الفصل الثاني

بينما كانا يستقلان السيارة عبر التلال، تغلغل لدى جرانت إحساس السلام الذي نجم عن تقبُّل تومي لوجوده باعتباره أمرًا واقعًا. لقد تقبَّله هذان الاثنان؛ إذ وقفا في محبةٍ متجردة، يرقبانه وهو يأتي في هدوءٍ معتاد. كان صباحًا رماديًّا كئيبًا وساكنًا. وكانت الطبيعة أمامهما منسقةً مفتوحة. أحاطت جدرانٌ رماديةٌ منسقة بحقولٍ مفتوحة، وامتدَّت أسوارٌ مكشوفة بحذاء المصارف المنسقة. لم يكن أي شيء قد بدأ ينمو بعدُ في هذا الريف المترقب. لم تظهر الحياة والخضرة في تلك المناطق شبه العارية إلا في شجرة صفصاف هنا أو هناك بجانب قناة تصريف صغيرة.

ستصير الأمور على ما يُرام. كان هذا هو ما أحتاج إليه؛ هذا الصمت الفسيح الممتد، وهذا الحيز، وهذه السكينة. كان قد نسي كم كان هذا المكان ودودًا، وباعثًا على الراحة. كانت التلال القريبة مستديرة وخضراء وودودة، وخلفها كانت توجد تلالٌ أبعد، ملطخة بالزرقة من أثر المسافة. وخلف كل ذلك كان متراس خط المرتفعات الاسكتلندية منتصبًا، أبيض اللون ونائيًا في مواجهة السماء الساكنة.

قال جرانت، وهما ينزلان إلى وادي نهر تورلي: «منسوب النهر منخفض جدًّا، أليس كذلك؟» واجتاحه شعور بالذعر.

كانت تلك هي الطريقة التي يحدث بها الأمر دومًا. في لحظة يكون إنسانًا عاقلًا حرًّا مالكًا لزمام نفسه، وفي اللحظة التالية يصبح مخلوقًا عاجزًا في قبضة اللامنطق والجنون. ضغط يدَيه إحداهما بالأخرى ليمنع نفسه من فتح الباب على مِصراعه للجنون، وحاول أن يستمع إلى ما كان تومي يقوله. لم يهطل المطر منذ أسابيع. لم يكونوا قد حظوا بالمطر منذ أسابيع. فليفكِّر في شُح الأمطار. كان شُح الأمطار أمرًا مهمًّا. فقد أفسد الصيد. كان قد أتى إلى بلدة كلون من أجل الصيد. وإن لم تكن السماء قد أمطرت فلن توجد أسراب أسماك. لن توجد مياه للأسماك. يا إلهي، ساعدني ألا أجعل تومي يتوقف عن الكلام! لا يوجد ماء. فكِّر بذكاء في الصيد. إن لم تكن السماء قد أمطرت منذ أسابيع، فلا بد أن المطر على وشك الهطول، أليس هذا ضروريًّا؟ لماذا يمكنك أن تطلب من صديقك أن يوقف السيارة ويدعك تتقيأ، ولكن لا تطلب منه أن يوقف السيارة حتى يتسنى لك الخروج من حيزها الضيق؟ انظر إلى النهر. «انظر» إليه. تذكَّر أشياء عنه. هناك اصطدت أفضل سمكة في العام الماضي. وهناك انزلق بات من على الصخرة التي كان جالسًا عليها وظل معلَّقًا من مؤخرة بنطاله.

كان تومي يقول: «تلك السمكة كانت أفضل سمكة رأيتَها على الإطلاق.»

كانت أشجار البندق بجوار النهر تشكِّل بقعةً بنفسجية برَّاقة في المستنقع ذي اللون الأخضر الرمادي. وبعد قليل، حين يحل الصيف، سيشكِّل الصخب البارد لأوراقها لحنًا مصاحبًا لأغنية النهر، لكنها الآن كانت تقف في حشدٍ صامتٍ مرتبِك على امتداد ضفة النهر.

ناظرًا إلى حالة الماء، لاحظ تومي أيضًا أغصان البندق الجرداء، لكن لكونه والدًا لم يدفعه ذلك إلى أن يفكِّر في أوقات العصر الصيفية. وقال: «لقد اكتشف بات أنه بصَّار.»

ذاك أفضل. فكِّر في بات. تحدَّث عن بات.

«تتناثر في المنزل أغصان من كل الأشكال والأحجام.»

«هل اكتشف أي شيء؟» إن استطاع أن يُبقي ذهنه منشغلًا ببات فقد تكون الأمور على ما يُرام.

«لقد اكتشف ذهبًا تحت أرضية غرفة الجلوس، ومجموعة من المواد تحت ما يمكن أن تُطلق عليه مرحاض الطابق السفلي، وبئرين.»

«أين البئران؟» لا يمكن أن تكون المسافة المتبقية طويلة. بقيت خمسة أميال حتى مقدمة الوادي الصغير وبلدة كلون.

«واحد تحت أرضية حجرة الطعام، والآخر تحت رواق المطبخ.»

«أفهم من ذلك أنكم لم تحفروا في أرضية مدفأة غرفة الجلوس.» كانت النافذة مفتوحة عن آخرها. ما الذي يمكن أن يقلق بشأنه؟ لم تكن السيارة حيزًا مغلقًا حقًّا، لم تكن حيزًا مغلقًا إطلاقًا.

«لم نفعل. إنه مُنزعِج من هذا كثيرًا. وقال بأنني وُلدتُ مرةً واحدة.»

«وُلدتَ مرةً واحدة؟»

«أجل. هذه هي آخر كلماته. إنها تعني أنني أدنى بدرجة من شخصٍ كريه، أو هكذا فهمت.»

«من أين أتى بالكلمة؟» سينتظر حتى يصلا إلى أيكة شجر البتولا تلك عند الزاوية. حينها سيطلب من تومي أن يتوقف.

«لا أعرف. من امرأة متصوِّفة كانت تتحدث إلى المنظمة الدولية لمقاومي الحرب، في الخريف الماضي، حسبما أظن.»

لماذا ينزعج من أن يعرف تومي؟ لم يكن يوجد شيءٌ مُخزٍ في الأمر. لو أنه كان مصابًا بالزهري والشلل لقَبِل مساعدة تومي وتعاطفه. ما الذي يجعله يرغب في أن يخفي عن تومي حقيقة أنه يتعرَّق رعبًا بسبب شيء لا وجود له؟ ربما بإمكانه أن يخدعه؟ ربما يمكنه أن يطلب من تومي أن يتوقف قليلًا حتى يُبدي إعجابه بالمنظر؟

ها قد وصلا إلى أيكة شجر البتولا. لقد صمد هذه المسافة على الأقل.

سيَصمد حتى ذلك الجزء من الطريق الذي يستوي فيه مع منحنى النهر. حينها سيَختلق عذرًا بدعوى إلقاء نظرة على الماء. هذا مقبولٌ أكثر من النظر إلى المنظر الطبيعي. من شأن تومي أن ينظر بابتهاج إلى النهر، ولكنه سيَنظر باحتجاجٍ صامت إلى المنظر الطبيعي.

خمسون ثانيةً أخرى تقريبًا. واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة …

الآن.

قال تومي، وهو يمرُّ سريعًا بمنحنى النهر: «لقد فقدنا زوجًا من الغنم في تلك البركة هذا الشتاء.»

فات الأوان.

ما الأعذار الأخرى التي يمكن أن يختلقها؟ لقد أصبح قريبًا جدًّا من بلدة كلون الآن بحيث لا يمكنه أن يجد أعذارًا بسهولة.

إنه حتى لا يمكنه أن يُشعل سيجارة في حال ما كانت يداه ترتعشان كثيرًا.

ربما لو فعل شيئًا، مهما كانت تفاهته …

أخذ حزمة الصحف من على الكرسي بجواره، وراح يعيد ترتيبها، منشغلًا بخلطها بدون هدف. ولاحظ أن صحيفة «سيجنال» لم تكن بينها. لقد كان ينوي أن يأخذها معه بسبب تلك القصيدة التجريبية القصيرة الغريبة في قسم آخر الأخبار، لكن لا بد أنه تركها في غرفة الطعام في الفندق. أوه، حسنًا. لم تكن مهمة. لقد أدَّت دورها بإضفاء الإثارة على إفطاره. ولا شك في أن مالكها لم يكن يريدها مرةً أخرى. لقد وصل إلى فردوسه، إلى غياهب النسيان، إن كان هذا هو ما كان يريده. لم تكن تُناسبه مزيَّة اليدَين المرتعشتَين والبشرة المتعرِّقة. ولا مزية التصارع مع الشياطين. لم يكن يناسبه الصباح النقي، ولا الأرض الطيبة، ولا سحر خط أفق المرتفعات الاسكتلندية في مواجهة السماء.

وللمرة الأولى خطر له أن يتساءل عن السبب الذي كان قد جعل الشاب يأتي إلى الشمال.

من المحتمل أنه لم يسافر في مقصورة نوم من الدرجة الأولى لمجرد أن يعاقر الشراب حتى يغيب عن الوعي. لقد كان يقصد وجهةً معينة. كان لديه مهمة وبُغية. كان لديه غاية.

لماذا أتى إلى الشمال في هذا الموسم القاتم غير الجذاب؟ ليصطاد السمك؟ ليتسلق التلال؟ إن المقصورة كما يتذكَّرها كانت تخلِّف انطباعًا بأنها خالية، ولكن ربما كانت أمتعته الثقيلة تحت السرير. أو ربما كانت في عربة الحقائب. بمعزل عن التنزه والرياضة، ماذا كان مقصده؟

أكان عملًا رسميًّا؟

ليس بذلك الوجه، لا.

هل كان ممثلًا؟ فنانًا؟ ربما.

هل كان بحَّارًا في طريقه للحاق بسفينته؟ هل كان ذاهبًا إلى قاعدة بحرية بعد إنفرنيس؟ كان ذلك محتملًا. كان الوجه سيبدو ملائمًا تمامًا على برج قيادة سفينة. سفينة صغيرة، سريعة جدًّا، سفينة جَهنَّمية في أي بحر من البحار.

ماذا كان شأنه أيضًا؟ ما الذي من شأنه أن يأتي بشابٍّ داكن البشرة نحيف الجسد ذي حاجبَين جامحَين وشهيةٍ كبيرة لاحتساء الكحوليات إلى منطقة المرتفعات الاسكتلندية في بداية شهر مارس؟ إلا إن كان قد فكَّر في أن يبدأ معمل تقطير غير قانوني في مثل هذه الأيام التي يشحُّ فيها الويسكي؟

كانت فكرةً باعثة على السرور. كم سيكون ذلك سهلًا! ليس بسهولته في أيرلندا؛ لأن الرغبة في الخروج على القانون كانت مفقودة، لكن بمجرد أن تحققها فإن الويسكي سيكون أفضل بكثير. كاد يتمنى لو أنه استطاع أن يعرض الفكرة على الشاب. ربما كان سيجالسه على العشاء ليلة أمس، ويراقب الوميض وهو يظهر في عينَيه بفعل فكرة ذلك الخرق الممتع للقانون. تمنَّى لو أنه تمكَّن من الحديث معه بأي حال، وتبادل معه الأفكار، واكتشف أمره. لو أن أحدًا كان قد تحدَّث معه ليلة أمس لربما كان الآن جزءًا من هذا الصباح المفعَم بالحياة، من هذا العالم السخي الرائع بما يحمله من هدايا ووعود، بدلًا من أن …

قال تومي، مختتمًا قصةً: «ثم نكزه بقضيب فأسقطه في البركة تحت الجسر.»

نظر جرانت إلى يديه، فوجد أنهما كانتا ساكنتَين.

لقد أنقذه الشاب الميت الذي لم يستطِع أن يُنقذ نفسه.

رفع ناظرَيه فرأى أمامه منزل بلدة كلون الأبيض. كان رابضًا في أعلى التلة الخضراء، وحيدًا باستثناء غابة التنوب الكثيفة المصاحبة له وتظلله، والملتصقة به وكأنها غزل بلونٍ أخضرَ قاتم من الصوف على هذا المنظر الطبيعي الأجرد. ومن المدخنة تَصاعد عمود دخان أزرق متموج في الجو الساكن. كان هذا المشهد بمثابة الجوهر البديع للسلام والسكينة.

وبينما كانا يصعدان بالسيارة الدربَ الرملي المتفرع من الطريق، رأى لورا تخرج من الباب وتقف في انتظارهما. لوَّحت لهما، وبينما كانت تُنزِل ذراعها التي كانت تُلوِّح بها أعادت بيدها خصلة الشعر التي سقطت على جبهتها. هذه الحركة المألوفة جعلت الدفء يسري في كيانه مبدِّدًا فتوره. فهكذا بالضبط اعتادت أن تنتظره على رصيف بادنوخ الصغير في انتظاره حين كانت طفلة؛ بنفس التلويح ونفس حركة إزاحة خصلة الشعر. خصلة الشعر نفسها.

قال تومي: «تبًّا، لقد نسيت أن أرسل خطاباتها بالبريد. لا تذكر الأمر أمامها إلا إذا سألتْ عنه.»

قبَّلته لورا على خدَّيه، ونظرت إليه نظرةً سريعة، ثم قالت:

«لديَّ طائرٌ جميل مطهيٌّ من أجل غدائك، ولكنك تبدو وكأن قسطًا طويلًا من النوم الهانئ سيكون أجدى لك. فلتصعد مباشرةً إذَن إلى الطابق العلوي، ونَم وانسَ أمر الطعام حتى تستيقظ. أمامنا أسابيعُ طويلة لنتبادل فيها الأحاديث؛ لذا لا يتعين علينا أن نبدأ الآن فورًا.»

فكَّر جرانت أن لورا هي وحدها التي تستطيع أن تضطلع بدور المضيف الذي يهتم باحتياجات ضيفه ببساطة وعناية. فلا تفاخر خفيًّا من جانبها بالغداء الذي أحسنت إعداده؛ ولا ابتزازًا مستترًا. إنها حتى لم تُصرَّ على أن تُقدم لضيفها أكواب الشاي غير المرغوب فيها، ولم تُوصِ بوضوح باستخدامه لمياه الاستحمام الدافئة التي لديها. إنها حتى لم تطلب إجراء محادثة الوصول الصغيرة، ولا الجلوس لبرهة في كياسة وتهذيب. لقد أمدَّت ضيفها من دون استجواب أو تردُّد بما كان في حاجة إليه. أمدَّته بسرير لينام فيه.

تساءل هل بدا محطَّمًا أم إن الأمر كان ببساطة أن لورا كانت تعرفه جيدًا. وخطرَ له أنه لا يمانع أن تعرف لورا بشأن نوبات الذعر لديه. كان غريبًا أنه أحجم عن إظهار ضعفه أمام تومي بينما لم يعبأ بأن تعرف لورا بأمره. كان ينبغي أن يكون الأمر عكس ذلك.

قالت وهي تسبقه على الدرج نحو الطابق العلوي: «لقد خصصت لك الغرفة الأخرى هذه المرة؛ لأن الغرفة الغربية أُعدَّت وما زالت رائحتها كريهةً بعض الشيء.»

لاحظ أن وزنها حقًّا زاد قليلًا، لكن كاحلَيها كانا جميلَين كعادتهما دائمًا. وبهذه الموضوعية الفطرية التي لم يتخلَّ عنها يومًا، أدرك أن افتقاره إلى أي رغبة في إخفاء نوبات الذعر الطفولية عن لورا كان دليلًا على أنه لم يعد يوجد ولو جزءًا صغيرًا في أعماقه لا يزال مغرمًا بها. إن حاجة الذكر لأن يبدو بمظهر حسن في عينَي محبوبته لم تكن موجودة في علاقته بلورا.

قالت وهي تقف في منتصف غرفة النوم الشرقية، وتنظر إليها وكأنها لم ترَها من قبلُ: «يقول الناس دائمًا عن غرف النوم الشرقية إنها تتمتع بشمس الصباح.» وتابعت: «كما لو كانت توصيةً ما. إنني نفسي أظن أنه ألطف بكثيرٍ أن يكون بوسع المرء أن يُطِلَّ على منظرٍ طبيعي مشمس. وهذا ما لا تستطيع فعله والشمس في عينَيك.» ثم دسَّت إبهاميها في حزام خصرها وحرَّرته قليلًا إذ كان يزداد ضيقًا. أضافت: «لكن الغرفة الغربية ستكون صالحة للسكنى في غضون يوم أو يومَين؛ لذا يمكنك عندئذٍ أن تنتقل إليها إذا ما رغبت في ذلك. كيف حال عزيزي الرقيب ويليامز؟»

«في أحسن حال.»

على الفور خطرَ على ذهنه مشهد ويليامز وهو يجلس جامدًا وخجِلًا إلى طاولة الشاي في ردهة استراحة ويستمرلاند. كان في طريقه للخارج بعد جلسة مع المدير، وصادف لورا وجرانت وهما يتناولان الشاي، فأقنعاه بأن ينضمَّ إليهما. كان قد ترك انطباعًا جيدًا لدى لورا.

«تعرف، كلما تمرُّ هذه البلاد بإحدى فترات الفوضى المتكررة التي تمرُّ بها، أفكر في الرقيب ويليامز وأغدو واثقةً تمامًا من أن كل شيء سيكون على ما يرام.»

قال جرانت، وهو منشغل بفك أحزمة أمتِعته: «أظنُّ «أنني» لا أبعث في نفسكِ أيَّ قدر من الطمأنينة.»

«ليس بقدرٍ ملحوظ. ليس بتلك الطريقة على أي حال. ستكون مبعث اطمئنان إن «لم يكن» كل شيء يسير على ما يرام.» وبهذه العبارة المبهَمة تركته. واختتمت قائلةً: «لا تنزل إلا حين تريد ذلك. لا تنزل على الإطلاق، إذا اقتضى الأمر. فقط رنَّ الجرس حين تستيقظ.»

أخذ وقعُ قدمَيها يبتعد في الممر، واجتاح الصمت المكان في إثرها.

خلع جرانت ملابسه وألقى بنفسه على السرير من دون أن يكلف نفسه عناء إسدال الستائر ليحجب الضوء. وبعد قليل فكَّر في نفسه: من الأفضل أن أُسدِل تلك الستائر، وإلا فقد يوقظني الضوء مبكرًا قبل الأوان. فتح عينَيه على مضض ليقيس مقدار الضوء، فوجد أن الضوء لم يعد يأتي من النافذة على الإطلاق. لكنه كان بالخارج. فرفع رأسه من على الوسادة ليفكِّر في هذا الأمر الغريب، وأدرك أنه حينئذٍ كان في ساعةٍ متأخرة من بعد الظهيرة.

استدار على ظهره في استرخاء واستمتاع ورقد يستمع إلى السكون. ذلك السكون الموغل في القِدَم. استمتع به في ترف وعلى مهل. لم يكن يوجد حيزٌ مغلق بين هذا المكان ومضيق بينتلاند. بين هذا المكان والقطب الشمالي، إذا وصل الأمر إلى هذا الحد. ومن خلال النافذة المفتوحة على مصراعَيها كان بوسعه أن يرى سماء المساء، التي كانت لا تزال رمادية لكنها كانت مضاءة بإضاءةٍ باهتة، وبها خط من سُحبٍ مستقيمة. لم تكن تلك السماء تحمل أمطارًا، لم تكن تحمل إلا صدًى للسلام الذي لفَّ العالم في هذا السكون القرير. أوه، حسنًا، إن لم يكن بوسعه صيد السمك فبوسعه السير والتنزه. وفي أسوأ الأحوال يمكنه أن يصطاد الأرانب.

راح يرقب السحب المستقيمة وهي تزداد قتامةً في مواجهة خلفيتها، وتساءل في نفسه عمن ستقترح عليه لورا أن يتزوجها هذه المرة. كان مذهلًا أن كل النساء المتزوجات اتحدن معًا لمواجهة حالة العزوبية لدى الرجال. إن كانت النساء سعيدات في زيجاتهن مثل لورا، فإنهن كنَّ ينظرن للزواج على أنه الحالة المقبولة الوحيدة لشخصٍ بالغ لا يعاني من أي عجزٍ ملحوظ أو عائقٍ ذي صلة. وإن كنَّ مستعبدات وغير سعيدات في زيجاتهن، فإنهنَّ عندئذٍ كنَّ مفعَمات بمشاعر الاستياء من أي شخص تمكن من الهروب من مثل هذا العقاب. في كل مرة كان جرانت يأتي فيها إلى بلدة كلون، كان من عادة لورا أن تقدِّم له أنثى فُحصَت بدقة من أجل أن يأخذ الزواج منها بعين الاعتبار. لم يكن يُقال أي شيء عن صفاتهن الجذابة، بالطبع؛ بل كنَّ يسِرن أمامه جيئة وذهابًا حتى يتسنى له رؤية مشيتهن. ولم يكن كذلك ثَمة أي إحساس بالندم في الأجواء حين لم يكن يُظهر أي اهتمام بأي مرشَّحة منهن، لم يكن ثَمة أي إشارة إلى إلقاء اللوم عليه أو استنكار فعله. كل ما كان يحدث هو أنه في المرة التالية كانت لورا تأتي بفكرةٍ جديدة.

ومن بعيد، كان صوتٌ يأتي إما قرقرةً كسولة لدجاجة أو قعقعة أكواب شاي تُجمَّع معًا. راح يتسمع لبرهةٍ قصيرة، آملًا أن يكون صوت دجاجة، لكنه توصَّل في أسف إلى أنه كان صوت تحضير الشاي. كان لا بد أن ينهض. سيعود بات من المدرسة، وستستيقظ بريدجيت من قيلولتها. كان من شيم لورا المعهودة أنها لم تطلب منه أن يُبدي إعجابًا بابنتها، لم يُطلَب منه أن يبدي إعجابه بمدى نموِّها وذكائها وجمالها في العام الماضي. لم تُذكَر بريدجيت على الإطلاق. كانت مجرد مخلوقةٍ صغيرة في مكانٍ ما بعيدًا عن الأنظار، مثل بقية حيوانات المزرعة.

نهض جرانت وذهب ليستحم. وبعد عشرين دقيقة كان ينزل الدرج وهو يعي أنه جائع للمرة الأولى منذ شهور.

فكَّر في نفسه أن الصورة العائلية التي فُتِح عليها باب غرفة الجلوس كانت تضاهي بالضبط إحدى لوحات زوفاني. كانت غرفة الجلوس في منزل بلدة كلون تشغل تقريبًا كامل مساحة ما كان بالأساس بيتًا ريفيًّا وصار الآن جناحًا صغيرًا في المبنى الرئيسي. ولأنها كانت فيما مضى مقسَّمة إلى عدة غرف وليست غرفةً واحدة، كان بها نوافذ أكثر مما هو معتاد في مثيلاتها من الغرف، ولأن جدرانها كانت سميكة كانت دافئة وباعثة على الشعور بالأمان، ولأنها كانت ذات طابعٍ جنوبي غربي، كانت أبهى إضاءة من معظم الغرف الأخرى. لذا كانت تحركات المنزل كله منصبَّة فيها، كما في القاعة الأساسية في إحدى ضيعات القرون الوسطى. لم تكن الأسرة تستخدم أي غرفةٍ أخرى إلا وقت الغداء أو العشاء. كفلت مائدةٌ مستديرةٌ كبيرة بجوار المدفأة وسائل الراحة المتاحة في وجبات «غرفة الطعام» وقت الشاي والإفطار، وكان ما تبقى من الغرفة يمثِّل خليطًا أنيقًا ورائعًا من مكتب، وغرفة صالون، وغرفة موسيقى، وغرفة دراسة، ومشتل زجاجي. خطر لجرانت أن يوهان زوفاني ما كان بحاجة إلى تغيير تفصيلةٍ واحدة بها. كان كل شيء موجودًا بالفعل، حتى كلب الصيد الصغير الذي يستجدي الطعام بجوار المائدة وبريدجيت الواقفة بساقَيها منفرجتَين على سجادة المدفأة.

كانت بريدجيت طفلةً شقراءَ صامتة، في الثالثة من عمرها، كانت تمضي أيامها وهي تعيد بلا توقف ترتيب الأغراض القليلة نفسها في أنماطٍ جديدة. قالت لورا: «لا يمكنني أن أقرِّر ما إن كانت تعاني من قصورٍ عقلي أو عبقرية.» لكن جرانت رأى أن النظرة التي استمرَّت ثانيتَين فقط، التي حبَته بها بريدجيت عند تقديمه، برَّرَت تمامًا الفرح في نبرة صوت لورا؛ إذ لم يكن ثَمة خطبٌ في ذكاء «الطفلة»، كما كان باتريك يدعوها. ولم تكن تلك الكنية التي كان بات يستخدمها تحمل أي معنًى من معاني الازدراء، ولا حتى أي تعالٍ ملحوظ؛ كانت تُؤكِّد فحسب على تضمينه في المجموعة البالغة، الذي خوَّله إياه كِبَره عنها بست سنوات حسب تقديره.

كان بات ذا شعر أحمر وعينَين رماديتَين كئيبتَين متوعدتَين. وكان يرتدي إزارًا اسكتلنديًّا من الصوف الأخضر المقلَّم، وجوربًا بلونٍ أزرقَ باهت، وقميصًا صوفيًّا بلونٍ رمادي باهت أكثر. كانت تحيته لجرانت عفوية، لكنها كانت فظَّة على نحوٍ مُطَمئن. كان بات يتحدث بلكنة «بيرثشاير معقَّدة» كما وصفتها أمه؛ لأن صديقه الحميم في مدرسة القرية هو ابن الراعي، الذي كان ينحدر من كيلين. كان باستطاعته، بالطبع، أن يتحدث الإنجليزية بطلاقة حين يريد ذلك، لكن هذه كانت دائمًا علامةً سيئة. فحين كان بات «يخاصمك»، كان دائمًا يخاصمك بإنجليزيةٍ سليمة للغاية.

أثناء تناول الشاي، سأله جرانت إن كان قد حسم قراره بشأن ما يريد أن يُصبح حين يكبر، وكانت إجابة بات الثابتة على السؤال منذ كان في عمر الرابعة هي «إنني أتمهَّل في قراري». وهي عبارة استعارها من والده قاضي الصلح.

قال بات وهو يبسط المربى بيدٍ سخية: «أجل.» وأضاف: «لقد اتخذت قراري.»

«حقًّا؟ جيد. وماذا ستصبح حين تكبر؟»

«ثوريًّا.»

«آمل ألا أُضطر يومًا لإلقاء القبض عليك.»

قال بات ببساطة: «لن تستطيع.»

«ولمَ؟»

قال بات وهو يغمس الملعقة مرةً أخرى في المربى: «سأكون صالحًا، يا رجل.»

قالت لورا وهي تأخذ المربى من ابنها: «أنا واثقة أن هذا هو المعنى الذي قصدته الملكة فيكتوريا عندما استخدمت تلك الكلمة.»

لقد كان يحبها من أجل ذلك. ذلك التجرد الغريب المتألق الذي أصاب قوام أمومتها في مقتل.

قال بات وهو يكشط المربى إلى أحد جوانب شريحة الخبز، بحيث تصل إلى العمق المطلوب في نصف مساحة سطح الشريحة على الأقل: «عندي لك سمكة». (ما قاله بالفعل كان: «إندي لك ثمكة»، لكن الصوتيات عند بات لم تكن أكثر استساغة على العين مما هي على الأذن، ويمكن أن نتركها لمخيلة القارئ.) وتابع: «تحت الحافة في بركة كادي. يمكنك أن تستعير طُعْمي، إن شئت.»

وحيث إن بات كان يمتلك علبة صفيح كبيرةً مليئة باختراعاتٍ متنوعة للقتل، فإن «طُعمي» في صيغة المفرد لا يمكن إلا أن يعني «الطُّعم الاصطناعي الذي اخترعته».

فسأل حين كان بات قد غادر: «كيف هو طُعم بات؟»

فقالت أمه: «يتعين أن أقول إنه فعال.» وأضافت: «إنه شيءٌ مخيف.»

«هل يصطاد به أي شيء؟»

قال تومي: «أجل، مع غرابة هذا.» وتابع: «أظن أنه يوجد حمقى في عالم الأسماك أيضًا مثلما في أي عالمٍ آخر.»

قالت لورا: «تفغر المخلوقات البائسة أفواهها ذهولًا لما تراه، وقبل أن يتسنَّى لها الوقت لتغلق أفواهها يكون التيار قد سحبه إلى داخلها. يوم غد هو السبت؛ لذا يمكنك أن تراه وهو يعمل. لكنني لا أظن أن أي شيء، ولا حتى اختراع بات الشرير، سيستدرج تلك السمكة الكبيرة، التي تزن ستة أرطال والموجودة في بركة كادي، للصعود إلى السطح إن ظل الماء في البركة على ما هو عليه الآن.»

وكانت لورا محقَّة بالطبع. إذ كان صباح يوم السبت مشرقًا وغير ممطر، وكانت السمكة الكبيرة التي تزن ستة أرطال فزعةً كثيرًا في بركة كادي جراء سَجنِها فيها، ومهووسة كثيرًا برغبتها في المضي في عكس مجرى النهر، فلم تكن تُبدي اهتمامًا بمصادر التشتيت على السطح. لذا اقتُرح أن يصطاد جرانت سمك السلمون المرقَّط في البحيرة، وأن يكون بات مرافقًا له. كانت البحيرة على بُعد ميلَين في التلال، وكانت عبارة عن مسطحٍ مائي منبسِط على رقعةِ أرضٍ سبخةٍ جرداء. حين يكون الجو عاصفًا في بحيرة لوخان دهو، كانت الريح تُخرِج خيط صنَّارتك من الماء بزوايا قائمة وتُبقيه مشدودًا كأنه سلك هاتف. وحين يكون الجو هادئًا وخاليًا من الرياح يجعل البعوض منك وليمة بينما تصعد أسماك السلمون المرقَّط إلى السطح وتضحك ملء فيها. لكن إن لم يكن صيد السلمون المرقَّط فكرة جرانت عن الانهماك المثالي، فقد كان من الواضح أن مرافقة بات لجرانت كانت فكرة الأول عن الفردوس. لم يكن يوجد شيء ليس بمقدور بات فِعله، من امتطاء الثور الأسود في دالمور إلى طلب حلويات بقيمة ثلاثة بنسات من السيدة مير في مكتب البريد بالاستعانة بنصف بنس والكثير من التهديد والوعيد. لكن متعة العبث في الأرجاء في قارب كانت لا تزال شيئًا لا يستطيع أن يُتيحه لنفسه. إذ كان القارب عند البحيرة مقفلًا بقُفل.

لذا انطلق جرانت على الدرب الرملي عبر نباتات الخلنج الجافة، وبات بجواره ومتأخر عنه بخطوةٍ واحدة وكأنه كلب صيد يتصرَّف على أفضل نحو. وأثناء مسيره كان جرانت واعيًا بممانعته هو نفسه، وأخذ يتساءل بشأنها.

ما السبب الذي يمكن أن يستدعيَ وجود أي قيد أو شرط في سروره هذا الصباح، في فرحه بالذهاب لصيد السمك؟ ربما لا تمثِّل أسماك السلمون البنية المرقطة فِكرته عن المنافسة الرياضية، لكنه كان مسرورًا جدًّا بأنه سيُمضي يومه ممسِكًا بصنارة في يده حتى ولو لم يتمكن من اصطياد أي شيء. كان مسرورًا كثيرًا لوجوده في العراء، مفعَمًا بالحياة وخاليَ البال، والحيوية المألوفة للتربة الخثية تحت قدمَيه، والتلال أمامه. لماذا يوجد في خبايا عقله هذا القدر اليسير من النفور؟ لماذا أراد أن يتسكَّع حول المزرعة، بدلًا من أن يأخذ قاربًا ويخرج به في بحيرة لوخان دهو طوال اليوم؟

كانا قد سارا مسافةَ ميل قبل أن يُخرِج السبب من غلاف عقله الباطن. لقد كان يرغب في البقاء في منزل بلدة كلون اليوم ليتمكن من الاطلاع على الصحيفة اليومية حين تصل.

كان يرغب في أن يحصل على معلومات عن راكب المقصورة «بي ٧».

كان عقله الواعي قد أسقط راكب المقصورة «بي ٧» من ذاكرته، مع معاناته في الرحلة وذكرى إذلاله. لم يتذكَّره على نحوٍ واعٍ منذ اللحظة التي ارتمى فيها على السرير عند وصوله حتى الآن؛ أي بعد ما يقرب من أربع وعشرين ساعة. لكن راكب المقصورة «بي ٧» كان لا يزال مصاحبًا له، على ما يبدو.

سأل بات، الذي كان لا يزال صامتًا ويتصرَّف على أفضل نحو لديه ومتأخرًا عنه بخطوةٍ واحدة: «متى تصل الصحيفة اليومية إلى كلون في هذه الأيام؟»

فردَّ بات: «إن كان جوني هو من يُحضرها فتصل في الساعة الثانية عشرة، لكن إن كان كيني فغالبًا ما تصل قرب الواحدة.» ثم أضاف بات وكأنه مسرور لإدراج الحديث في نمط تلك الرحلة: «يتوقف كيني ليتناول كأسًا من الشراب في دالمور، شرقي الطريق. إنه يذهب إلى حانة ماكفادينز كريستي.»

قال جرانت لنفسه إن العالم الذي تنتظر فيه أخبار أحداث الأمة كيني حتى يتناول كأسًا من الشراب في حانة ماكفادينز كريستي هو عالم بهيج جدًّا. لا بد أن هذا العالم كاد أن يضاهي الفردوس فيما قبل ظهور الراديو.

«التي تحرس الطريق إلى الفردوس.»
الرمال المغنية.
الوحوش المتكلمة،
والأنهار الراكدة،
والأحجار السائرة،
والرمال المغنية …

ما الذي كانت تعنيه هذه الكلمات؟ أكانت مجرد بلدة من المخيلة؟

هنا في العراء، في هذه الأرض البدائية، كان لهذا الكلام ملاءمة تُقلل بطريقةٍ ما من غرابته. كان من الممكن أن يصدِّق هذا الصباح أنه توجد أماكن على الأرض يمكن للأحجار فيها أن تسير. ألا توجد أماكن؛ أماكن معروفة، حتى في منطقة المرتفعات الاسكتلندية يمكن لرجلٍ وحيد وسط ضوء الشمس الساطع أن يستولي عليه الشعور بإدراك وجود مراقبين له غير مرئيين، فيملؤه خوفٌ شديد ويُهرَع هاربًا من المكان وقد اعتراه الذعر؟ أجل، ومن دون أي مقابلاتٍ سابقة بأطباء نفسيين في ويمبول ستريت، أيضًا. في الأماكن «العتيقة» كان كل شيء ممكنًا. حتى الوحوش المتكلمة.

من أين تَحصَّل راكب المقصورة «بي ٧» على فكرته عن الغرابة؟

أطلقا القارب الخفيف من مدرجه الخشبي، وجدَّف جرانت نحو البحيرة، وقصد الطرف الذي تهب منه الريح. كان الجو مشمسًا للغاية، لكن كان ثَمة نفحة هواء تكاد ترقى إلى نسيمٍ قوي بما يكفي لأن يصنع تموُّجًا على صفحة الماء. راقب بات وهو يُجمِّع صنارته ويربط طُعمًا في الخيط، وقال في نفسه إنه إن لم يتمكن من أن ينال سعادة أن يكون له ابن من صُلبه فابنُ قريبته الصغير أحمر الشعر كان بديلًا جيدًا جدًّا.

سأله بات وهو منشغل بالطُّعم: «هل سبق أن قدَّمتَ باقة أزهار هدية، يا ألان؟» نطق كلمة باقة «باكة».

أجاب جرانت بحذر: «لا أتذكر أنني فعلت.» وسأل: «لماذا؟»

«يريدون مني أن أقدِّم واحدة إلى فيكونتيسة ستأتي لافتتاح قاعة دالمور.»

«قاعة؟»

قال بات بمرارة: «تلك السقيفة عند مفترق الطرق.» ثم صمت للحظة، كان من الواضح أنه يفكِّر أثناءها في الأمر. وأضاف: «إن تقديم باقة من الأزهار لهو فعلٌ متخنثٌ فظيع.»

راح جرانت، ملزمًا بواجبه نحو لورا الغائبة، يفكِّر ويفتِّش في عقله. ثم قال: «إنه شرفٌ عظيم.»

«إذَن فليجعلوا «الطفلة» تحظى بهذا الشرف.»

«إنها لا تزال صغيرةً على مثل هذه المسئولية.»

«حسنًا، إن كانت لا تزال صغيرة جدًّا على هذه المسئولية فأنا أكبر بكثير من مثل تلك الأفعال الصبيانية. لذا سيَتعين عليهم أن يجدوا عائلةً أخرى لتفعل ذلك. هذا كله أمرٌ لا طائل من ورائه على أي حال. فالقاعة مفتوحة منذ أشهُر.»

لم يجد جرانت إجابة على هذا الشعور بالازدراء المتَّسِم بخيبة الأمل تجاه تصنُّع البالغين.

راحا يصطادان وظهراهما متقابلان، في وئامٍ ذكوري جميل؛ فكان جرانت يُلقي بخيطه في عدم اكتراث وتكاسل، وبات يُلقي بخيطه في تفاؤلٍ دائم لا مثيل له. وبحلول الظهر كانا قد انجرفا عائدَين إلى موضعٍ عمودي على الرصيف الصغير، فاستدارا متجهَين نحو الشاطئ ليُعدَّا الشاي على الموقد الصغير في الكوخ المتواضع. وبينما كان جرانت يجدِّف بالقارب مسافة الياردات القليلة المتبقية لاحظ أن عينَي بات كانتا مثبتتَين على شيءٍ ما على الشاطئ، فاستدار ليرى ما تسبب في هذا النفور الملحوظ. وبعد أن نظر إلى الشخص الذي كان يتقدم نحوهما بجسدٍ مرتعش وعظَمةٍ غير متناسبة مع مظهره، سأل بات عمَّن يكون.

فقال بات: «إنه وِي آرتشي.»

كان وِي آرتشي يستخدم عصا رعاة معقوفة، ما كان أحد من الرعاة ليحملها ولو على جثته — كما علَّق تومي فيما بعد — وكان يلبس إزارًا لم يكن أحد من قاطني منطقة المرتفعات الاسكتلندية ليحلم أن يلبسه. كانت العصا تعلو بنحو قدمَين فوق رأسه، ويتدلى الإزار من فوق ردفَيه الرفيعين بشدة وكأنه تنورةٌ نسائيةٌ داخليةٌ متسخة. لكن كان من الواضح أن من يرتديه لم يكن يحس بوجود أي نقص. وكان قماش الطرطان الصوفي المربع المصنوع منه إزاره البائس الصغير صاخب كأنه طاووس؛ إذ كانت ألوانه تبدو غريبة ودخيلة على ألوان الأرض السبخة. أما رأسه الصغير القاتم الذي كان يشبه رأس الأنقليس، فكانت تتوِّجه قبعةٌ اسكتلنديةٌ مستديرةٌ ذات لونٍ أزرقَ باهت، وبها عَصبة عليها رسومات على شكل مكعبات، والقبعة تتدلى على جانبَي رأسه بميلٍ كبير بحيث غطَّى الجزء المتدلي منها أُذنَه اليُمنى. وعلى الجانب العلوي برزت نبتةٌ كبيرة من مقدمة العصبة. أما الجوربان اللذان كان يلبسهما في ساقَيه اللتين كانتا تشبهان دبابيس الشعر فكانا بلونٍ أزرقَ لامع، وكان نسيجهما زغبيًّا جدًّا لدرجة أنهما كانا يوحيان بنموٍّ غير ملائم. وحول كاحلَيه النحيلَين كانت سيور حذاء البروج الجلدية المتقاطعة مشدودةً بقوة لم تتمكن حتى شخصية مالفوليو (في مسرحية شكسبير «الليلة الثانية عشرة») من أن تحققها.

سأل جرانت مندهشًا: «ماذا يفعل في هذه الأنحاء؟»

«إنه يعيش في النزُل في مويمور.»

«أوه. ما مهنته؟»

«إنه ثوري.»

«حقًّا؟ أتلك هي نفس فكرتك عن الثورة؟»

قال بات في ازدراءٍ كبير: «لا!» وتابع: «أوه، أنا لا أقول إنه لم يضع الفكرة في رأسي. لكن لا أحد يعير أمثاله أي اهتمام. إنه يكتب القصائد.»

«أفهم من هذا أنه وُلِد مرةً واحدة.»

«هذا! إنه لم يولد أصلًا. إنه … إنه … إنه بيضة.»

خلَص جرانت إلى أن الكلمة التي كان يريد بات قولها هي الأميبا، لكن معرفته لم تصل إلى ذلك الحد. إن أدنى أشكال الحياة التي كان يعرفها كان يتمثل في البيضة.

أتى «البيضة» يمشي بابتهاجٍ نحوهما على طول الشاطئ الصخري، وذيل تنُّورته يتأرجح بتبجح لم يكن ملائمًا لمشيته المترنحة على الصخور. واقتنع جرانت فجأةً أنه كان يعاني من كالُّوهات في قدمَيه. كالوهات في قدمين ورديتَين نحيلتَين تتعرَّقان بسهولة. ذلك النوع من الأقدام الذي يكتب الناس إلى الأعمدة الطبية بشأنه في الصحف. (اغسل قدمَيك جيدًا كل مساء وجفِّفهما جيدًا، لا سيما بين الأصابع. وانثر عليهما مسحوق التلك نثرًا جيدًا، وارتدِ جواربَ جديدةً كل صباح.)

صاح الرجل، باللغة الاسكتلندية الغيلية، حين صار على مقربة منهم: «كيف حالكما؟»

تساءل جرانت، هل كل الأشخاص الغريبي الأطوار تكون أصواتهم نحيفة وخافتة أم إن تلك مجرد صدفة؟ أم إن الأصوات النحيفة الخافتة من سمات أولئك الفاشلين والمحبطين، والفشل والإحباط يولِّدان الرغبة في التخلي عن القطيع؟

لم يكن قد سمع تلك العبارة الغيلية منذ كان طفلًا، وأدَّى التكلف فيها إلى فتور ترحيبه. فأشار إلى الرجل محييًا أنْ صباح الخير.

قال وهو يتقدَّم نحوهما: «كان يجب على باتريك أن يخبرك أن اليوم مشمس جدًّا بحيث لا يناسب الصيد.» لم يعرف جرانت أيهما أثار سخطه أكثر؛ طريقة جلاسكو المنفرة في الكلام أم الرعاية غير المبررة.

توارى النمش على بشرة بات الفاتحة عندما تورَّدت. وحارت الكلمات على شفتَيه.

فقال جرانت بسلاسة: «أظنُّ أنه لم يُرد أن يحرمني من متعتي»؛ وراقب التورد يتراجع وتظهر ببطءٍ أمارات تقدير وإعجاب. لقد اكتشف بات أنه توجد طرق للتعامل مع الحمقى أكثر فاعلية من الهجوم الصريح عليهم. كانت فكرةً جديدة إلى حدٍّ ما، وكان يجرب طعمها وهو يقلِّبها على لسانه.

فقال وِي آرتشي بابتهاج: «أظن أنكما أتيتما إلى الشاطئ لتشربا شاي الضحى.» واستطرد: «سيَسرُّني أن أنضمَّ إليكما إن لم يكن لديكما اعتراض.»

وهكذا أعدَّا الشاي من أجل وي آرتشي الكالح الوجه المهذَّب. وأخرج هو شطائره، وبينما كانوا يتناولون الطعام راح يُلقي على مسامعهما محاضرةً عن مجد اسكتلندا؛ بماضيها العريق العظيم ومستقبلها الباهر. لم يكن قد سأل عن اسم جرانت وانخدع بحديثه فظنَّه إنجليزيًّا. استمع جرانت مندهشًا إلى الحديث عن ظلم إنجلترا لاسكتلندا الأسيرة التي لا حول لها ولا قوة. (سيكون من الصعب تخيل أي شيء أقل عبودية أو عجزًا من اسكتلندا التي كان يعرفها.) بدا أن إنجلترا مصاصة للدماء، تستنزف دم اسكتلندا الطيب وتتركها ضعيفة وشاحبة. لقد كانت اسكتلندا تتألم تحت نير الاحتلال الأجنبي، وتترنَّح خلف عربة المحتل، وتدفع الجزية للطاغية، وتُسخِّر مواهبها تلبيةً لاحتياجاته. لكنها كانت على وشك التخلص من نير العبودية وفكِّ أغلالها؛ كان الصليب الناري على وشك أن يُبعَث من جديد، وقريبًا ستُضرَم النيران في نباتات الخلنج. لم يبخل عليهما وي آرتشي بأي عباراتٍ مبتذلة.

راح جرانت يراقب الرجل باهتمام يُوليه المرء لعملٍ فنيٍّ جديد ضمن مجموعة من الأعمال. وقرَّر أن الرجل كان أكبر سنًّا مما كان يظن. كان في الخامسة والأربعين من عمره على الأقل، وربما كان يقارب الخمسين. لقد كان أكبر من أن يمكن علاجه. لقد فاتته فرصة تحقيق النجاح الذي كان يرغب فيه أيًّا كان، ولن يتبقى له أي شيء على الإطلاق سوى ملابسه الفاخرة المثيرة للشفقة وعباراته المبتذلة.

نظر أمامه ليرى أي أثر خلَّفه هذا الانحراف في الروح الوطنية على الفتى الاسكتلندي الصغير، وقد ابتهج لما رآه. كان الفتى الاسكتلندي الصغير يجلس مواجهًا للبحيرة، وكأن مجرد النظر إلى وي آرتشي كان فوق طاقته. كان يمضغ طعامه في انعزالٍ عنيد، وذكَّرت عيناه جرانت بفلاري نوكس: «عينان تشبهان جدارًا صخريًّا يعلوه زجاجٌ مكسور». سيحتاج الثوريون إلى أسلحةٍ أقوى من آرتشي ليخلِّفوا أي انطباع لدى مواطنيهم.

تساءل جرانت عما يوفر لقمة العيش لهذا المخلوق. «القصائد» لا توفِّر لقمة العيش. ولا العمل صحفيًّا مستقلًّا؛ أو بالأحرى، نوعية الصحافة التي كان آرتشي يرغب في كتابتها. ربما كان يقتات من «النقد». فقد كان النُّقاد الصغار يُستقدَمون من صفوف غير الأكْفاء. بالطبع كان ثَمة احتمالٌ قائم دائمًا، وهو أنه كان يتلقى دعمًا؛ إن لم يكن من مُواطِنٍ ساخطٍ متعطش للسلطة، فمن وكالةٍ أجنبية لها مصلحة في تأجيج المشكلات. كان آرتشي من نوعيةٍ مألوفة جدًّا لدى رجال فرع الأمن القومي؛ شخصٌ فاشل، سئم من الغرور الفاسد.

كان جرانت لا يزال يتوق إلى صحيفة الظهيرة التي كان على جوني أو كيني أن يوصلها إلى بلدة كلون، ففكَّر في أن يقترح على بات أن يكتفيا بهذا القدر ويتوقفا عن اجتذاب الأسماك التي لم يكن لديها أي نية في تلقُّف الطُّعم. لكن لو انصرفا الآن فسيَتحتم عليهما أن يعودا سيرًا بصحبة وي آرتشي، وكان ذلك شيئًا يبغيان تجنُّبه. لذا استعدَّ جرانت للعودة إلى تجديفه الخامل في مياه البحيرة.

لكن بدا أن آرتشي كان متلهفًا للانضمام إلى فريق الصيد. فقال إنه إن كانت توجد مساحة لراكبٍ ثالث في القارب فسيَسرُّه أن يكون بصحبتهما.

حارت الكلمات مرةً أخرى على شفتَي بات.

وقال جرانت: «أجل، تعالَ معنا. يمكنك أن تساعدنا في العمل المضني.»

فقال منقذ اسكتلندا وقد امتُقع وجهه: «عملٌ مُضنٍ؟»

«أجل. فعروق القارب ليست جيدة جدًّا. إنه يُسرب الكثير من الماء.»

بعد إعادة النظر رأى آرتشي أن الوقت ربما يكون قد حان لأن يتابع المضي في طريقه (لم يذهب آرتشي إلى أي مكان قط، بل كان دائمًا يتابع المضي في طريقه) صوب مويمور. سيكون البريد قد وصل، وسيَتحتم عليه أن يتعامل مع الرسائل المرسَلة إليه. بعد ذلك، وحتى لا يخطر على بالهما أنه كان غير معتاد على ركوب القوارب، أخبرهما بمدى براعته في الإبحار بالقوارب. فبفضل مهارته هو فقط في أحد القوارب تمكن هو وأربعةٌ آخرون من بلوغ أحد شواطئ الجزر الغربية الاسكتلندية أحياءً الصيف الماضي. حكى الحكاية بحماسةٍ متزايدة أثارت شكًّا جذريًّا في أنه كان يختلقها وهو ماضٍ في سردها، وبعد أن انتهى غيَّر الموضوع بسرعة، وكأنما يخشى من تلقي أسئلة، وسأل جرانت إن كان يعرف الجزُر الغربية.

قال جرانت، وهو يغلق السقيفة الصغيرة ويضع المفتاح في جيبه، إنه لا يعرفها. وهنا أعفاه آرتشي، في سماحةٍ وَجُود منه، من الحديث وأخبره عنها. أساطيل الرنجة في جزيرة لويس، ومنحدرات جزيرة مينجولاي، وأغاني جزيرة بارا، وتلال جزيرة هاريس، والأزهار البرية بجزيرة بنبيكولا، والرمال، الرمال البيضاء الرائعة التي لا نهاية لها، في جزيرة بيرنيراي.

قال جرانت واضعًا حدًّا للتفاخر: «أظن أن الرمال لا تُغنِّي.» ثم دلف إلى القارب ودفعه مبتعدًا.

قال وي آرتشي: «لا، لا. إنها موجودة في كلادا.»

فسأله جرانت مذهولًا: «ماذا تقصد؟»

«الرمال المغنية. حسنًا، أتمنى لكما صيدًا وفيرًا، لكنه ليس يومًا مناسبًا للصيد، كما تعلمان. فالضوء ساطع للغاية.»

وبهذه العبارات الرقيقة عاود وي آرتشي رفع عصا الراعي، وراح يتهادى مبتعدًا بمحاذاة الشاطئ نحو مويمور ورسائله. وقف جرانت بلا حراك في القارب، يراقبه وهو يبتعد. وحين كاد يتجاوز مدى السمع ناداه فجأةً قائلًا:

«هل توجد أي أحجار تسير في كلادا؟»

فقال آرتشي بصوته الرفيع القاصر: «ماذا؟»

«هل توجد «أي أحجار تسير في كلادا»؟»

«لا. إنها في لويس.»

وانطلق المخلوق الشبيه باليعسوب بصوته الشبيه بصوت البعوض مبتعدًا في الأفق البُني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤