الفصل السادس

كان ورق الحائط يتألف من أزهارٍ ثقيلة للغاية تتدلى من تعريشة هزيلة للغاية، وزاد من صفة التزعزع التي اتسم بها الشيء كله أن الورق لم يكن معلَّقًا بعيدًا عن الحائط وحسب، بل كان يتحرك بفعل تيار الهواء. ولم يكن المصدر الذي كان يأتي منه تيار الهواء واضحًا تمامًا؛ لأن النافذة الصغيرة لم تكن مغلقة بإحكام وحسب، وإنما كانت مغلقة بإحكام منذ تصنيعها وتركيبها في هيكل المنزل منذ مطلع القرن. كانت المرآة المتأرجحة الصغيرة الموضوعة على خِزانة الأدراج تؤدي عملها على أكمل وجه فيما يتعلَّق بالتأرجح وليس فيما يتعلَّق بوظيفتها كمرآة. كان يمكن للمرآة أن تتأرجح في سلاسةٍ تصل إلى حد الدوران بزاوية ثلاثمائة وستين درجة، لكنها لم تكن تعكس أي شيء بأي درجة ملحوظة. وكبح تقويم للعام الماضي، مصنوع من الورق المقوَّى المطوي أربع طيَّات، جماح مواهب المرآة في الدوران حول المحور الرأسي، لكن لم يكن يوجد بالطبع ما يمكن فعله لزيادة قدراتها على عكس الصورة.

كان يمكن فتح دُرجَين من الأدراج الأربعة في خزانة الأدراج. أما الثالث فلم يكن يُفتَح لأن مقبضه فُقِد، ولم يكن يمكن فتح الرابع لأنه فقدَ الرغبة. وفوق المدفأة الحديدية السوداء بأهدابها المصنوعة من ورقٍ مجعدٍ أحمر استحال لونه بنيًّا من أثر الزمن، كان يوجد نقش لفينوس شبه عارية تُهدهد كيوبيد العاري تمامًا. وفكَّر جرانت في نفسه أنه لو لم يكن البرد قد تسلل بالفعل إلى عظامه لكانت هذه الصورة أدَّت تلك المهمة.

أطلَّ من النافذة الصغيرة على الميناء الصغير وقوارب الصيد المتنوعة التي يضمها، وعلى البحر الرمادي الذي أخذ يلطم حاجز الأمواج برتابة، وإلى المطر الرمادي وهو يقرع الحصى، وفكَّر في نار المدفأة في غرفة الجلوس في منزل كلون. دارت في رأسه فكرة أن الذهاب إلى الفراش هي أسرع طريقة للحصول على الدفء، لكن نظرةً ثانيةً على الفراش أثنته عن ذلك. كان السرير نحيفًا كالصحن، وازداد شبهًا بالصحن بفعل غطاءٍ قطني نحيل أبيض على شكل قرص العسل. وفي آخر السرير، كان يوجد لحافٌ قطني أحمر زاهٍ يناسب عربة دُمية، مطوي بإتقان. وفوقه مجموعة لا نظير لها من مقابض السرير النحاسية التي كان من حظ جرانت أن يجدها دائمًا.

فندق كلادا. بوابة جنة «تير نان أوج».

نزل الدرج ونكز النار التي ينبعث منها الدخان في غرفة الجلوس. كان أحدٌ ما قد كوَّم قشر البطاطا المتبقي من طعام الغداء على النار؛ لذا لم تكن جهود جرانت ناجعة جدًّا. هبَّ شعوره بالغضب لنجدته فراح يدق الجرس بكل ما أوتي من قوة. صلصلت الأسلاك متراقصةً بطريقةٍ جنونية في مكانٍ ما في الجدران، لكن لم يدق أي جرس. فخرج إلى البهو حيث كان صوت أنين الرياح يأتي من تحت الباب الأمامي وراح ينادي بصوتٍ عالٍ. لم يسبق مطلقًا أن استخدم جرانت صوته بمثل هذا الحماس والتصميم ليخرج بأي نتيجة، حتى في أفضل حالاته حين كان في «الميدان». أتت إليه مخلوقةٌ يافعة من المناطق الخلفية وراحت تُحدِّق فيه. كان وجهها يشبه نوعًا ما صورة السيدة العذراء وقد اكتست ملامحها بنظرةٍ عملية، وسيقانها بنفس طول جسدها.

وسألته قائلةً: «هل كنت تصرخ؟»

«لا، لم أكن أصرخ. ذلك الصوت الذي سمعتِه كان صوت أسناني وهي يصطكُّ بعضها ببعض. في بلدي نار مدفأة غرفة الجلوس مصمَّمة لتزوِّدنا بالحرارة وليس للتخلص من القُمامة.»

أطالت الفتاة النظر إليه قليلًا وكأنها تترجم حديثه إلى لغةٍ مفهومة أكثر، ثم تحرَّكت من جانبه لتلقي نظرة على نار المدفأة.

وقالت: «يا إلهي، ذلك لن يجدي نفعًا على الإطلاق. انتظر وسآتيك بجذوة نار.»

ثم غادرت وعادت بما بدا أنه معظم نار المطبخ التي كانت تستعر على رفش. وقبل أن يتمكن جرانت من إزالة بعض الخبَث والخضراوات من المدفأة، كانت قد ألقت بالكتلة المشتعلة فوق كل شيء.

وقالت: «سأحضر لك بعض الشاي ليدفئك. السيد تود عند الميناء ينظر فيما آلت إليه الأمور على القارب. سيعود عما قريب.»

قالت ذلك بطريقة تنطوي على التطمين، وكأن وجود المالك سيشعره بالدفء تلقائيًّا. وافترض جرانت أنها كانت تعتذر عن عدم وجود ترحيب رسمي بأحد الضيوف.

جلس وراح يرقب نار المدفأة وهي تفقد جذوتها تدريجيًّا؛ إذ أدركت وجود طبقة قشر البطاطا التي طُرحَت عليها. وقد بذل قصارى جهده من أجل إشعال بعض من الكتلة السوداء الرطبة تحت النار من أجل توفير شيءٍ جاف مشجع على اشتعال النار، لكن كل شيء انتهى به الحال في مجرد كومةٍ حزينة. راقب وهج النار وهو يخبو حتى لم يتبقَّ سوى توهجٍ أحمرَ صغيرٍ دودي راح يتردد جيئة وذهابًا عبر سطح الفحم الأسود، بينما كانت الرياح المارَّة تسحب الهواء من الغرفة إلى داخل المدخنة. فكَّر في ارتداء مِعطفه المضاد للماء والسير تحت المطر؛ يمكن أن يكون السير تحت المطر شيئًا باعثًا على السرور. لكن فكرة تناول الشاي الساخن جعلته لا يراوح مكانه.

وبعد ساعة تقريبًا ظل فيها يراقب النار، لم يأتِه أي شاي. لكن «السيد تود؛ المالك» عاد من الميناء وبصحبته صبيٌّ يرتدي قميصًا صوفيًّا أزرق داكنًا ويدفع عربةً محملة بكراتين كبيرة من الورق المقوَّى، ودخل لتحية ضيفه. قال إنهم لم يتوقعوا زوارًا في هذا الوقت من العام، وظنَّ حين رآه يغادر القارب أنه سيمكث مع شخصٍ ما من الجزيرة. ينظمان الأغاني، أو شيئًا من هذا القبيل.

كان ثَمة شيءٌ ما في الطريقة التي قال بها «ينظمان الأغاني» — نبرةٌ محايدة تكاد تكون تعليقًا — جعل جرانت واثقًا من أنه لم يكن من السكان الأصليين.

وحين سئل، قال السيد تود إنه لم يكن ينتمي للمكان. كان يملك فندقًا تجاريًّا صغيرًا في منطقة الأراضي المنخفضة، لكن هذا الفندق يروق له أكثر. وعندما رأى أمارات الدهشة على وجه ضيفه أضاف قائلًا: «أصدُقك القول يا سيد جرانت، كنتُ قد سئمتُ من الدقاقين على منضدة الاستقبال. كما تعلم: إنهم أولئك الشبان الذين لا يطيقون الانتظار لدقيقةٍ واحدة. هنا لا يفكِّر أي أحد مطلقًا في الدق على المنضدة. لا فارق بين اليوم أو غد أو الأسبوع القادم لمن يعيش في جزيرة. الوضع يبعث على الجنون بعض الشيء أحيانًا، حين تريد إنجاز شيء ما، لكنه لا بأس به ومريحٌ أغلب الوقت. إنَّ ضغط دمي منخفض كثيرًا.» ثم لاحظ النار. «تلك النار التي أعدَّتها لك كاتي آن رديئة. من الأفضل أن تأتي إلى مكتبي وتدفئ نفسك.»

في هذه اللحظة أطلَّت كاتي آن برأسها من الباب، وقالت إنها استغرقت كل هذا الوقت في غلي الماء في الغلاية لأن نار المطبخ انطفأت، وسألت إن كان السيد جرانت يرى الآن أنه من الجيد أن يتناول الشاي ووجبة الشاي دفعةً واحدة وفي نفس الوقت. رأى جرانت بالطبع أن هذا أمرٌ جيد، وبينما كانت تغادر لتعد طعام تلك الأمسية طلب من مضيفه شرابًا.

«لقد سحب القضاة الرخصة من المالك السابق لي، ولم أستعدها بعدُ. سأستعيدها من محكمة إصدار التراخيص القادمة. لذا لا يمكنني أن أبيع لك شرابًا. لا يوجد مكان يملك رخصةً لبيع الخمور على الجزيرة. لكن إذا أتيت إلى داخل مكتبي فسيَسرني أن أقدِّم لك الويسكي مجانًا.»

كان المكتب عبارة عن مكانٍ صغير للغاية، جوُّه استوائي بفعل حرارته المكتومة. استمتع جرانت بالجو الدافئ كثيرًا، وشرب الويسكي السيئ دون تخفيف، كما قُدِّم له. وجلس على الكرسي الذي أُشير إليه أن يجلس عليه، وفرد قدمَيه نحو النار.

وقال: «إذَن أنت لست ذا سلطة على الجزيرة.»

ابتسم السيد تود. وقال بخبث: «أنا كذلك بطريقةٍ ما. ولكن على الأرجح ليس بالطريقة التي تعنيها.»

«إلى من ينبغي أن أذهب لأتعرَّف على المكان؟»

«في الواقع، يوجد شخصان لديهما سلطة هنا. الأب هيسلوب والقس السيد ماكاي. وعمومًا ربما يكون الأب هيسلوب أفضل.»

«أتظنُّ أنه الأكثر دراية؟»

«لا، إنهما متساويان تقريبًا في هذه النقطة. لكن ثلثَي سكان الجزيرة من الرومان الكاثوليك. وإن ذهبت إلى الأب، فسيكون ثلث السكان فقط ضدك، بدلًا من أن يكون ثلثان ضدك. بالطبع الثلث التابع للكنيسة المشيخية عبارة عن زبائنَ أسوأ في عداوتهم، لكن إذا كانت الأرقام تهمُّك فمن الأفضل أن تذهب لمقابلة الأب هيسلوب. من الأفضل أن تذهب للأب هيسلوب على أي حال. أنا ملحد؛ لذا فإنني منبوذ من كلتا الجماعتين، لكن الأب هيسلوب مؤيد للحصول على رخصة لبيع الخمور، والسيد ماكاي يرفض ذلك رفضًا قاطعًا.» ثم ابتسم مرةً أخرى وأعاد ملء كأس جرانت.

«أظن أن الأب سيفضِّل أن يرى الشراب يباع علنًا بدلًا من أن يشربه الناس سرًّا.»

«بالضبط.»

«هل سبق أن استقبلت زائرًا أقام هنا اسمه شارل مارتن؟»

«مارتن؟ لا. ليس أثناء مدة إدارتي. لكن لو وددت أن تُلقي نظرة على سجل الزوار، فهو موضوع على الطاولة في البهو.»

«إذا لم يُقِم أحد الزوار في الفندق، فأين من المرجَّح أن يقيم؟ في غرف للإيجار؟»

«لا، لا أحد يؤجِّر الغرف على الجزيرة. المنازل صغيرة للغاية على ذلك. إما أن يمكث مع الأب هيسلوب أو في منزل القس.»

وبحلول الوقت الذي أتت فيه كاتي آن لتقول إن الشاي في انتظاره في غرفة الجلوس، كان الدم قد عاد يتدفق بحريةٍ عبر جسد جرانت، الذي كان قبل قليل في حالة جمود وكان جائعًا. كان يتطلَّع إلى وجبته الأولى في «واحة الحضارة الصغيرة وسط عالمٍ همجي» (انظر «جزر الأحلام» بقلم إتش جي إف بينش-ماكسويل، بيل وباتر، ١٥ / ٦). وكان يتمنى ألا يكون الطعام إما سلمون وإما سلمون مرقطًا؛ إذ كان قد اكتفى تمامًا من كليهما في الأيام الثمانية أو التسعة الماضية. ما كان سيترفع عن قطعة سلمون مرقط مشوية إن كانت كذلك. مشوية ببعض الزبد المحلِّي. لكنه كان يأمل في سلطعون — إذ كانت الجزيرة تشتهر بالسلطعون — وإن تعذَّر ذلك فسمكة رنجة من البحر، مقسومة ومقلية بعد غمسها في دقيق الشوفان.

تكوَّنت وجبته الأولى في جزر البهجة من سمكتَي رنجة مدخنتَين برتقاليتَين لامعتَين مملحتَين تمليحًا غير كافٍ ومخضبتَين بوفرة في أبردين، وخبز مُعدٍّ في جلاسكو، وكعك شوفان مخبوز في مصنع في إدنبرة ولم يُحمَّص منذ ذلك الحين، ومربى مصنوعة في دندي، وزبدٍ مصنوع في كندا. وكان المنتج المحلي الوحيد هو جبنٌ كرَودي مُصفرٌّ على هيئة بيضة؛ وهو منتجٌ ثانوي أبيضُ مفتت لا رائحة له ولا طعم.

كانت غرفة الجلوس في ضوء المصباح غير المظلل أقلَّ فتحًا للشهية مما كانت عليه في ضوء فترة ما بعد الظهيرة الرمادي، وهرب جرانت إلى حجرة نومه الصغيرة الشديدة البرودة. طلب زجاجتَي مياهٍ ساخنة واقترح على كاتي آن أن تأخذ الأغطية من جميع غرف النوم الأخرى في المكان وتضعها تحت تصرفه بما أنه هو النزيل الوحيد. وفعلت ذلك بكل استمتاعٍ كِلْتي فطري بالأمور غير المعتادة، فكوَّمت على سريره وسائل الترف المستعارة وهي تختنق من الضحك.

رقد تحت خمس قطعٍ محشوَّة هزيلة، يعلوها معطفه الخاص ومعطفٌ واقٍ من المطر من ماركة بربري، وتظاهر بأن كل ذلك لحافٌ إنجليزي واحدٌ جيدٌ محشو بزغب الطيور. وبينما كان شعوره بالدفء يزداد، صار واعيًا لجو الغرفة السيئ التهوية البارد. كانت هذه هي القشة الأخيرة، وفجأةً راح يضحك. كان راقدًا في مكانه ويضحك كما لم يضحك منذ قرابة سنة. ضحك حتى دمعت عيناه، وحتى أُنهِك تمامًا ولم يعد يقوى على المزيد من الضحك، ورقد منهوكَ القُوى خاليَ البال سعيدًا تحت مجموعة أغطية الفراش المتنوعة الرائعة.

فكَّر قائلًا لنفسه إن ضحك المرء يصنع أشياء لا توصف بالغدد الصمَّاء، فيُشعره بفيضان من الصحة يغمره بمدٍّ باعث على الحياة. وربما بالأخص حين يكون ضحك المرء على نفسه. على سخافته وعبثيَّته الرائعة المجيدة فيما يتعلق بالعالم. كان الانطلاق نحو أعتاب «تير نان أوج» والوصول إلى فندق كلادا يتسم بعبثيةٍ شديدة. وإن لم تمنحه الجزر الغربية شيئًا سوى ذلك فسيعتبر أنه قد تلقى مكافأةً مُجزية.

توقَّف عن الاهتمام بأن تهوية الغرفة سيئة وأن الأغطية غير مستقرة. تمدَّد ينظر إلى ورق الحائط المثقل بالورود، وتمنَّى لو كان يستطيع أن يُريَه للورا. تذكَّر أنه لم يكن قد نُقِل بعدُ إلى غرفة النوم المجددة حديثًا في كلون، التي كانت دائمًا، وحتى الآن، غرفته. هل كانت لورا تنتظر زائرًا آخر؟ أيُحتمل أنها كانت ستستضيف أحدث اللواتي ترشحن له للزواج تحت سقف المنزل نفسه؟ حتى الآن كان سعيدًا وهو بمنأًى عن مجتمع الإناث؛ كانت الأمسيات في كلون أمسياتٍ عائليةً، هادئة وطويلة. فهل كانت لورا تساعده فحسب حتى يتمكن من ملاحظة أهمية مسألة الزواج؟ كانت متحسِّرة لدرجة تُثير الشك بأنه كان سيفوِّت افتتاح القاعة الجديدة في مويمور. وهي مناسبةٌ ما كانت لورا في حالتها العقلية الطبيعية ستتوقع منه أن يحضرها على الإطلاق. فهل كانت تنتظر ضيفًا في الافتتاح؟ لا يمكن أن يكون الغرض من غرفة النوم هو تجهيزها لليدي كينتالين؛ لأنها ستأتي من أنجوس وستعود بعد ظهر اليوم نفسه. إذَن من أجل مَن أُعيد تجهيز هذه الحجرة وأُبقيَت فارغة؟

كان لا يزال يفكِّر في هذا السؤال البسيط حين غلبه النوم. ولم يخطر على باله إلا في الصباح أنه كان يكره النافذة المغلقة لأنها جعلت الغرفة سيئة التهوية وليس لأنها كانت مغلقة.

اغتسل بجالونَي الماء الفاتر اللذين أحضرتهما كاتي آن ونزل إلى الطابق السفلي مبتهجًا. كان يشعر بأنه في غاية السعادة. تناول خبز جلاسكو الذي ازداد عمره يومًا آخر هذا الصباح، وكعك شوفان إدنبرة، ومربى دندي، والزبد الكندي، إلى جانب بعض النقانق من وسط إنجلترا، واستمتع بتناول كل ذلك. وبعد أن تخلَّى عن توقعاته عن البهاء البدائي، كان مستعدًّا لتقبُّل الوجود البدائي.

سُرَّ عندما وجد أن آلام الروماتيزم قد اختفت تمامًا على الرغم من الريح الباردة والسرير الخشن المغطَّى بأغطيةٍ هزيلة؛ إذ لم يعد عقله الباطن بحاجة إليها لتمثِّل ذريعة. كانت الريح لا تزال تعوي في المدخنة، والمياه تتفجر متصاعدةً من حاجز الأمواج، لكن المطر كان قد توقف. ارتدى معطف المطر وانعطف حول مقدمة الميناء إلى المتجر. كان يوجد مكانا عمل فقط في صف المنازل التي تحفُّ بالميناء، وهما مكتب للبريد ومتجر لبيع المواد الغذائية. كان هذان المكانان معًا يمدَّان الجزيرة بكل ما تحتاج إليه. إذ كان مكتب البريد يبيع الصحف أيضًا، وكان متجر المواد الغذائية مزيجًا من بائع خُضَر، وخردواتي، وصيدلاني، وبائع أقمشة، ومتجر أحذية، وبائع تبغ، وبائع خزف، وبائع لمستلزمات القوارب والسفن. كانت لفَّات القماش القطني الأبيض المزيَّن بأنماطٍ ملوَّنة، المستخدَم لصناعة الستائر أو الفساتين؛ موضوعة على الأرفف بجوار علب البسكويت، ولحم الخنزير المدخَّن يتدلَّى من السقف وسط صفوف من الثياب التحتية المصنوعة من نسيجٍ متداخل. اليوم لاحظ جرانت أنه توجد أيضًا طاولةٌ خشبيةٌ كبيرة من الكعكعات الرخيصة المخبوزة في أوبان، إن كانت الورقة التي تلتف بها الكعكات الصغيرة صادقة. كانت تلك الكعكات رديئة ومبططة، وكأنها أخذت تتقلَّب هنا وهناك في إحدى الكراتين المصنوعة من الورق المقوَّى، التي كانت جزءًا لا يتجزَّأ من الحياة على الجزيرة، وكان يفوح من الكعكات رائحةٌ خافتة جدًّا للبارافين، لكن جرانت افترض أن تلك الكعكات كانت مختلفة عن خبز جلاسكو.

في المتجر كان هناك عدة رجال من قوارب الصيد في الميناء ورجلٌ قصير بدينٌ يرتدي معطفًا أسود واقيًا من المطر لا يمكن أن يكون سوى قس. كان هذا من حسن طالعه. إذ شعرَ أنه حتى الثلث التابع للكنيسة المشيخية لا يملك أن يأخذ عليه لقاءً وليدَ الصدفة في متجرٍ عام. اقترب جرانت من نيافته حتى صار بجواره وانتظر معه، بينما كان الصيادون يتلقَّون الخِدمات التي أتَوا من أجلها. بعد ذلك كانت الأمور في غاية السهولة. «تجاذب» القس معه أطراف الحديث ليتعارفا، وكان هناك خمسة شهود على ذلك. وعلاوةً على ذلك، أدخل الأب هيسلوب بلباقةٍ صاحب المتجر، المدعو دنكان تافيش، في المحادثة، ومن واقعِ أن الأب هيسلوب دعاه بالسيد تافيش وليس دنكان، استنتج جرانت أن صاحب المتجر لم يكن أحد رعيته. وهكذا رأى بسرور كبير أنه لم يُحسَب على أيٍّ من الطائفتين في الجزيرة، وما كانت ستَدور حربٌ ضروس للاستحواذ عليه.

ثم خرج إلى الجو المشوب بريحٍ شديدة مع الأب هيسلوب، وسارا معًا حتى المنزل. أو بالأحرى صارعا الريح معًا، فكانا يتقدمان بضع خطوات في كل مرة، ويتعالى صوت أحدهما بالتعليقات للآخر حتى يعلو صوته فوق ضوضاء ملابسهما التي ترفرف من فعل الرياح. وكان جرانت يحظى بمِيزة لم يحظَ بها رفيقه، وهي أنه لم يكن يرتدي قبعةً، لكن الأب هيسلوب لم يكن أقصر فحسب، وإنما كان يحظى بجسد يتسم بانسيابيةٍ مثالية للعيش وسط الريح العاتية. لم تكن توجد أي زوايا في جسده.

كان من الجيد أن يأويا من العاصفة إلى دفء نار الخث والسكون.

صاح الأب هيسلوب باتجاه الطرف الأقصى من المنزل: «موراج! بعض الشاي لي ولصديقي هنا. وربما كعكة، أيتها الفتاة الصالحة.»

لكن موراج لم تكن قد خبزت، شأنها في ذلك شأن كاتي آن. قُدِّم لهما بسكويت ماري، وكان طريًّا بعض الشيء بفعل رطوبة الجزيرة. لكن الشاي كان رائعًا.

ولأنه كان يعرف أنه محل فضول الأب هيسلوب، وكذلك كل من في الجزيرة، فقد قال إنه كان يصطاد مع أقاربه في اسكتلندا، لكنه اضطُر لأن يتوقَّف جرَّاء إصابة في كتفه. ولأن فكرة الجزر الغربية كانت تستحوذ عليه، وخاصةً الرمال المغنية في كلادا، فقد انتهز فرصة مجيئه لكي يراها، وهي فرصة ربما لن تتاح له مجددًا أبدًا. وقال إنه يظن أن الأب هيسلوب على درايةٍ تامة بالرمال، أليس كذلك؟

أوه، بلى، بالطبع كان الأب هيسلوب يعرف الرمال. لقد عاش على الجزيرة خمسة عشر عامًا. كانت على الجانب الغربي من الجزيرة في مواجهة المحيط الأطلنطي. لم تكن المسافة عبر الجزيرة كبيرة. يمكن لجرانت أن يسير إلى هناك عصر هذا اليوم.

«أُفضِّل أن أنتظر جوًّا صحوًا. سيكون من الأفضل رؤيتها في نور الشمس، أليس كذلك؟»

«في هذا الوقت من السنة قد تنتظر أسابيع طويلة قبل أن تراها في ضوء الشمس.»

«ظننت أن الربيع حلَّ مبكرًا على الجزر، أليس ذلك صحيحًا؟»

«أوه، في رأيي أن هذه فكرةٌ مصدرها الأشخاص الذين يؤلِّفون كتبًا عن تلك الجزر. هذا هو الربيع السادس عشر لي على جزيرة كلادا، ولم يحدث بعدُ أن حلَّ الربيع قبل موعده.» ثم أضاف بابتسامةٍ خفيفة: «الربيع من سكان الجزر هو الآخر.»

تبادلا الحديث عن الطقس، والعواصف الشتوية (التي تُعتبر ريحُ اليوم نسيمًا عليلًا مقارنةً بها، بحسب رأي الأب هيسلوب)، وعن الرطوبة التي تخترق العظام، وعن أيام الصيف المثالية التي تأتي لِمامًا.

كان جرانت يريد أن يعرف السبب الذي يجعل مكانًا كهذا به معالمُ قليلة يسلب لبَّ الكثير من الناس.

في الواقع، يعود السبب من ناحية إلى أنهم رأوا الجزيرة في ذروة الصيف، ومن ناحيةٍ أخرى إلى أن أولئك الذين أتَوا وأُصيبوا بخيبة أمل أحجموا عن الاعتراف بخيبة أملهم، سواء لأنفسهم أو لأصدقائهم في الديار. كانوا يعوِّضون أنفسهم بالتفاخر. لكن كان من وجهة نظر الأب هيسلوب أن معظم من أتَوا كانوا يهربون من الحياة بغير وعي منهم، ووجدوا ما أعدت لهم مخيلتهم. لذا كانت الجزر الغربية جميلة في أعينهم.

فكَّر جرانت مليًّا في هذا، ثم سأله إن كان قد عرف من قبلُ أحدًا يُدعى شارل مارتن كان مهتمًّا بالرمال المغنية.

لا، لم يلتقِ الأب هيسلوب من قبلُ بشخص يُدعى شارل مارتن، بحسب ما يتذكَّر. هل أتى إلى كلادا؟

لم يكن جرانت يعرف ذلك.

خرج جرانت إلى العاصفة، وظلَّت تدفعه عائدًا إلى الفندق في هرولةٍ مهينة، مترنحًا على أطراف أصابعه مثل عجوز سكِّير. كانت تفوح من بهو الفندق الخاوي رائحةُ طعامٍ ساخن لا يمكن تحديده، ويُسمَع فيها صوت كأنه جوقة تغني؛ إذ أقبلت الرياح تصطرخ من تحت الباب الخارجي. لكنهم كانوا قد تمكَّنوا من إعداد نار تبدو كالنار في غرفة الجلوس. وعلى صراخ الريح في الممر وعوائها في المدخنة تناول لحمًا من أمريكا الجنوبية، وجزرًا معلَّبًا في لينكولنشاير، وبطاطا مزروعة في موراي، وبودِنج الحليب المعبَّأ في شمال لندن، وفاكهةً معبَّأة في وادي إيفيشام. والآن إذ لم يعد جرانت مرهونًا بالسحر، ملأ معدته بما يوضع أمامه شاكرًا. وإذا كانت كلادا قد حرمته البهجة الروحية فقد منحته شهيةً جسديةً رائعة.

قال جرانت حين كان يرتب موعد تناوله وجبة الشاي: «ألا تخبزين قريصات الكعك مطلقًا يا كاتي آن؟»

فقالت مدهوشةً: «أتريد قريصات كعك؟ بالطبع أفعل، سأخبز لك بعضًا منها. لكن لدينا كعكات مصنوعة عند الخباز لتتناولها مع الشاي. وبسكويت، وقطع الزنجبيل. أتفضِّل قريصات الكعك بدلًا من ذلك؟»

تذكَّر جرانت «الكعكات المصنوعة عند الخباز»، فقال في حماسة إنه يفضل قريصات الكعك، يفضلها بكل تأكيد.

فقالت بنبرةٍ لطيفة: «حسَن إذَن، بالطبع، سأخبز لك قريصة كعك.»

ظل جرانت يسير مدةَ ساعة على طريقٍ رمادي مستوٍ وقفارٍ رماديةٍ ممتدة. على يمينه، بعيدًا وسط الضباب، كان هناك تل، وكان المرتفعَ الوحيد الذي يمكن رؤيته. كان الأمر برُمَّته يحرِّك في النفس إحساس المسير في هور في يوم من أيام شهر يناير الرطبة. وبين الحين والآخر كانت الريح القادمة من جانبه الأيسر تخرجه عن الطريق تمامًا وهو يدور جانبيًّا حول نفسه، فكان يجاهد للعودة إلى الطريق، يخالجه إحساس باستمتاعٍ مختلط بالسخط. وعلى مسافاتٍ بعيدة، كانت أكواخٌ غريبة تجثم منكمشةً على مَقربة من الأرض، وكانت مصمَتة وتشبه البطلينوس في هيئتها، وليس فيها أي إشارة على وجود بشر. كان لبعض هذه الأكواخ حجارة تتدلى بحبال من السقف لتُعطي ثقلًا للبناء في مواجهة الرياح المستمرة. لم يكن لأيٍّ من تلك الأكواخ سور أو مبنًى إضافي أو حديقة أو شجرة. كانت حياةً بدائية للغاية؛ بين أربعة جدران، وكل شيء بمنأًى عن الأعين ومعدٌّ لمواجهة مصاعبَ محتملة.

وفجأةً صارت الريح برائحة الملح.

وفي أقل من نصف ساعة وصل إلى مُبتغاه. وصل دون سابق إنذار، عبر أرض قفر شاسعةٍ مكسوَّة بعشبٍ أخضرَ رطب، لا بد أنها تكون مرصَّعة بالأزهار في فصل الصيف. لم يكن يوجد سببٌ واضح يفسِّر عدم امتداد هذه المستويات الطويلة من الأرض العشبية بلا نهاية حتى الأفق؛ كان كل شيء جزءًا من هذا العالم الرمادي المنبسِط من الأرض السبخة. كان قد استعدَّ لمتابعة السير حتى إلى الأفق؛ لذا فقد ذُهِل حين وجد أن الأفق يمتدُّ لمسافة عشرة أميال في البحر. كان المحيط الأطلنطي منبسِطًا أمامه، ومع أنه لم يكن جميلًا فقد كان مثيرًا للإعجاب في امتداده وبساطته. كانت المياه القذرة الخضراء — القذرة وغير المستوية — تزأر على الشاطئ وترتطم به مُحدِثةً وميضًا أبيض رهيبًا. عن يمينه وعن شماله، كانت خطوط الأمواج المتلاطمة الطويلة والرمال الشاحبة تمتدُّ على مرمى البصر. لم يكن يوجد شيءٌ آخر في العالم سوى البحر الأخضر الهائج والرمال.

وقف في مكانه ينظر إلى البحر ويتذكَّر أن أقرب بر على الجانب الآخر هو أمريكا. لم يكن قد اختبر من قبلُ ذلك الشعور العجيب الذي يتولَّد عن المساحات غير المحدودة منذ وقف في صحراء شمال أفريقيا. ذلك الشعور بالتضاؤل.

كان وجود البحر مفاجئًا للغاية، وكان غضبه وامتداده غامرَين، حتى إنه وقف مكانه كأن على رأسه الطير لحظاتٍ طويلةً قبل أن يدرك أن الرمال التي أحضرته إلى حافة العالم الغربي في شهر مارس كانت موجودة هنا. كانت هذه الرمال هي الرمال المغنية.

لم يكن هناك شيء يغني اليوم سوى الرياح والمحيط الأطلنطي. كانا معًا يُحدِثان جلبةً كأنها موسيقى فاجنر، كانت تكاد تصدم المرء جسديًّا مثلما تفعل العاصفة ورذاذ الموج. كان العالم أجمع ضجةً جنونيةً من اللونَين الأخضر الرمادي والأبيض والضوضاء الجامحة.

سار على الرمال البيضاء الناعمة إلى حافة المياه، وسمح لذلك الهدير أن يغشاه. من مسافةٍ قريبة كانت له مِيزة لا شعورية بدَّدت شعوره غير المريح بالتضاؤل وجعلته يشعر بإنسانيَّته وتفوُّقه. أدار ظهره له على نحو يكاد يتَّسم بالازدراء، مثلما يفعل المرء مع طفلٍ غير مهذَّب تصرَّف بطريقةٍ حمقاء أو محرِجة على مرأًى ومسمع من الجميع. شعر بالدفء وبالحياة تدبُّ في جسده وبأنه سيد نفسه؛ شعر بأنه ذكي ذكاءً مثيرًا للإعجاب، وأنه واعٍ على نحوٍ يُثلج الصدر. عاد أدراجه سائرًا على الرمال، وهو مغتبط غبطةً غير منطقية ومفرِطة بأنه بشرٌ وعلى قيد الحياة. حين أدار ظهره للرياح المالحة الناضبة القادمة من البحر، كان الهواء الذي أتاه من اليابسة لطيفًا ودافئًا. كان أشبه بالهواء الذي تلقَّاه حين انفتح باب المنزل. تابع مسيره على الأرض العشبية من دون أن يلتفت خلفه مرةً واحدة. لاحقته الرياح على طول الأراضي السبخة المنبسِطة، لكنها لم تعد في وجهه ولم تعد رائحة الملح في أنفه. كان أنفه ممتلئًا برائحة الأرض الرطبة الطيبة؛ رائحة الأشياء التي تنمو وتزدهر.

كان سعيدًا.

وحين وصل أخيرًا أسفل المنحدر إلى الميناء رفع بصره إلى التل الواقف وسط الضباب، وقرَّر أنه سيتسلَّقه غدًا.

عاد إلى الفندق جائعًا، وشعر بالامتنان حين لم يقدَّم له في وجبة الشاي سوى شيئَين من صناعةٍ محلية. أحدهما كان طبقًا من قريصات الكعك أعدَّته كاتي آن، والآخر كان «سليشاكس»؛ وهو طعامٌ شهي كان يعرفه منذ زمنٍ طويل. كان سليشاكس عبارة عن بطاطا مهروسة ومقلية في شكل شرائح؛ ولا شك في أنها ساعدته في فتح شهيته لما تبقى من اللحم البارد المتبقي من طعام الغداء، والذي كان الطبق الرئيسي في الوجبة. لكن وبينما كان يتناول طبقه الأول ظلَّت تداعب أنفَه رائحةٌ ذكَّرته بأيام منطقة ستراثسبي الخوالي، وكانت أكثر إثارة للعواطف والذكريات حتى من طبق سليشاكس. كانت الرائحة حادَّة وخفيفة في نفس الوقت، وكانت تجوب أرجاء ذهنه في نشوةٍ مثيرة من الحنين إلى الماضي. ولم يعرف ماهية تلك الرائحة إلا حين غرس سكينه في إحدى الكعكات التي أعدَّتها كاتي آن. كان الكعك مصفرًّا بفعل الصودا وغير صالح للأكل إلى حدٍّ كبير. وبتحية، متَّسِمة بالحسرة، لكاتي آن من أجل الذكرى التي أحيتها (طبقٌ مليء بالكعك المصفرِّ المشبع بالصودا، موضوع على طاولة مطبخ المنزل الريفي لتناوله مع الشاي، أوه، «تير نان أوج»!) دفن كعكتَين من كعكات كاتي آن تحت الفحم الملتهب في المدفأة واكتفى بخبز جلاسكو.

وفي تلك الليلة خلدَ جرانت إلى الفراش من دون أن ينظر إلى ورق الحائط أو يتذكَّر النافذة المغلقة على الإطلاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤