الفصل السابع

في الصباح تقابل مصادفةً مع نيافة القس السيد ماكاي في مكتب البريد وشعر بأنه يوزِّع أفضاله بنجاحٍ كبير. كان السيد ماكاي في طريقه إلى الميناء ليرى ما إذا كان طاقم قارب صيدٍ سويدي قابع هناك يرغب في المجيء إلى الكنيسة إن كانوا سيظلون موجودين حتى يوم بعد غد. وعرف أنه توجد أيضًا سفينةٌ هولندية، يُفترض أنها تتبع مذهب الكنيسة المشيخية. وإن أظهروا أمارات على الرغبة في المجيء فسيقوم بإعداد عظة بالإنجليزية من أجلهم.

تبادل مع جرانت حديثًا عن الطقس السيئ. كان الوقت من العام لا يزال مبكرًا على المجيء إلى الجزر الغربية، لكنه رأى أن على المرء أخذ إجازات حين تسنح له الفرصة لذلك.

«لعلك مدرس في مدرسة يا سيد جرانت.»

أجاب جرانت بالنفي، وقال إنه موظفٌ حكومي. كانت تلك هي إجابته المعتادة على الأسئلة بشأن مهنته. كان الناس على استعداد لتصديق أن موظفي الحكومة هم كائناتٌ بشرية، لكن لم يصدِّق أحد من قبلُ أن رجل الشرطة كذلك. كانوا يتعاملون مع رجال الشرطة على أنهم شخصياتٌ كرتونية مرسومة ترتدي أزرارًا فضية وتمسك بمفكِّرة.

«ستندهش إن رأيت الحال الذي تبدو عليه الجُزر في شهر يونيو يا سيد جرانت؛ إذ لم يسبق لك أن جئت إلى هنا. لا توجد غيمةٌ واحدة في السماء، يومًا تلو الآخر، والهواء ساخن لدرجة أنك تراه يتراقص أمامك. والسَّراب جامح كما هو حاله دومًا في الصحراء.»

«هل ذهبت إلى شمال أفريقيا؟»

أجل، ذهب السيد ماكاي إلى شمال أفريقيا مع الاسكتلنديين. قال: «وصدِّقني يا سيد جرانت، رأيت أشياء من نافذتي في منزل القس هناك أغرب من أي شيء رأيته بين مدينتَي العلمين وطرابلس. رأيت المنارة هناك تقف في الهواء. أجل، في السماء. رأيت التلال هناك تُغيِّر أشكالها حتى بدت كفطر عيش غراب عظيم. أما الأحجار على ساحل البحر؛ تلك الأعمدة الحجرية العظيمة، فيمكنها أن تصير خفيفة وشفَّافة وتتحرك في الأرجاء وكأنها تسير على نهج خطوات رقصة «لانسرز».»

فكَّر جرانت في ذلك باهتمام، وتوقَّف عن الإصغاء لبقية حديث السيد ماكاي. وحين ترك السيد ماكاي بجوار قارب الصيد السويدي «آن لوفكويست» من جوتبرج، أبدى أمله في أن يأتي جرانت إلى سهرة «كايلي» الليلة. ستكون الجزيرة كلها هناك، وسيستمع إلى بعض الغناء الجميل.

وحين سأل مُضيفه عن سهرة «كايلي» وعن مكان إقامتها، قال السيد تود إنها ستشمل المزيج المعتاد من الغناء والحديث، وستنتهي بالرقصة المعتادة، وإنها ستُقام في المكان الوحيد الملائم على الجزيرة لمثل هذه التجمعات؛ قاعة بيريجرين.

«لماذا اسم بيريجرين؟»

«ذاك هو اسم السيدة التي تبرَّعت بها. كانت معتادة على المجيء إلى الجزيرة صيفًا، وكانت تساند مساندةً كاملةً تحسين التبادل التجاري وتحقيق الاكتفاء الذاتي لسكان الجزيرة؛ لذا شيَّدت كوخًا طويلًا جميلًا بنوافذَ كبيرة وكُوَّات في سقفه حتى يتسنى لسكان الجزيرة أن ينسجوا الصوف برفقة بعضهم بعضًا دون أن يُتلفوا أعيُنهم على النول في غرفٍ صغيرةٍ مظلمة. قالت إن عليهم أن يتعاونوا وينشئوا علامةً تجاريةً خاصة بجزيرة كلادا لأنسجة الصوف ويجعلوها مطلوبة كثيرًا، كأنسجة هاريس. كان بإمكان تلك المسكينة أن توفِّر على نفسها العناء والمال. فلا أحد من ساكني الجزيرة على استعداد لأن يمشي ولو ياردةً واحدة للذهاب إلى العمل. إنهم يفضِّلون العمى على أن يخرجوا ويغادروا بيوتهم. لكن هذا الكوخ مفيد جدًّا لتجمعات الجزيرة. لماذا لا تأتي اليوم وتلقي نظرة حين يبدأ التجمع؟»

قال جرانت بأنه سيفعل ذلك، وغادر ليقضي بقية اليوم في تسلق تل كلادا الوحيد. لم يكن ثَمة ضبابٌ اليوم رغم أن الرياح كانت لا تزال مشبعة بالرطوبة، وفيما كان يصعد التل كان البحر ينبسط ويمتد من تحته، تتناثر فيه الجزر ويتخلُّله المد والجزر. وفي مواضعَ مختلفة تجد خطًّا منفردًا، مستقيمًا استقامةً غير طبيعية في نسق الطبيعة هذا، دالًّا على مسار إحدى السفن. من أعلى كان عالم الجزر الغربية كله تحت قدمَيه. جلس هناك يفكِّر في الأمر؛ ذلك العالم القاحل المحاط بالمياه، وبدا له أنه أكثر العوالم عزلة. عالمٌ انبثق، في جانب منه، من الفوضى، أرضٌ خربة وخالية. أطرق بعينَيه إلى كلادا نفسها، وكان من المستحيل أن يميز ما إذا كان ينظر إلى يابسة تعجُّ بالبحيرات أم إلى بحر يعجُّ بالجزر؛ ذلك أن البحر واليابسة كانا مختلطَين جدًّا. كان مكانًا من الأفضل أن يُترك للإوز الرمادي والفقمات.

لكنه كان سعيدًا في موقعه هناك بالأعلى؛ إذ كان يرقب الأنماط المتغيرة على سطح البحر، بألوان الرمادي والأخضر والبنفسجي، ويراقب طيور البحر التي تُحلِّق لتتفقده، ورفرفة طيور الزقزاق الساكنة للأعشاش في السهل. أخذ يفكِّر في السراب الذي تحدَّث عنه السيد ماكاي والأحجار التي تسير. أخذ يفكِّر، ولم يتوقف قط عن التفكير لأي فترة من الوقت، في راكب المقصورة «بي ٧». هنا كان عالم راكب المقصورة «بي ٧»، بحسب المواصفات التي ذكرها. الرمال المغنية، الوحوش المتكلمة، والأحجار السائرة، والأنهار الراكدة. ما الذي كان ينوي راكب المقصورة «بي ٧» فعله هنا؟ مجرد أن يأتي ويشاهد كما فعل هو؟

انطلاق بسرعة البرق، مع حقيبة سفر صغيرة. كان ذلك بالتأكيد يُنذِر بأحد أمرَين؛ مقابلة أو تحقيق. ولأن أحدًا لم يفتقده بعدُ، فلا يمكن أن تكون تلك مقابلة. لذا كان هذا تحقيقًا. ويمكن للمرء أن يتحقق من الكثير من الأشياء؛ منزل، أو احتماليةٍ ما، أو لوحةٍ فنية. لكن إذا كان المرء مدفوعًا لكتابة الشعر وهو في الطريق، فالشعر إذَن كان مؤشرًا إلى الشيء موضوع التحقيق.

فما الذي قيَّد راكب المقصورة «بي ٧» بهذا العالم الكئيب؟ هل كان يفرط في قراءة كتب إتش جي إف بينش-ماكسويل وأمثاله؟ هل نسي أن الرمال الفضية والأزهار البرية والبحار ذات اللون الأزرق الياقوتي هي أشياءُ موسمية تمامًا؟

من على قمة التل في كلادا، بعث جرانت بتحية إلى راكب المقصورة «بي ٧» وترحُّم عليه. فلولا راكب المقصورة «بي ٧» ما كان سيجلس فوق هذا العالم المشبع بالمياه شاعرًا وكأنه مَلِك. كان يشعر وكأنه وُلِد من جديد وبأنه يملك زمام نفسه. كان الآن أكثر من مجرد مُناصِر لراكب المقصورة «بي ٧»: كان مَدينًا له. كان خادمه.

وبينما كان يغادر المأوى الذي وجده لنفسه ضربتْه الريح في صدره، فمال للأمام مستقبلًا إياها بصدره وهو ينزل التل كما اعتاد أن يفعل حين كان صبيًّا، فكانت بمثابة دعامة له، وكان يمكن أن ينزل التل وهو يكاد يتردى بطريقةٍ مذهلة للغاية ويظل آمنًا.

سأل جرانت مضيفه وهما يترنحان في الظلام بعد العشاء في طريقهما نحو تجمع «كايلي»: «كم تدوم العواصف في هذا الجزء من العالم عادةً؟»

قال السيد تود: «ثلاثة أيام على الأقل، لكن ذلك لا يحدث كثيرًا. ففي الشتاء الماضي ظلَّت العاصفة تهبُّ طيلةَ شهرٍ كامل. إنك تعتاد على هديرها حتى إنه لو اختفى لحظةً تحسب أنك أُصبت بالصمم. من الأفضل لك أن تعود بالطائرة حين تغادر بدلًا من عبور مضيق مِنش في هذا الطقس. معظم الناس يستخدمون الطائرات الآن، حتى كبار السن الذين لم يرَوا قطارًا في حياتهم. إنهم يثقون بالطائرات ثقةً عمياء.»

فكَّر جرانت في أنه قد يعود بالطائرة بالفعل. وأنه لو انتظر عدة أيام أخرى، إن تسنى له مزيدٌ من الوقت ليزداد اعتيادًا على سعادته التي اكتشفها حديثًا، فقد يستخدم الرحلة الجوية كاختبار. سيكون اختبارًا شديدًا جدًّا؛ أشد اختبار يمكن أن يضع نفسه فيه. إن احتمالية أن يُحشر أي شخصٍ مصاب برهاب الأماكن المغلقة في مساحةٍ صغيرة ويُعلَّق بلا حول ولا قوة في الهواء هي بمثابة رعبٍ محض. وإذا واجَه ذلك من دون أن يجفل، واجتازه من دون كارثة، فيمكنه أن يعلن أنه قد شُفي. سيعود رجلًا كما كان.

لكنه سيتمهل قليلًا؛ كان الوقت لا يزال مبكرًا على أن يسأل نفسه هذا السؤال.

كان تجمع «كايلي» قد بدأ منذ عشرين دقيقة حين وصلا، فوقفا مع بقية الحضور من الرجال في الخلف. ولم يكن يجلس على الكراسي في القاعة سوى النساء والعجَزة. كان الحضور من الرجال يصطفون على الحائط في الخلف ويتجمعون حول المدخل، عدا صف من الرجال يجلسون في المقدمة، حيث جلست الشخصيات المهمة في الجزيرة (دنكان تافيش، التاجر الذي كان بمثابة ملكٍ غير متوَّج في كلادا، وممثلا الكنيستَين، وبعض الشخصيات الأقل أهمية). لاحظ جرانت أن هذا التجمُّع كان ذا طابعٍ عالمي غير عادي، وذلك حيث كان الحضور من خارج الجزيرة يفسحون لهما الطريق؛ وكان كلٌّ من السويديين والهولنديين قد أتَوا بأعدادٍ كبيرة، وكان توجد لهجات تنتمي إلى ساحل أبردينشاير.

كانت فتاة تغني بطبقة سوبرانو رفيعة. وكان صوتها عذبًا وصادقًا لكنه خالٍ من التعبير. كان أشبه بمحاولة شخص أن يمرر الهواء في ناي. تلاها شابٌّ واثق من نفسه تلقَّى تصفيقًا وترحيبًا، وأخذ يتباهى بذلك بطريقةٍ واضحة وصار الأمر مضحكًا، حتى إن المرء لينتظر أن ينفش ريش صدره وكأنه طائر. بدا أنه شخصيةٌ محبوبة كثيرًا لدى الحضور من الغيليين المنفيين على البر الرئيسي، وقد أمضى الجمهور وقتًا في مطالبته بالغناء مجددًا أطول مما أمضى في حقله المهمل. غنَّى أغنيةً حماسية قصيرة بدرجة صوت خشنة مرهقة وتلقَّى تصفيقًا حادًّا. مما أدهش جرانت قليلًا أن هذا الشاب لم يكلف نفسه من قبلُ عناء أن يتعلَّم أساسيات الغناء. لا بد أنه قد التَقى أثناء رِحلاته القصيرة إلى البر الرئيسي بمغنِّين حقيقيين تعلموا كيفية استخدام أصواتهم؛ كان من المذهل حتى في حالة شخصٍ مغرور وتافه مثله أنه لم يفكِّر قط في تعلم أسس الفن الذي امتهنه.

غنَّت امرأةٌ أخرى أغنيةً أخرى خالية من التعبير بمقام كونترالتو، وقصَّ رجلٌ قصةً طريفة. وعدا العبارات القليلة التي كان قد تعلَّمها من المسنين في ستراثسبي حين كان طفلًا، لم يكن جرانت يفهم اللغة الغيلية مطلقًا، وكان يستمع كما لو كان يستمع إلى شيءٍ مسلٍّ بالإيطالية أو التاميلية. كان الأمر كله مملًّا جدًّا، باستثناء البهجة التي وجدها الناس أنفسهم في ذلك الأمر. كانت الأغاني متواضعة على الصعيد الموسيقي، بل إن بعض الأغاني كانت سيئة إلى درجةٍ مستهجنة. وإن كان هذا هو الشيء الذي يأتي الناس إلى جزر هيبريديز ويتجمعوا لأجله، فإن الأمر لم يكن يستحق التجمع. لقد جابت الأغاني الملهمة القليلة سائر أنحاء العالم بأجنحتها الخاصة، شأنها في ذلك شأن كل ثمار الإلهام. لذا كان من الأفضل أن تُنبَذ محاولات التقليد الضعيفة هذه حتى تخمد.

وطوال الحفل كانت ثَمة حركةٌ مستمرة من الدخول والخروج بين الرجال في الجزء الخلفي من القاعة، لكن جرانت كان يعلم ذلك ويلاحظه فقط باعتباره أمرًا لا بد منه، إلى أن ضغط أحدهم على ذراعه وسمع في أذنه شخصًا يقول له: «أتودُّ أن تحصل على بعض من الشراب؟» فأدرك أن ضيافة الجزيرة تعرض عليه حصةً من أندر سلعة في اقتصادها. وحيث إنه كان من غير اللائق أن يرفض، شكر جرانت فاعل الخير، وتبعه إلى العتمة في الخارج. وعلى جدار قاعة الاجتماع المدابر للريح كانت أقلية ممثلة لرجال كلادا تستند عليه في صمتٍ قانع. دفع أحدهم في يده بزجاجة مسطحة سعتُها تعادل فنجانَي شاي. فقال: «في صحتك!» وأخذ منها جرعةً كبيرة. استعادت يدٌ أخرى الزجاجة منه مسترشدةً بعينٍ متمرسة في الظلام أكثر من عينه، وتمنَّى له صوتٌ دوام الصحة. ثم تبع صديقه المجهول عائدًا إلى القاعة المضاءة. وبعد قليل رأى السيد تود أحدهم يضغط على ذراعه خلسة، فمضى السيد تود أيضًا إلى الخارج في العتمة ليحظى بشيء من تلك الزجاجة. فكَّر جرانت في أن هذا لا يمكن أن يحدث في أي مكانٍ آخر. عدا الولايات المتحدة أثناء فترة حظر الكحوليات. لا عجب كثيرًا في أن الاسكتلنديين كانوا حمقى وماكرين ومتظاهرين بالخجل فيما يتعلق بالويسكي. (عدا في ستراثسبي بالطبع، حيث يُصنع الويسكي. في ستراثسبي كانوا يضعون الزجاجة في منتصف الطاولة كما يفعل الإنجليز في واقع الأمر وإن كانوا يفعلون ذلك بقدرٍ أكبر قليلًا من الفخر.) ولا عجب كثيرًا في أنهم كانوا يتصرفون وكأن الحصول على شراب الويسكي أمر يتسم بالجرأة، ناهيك عن وصفه بأنه مجازفة. الأمر المثير للدهشة أن النظرة الخبيثة المتَّسمة بالدراية التي يشير بها الشخص الاسكتلندي العادي إلى مشروبه الوطني لا يمكن إلا أن تأتي من معرفة متوارثة بالحظر، إما من الكنيسة أو من القانون.

أخذ جرانت، مستدفئًا بالشربة التي أخذها من الزجاجة المسطحة، يستمع بأناة إلى دنكان تافيش وهو يتحدث بثقة ويسهب في الحديث باللغة الغيلية. كان يقدِّم ضيفًا أتى من مكانٍ بعيد ليتحدث إليهم. ضيف لم يكن في حاجة لتقديم منه أو من أي أحد؛ ضيف تتحدث إنجازاته عن نفسها. (ومع ذلك راح دنكان يتحدث عنها مطوَّلًا.) لم تلتقط أذنا جرانت اسم الضيف باللغة الغيلية، لكنه أدرك أن المارقين أتوا من الخارج متجمِّعين عند سماعهم صوت التصفيق والهتاف الذي أعقب خطبة تافيش المنمقة. إما أن المتحدث هو محور الاهتمام الحقيقي للأمسية وإما أن مفعول الويسكي قد تبدد.

راح يراقب في فضولٍ يتَّسم بالسكون الجسدَ الصغير وهو ينفصل عن الصف الأول، ويصعد بصعوبة على المسرح بمساعدة البيانو، ويخطو نحو منتصفه.

كان الضيف هو وي آرتشي.

بدا وي آرتشي أكثر غرابة في كلادا مما كان عليه في أرض كلون السبخة؛ فقد كانت قامته غير ملائمة أكثر، ومظهره البهي الشبيه ببهاء ببغاء الكوكاتو أكثر مدعاة للنفور. لم تكن التنورة الاسكتلندية هي رداء سكان الجزر الغربية، ووسط كل هؤلاء الذكور بالألوان الرصينة لملابسهم السميكة الخشنة بدا وي آرتشي أكثر من ذي قبلُ مثل «دمية تذكارية». ومن دون قلنسوته الجريئة ذات اللون الأخضر الفاقع بدا بطريقةٍ ما عاريًا، كرجل شرطة من دون خوذته. كان شعره قليلًا جدًّا ومسحوبًا في شكل خيوطٍ رفيعة إلى أعلى رأسه ليخبِّئ به البقعة الخالية من الشعر. كان يبدو مثل هديةٍ رخيصة من هدايا عيد الميلاد.

ومع ذلك، لم يكن يوجد تصنيف للترحيب الذي حظي به. فباستثناء العائلة المالكة، بصفةٍ شخصية أو بكاملها، لم يستطِع جرانت أن يفكر في أي شخص يمكن أن يتلقَّى ترحيبًا واستقبالًا مكافئًا لما كان وي آرتشي يتلقَّاه الآن. حتى مع استقطاع تأثير تناول الشراب عند الجزء المدابر للريح من المبنى، كان الأمر مثيرًا للذهول. وكان الصمت الذي تبع هذا الترحاب، حين بدأ حديثه، مثيرًا للإطراء. تمنَّى جرانت لو كان بإمكانه رؤية الوجوه. تذكَّر أن بيلا من جزيرة لويس لم تعجبها محاولاته لإقناعها بفكره عند الباب الخلفي للمنزل، أما رأي بات رانكن فيه فغير قابل للنشر. ولكن سكان الجزيرة هؤلاء، المعزولين عن العالم وعن التنوُّع الذي يمكن له وحده أن يعلِّم الرجل كيف يفرق بين هذا وذاك، ما رأيهم فيه؟ هنا كانت توجد المادة الخام لأحلامه؛ السذاجة والنهم والانشغال بالذات والتبجُّح. لا يمكن تحويل سكان الجزيرة إلى حكمٍ آخر؛ لأن أحدًا لم يحكمهم بأي معنًى حقيقي للكلمة. من وجهة نظر سكان الجزيرة أن الحكومة موجودة من أجل استنزاف منافعها وخداعها بعدم سداد مستحقاتها. ولكن يمكن اللعب على طبيعتهم الانفصالية من أجل تنفيرهم من مشاعر التعاطف؛ يمكن شحذ سمة الانتهازية لديهم بإغرائهم بالمنافع. في كلادا، لم يكن وي آرتشي هو التافه المثير للخجل الذي كان عليه في بحيرة لوخان دهو؛ في كلادا كان وي آرتشي مصدر نفوذٍ محتمل. كانت كلادا وكل الجزر المصاحبة لها تمثل، في التقدير النهائي، قواعد غواصات، ونقاط تهريب، وأماكن انطلاق، وأبراج مراقبة، ومهابط للطائرات، وقواعد دوريات. ماذا كان رأي سكان الجزيرة في جيلسبوج ماك أبروثين وعقيدته؟ تمنَّى لو كان باستطاعته رؤية وجوه الحاضرين.

أخذ وي آرتشي يتحدث إليهم مدة نصف ساعة بصوته الرفيع الغاضب، بحماسة وحرارة ومن دون توقف، وأنصتوا له من دون صوت. ألقى جرانت نظرة على صفوف المقاعد الموجودة أمامه، وفكَّر في أنها تبدو أقل امتلاءً مما كانت عليه في بداية الأمسية. وكان هذا الأمر مستبعدًا جدًّا حتى إنه صرف انتباهه عن وي آرتشي ليفكِّر فيه. ولمح حركةً خفية فيما بين الصفَّين الخامس والسادس فتتبعها بعينَيه حتى وصلت نهاية الصف. انتصب الشخص صاحب الحركة فظهر أنه كاتي آن. ومن دون إحداث جلبة، وبعينَين جادتَين مثبتتَين على المتحدث، تلاشت كاتي آن نحو الخلف عبر صفوف الرجال واختفت في الخارج.

ظل جرانت يراقب لمدةٍ أطول قليلًا فوجد أن عملية الذوبان هذه مستمرة، بين الجالسين من الجمهور وبين الواقفين حول الجدران. كان الجمهور يتسرَّب خفية أمام ناظرَي آرتشي. كان هذا غير معتاد على الإطلاق — فالجمهور الريفي سينتظر دائمًا حتى نهاية العرض مهما كان مملًّا — حتى إن جرانت التفت إلى السيد تود وهمس سائلًا: «لماذا يغادرون؟»

«إنهم ذاهبون لمشاهدة الباليه.»

«الباليه؟»

«التلفزيون. إنها متعتهم الكبرى. كل شيء آخر يرونه على التلفزيون ما هو إلا نسخة من شيء رأوه بالفعل. المسرحيات والغناء، وكل شيء. لكن الباليه شيء لم يرَوه من قبلُ. لن يفوِّتوا على أنفسهم مشاهدة الباليه لقاءَ أي شيء أو من أجل أي أحد … ما المُضحِك كثيرًا في ذلك؟»

لكن جرانت لم يكن يضحك على شغف كلادا بالباليه. كان مبتهجًا بالتجريد المستبعد لآرتشي من فاعليته. مسكين آرتشي. مسكين ذلك المغرور الواهم وي آرتشي. لقد تغلَّبت عليه وضعية «أرابيسك»، وأحبطته «وثبةٌ تصالبية»، وهزمته حركة «بلي». كان الأمر ملائمًا ومناسبًا بصورةٍ مذهلة.

«هل ذهبوا بلا عودة؟»

«أوه لا، سيعودون من أجل الرقص.»

وقد عادوا بالفعل بأعدادٍ كبيرة. كان كل شخص على الجزيرة حاضرًا في الرقصة؛ فالعجزة كانوا يجلسون في حلقة، والمشاركون يصيحون في حماسةٍ بالغة. كان الرقص أقل رشاقة مما كان جرانت معتادًا عليه في البر الرئيسي، وأقل جمالًا؛ كان المرء يحتاج في الرقص الخاص بمنطقة المرتفعات إلى التنورة الاسكتلندية، والحذاء الجلدي الناعم الذي لا يُحدث أي صوت على الأرض، ويجعل الرجل يرقص كشعلة بين ذؤابات السيوف. كان الرقص على الجزيرة يشبه كثيرًا الرقص الأيرلندي؛ الكثير من الجمود الأيرلندي المحزن الذي جعل الرقص مجرد حركات قدمَين، وليس دفقةً من المرح تملأ الإنسان حتى نهاية أطراف أصابع يديه المرفوعتَين لأعلى. لكن إن كان الرقص نفسه يفتقر إلى الفن والابتهاج، فقد كانت توجد حالة فرحٍ جماعيةٌ رائعة في هذا الأداء الإيقاعي. كانت توجد مساحةٌ كافية، مع بعض الضغط، لثلاث مجموعات، كل واحدة منها من ثمانية أفراد، وعاجلًا أو آجلًا انجرف الجميع، بمن في ذلك السويديون والهولنديون، في هذا الأداء الجماعي. أطلق كمان وبيانو إيقاعًا حرًّا جميلًا (ولأن تلك الرقصة كانت بحاجة إلى فرقةٍ منضبطة، هكذا فكَّر جرانت وهو يرسل كاتي آن إلى ذراعَي رجلٍ سويديٍّ مسرور، كان المرء في حاجة إلى قرع طبول مزدوج ووقفة؛ قد لا يكون هذا إيقاعًا أصوليًّا، ولكنه كان فعَّالًا بلا شك)، وكانت تتزامن حركات أيدي أولئك المستريحين مع الموسيقى. أخذت الريح تعوي على امتداد الكُوَّات في السقف، وصرخ الراقصون، وعزف الكمان أنغامًا شاذة، وصدح البيانو بأصواتٍ عالية، وقضى الجميع وقتًا رائعًا.

بما في ذلك ألان جرانت.

عاد إلى المنزل يترنح وسط ضربات البَرَد اللاذعة التي أحدثتها الرياح الجنوبية الغربية التي لا ترحم، وارتمى على الفراش ثملًا من المجهود والهواء الطلق. كان يومًا مبهجًا.

كما كان مفيدًا أيضًا. سيكون لديه ما يحكيه لتيد هانا حين يعود إلى البلدة. كان يعرف الآن من هم «غربان» آرتشي براون.

هذه الليلة لم ينظر جرانت إلى النافذة المغلقة بتوجس. وأيضًا لم ينسَها تمامًا. بل نظر إلى النافذة المغلقة وكان مسرورًا بها. لقد استوعب وجهة نظر الجزيرة في وجود نافذة لتمنع وصول طقس الخارج إلى الداخل.

تدثَّر في عشِّه القطني المحشو، بعيدًا عن الرياح والعواصف، وغطَّ في سباتٍ عميقٍ خالٍ من الأحلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤