال لدينا ثمانٍ وأربعون ساعة.»

«أنت متفائل يا سيد جرانت.»

قال جرانت: «حريٌّ بك أن تكون في مهنتي»، لكنه لم يكن يشعر بتفاؤلٍ كبير. بل كان يشعر بالتعب والخواء. كان على وشك أن يتمنى لو أنه لم يكن قد سمع ببيل كينريك من قبلُ. كان على وشك أن يتمنى لو أنه كان قد مشى في ذلك الممر في القطار عند بلدة سكون متأخرًا عشر ثوانٍ فقط. ففي غضون عشر ثوانٍ إضافية، كان يوجورت سيُدرك أن الرجل كان ميتًا، وكان سيغلق الباب وسيذهب طالبًا العون، وكان جرانت سيسير في ذلك الممر الخالي، وسيترجَّل إلى الرصيف دون أن يعي مطلقًا بوجود شاب يُدعى شارل مارتن. ما كان سيعرف قَط أن أحدًا ما قد مات على متن القطار. كان سيستقلُّ السيارة مع تومي نحو التلال، وما كانت أي كلمات عن الرمال المغنية ستُعكر عليه إجازته. كان سيصطاد السمك في هناءة، وسينتهي من إجازته في سكينة.

في سكينة أكثر من اللازم … ربما؟ بالإضافة إلى قدرٍ مفرِط من الوقت يتيح له أن يفكِّر في نفسه وفي استرقاق الجنون له.

لا، بالطبع لم يكن نادمًا على أنه سمع ببيل كينريك. سيظل مدينًا لبيل كينريك ما دام حيًّا، وإن استغرق الأمر منه حتى نهاية حياته كان سيكتشف ما تسبَّب في تغيير بيل كينريك إلى شارل مارتن. لكن ليت بوسعه أن يستجلي هذا الأمر قبل أن تُطوِّقه تلك الحياة الكثيرة المتطلبات التي كانت في انتظاره يوم الإثنين.

سأل عن دافني، وقال تاد إنها كانت تمتلك ميزةً واحدةً هائلة تميزها عن جميع من عرفهن من قبلُ، وهي أنها تسعد بالقليل. إن أعطيتها باقة من زهور البنفسج فإنها تسعد بها بقدر ما تسعد معظم الفتيات بزهور الأوركيد. وكان الرأي الذي توصل إليه تاد بعد تفكيرٍ أنها لم تسمع من قبلُ بزهور الأوركيد، وأنه شخصيًّا لم يكن يعتزم لفت انتباهها إليه.

«تبدو من النوع المحب للبيت والأسرة. خذ حذرك يا تيد، وإلا فستصحبها معك إلى الشرق الأوسط.»

فقال تاد: «ليس وأنا بكامل وعيي. لن تعود أي أنثى معي إلى الشرق الأوسط. لن أسمح لأي امرأة بأن تُحدث الفوضى في «منزلنا». أقصد منزلي … أقصد …» وهنا تلاشى صوته.

أصبحت المحادثة متبلِّدة فجأة، وأغلق جرانت السماعة بعد أن قطع وعدًا بأن يهاتفه بمجرد أن يجد شيئًا يبلغه به أو أي فكرة يشاركه إياها.

خرج جرانت إلى الضباب الندي، وابتاع صحيفةً مسائية، واستقلَّ سيارة أجرة إلى المنزل. كانت الصحيفة هي «سيجنال»، وأعاده مرأى الاسم المألوف إلى ذلك الإفطار الذي تناوله في بلدة سكون قبل أربعة أسابيع. وفكَّر مجددًا في أن العناوين ثابتة من ناحية نوعها. الخلاف الحاد في مجلس الوزراء، جثة الفتاة الشقراء في حي مايدا فيل، مقاضاة الجمارك، عملية السطو، وصول ممثلٍ أمريكي، حادثة الشارع. حتى عنوان «تحطم طائرة في جبال الألب» كان شائعًا بما يكفي ليصنَّف باعتباره من العناوين الثابتة.

«شهد سكان الوديان المرتفعة لبلدة شاموني مساء أمس كتلةً من اللهب تندلع على قمة جبل مون بلان الجليدية …»

كان أسلوب صحيفة «سيجنال» ثابتًا أيضًا.

الشيء الوحيد الذي ينتظره في المنزل الكائن في ١٩ تينبي كورت كان خطابًا من بات، يقول فيه:

عزيزي ألان، يقولون إنه لا بد أنك تمتلك فراشات صيد من نوعية مارجون لكنني أظن أنها ليست ذات جدوى. التوفير يجنِّبك الحاجة. هذه فراشة صيد صنعتها من أجلك. لم أكن قد انتهيت منها وقت رحيلك. قد لا تكون ذات نفع في تلك الأنهار الإنجليزية، لكن من الأفضل أن تحصل عليها على أي حال، قريبك المحب باتريك.

أسعدَ هذا الصنيع جرانت كثيرًا، وبينما كان يتناول عشاءه راح يتنقَّل بأفكاره بالتناوب بين الاقتصاد، من حيث رءوس الأموال، وكذلك الحدود السعرية، والطُّعم الذي بداخل الخطاب. لقد تخطت هذه الفراشة الاصطناعية في أصالتها حتى تلك الفراشة المدهشة التي كان قد استعارها في كلون. قرَّر أن يستخدمها ذات يوم في نهر سيفرن حين «يأخذون» قِربة ماءٍ ساخن من المطاط الأحمر، بحيث يمكنه أن يكتب لبات بصدق ويخبره أن فراشة آل رانكن تمكنت من اصطياد سمكةٍ كبيرة.

جعله التعصب الاسكتلندي التقليدي في جملة «تلك الأنهار الإنجليزية» يأمل ألا تُطيل لورا في انتظارها وتسارع بإرسال بات إلى مدرسته الإنجليزية. إذ كان انتماؤه إلى اسكتلندا مفرطًا للغاية، وينبغي تخفيفه. باعتباره أحد مكونات شخصيته، كان مثيرًا للإعجاب، ومع أنه كان نقيًّا فقد كان منفِّرًا كالنشادر.

ثبَّت جرانت الفراشة الاصطناعية فوق التقويم على مكتبه، حتى يتسنَّى له استكمال التأمل في شموليتها ويسعد بتفاني قريبه الصغير، وارتدى مسرورًا منامته وفوقها روبًا. كان يوجد على الأقل عزاءٌ وحيد في كونه الآن في المدينة وليس في الريف، وهو أن بإمكانه ارتداء روبه ووضع قدمَيه على رف المدفأة وهو متأكد ومتيقن من أنه لن يتلقَّى اتصالًا هاتفيًّا من سكوتلانديارد ليُزعجه في وقت فراغه وراحته.

لكنه لم يكن قد مضى عليه أكثر من عشرين دقيقة على هذه الحال حين جاءه اتصال من سكوتلانديارد.

كان كاترايت هو المتصل.

أتاه صوت كاترايت يقول: «هل فهمتك على نحوٍ صحيح حين قلت إنك راهنت على الفطنة؟»

«أجل. لماذا؟»

فقال كاترايت: «لا أعرف أي شيء عن الأمر، لكنني أظن أن جوادك قد ربح.» ثم أضاف بنبرةٍ عذبةٍ رقيقة جدًّا مثل مذيعة في الراديو: «طاب مساؤك يا سيدي»، ثم أغلق الهاتف.

فقال جرانت: «مهلًا!» وراح يهزهز زر الهاتف. «مهلًا!»

لكن كاترايت قد أنهى المكالمة. ولن يكون من المجدي محاولة معاودة الاتصال به ثانيةً الليلة. كانت هذه الممازحة اللطيفة هي رد كاترايت؛ كانت ثمن قيامه بمهمتَين دون مقابل.

عاد جرانت إلى كتاب رانيون الذي كان يقرؤه، لكنه لم يعد يستطيع أن يركز انتباهه على تلك الشخصية القانونية الصارمة، شخصية القاضي هنري جي بليك. سحقًا لكاترايت ولمزحاته الصغيرة! سيتعين الآن عليه أن يذهب باكرًا إلى سكوتلانديارد.

لكنه في الصباح كان قد نسي أمر كاترايت تمامًا.

فبحلول الثامنة صباحًا كان كاترايت قد غاص مجددًا في بحرٍ خضم من الحوادث العرضية التي تحملنا من يوم إلى الذي يليه، والتي تكون عادية في احتشاد عوالقها.

بدأ الصباح، كما يبدأ دائمًا، بصوت قعقعة الخزف وصوت السيدة تينكر وهي تضع شاي الصباح الباكر. كان هذا الحدث هو التمهيد لأربع دقائق يرقد جرانت خلالها ساكنًا، ويكون فيها ناعسًا أكثر منه مستيقظًا، ويترك الشاي يبرد قليلًا، وكان صوت السيدة تينكر يأتيه من طرف نفقٍ طويل يؤدِّي إلى الحياة وضوء النهار، لكن لا حاجة لاجتيازه بعدُ.

جاء صوت السيدة تينكر يقول: «فقط استمع إلى هذا»، مشيرةً فيما يبدو إلى وقع المطر المنتظم. «قضبان تثبيت سجاد الدرج، مطر غزير، مستودعات. شلالات نياجرا تنهمر أيضًا. يبدو أنهم عثروا على شانجريلا. يمكنني الاستفادة من موضع في شانجريلا هذا الصباح.»

أخذت الكلمة تطوف في ذهنه الناعس وكأنها عُشبة في ماءٍ ساكن. شانجريلا. كلمة تبعث على النعاس. تبعث على النعاس جدًّا. شانجريلا. مكان في أحد الأفلام. أو في رواية. فردوس لم تعبث به يد بشر. منعزل عن العالم.

«حسبما يرد في هذه الصحف الصباحية، لا تمطر هناك أبدًا.»

فقال: «أين؟» ليُريَها أنه مستيقظ.

«في شبه الجزيرة العربية، على ما يبدو.»

سمع الباب وهو يُغلَق، فغاص أكثر قليلًا تحت سطح الأشياء لينعم بتلك الدقائق الأربع. شبه الجزيرة العربية. شبه الجزيرة العربية. كلمةٌ أخرى تبعث على النعاس. لقد وجدوا شانجريلا في شبه الجزيرة العربية. إنهم …

«شبه الجزيرة العربية!»

وبتدويرةٍ واحدةٍ كبيرة لأغطيته كان جرانت قد ذهب عنه النعاس، ومدَّ يده ليلتقط الصحف. كانت توجد صحيفتان، لكن صحيفة «كلاريون» هي التي وصلت إليها يده أولًا؛ لأن عناوينها الرئيسية كانت تمثِّل جرعة السيدة تينكر اليومية من القراءة.

لم يتعيَّن عليه أن يفتش عن مبتغاه. إذ كان في الصفحة الأولى. كان أفضل مادةٍ صحفية نشرتها أي صحيفة منذ قضية كريبن.

«شانجريلا موجودة بالفعل. اكتشافٌ مثير. كشفٌ تاريخي في شبه الجزيرة العربية.»

سريعًا تصفَّح جرانت الفقرات المفعَمة بالإثارة المبالغ فيها، ونحَّى الصحيفة جانبًا في نفاد صبر لكي يُمسِك بصحيفة «مورنينج نيوز» الأجدر بالثقة. لكن صحيفة «مورنينج نيوز» كادت أن تكون مفعَمة بالإثارة بقدر صحيفة «كلاريون». إذ ورد فيها: «كشف كينزي-هيويت العظيم. أخبار مذهلة من شبه الجزيرة العربية.»

قالت صحيفة «مورنينج نيوز»: «بفخرٍ عظيم ننشر برقية بول كينزي-هيويت. كما سيرى قرَّاؤنا، تبرهنت صحة اكتشافه بواسطة ثلاث طائرات تابعة لسلاح الجو الملكي، كانت قد أُرسلَت لتحديد المكان بعد وصول السيد كينزي-هيويت إلى مَكلَّة.» كانت صحيفة «مورنينج نيوز» قد أبرمت عقدًا مع كينزي-هيويت لنشر سلسلة مقالات عن رحلته الحالية، حين تنتهي تلك الرحلة، وكانت الآن في حالة نشوةٍ هائلة لما صادفته من توفيق غير متوقَّع.

تجاوز جرانت حديث الصحيفة عما أحرزته من نصر، وانتقل إلى الكتابة الأكثر رزانة للمستكشف الظافر نفسه.

«كنا في الربع الخالي في مهماتٍ علمية … لم يكن في أذهاننا أي تصور عن التاريخ البشري سواءٌ الواقعي منه أو الخرافي … بلاد جرت فيها استكشافاتٌ كثيرة … جبال عارية لم يفكِّر أحد من قبلُ قَط في تسلقها … وقتٌ مُهدَر بين أحد الآبار، والذي يليه … في أرضٍ الماء فيها هو الحياة لا يشرد أحد ليتسلق مرتفعاتٍ شديدة الانحدار … استرعت الانتباهَ طائرةٌ جاءت مرتين في غضون خمسة أيام، وأمضت بعض الوقت تحوم في دوائر على ارتفاعٍ منخفض فوق الجبال … ظننَّا أن طائرة قد تحطَّمت … عملية إنقاذ محتملة … مؤتمر … ذهبنا أنا وروري هالارد للبحث، بينما ذهب داوود للبئر في زاروبا وأحضر حِملًا من الماء وعاد ليلقانا … لا يوجد مدخلٌ ظاهر … جدران تشبه جارب كوير على جبل بريرياك … استسلمنا … روري … مسار كانت حتى العنزات ستخفق في عبوره … ساعتان حتى قمة الجبل … وادٍ رائع الجمال … خضرة تكاد تكون صادمة … نوع من شجيرات الأثل … طرازٌ معماري يُذكِّرك باليونان أكثر مما يذكِّر بشبه الجزيرة العربية … الأروقة … صِنفٌ فارسيٌّ ذو بشرةٍ فاتحة وعينَين جميلتَين … جمال وعظام صغيرة لعرقٍ ناتج عن زواج القربى … ودودون جدًّا … متحمسون كثيرًا لظهور الطائرة، التي يبدو أنهم ظنوها طائرًا من نوعٍ ما … ميادين وشوارع مرصوفة … حضرية بصورةٍ غريبة … انعزال ليس بسبب صعوبات المسار الجبلي، بل بسبب الافتقار إلى الدواب من الحيوانات لحمل الماء … من الصعب عبور الصحراء من دون ذلك … في وضعية جزيرةٍ صغيرة في بحر من الرمال … كنا غير مدركين لما يقبع خلف تلك الصحراء، أو إلى أي مدًى يمكن أن تمتد كما كان حال القدماء فيما يتعلق بما يقبع خلف المحيط الأطلنطي … تقليدٌ كارثي، لكن بسبب الصعوبات اللغوية فهذا تخمين؛ لكونه ترجمة للغة الإشارة وليس من … الزراعة الشريطية … إله على شكل قردٍ مصنوع من الحجر … عُبار … اضطرابٌ بركاني … عُبار … عُبار …»

كانت صحيفة «مورنينج نيوز» قد أدرجت مخططًا تفصيليًّا متقنًا لشبه الجزيرة العربية مع وضع علامات بخطوطٍ متقاطعة هكذا «+» في المكان المناسب.

استلقى جرانت وراح يحدق فيها.

كان «ذلك» إذَن ما رآه بيل كينريك.

لقد خرج من قلب عاصفةٍ هوجاء، من بين تيارات الرمال والظلام، وأطلَّ من طائرته على ذلك الوادي الأخضر المتحضِّر القابع بين الصخور. لا عجب كثيرًا في أنه عاد من هناك «مشوَّشًا» وكأن عقله كان «لا يزال هناك». لم يُصدِّق هو نفسه ما رآه. فعاد ليبحث؛ ليفتش عن هذا المكان الذي لم يظهر على أي خريطة، وينظر إليه. هذا — ذاك — كان فردوسه.

كان هذا هو ما كتب عنه في المساحة الفارغة في إحدى الصحف المسائية.

كان هذا هو ما أتى إلى إنجلترا من أجله …

أتى إلى هيرون لويد من أجل …

أتى إلى «هيرون لويد» …!

ألقى بالصحيفة وقفز من السرير.

ونادى قائلًا: «تينك!» وهو يفتح صنبور حوض الاستحمام. «تينك، دعكِ من أمر الإفطار. أحضري لي بعض القهوة.»

«لكن لا يمكنك الخروج في صباح كهذا ولم تتناول غير كوب من …»

««لا تجادليني!» أحضري لي بعض القهوة!»

نزل الماء يهدر في حوض الاستحمام. ذلك الكذاب. ذلك الجبان اللعين المتملِّق الأناني الكذاب. المغرور الشرير القاتل الكذاب. كيف فعلها؟

أقسم جرانت بحق الرب أنه سيعمل على أن يُشنَق جرَّاء هذا.

قال صوته الداخلي بنبرةٍ مهذَّبةٍ شريرة: «استنادًا على أي دليل؟»

«اخرس! سأتوصل إلى الدليل حتى وإن تعيَّن عليَّ أن أكتشف قارةً جديدة بأكملها في سبيل ذلك! لقد قال عنه، وهو يهزُّ رأسه أسفًا على مصيره المحزن جدًّا: «يا للفتى المسكين! يا للفتى المسكين!» بحق المسيح، سأشنقه بنفسي إن لم أتمكن من قتله بأي طريقةٍ أخرى!»

«اهدأ، اهدأ. ليست هذه حالةً مزاجية تسمح لك باستجواب مشتبَه به.»

«لست أستجوب مشتبهًا به، سحقًا لعقليتك البوليسية! سأخبر هيرون لويد برأيي فيه. لن أعود شرطيًّا إلا بعد أن أتعامل مع لويد بصفةٍ شخصية.»

«لا يمكنك أن تلطم رجلًا في الستين من عمره.»

«لن ألطمه. سأضربه ضربًا يكاد يفضي إلى الموت. إن أخلاقيات ضربه أو عدم ضربه لا تندرج ضمن هذا الأمر مطلقًا.»

«ربما يستحق الشنق لكنه لا يستحق أن يُطلب منك أن تستقيل بسببه.»

«لقد قال بنبرة فيها لطفٌ وتعالٍ: «وجدته مرحًا مبهِجًا.» ذلك اللعين. ذلك الحقير القاتل المتكبِّر المتملِّق. ذلك …»

من آبار خبرته استخرج جرانت ما يلبِّي حاجته من كلمات. لكن غضبه ظل مستعرًا بداخله كموقدٍ مشتعل.

ثم انطلق من المنزل بعد أن تناول قضمتَين ملء فيه من الخبز المحمص وثلاث رشفاتٍ كبيرة من القهوة، وانعطف إلى المرأب بسرعةٍ مضاعَفة. كان الوقت أبكر بكثير من أن يأمل في أن يجد سيارة أجرة؛ لذا كانت أسرع طريقة هي أن يستخدم سيارته.

هل من الممكن أن يكون لويد قد قرأ الصحف بعدُ؟

إن لم يكن من عادته أن يغادر المنزل قبل الساعة الحادية عشرة، فمن المؤكَّد أنه لا يتناول الإفطار حتى الساعة التاسعة. ودَّ جرانت كثيرًا أن يصل إلى المنزل الكائن في ٥ بريت لين قبل أن يفتح لويد صحيفته الصباحية. سيكون لطيفًا، لطيفًا ومعزيًا، لطيفًا ومُرضيًا، أن يشاهده جرانت وهو يتلقى الأخبار. لقد قتل من أجل أن يُبقي ذلك السر ملكًا له، ليضمن أن يكون المجد من نصيبه، والآن أصبح السر خبرًا على الصفحات الأولى في الصحف ونال غريمه كل المجد. أدعوك أيها الرب ألا يكون قد قرأ الخبر بعدُ.

دق جرانت جرس باب المنزل الكائن في ٥ بريت لين مرتين قبل أن يجيب أحد، ولم يكن من أجابه هو محمود الودود، بل امرأةٌ ضخمة ترتدي خفَّين من اللباد.

سألها: «أين السيد لويد؟»

«أوه، السيد لويد ذهب إلى كمبرلاند ليوم أو يومين.»

«كمبرلاند! متى ذهب إلى كمبرلاند؟»

«عصر يوم الخميس.»

«متى تتوقعين عودته؟»

«أوه، سيَغيبان ليوم أو يومين.»

«سيَغيبان؟ أنت تقصدين أن محمود ذهب معه.»

«بالطبع محمود ذهب معه. لا يذهب السيد لويد إلى أي مكان دون أن يذهب محمود معه.»

«فهمت. أيمكنكِ أن تعطيني عنوانه؟»

«لو كنت أعرفه لأعطيتك إياه. لكنهما لا يزعجان أنفُسهما بأمر تغيير العنوان حين يغيبان ليوم أو يومَين فقط. هل ستترك له رسالة؟ أم لعلك ستعرِّج مرةً أخرى؟ من المرجَّح أنهما لن يعودا عصر اليوم.»

لا، لن يترك رسالة. سيعرِّج مرةً أخرى. لم يكن مهمًّا أن يخبرها باسمه.

شعر جرانت بصدمة وكأنه شخصٌ ضغط على مكابح سيارته فجأةً واصطدم بالزجاج الأمامي. وتذكَّر وهو في طريق خروجه إلى سيارته أن تاد كولين سيقرأ ذلك الخبر في غضون بضع دقائق، إن لم يكن قد قرأه بالفعل. فعاد إلى شقته حيث التَقى في الردهة بالسيدة تينكر التي شعرت بارتياح لرؤيته.

«حمدًا للرب على عودتك. ذلك الفتى الأمريكي اتصل هاتفيًّا وهو يمرُّ بأمرٍ مريع. لا يمكنني أن أفهم أيًّا مما يظن أنه يتحدث عنه. إنه غاضب إلى حد الجنون. قلت له: سيتصل السيد جرانت بك لحظة وصوله، لكنه لم يستطع أن يترك الهاتف. فما إن يضع السماعة من يده حتى يتصل مرةً أخرى. كنت أُهرَع جيئة وذهابًا بين الحوض والهاتف مثل …» ثم رنَّ جرس الهاتف. «تفضل! ها هو ذا يتصل مجددًا!»

رفع جرانت السماعة. كان تاد بالفعل هو المتصل، وكان كما قالت السيدة تينكر تمامًا. كان كلامه مفكَّكًا من شدة الغضب.

ظلَّ يقول: «لكنه كذب! لقد كذب ذلك الرجل. «بالطبع» أخبره بيل بكل ذلك!»

«أجل، بالطبع فعل. اسمع يا تاد … اسمع … لا، لا يمكنك أن تذهب وتبرحه ضربًا … أجل، بالطبع يمكنك أن تعثر على منزله بنفسك، لا شك عندي في هذا، لكن … «اسمع» يا تاد! … لقد «ذهبتُ» إلى منزله … أوه، أجل، في «هذه» الساعة من الصباح حتى. فأنا أقرأ الصحف في وقتٍ أبكر منك … لا، لم أضربه. لم أستطع … لا، ليس لأنني خائف، ولكن لأنه في كمبرلاند … أجل. منذ يوم الخميس … لا أعرف. سيتعيَّن عليَّ أن أفكِّر في الأمر. أمهلني حتى وقت الغداء. هل تثق في حكمي على الأمور عمومًا؟ … حسنًا، سيتعيَّن عليك أن تثق بحكمي في هذا الشأن. لا بد أن أحظى ببعض الوقت لأفكِّر. لأتوصَّل إلى دليل بالطبع … إنه إجراءٌ معتاد … سأقصُّ قصتي على شرطة سكوتلانديارد بالطبع، وبالطبع سيُصدقونني. أقصد قصتي عن زيارة بيل إلى لويد، وعما قاله لي لويد من أكاذيب. لكن إثبات أن شارل مارتن كان بيل كينريك هو أمرٌ مختلف تمامًا. حتى موعد الغداء سأكتب بيانًا لسكوتلانديارد وأرسله. تعالَ حوالَي الواحدة ظهرًا، ويمكننا أن نتناول الغداء معًا. لا بد أن أرفع الأمر برُمَّته إلى السلطات عصر اليوم.»

كره جرانت الفكرة. كانت هذه معركته وحده. كانت معركته وحده منذ البداية. منذ تلك اللحظة التي نظر فيها عبر باب المقصورة المفتوحة إلى وجه فتًى ميتٍ مجهول. وصارت معركته وحده ألف مرة أكثر منذ لقائه بلويد.

كان قد بدأ يكتب حين تذكَّر أنه لم يأخذ بعدُ الأوراق التي تركها مع كاترايت. فرفع سماعة الهاتف واتصل بالرقم، وطلب امتداد خط هاتف كاترايت. هل يمكن أن يجد كاترايت مبعوثًا يرسل معه تلك الأوراق؟ إذ كان جرانت مشغولًا للغاية. كان اليوم هو يوم سبت، وكان ينهي كل أموره العالقة قبل العودة إلى العمل يوم الإثنين. سيكون شاكرًا لذلك كثيرًا.

عاد إلى ما كان يكتبه، وأضحى منهمكًا جدًّا حتى إنه لم ينتبه إلا قليلًا جدًّا إلى أن السيدة تينكر كانت قد أحضرت الصحيفة الثانية؛ صحيفة الظهيرة. وعندما رفع ناظرَيه عن الورقة ليفتش في ذهنه عن كلمة يكتبها، وقعت عينه على الظرف الذي كانت قد وضعته إلى جواره على المكتب. كان ظرف فولسكاب، متينًا وغالي الثمن، وممتلئًا بما في داخله، ومُعَنونًا بخط يد رفيعٍ مزويٍّ متشنِّج، تمكَّن صاحبه أن يجعله دقيقًا ومزخرفًا في الوقت نفسه.

لم يكن جرانت قد رأى خط يد هيرون لويد من قبلُ. فتعرَّف عليه من فوره.

وضع قلمه بحذر، وكأن الخطاب الغريب كان قنبلةً وستنفجر عند أدنى اهتزاز لا داعي له.

مسح راحتَي يدَيه بموضع الفخذ من بنطاله في حركة لم يفعلها منذ كان طفلًا، حركة صبيٍّ صغير يواجه ما لا ليس في حسبانه، ومدَّ يده نحو الظرف.

كان قد أُرسلَ من لندن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤