الفصل الرابع

إن كان جرانت قد تخيَّل أن رئيسه في العمل سيكون مسرورًا، سواء بإمكانية تعافيه المبكر أو بدقته في أمر الصحيفة، فقد كان مخطئًا. كان برايس لا يزال غريمًا له أكثر من كونه زميلًا. واحتوى ردُّه على الكثير من التوجيهات التي كانت مطابقة لشخصيته. وبعدما قرأ الرد، فكَّر جرانت أن برايس هو الوحيد الذي يمكن أن يجمع بين الأمر ونقيضه بنجاحٍ كبير. ففي الفقرة الأولى وبَّخ جرانت على سلوكه غير المهني بأخذ أي شيء كان موجودًا في محيط حالة وفاة مفاجئة وغير مبرَّرة. وفي الفقرة الثانية فوجئ بأن جرانت فكَّر في إزعاج إدارة كثيرة المشاغل بأمرٍ تافه كأمر الصحيفة المختلَسة، لكنه افترض أن انفصال جرانت عن بيئة العمل ساهم بلا شك في افتقاره إلى الحكم الصحيح. ولم تكن توجد فقرةٌ ثالثة.

ما استنتجه جرانت من هذه الورقة المكتبية النحيلة المألوفة كان انطباعًا قويًّا بأنه لم يُقدَّر حق قدره، وإنما اعتُبر دخيلًا. كان ما قاله الخطاب حقًّا هو: «لا يمكنني أن أتخيَّل لمَ تُزعجنا يا ألان جرانت سواء بأمر إبلاغك عن صحتك أو بأمر اهتمامك بعملنا. نحن لسنا مهتمين بالأمر الأول، والأمر الثاني ليس من شأنك.» كان جرانت دخيلًا. كان منشقًّا.

والآن فقط، بعد أن قرأ الخطاب الزاجر وبعد أن أُغلق الباب بكل عنف في وجهه، أدرك أن وراء حاجته الواعية لتصويب الأمور مع إدارة الشرطة بشأن الصحيفة المختلسة رغبةً في التشبث براكب المقصورة «بي ٧». إذ كان خطابه وسيلة للحصول على المعلومات بقدر ما كان اعتذارًا من جانبه. لم يعد يوجد أمل في الحصول على معلومات من الصحافة. لم يكن راكب المقصورة «بي ٧» يمثِّل خبرًا جديرًا بالاهتمام. كل يوم يموت الناس في القطارات. ولا يوجد ما يثير اهتمام الناس في ذلك. وفيما يخص الصحافة كان راكب المقصورة «بي ٧» قد مات مرتين، مرةً في الحقيقة ومرةً باعتباره خبرًا جديرًا بالاهتمام. لكنه أراد أن يعرف المزيد عن راكب المقصورة «بي ٧»، وكان يتمنى من دون إدراك منه أن يحدِّثه زملاؤه في العمل عن الموضوع.

وفكَّر جرانت، بينما كان يمزِّق الورقة ويلقيها في سلة المهملات، أنه ربما كان يعرف برايس على نحوٍ أفضل. لكن، كان يوجد دائمًا الرقيب ويليامز، وحمدًا للرب على ذلك؛ ويليامز المخلص. سيتساءل ويليامز عن السبب وراء اهتمام شخص في مثل رتبته وخبرته بجثةٍ مجهولة رآها مرةً واحدة للحظات، لكنه كان على الأرجح سيرجع سبب ذلك إلى السأم. على أي حال لن يكون ويليامز بخيلًا في تبادل الحديث. لذا فقد كتب إلى ويليامز. طلب من ويليامز أن يكتشف نتيجة التحقيق بشأن شاب، هو شارل مارتن، توفي ليلة الخميس قبل أسبوع على متن القطار الليلي المتجه إلى منطقة المرتفعات الاسكتلندية؛ وأي شيءٍ آخر عن ذلك الشاب يمكن أن يكون قد ظهر أثناء سير التحقيق. وقدَّم في النهاية أطيب التحيات إلى زوجته السيدة ويليامز وأنجيلا وليونارد.

ولمدة يومَين استرخى جرانت في نوع من السعادة المتَّسِمة بالتلهُّف انتظارًا لرد ويليامز. تفقَّد نهر تورلي غير الصالح للصيد، بركةً تلو بركة، وجَلفَط القارب الموجود في بحيرة لوخان دهو بمادة عازلة للماء، وعبر التل سيرًا بصحبة جراهام الراعي وتونج وزانج في أعقابهما تقريبًا، واستمع إلى خطة تومي لإقامة ملعب جولف خاص ذي تسع حفر بين المنزل وسفح التل. وفي اليوم الثالث عاد أدراجه وقت وصول البريد تحدوه لهفة لم يعرفها منذ كان في التاسعة عشرة من عمره، وكان معتادًا على إرسال قصائده للمجلات.

ولم يكن عدم تصديقه المشدوه، حين لم يجد أي بريد له، أقل حدةً مما كان في سنوات الفتوة تلك.

ذكَّر نفسه بأنه يتصرف بطريقةٍ غير عقلانية. (الخطيئة التي لا تُغتفر، دائمًا، في تقدير جرانت.) لم يكن التحقيق ذا صلة بالإدارة. ولم يكن حتى يعرف أي شعبة تولَّت المهمة. سيتحتَّم على ويليامز أن يكتشف ذلك. وقد كان لويليامز عمله؛ عمل يومي مدته أربع وعشرون ساعة. لم يكن عقلانيًّا أن يُتوقع منه أن يتخلى عن كل شيء من أجل أن يجيب عن تساؤلاتٍ عبثية لزميلٍ يقضي إجازته.

انتظر يومَين آخرَين، ثم جاءت الرسالة.

كتب ويليامز أنه يأمل أن جرانت لم يكن متلهِّفًا على العمل. كان من المفترض أنه في راحة، وكل من في القسم كانوا يأملون أنه يحصل على راحة فعلًا (ليس الجميع! كذلك فكَّر جرانت، متذكِّرًا برايس) ويشعر بتحسن. كانوا يفتقدونه بشدة. أما عن شارل مارتن، فلم يكن يوجد أي غموض بشأنه. أو بشأن وفاته، إن كان ذلك هو ما كان جرانت يفكِّر فيه. لقد ارتطم مؤخر رأسه بحافة حوض غسيل اليد المصنوع من البورسلين، ومع أنه استطاع أن يزحف في الأرجاء قليلًا على يدَيه وركبتَيه وتمكن في النهاية من الوصول إلى السرير، فإنه توفي جرَّاء نزيفٍ داخلي بعد فترةٍ وجيزة جدًّا من سقوطه. وحقيقة أنه سقط للخلف من الأساس كانت ترجع إلى كمية الويسكي الصافي التي شربها. لم تكن تلك الكمية كافية لأن تجعله في حالة سكر، لكنها كانت كافية لأن تجعله مشوش الذهن، وقد تكفَّل ميل العربة، وهي تغير اتجاهها، ببقية الأمر. وكذلك لم يكن يوجد أي غموض بشأن الشاب نفسه. فقد كان بحوزته حزمة الأوراق المعتادة التي تشير إلى هويته الفرنسية، وأهله لا يزالون يعيشون في عنوان منزله بالقرب من مارسيليا. لم يكن أهله قد رأوه منذ سنوات — إذ كان قد غادر المنزل بعد أن وقع في مشكلة بسبب طعنه لفتاته في نوبة غضب ناجمة عن الشعور بالغيرة — لكنهم أرسلوا المال لدفنه حتى لا يُدفن في مقابر الفقراء.

أثارت هذه الرسالة شهية جرانت لمعرفة المزيد بدلًا من أن تُشبِعه.

وبحسب تقدير جرانت، فقد انتظر حتى استقرَّ ويليامز برحابة صدر إلى غليونه وصحيفته، بينما كانت السيدة ويليامز تُصلِح الثياب وأنجيلا وليونارد يؤديان واجباتهما المنزلية، ثم اتصل به هاتفيًّا. كان يوجد دائمًا احتمال أن ويليامز كان في الخارج يطارد الأشرار عبر الطرق الملتوية لمساكنهم، لكن كان ثَمة احتمال أيضًا أنه كان في البيت.

وقد كان في البيت.

وحين شكره جرانت، على النحو الواجب، على رسالته، قال: «قلتَ إن أهله أرسلوا أموالًا لدفنه. ألم يأتِ أي أحد للتعرف عليه؟»

«نعم؛ لقد تعرَّفوا على صورته الفوتوغرافية.»

«صورةٌ فوتوغرافية له عندما كان حيًّا؟»

«لا، لا. صورةٌ فوتوغرافية للجثة.»

«ألم يظهر أي أحد للتعرف عليه في لندن؟»

«ولا أحد، على ما يبدو.»

«هذا غريب.»

«ليس غريبًا جدًّا إن كان شابًّا مخادعًا. فالمخادعون لا يريدون المشكلات.»

«هل كانت توجد أي إشارة تفيد أنه كان مخادعًا؟»

«لا، لا أظن ذلك.»

«ماذا كان عمله؟»

«ميكانيكيًّا.»

«هل كان معه جواز سفر؟»

«لا. الأوراق المعتادة فحسب. وخطابات.»

«أوه، كان معه خطابات؟»

«أجل؛ الخطابان أو الثلاثة خطابات المعتادة التي يحملها الناس. كان أحدها من فتاة تقول إنها ستنتظره. هكذا ستنتظره لبعض الوقت.»

«أكانت الخطابات بالفرنسية؟»

«أجل.»

«أي أموال كان يحملها؟»

فأجاب: «انتظرْ حتى أجد ملاحظاتي. حسنًا. اثنان وعشرون، عشرة على هيئة أوراقٍ نقديةٍ مختلطة؛ وثمانية عشرة وبنسان ونصف بنس من الفضة والنُّحاس.»

«كلها إنجليزية؟»

«أجل.»

«بناءً على عدم وجود جواز سفر والنقود الإنجليزية يبدو أنه كان في إنجلترا لفترةٍ طويلة. أتساءل لماذا لم يأتِ أحد ليأخذ جثته.»

«ربما لم يعرفوا بعدُ أنه مات. لم ينَل الأمر الكثير من الضجة الإعلامية.»

«ألم يكن له أي عنوان في بريطانيا؟»

«لم يكن يحمل عنوانًا. ولم تكن الخطابات في مظاريف: فقط كانت في محفظته فحسب. على الأرجح أن أصدقاءه سيظهرون فيما بعدُ.»

«أيعرف أي أحد إلى أين كانت وجهته؟ أو لماذا؟»

«لا، لا يبدو ذلك.»

«ما الأمتعة التي كان يحملها؟»

«حقيبة رحلات. قميص، وجورب، ومنامة وخُفٌّ لغرفة النوم. ولا توجد أدلة على غسلها.»

«ماذا؟ لماذا؟ هل كانت ثيابه جديدة؟»

«لا، أوه، لا.» بدا ويليامز مستمتعًا بشك جرانت المفرط. وأردف: «بل ارتداها كثيرًا.»

«هل اسم صانع الخف مدوَّن عليه؟»

«لا، إنه خفٌّ جلديٌّ سميك مصنوع يدويًّا كالذي تجده في أسواق شمال أفريقيا ومواني البحر المتوسط.»

«ماذا غير ذلك؟»

«في الحقيبة؟ العهد الجديد باللغة الفرنسية، وروايةٌ ذات غلافٍ ورقي أصفر، وهي باللغة الفرنسية أيضًا. وكلاهما ليس جديدًا.»

قال موظف مكتب البريد: «لقد انتهت دقائقك الثلاث.»

حظي جرانت بثلاث دقائقَ أخرى، لكنه لم يحقِّق أي تقدم نحو الوقوف على توضيح بشأن راكب المقصورة «بي ٧». وفيما عدا حقيقة أنه لم يكن له أيُّ سجلٍّ جنائي لا في فرنسا (حيث كانت واقعة الطعن مجرد حادثة عنفٍ منزلي) ولا في بريطانيا، لم يكن معروفًا عنه أي شيء. كان نمطيًّا بالفعل أن الأمر الإيجابي الوحيد حياله لا بد أن يكون أمرًا قائمًا على النفي.

قال ويليامز: «بالمناسبة، حين كنتُ أكتب نسيتُ تمامًا أن أجيبك على التذييل الذي أوردته في خطابك.»

فسأله جرانت: «أي تذييل؟» ثم تذكَّر أنه كان قد كتب فكرةً لاحقة نصُّها ما يأتي:

«إن لم يكن لديك شيءٌ أفضل لتفعله فيمكنك أن تسأل رجال فرع الأمن القومي إن كان لديهم أي اهتمام على الإطلاق برجل يُدعى أرشيبالد براون. إنه وطنيٌّ اسكتلندي. اسأل عن تيد هانا وأخبره أنني من يسأل.»

«أوه، أجل، بالطبع. بشأن ذلك الوطني. هل كان لديك وقت لتفعل أي شيء حيال الأمر؟ لم يكن بالأمر المهم.»

«في الواقع، بالصدفة، قابلت المرجع الذي أشرتَ إليه على متن حافلةٍ متجهة إلى وايت هول، يوم أول أمس. يقول إنه ليس لديه شيء ضد عصفورك، لكنهم يرغبون كثيرًا في معرفة هوية الغربان. هل تعرف عمَّ كان يتحدث؟»

قال جرانت مندهشًا: «أظنني أعرف. سأبذل قصارى جهدي لأكتشف حقيقتهم. أخبره أنني سأفعل ذلك كجزء من واجبي أثناء الإجازة.»

«رجاءً، اصرف ذهنك عن العمل، وتعافَ بما يكفي لأن تعود إلى هنا قبل أن ينهار المكان في غيابك.»

«الحذاء الذي كان يرتديه: أين صُنِع؟»

«من الذي كان يرتديه؟ أوه. أجل. في كراتشي.»

«أين؟»

«كراتشي.»

«أجل، هذا ما ظننت أنك قُلتَه. يبدو أنه كان يتجول. ولا يوجد اسم على صفحة غلاف العهد الجديد؟»

«لا أظن ذلك. لا أظن أنني دوَّنت أي ملاحظات عن ذلك حين قرأت الأدلة. انتظر لحظة. أوه، أجل، لقد فعلت. لا يوجد اسم.»

«ولا يوجد أحد في قسم «المفقودين» يشبهه؟»

«لا. لا أحد. ولا أحد حتى يقترب منه في الشبه. إنه ليس «مفقودًا» من أي مكان.»

«حسنًا، كان رائعًا منك أن تتكبد كل هذا العناء من أجلي بدلًا من أن تخبرني أن أصطاد في غديري وألا أتدخل فيما لا يعنيني. يومًا ما سأفعل لأجلك مثلما فعلتَ لأجلي.»

«هل الأسماك الموجودة في غديرك تعضُّ؟»

«لا يوجد أي غدير، والأسماك تختبئ خوفًا في أعمق تجاويف البحيرات المتبقية. ذلك هو السبب الذي يجبرني على الاهتمام بقضايا لا تستحق لمحة اهتمامٍ حقيقي في أماكنَ مزدحمة مثل المناطق الجنوبية الغربية.»

لكنه كان يعلم أن الأمر لم يكن على هذا النحو. لم يكن الملل هو ما دفعه إلى هذا الاهتمام براكب المقصورة «بي ٧». كاد أن يقول «هذا الائتلاف». كان يشعر بشعورٍ غريب من التماثل مع راكب المقصورة «بي ٧». ليس بمعنى وجود وحدة بينهما، وإنما بمعنى أن بينهما تماثلًا في الاهتمامات. وفي ضوء حقيقة أنه لم يرَه إلا مرةً واحدة ولم يكن يعرف أي شيء عنه، فإن هذا كان أمرًا غير معقول للغاية. هل كان تفسير ذلك أنه ربما كان يظن أن راكب المقصورة «بي ٧» كان هو الآخر يصارع شياطينه؟ هل بدأ الشعور بالاهتمام الشخصي، أو المناصرة، بهذا الشكل؟

كان قد افترض أن فردوس راكب المقصورة «بي ٧» هو غياهب النسيان. كان قد افترض ذلك بسبب جو المقصورة الذي كان مفعمًا برائحة الويسكي. لكن الشاب في نهاية المطاف لم يكن ثملًا للغاية. بالفعل لم يكن في حالة سكرٍ شديد. إنما كان مخمورًا قليلًا. وسقوطه للخلف وارتطامه بكتلة الحوض المستديرة الصلبة من الأمور التي يمكن أن تحدث لأي أحد. لذا فإن فردوسه المحروس بطريقةٍ غريبة جدًّا لم يكن في نهاية المطاف هو غياهب النسيان.

ثم استعاد انتباهه لما كان يقوله ويليامز.

«ما الأمر؟»

«نسيت أن أخبرك أن مضيف عربة النوم يعتقد أن مارتن تلقَّى زيارة من شخصٍ ما في يوستن.»

«ولمْ تذكر هذا إلا في النهاية؟»

«في الواقع، أظنُّ أنه لم يكن ذا نفعٍ كبير على أي حال؛ أعني ذلك المضيف. بدا أنه كان يتعامل مع الأمر برمَّته على أنه إهانةٌ شخصية له، هكذا قال الرقيب الذي كان هناك.»

بدا أن يوجورت العجوز كان يتصرَّف حسبما هو متوقع منه.

«ماذا قال؟»

«قال إنه حين كان يسير في الممر، في يوستن، كان مع مارتن شخصٌ آخر في المقصورة. رجلٌ آخر. ولم يرَ الرجل لأن مارتن كان يقف في مواجهته، وكان باب المقصورة مواربًا؛ لذا فإن كل ما لاحظه هو أن مارتن كان يتحدث مع رجلٍ آخر. كانا يبدوان سعيدَين وودودَين. وكانا يتحدثان عن سرقة فندق.»

«ماذا!»

«أترى ما أرمي إليه؟ لقد قال قاضي التحقيق «ماذا!» هو الآخر. قال مضيف عربة النوم إنهما كانا يتحدثان عن «سرقة كالي»؛ وحيث إنه ليس بمقدور أحد أن يسرق فريقًا لكرة القدم، فلا بد أنهما كانا يقصدان فندقًا. يبدو أن كل الفنادق في اسكتلندا التي لا تُسمى ويفرلي تُدعى كاليدونيان. والاسم الدارج لها هو «كالي». وقال إنهما لم يكونا جادَّين في ذلك.»

«وذلك هو كل ما رآه وعرفه عن المودِّع؟»

«أجل، ذلك كل شيء.»

«ربما لم يكن مُودِّعًا على الإطلاق. ربما كان صديقًا صادفه على القطار. أو رأى اسمه في قائمة عربات النوم، أو لاحظه أثناء مروره.»

«أجل، غير أنك ستتوقع أن يظهر هذا الصديق مرةً أخرى في الصباح.»

«ليس بالضرورة. خاصة إذا كان في نهاية القطار. كما أن رفع الجثة جرى بتكتمٍ شديد بحيث أشك أن أيًّا من الركاب علم بموت أحد على متن القطار. وكانت المحطة خالية من الركاب قبل وصول سيارة الإسعاف بوقتٍ طويل. أعرف هذا لأن جلبة وصول سيارة الإسعاف كانت تحدث حين كدت أنتهي من تناول إفطاري.»

«أجل. قال مضيف عربة النوم إنه اعتبر أن من المسلَّم به أن الرجل الآخر كان مُودِّعًا لأنه كان واقفًا مرتديًا قبعةً ومِعطفًا. ويقول إنه في معظم الأحيان حين يذهب الناس لتناول القهوة على متن القطار فإنهم يخلعون قبعاتهم. يقول إن أول شيء يفعلونه هو إلقاء قبعتهم على حمالة. أقصد حين يصلون إلى مقصوراتهم.»

«بمناسبة الحديث عن الأسماء في قائمة عربات النوم، كيف حُجزَت مقصورة النوم؟»

«بالهاتف، لكنه أخذ التذكرة بنفسه. أو على الأقل، أخذها رجلٌ نحيلٌ داكن البشرة. وحُجزَت قبل أسبوع من موعد القطار.»

«حسنًا. أكمل بشأن يوجورت.»

«بشأن من؟»

«بشأن مضيف عربة النوم.»

«أوه، حسنًا. قال إنه حين كان يسير على متن القطار يجمع التذاكر، قبل بلوغ يوستن بعشرين دقيقة، كان مارتن قد ذهب إلى المرحاض، لكن تذكرة مقصورة النوم وقسيمة الذهاب من تذكرته إلى سكون كانتا جاهزتَين على الرفِّ الصغير تحت المرآة. فأخذهما ووضع عليهما علامة في سِجله، وبينما كان يمرُّ بالمرحاض طرق على الباب وقال: «هل أنت الذي في المقصورة «بي ٧» يا سيدي؟» فردَّ مارتن بالإيجاب. فقال المضيف: «لقد أخذت تذكرتَيك، شكرًا لك يا سيدي. هل سترغب في تناول الشاي صباحًا؟» فقال مارتن: «لا، شكرًا لك، طابت ليلتك.»»

«إذَن كانت معه تذكرة عودة.»

«أجل. كانت تذكرة العودة في محفظته.»

«حسنًا، كل شيء واضح بما فيه الكفاية، على ما يبدو. فحتى عدم وجود شخص يسأل عنه أو يطالب بجثته قد يكون لأنه انطلق في رحلة ولم يتوقع الناس أن يسمعوا أخبارًا عنه.»

«وإلى جانب ذلك عدم الإعلان عن الأمر. لا أظن أن أهله حتى كلَّفوا أنفسهم عناء وضع إعلان عنه في صحيفةٍ إنجليزية؛ فقد يعلنون عن الأمر محليًّا فقط حيث كان يعرفه الناس.»

«ماذا قال تقرير تشريح ما بعد الوفاة؟»

«أوه، المعتاد. تناول وجبةً خفيفة قبل ما يقرب من ساعة من موته، وتوجد كميةٌ كبيرة من الويسكي في معدته وكميةٌ لا بأس بها في دمه. وهو ما يكفي لجعله ثملًا.»

«ألا توجد إشارة إلى أنه أسرف في الشراب؟»

«أوه، لا. لا توجد أي مشكلة من أي نوع. كانت إصابات الرأس والكتف قد وقعت له في وقتٍ أسبق، لكنه بخلاف ذلك كان يتمتع بصحةٍ جيدة. ناهيك عن كونه صلب العود.»

«إذَن فقد حدثت له إصاباتٌ أسبق؟»

«أجل، لكن قبل وقتٍ طويل. أقصد، ليست ذات صلة بهذه المسألة. في وقتٍ ما كان قد أصيب بشرخ في الجمجمة وكسر في الترقوة. هل سيكون سوء سلوك أو فضولًا من جانبي أن أسألك عن سبب كل هذا الاهتمام بحادثةٍ بسيطة؟»

«أقسم أيها الرقيب، لو كنت أعلم لأخبرتك. أظنُّ أنه لا بد أنني أصبحت أتصرَّف تصرفاتٍ صبيانية.»

قال ويليامز بتعاطف: «المرجَّح أكثر أنك تشعر بالضجر فحسب. لقد ترعرعتُ في الريف ولم أكن يومًا شخصيةً مملةً تحب الرتابة. الريف مكانٌ مبالغ في تقديره. كل شيء بعيد للغاية. حين يبدأ غديرك ذاك يفيض ستنسى أمر السيد مارتن. إنها تُمطر بغزارةٍ شديدة هنا؛ لذا من المرجَّح أنك لن تنتظر طويلًا حتى يأتي المطر.»

في واقع الأمر، لم تمطر تلك الليلة في وادي نهر تورلي، ولكن حدث شيءٌ آخر. حلَّت ريحٌ خفيفة محل السكون البارد الأبلج. كانت الريح لطيفة ودافئة، وبين هبات الريح كان الهواء رطبًا ثقيلًا، والأرض رطبة وزلقة، ومن فوق القمم المرتفعة أتت المياه المثلَّجة تملأ مجرى النهر ما بين ضفتَيه. وعلى الماء البني المتسارع في جريانه أتى السمك يومض بألوانٍ فضية تحت الضوء، بينما يتقافز فوق حواف الصخور المكسورة ومع التيار المتدفق المحدود بين الجلاميد. أخذ بات اختراعه الثمين من حقيبته التي تحتوي على طعوم الصيد (حيث كان له مقصورة خاصة به)، وقدَّمه إلى جرانت في دماثةٍ رسمية لناظر مدرسة يقدِّم شهادة. وقال: «ستعتني به، أليس كذلك؟ لقد استغرقتُ وقتًا طويلًا في صنعه.» كان الشيء، كما قالت أمه، مخيفًا. فكَّر جرانت أنه ربما كان نوعًا ما يشبه شيئًا يوضع في قبعة امرأة، لكنه كان يدرك أنه اختُصَّ من بين الرجال بأن يكون المتلقِّي الوحيد الجدير بمثل هذا الشرف، فقبل به بالامتنان الواجب. وضعه جانبًا في مأمن في حقيبته الخاصة، وكان يأمل أن بات لن يُشرِف على جهوده إلى حدٍّ جعله يستخدمه. لكن في كل مرة كان يختار طُعمًا صناعيًّا جديدًا في الأيام التالية، كان يلمح الشيء المخيف ويُثلِج صدره رضا قريبه الصغير عنه.

أمضى أيامه بجوار نهر تورلي سعيدًا ومسترخيًا فوق المياه البنية المتدفقة. كانت المياه صافية كشراب الشعير وزبَدُها أبيض رغويًّا؛ وقد ملأت أسماعه بالموسيقى وأيامه بالبهجة. وبلَّل الهواء الرطب الخفيف قماش سترته الصوفية بندًى ناعم، وسقطت قطرات الماء من أغصان البندق على مؤخرة عنقه.

وطيلة أسبوع تقريبًا لم يكن يفكِّر إلا في السمك، ولا يتحدث إلا عنه، ولا يأكل غيره.

ثم ذات مساء، أثناء جلوسه عند بركته المفضلة تحت الجسر المتأرجح، حدث ما أذهله وأخرجه من حالة الرضا عن الذات.

رأى وجه رجل في الماء.

ارتعدت فرائصه طويلًا قبل أن يدرك أن الوجه لم يكن تحت سطح الماء، إنما في عينَيه. كان الوجه الذي يراه هو ذلك الوجه الميت الشاحب ذو الحاجبَين الجامحَين.

أطلق لعنة، وأطلق طُعم جوك سكوت نحو أقصى البركة، مُصدرًا صفيرًا حادًّا. كان قد انتهى من أمر راكب المقصورة «بي ٧». كان قد اهتم براكب المقصورة «بي ٧» في ظل سوء فهمٍ تام للموقف. إذ كان قد ظن أن راكب المقصورة «بي ٧» تطارده الشياطين هو الآخر. وكان قد رسم لنفسه صورةً مغلوطة تمامًا عن راكب المقصورة «بي ٧». اختُزل فردوس ذلك السكِّير في المقصورة «بي ٧» إلى زجاجة ويسكي مقلوبة. زال عنه اهتمامه براكب المقصورة «بي ٧»؛ فهو شابٌّ عادي تمامًا، يتفجر صحةً وقوة إلى حد صلابة العود، وكان قد أفرط في شرب الكحوليات أثناء رحلةٍ ليلية، وأنهى حياته بطريقةٍ مهينة للغاية؛ حيث سقط على ظهره ثم راح يزحف على يديه وركبتيه حتى توقف عن التنفس.

قال له صوت من داخله: «لكنه كتب تلك الأبيات عن الفردوس.»

فردَّ على الصوت قائلًا: «لم يفعل. لا يوجد أدنى دليل على أنه فعل أي شيء من هذا القبيل.»

«لدينا وجهه. إنه وجهٌ غير عادي. كان الوجه الذي استسلمتَ له في البداية. قبل أن تبدأ في التفكير في فردوسه من الأساس بوقتٍ طويل.»

فقال: «لم أستسلم. في عملي يهتم المرء بالناس بصورةٍ تلقائية.»

«حقًّا؟ أتقصد أنه لو كان شاغل تلك المقصورة التي تعجُّ برائحة الويسكي بائعًا متجولًا بدينًا، ذا شاربٍ يشبه سياجًا لا يلقى العناية الكافية، ووجهٍ كحلوى بودِنج مغلية، كنت ستظل مهتمًّا به؟»

«ربما.»

«أيها الوغد الكاذب المخادع. كنتَ بطل راكب المقصورة «بي ٧» في اللحظة التي رأيت وجهه فيها ولاحظت الخشونة التي كان يوجورت يعامله بها. لقد انتزعته من قبضة يوجورت وعدَّلت سترته كأمٍّ حنون تغطي وليدها بشالها.»

«اخرس.»

«لقد أردتَ أن تعرف عنه المزيد ليس لأنك ظننت أنه كان ثَمة شيءٌ غريب بشأن وفاته، وإنما لأنك، ببساطةٍ شديدة، أردت أن تعرف عنه المزيد. كان يافعًا وميتًا، وقد كان قبلها متهورًا وعلى قيد الحياة. أردتَ أن تعرف كيف كانت حياته حين كان مُتهورًا وعلى قيد الحياة.»

«حسنًا، كنتُ أريد أن أعرف. وأريد أيضًا أن أعرف من سيَركب جواد لينكولنشاير المفضَّل، والسعر الذي وصلت إليه أسهُمي في سوق اليوم، ولوحة جون كاي التالية؛ لكن النوم لا يُجافيني بشأن أيٍّ من هذه الأمور.»

«صحيح، كما أنك لا ترى وجه جون كاي بينك وبين الماء.»

«ليس لديَّ أي نية لرؤية وجه أحد بيني وبين النهر. «لا شيء» سيَحول بيني وبين النهر. لقد أتيت إلى هنا من أجل صيد السمك، ولن يُفسد أي شيء عليَّ ذلك.»

«لقد أتى راكب المقصورة «بي ٧» إلى الشمال ليفعل شيئًا هو الآخر. ماذا كان ذلك يا تُرى؟»

«كيف لي أن أعرف؟»

«لا يمكن أن يكون هذا الشيء هو صيد السمك، على أي حال.»

«ولمَ لا؟»

«لا يمكن لشخص يقطع خمسمائة أو ستمائة ميل من أجل صيد السمك ألَّا تكون معه تجهيزات صيد من نوعٍ ما. لو كان حريصًا على ذلك بهذا القدر فعلى الأقل كان سيحمل معه طعومه المفضلة، حتى ولو كان سيستأجر صنارة.»

«أجل.»

«ربما كانت فردوسه هي «تير نان أوج» الأسطورية. كما تعلم: «تير نان أوج» الغيلية. سيكون ذلك مناسبًا.»

«كيف سيكون مناسبًا؟»

«من المفترض أن «تير نان أوج» تقع بعيدًا نحو الغرب، خلف الجزر الخارجية. أرض اليافعين. أرض الشباب الأبدي، تلك هي الفردوس الغيلية. وما الذي «يحرس الطريق» إليها؟ جزر بها رمال تغني، على ما يبدو. جزر بها صخورٌ منتصبة تشبه رجالًا يسيرون.»

«والوحوش المتكلمة؟ هل تجدها في الجزر الخارجية أيضًا؟»

«أجل.»

«أجل؟ ما هي؟»

«الفقمات.»

«أوه، اغرب عن وجهي ودعني وحدي. أنا مشغول. إنني أصطاد.»

«ربما تصطاد، لكنك لا تمسك بأي شيء على الإطلاق. وربما أيضًا يكون طُعمك عالقًا في قبعتك. والآن ستُصغي لي.»

«لن أصغي لك. فليكن، توجد رمال تغني في تلك الجزر! وتوجد أحجارٌ تسير! وتوجد فقماتٌ تتحدث! لا شأن لي بذلك. ولا أظن أن راكب المقصورة «بي ٧» كان له شأن بذلك.»

«حقًّا؟ لماذا إذَن كان متجهًا إلى الشمال؟»

«ليدفن أحد أقاربه، ليضاجع امرأة، ليتسلق صخرة! أنَّى لي أن أعرف؟ ولماذا أهتم؟»

«كان سيمكث في فندق كاليدونيان في مكانٍ ما.»

«لا أظن أنه كان سيفعل.»

«كيف تعرف المكان الذي كان سيمكث فيه؟»

«لا أعرف. ولا أحد يعرف.»

«لماذا تُمازح أحدهما مع الآخر بشأن «سرقة كالي» إن كان سيمكث في أحد فنادق ويفرلي؟»

«لو أنه كان ذاهبًا إلى كلادا — وأراهن أنه لا يوجد نُزُل في كلادا يحمل اسمًا كريهًا من أسماء البر الرئيسي كاسم كاليدونيان — لو أنه كان ذاهبًا إلى كلادا كان سيذهب عن طريق جلاسكو وأوبان.»

«ليس بالضرورة. فالرحلة من بلدة سكون قصيرة ومريحة بنفس القدر. ربما كان يمقت جلاسكو. كثيرون يمقتونها. لماذا لا تتصل بفندق كاليدونيان في سكون حين تعود إلى المنزل الليلة وتعرف ما إن كانوا يتوقعون قدوم نزيل يحمل اسم شارل مارتن هناك؟»

«لن أفعل شيئًا كهذا.»

«إن لطمت الماء بهذه الطريقة ستخيف كل سمكة في النهر.»

عاد إلى المنزل بحلول وقت العَشاء في حالةٍ مزاجيةٍ سيئة للغاية. لم يكن قد اصطاد أي شيء، وفقد سلامه الداخلي.

وفي أثناء الصمت الداعي إلى النعاس الذي عمَّ غرفة الجلوس بعد انتهاء الأعمال اليومية وخلود الطفلَين إلى فراشَيهما، انتبه إلى عينَيه وهما تنتقلان عن كتابه إلى الهاتف في الجهة المقابلة من الغرفة. كان الهاتف على مكتب تومي، يستفزه بإيحائه بوجود قوةٍ كامنة فيه، وبوعوده اللانهائية النابعة من وجوده الصامت. لم يكن عليه سوى أن يرفع تلك السماعة ويمكنه أن يحادث رجلًا على ساحل المحيط الهادي في أمريكا، أو يمكنه أن يحادث رجلًا في قفار المحيط الأطلنطي، أو يمكنه أن يحادث رجلًا يقبع في مكان على ارتفاع ميلَين فوق سطح الأرض.

يمكنه أن يحادث رجلًا في فندق كاليدونيان في بلدة سكون.

قاوم الفكرة مدة ساعة، مع شعورٍ متزايد بالانزعاج. ثم ذهبت لورا لتُحضر مشروبات النوم، وذهب تومي ليُخرج الكلاب، وبلغ جرانت الهاتف في انقضاضة كانت أشبه باعتراض خصم في لعبة الرجبي من أي طريقة متحضرة للسير نحو الجهة المقابلة من الغرفة.

كان قد رفع السماعة قبل أن يدرك أنه لم يكن يعرف الرقم. فأعاد السماعة إلى مهدها وشعر بأنه نال الخلاص. واستدار ليعود إلى كتابه لكنه أمسك بسجل الهاتف بدلًا من الكتاب. لن يشعر بأي هناء أو سلام حتى يتصل بفندق كاليدونيان في بلدة سكون؛ فتكلفة شعور المرء بالسلام زهيدة جدًّا إن كانت مقابل أن يكون سخيفًا بعض الشيء.

«سكون ١٤٦٠ … فندق كاليدونيان؟ أيمكنك أن تخبرني: هل حجز شخص يُدعى السيد شارل مارتن غرفةً لديكم في أي وقت في الأسبوعَين المنصرمَين؟ … أجل، شكرًا لك، سأنتظر … لا؟ لا أحد بهذا الاسم … أوه … شكرًا جزيلًا لك. آسف جدًّا على إزعاجك.»

فكَّر جرانت، وهو يضع السماعة من يده في عنف، أن هذه كانت نهاية الأمر. بقدر ما كان يهمه الأمر، كانت هذه بكل تأكيد نهايةَ راكب المقصورة «بي ٧».

شَرِب شراب النوم اللطيف المهدِّئ وذهب إلى الفراش، ورقد مستيقظًا يُحدِّق في السقف. ثم أطفأ الأنوار وعاد إلى علاج الأرق الخاص به، وهو أن يتظاهر أمام نفسه أن عليه أن يظل مستيقظًا. لقد استنبط هذه الطريقة منذ فترةٍ طويلة استقاءً من المبدأ البسيط القائل بأن الطبيعة البشرية تريد أن تفعل ما هي ممنوعة من فعله. وحتى الآن لم تخذله هذه الطريقة. كل ما كان عليه فعله هو أن يبدأ في التظاهر بأنه لم يكن مسموحًا له أن ينام، وسرعان ما يُطبَق جفناه. كان التظاهر يخلِّصه في خطوةٍ واحدة من العائق الأكبر أمام النوم؛ وهو الخوف من أن المرء لن ينام؛ وهكذا ترك الشاطئ خاليًا أمام أمواج المد الكاسحة.

الليلة أُطبق جفناه كالمعتاد، لكن جرسًا كان يدقُّ في أرجاء عقله مثل جرذٍ محبوس في قفص:

الوحوش المتكلمة،
والأنهار الراكدة،
والأحجار السائرة،
والرمال المغنية …

ما الأنهار الراكدة؟ هل يوجد في الجزر الغربية شيء يتوافق مع هذا؟

لم يكن المقصود أنهارًا متجمدة. كان يوجد القليل من الثلج أو البَرَد في هذه الجزر. إذَن، ماذا؟ الأنهار التي تجري حتى الرمال ثم تتوقف؟ لا. هذا خيالي. الأنهار التي تتوقف عن الجريان. الأنهار التي تتوقف عن الجريان؟

ربما كان أحد أمناء المكتبات يعرف. لا بد أنه توجد مكتبةٌ عامة لا بأس بها في بلدة سكون.

قال الصوت: «كنت أظنُّ أنك لم تعد مهتمًّا بالأمر، فماذا حدث؟»

«اذهب إلى الجحيم.»

كان ميكانيكيًّا. ماذا يعني ذلك بالفرنسية؟ «ميكانيسيان». كانت تندرج تحت ذلك احتمالاتٌ لا حصر لها.

أيًّا ما كان يفعله، فقد كان ناجحًا فيه بما يكفي لأن يتمكن من السفر في عربات الدرجة الأولى في خطوط السكك الحديدية الإنجليزية. الأمر الذي يجعل المرء عمليًّا من أصحاب الملايين في هذه الآونة. وكان قد أنفق كل ذلك المال على ما كان زيارةً سريعة للغاية، استنادًا إلى حقيبة سفره الصغيرة.

ربما كانت فتاة؟ الفتاة التي وعدت بأن تنتظره؟

لكنها كانت فرنسية.

امرأة؟ ما من إنجليزي سيقطع خمسمائة ميل من أجل امرأة، لكن الفرنسي قد يفعل. خاصةً لو كان فرنسيًّا طعن فتاته بسكين لأنها سمحت لعينها بأن تحيد عنه إلى غيره.

الوحوش المتكلمة،
والأنهار الراكدة …

أوه، يا إلهي! ليس مجددًا. جلست الآنسة مافن الصغيرة على عشبة تأكل خثارة اللبن وشرشه. هيكوري ديكوري دوك. التَقى سايمن البسيط ببائع شطائر وهو ذاهب إلى السوق، فقال سايمن البسيط لبائع الشطائر دعني أتذوق بضاعتك. امتطِ حصانًا قويًّا إلى تقاطع بانبيري … لا بد من كبح جماح مخيلتك قبل أن تستعر فيك الرغبة في كتابة شيء. إن كانت مخيلتك نشطة، فاذهب إلى المسرح حين تكون أسيرَ فكرةٍ ما. حين تصبح «فكرةً متسلِّطة». يمكن أن يبهجك تخيل جمال وزخرفة درجات معبدٍ ما فتعمل لسنوات من أجل أن تجمع المال وتحظى بوقت الفراغ الذي سيُتيح لك أن تذهب إلى هناك. وفي الحالات القصوى يصبح الأمر دافعًا قسريًّا لا يُقاوَم، فتتخلى عن كل شيء وتذهب إلى الشيء الذي استهواك مثل: جبل، أو رأسٍ حجري أخضر في أحد المتاحف، أو نهرٍ مجهول، أو قطعة من قماش شراع.

فإلى أي مدًى عصفت مخيلة راكب المقصورة «بي ٧» به؟ ما يكفي لترسله يبحث؟ أم مجرد ما يكفي لحمله على كتابتها؟

لأنه كان «قد» كتب تلك الكلمات المكتوبة بقلمٍ رصاص.

بالطبع كتبها.

كانت تلك الكلمات تخصُّ راكب المقصورة «بي ٧» بقدر ما كان حاجباه. بقدر تلك الأحرف الكبيرة المكتوبة بخطٍّ صبياني.

قال الصوت في رأسه بطريقةٍ استفزازية: «تلك الأحرف «الإنجليزية» الكبيرة؟»

«أجل، تلك الأحرف الإنجليزية.»

«لكنه كان من مارسيليا.»

«ربما تلقَّى تعليمه في إنجلترا، أليس كذلك؟»

«بعد قليل ستقول لي إنه لم يكن فرنسيًّا من الأساس.»

«بعد قليل سأفعل.»

لكن ذلك، بالطبع، كان يعني دخول عالم الخيال. لم يكن ثَمة شيءٌ غامض بشأن راكب المقصورة «بي ٧». كانت له هوية، ووطن وأهل، وفتاة تنتظره. كما كان فرنسيًّا بوضوح، وحقيقة أنه يكتب شعرًا إنجليزيًّا بخط يد إنجليزي كانت أمرًا عرضيًّا تمامًا.

قال في خبث للصوت: «ربما ذهب إلى مدرسة في كلابام»؛ وغطَّ في النوم في الحال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤