الفصل العاشر

السريان وملوك السلجوقيين والتتر

كان للسريان شعب غفير في الأمصار التي دوخها السلجوقيون والمغول أيْ التتر في بلاد المشرق، وأصبح ذلك مدعاة إلى وجود علاقات بين أئمتهم وبين ملوك السلجوقيين والتتر، وقد انتهج أئمة السريان خطة رشيدة في عملهم استعطافًا لخاطر أولئك الملوك؛ دفعًا للرزايا لا عن السريان فقط، بل عن سائر الشعوب المجاورة لهم.

وممَّن اشتهر بين السريان يومئذٍ: الحكيم أبو سالم النصراني اليعقوبي الملطي المعروف بابن كرابا، خدم السلطان علاء الدين كيقباذ (١٢١٩–١٢٣٦) وتقدَّم عنده، وكان أهلًا لمجلسه لفصاحة لهجته في اللسان الرومي، ومعرفته بأيام الناس وسير السلاطين، وكان السلطان لا يصبر عنه ساعة.١
وممَّن تعاطى من السريان مع الملوك السجلوقيين يوحنا التفليسي الذي نقل الإنجيل المقدس سنة ١٢٢١م إلى اللغة السريانية، وذلك إجابة إلى طلب السلطان علاء الدين كيقباذ المشار إليه، وكانت نسخة ذلك الإنجيل مصحَّحة بخط البطريرك يوحنا بن شوشان، ومشروحة غوامضه بقلمه.٢
ويذكر بعد ذلك تقي الدين الراسعيني الطبيب المعروف بابن الخطاب الذي أتقن صناعة الطب غاية الإتقان علمًا وعملًا، خدم السلطان غياث الدين وابنه عز الدين، وصار له منزلة عظيمة منهما، فرفعاه من حد الطب إلى المعاشرة والمسامرة، وأقطعاه إقطاعات جزيلة، وكان في خدمتهما بزي جميل وأمر صالح وغلمان وخدم، وصادف من دولتهما كل ما سرَّه.٣

وذكر ابن العبري أن البطريرك أغناطيوس الثالث (١٢٢٢–١٢٥٢م) قابل السلطان عز الدين بن غياث الدين السلجوقي في ملطية حاملًا إليه الهدايا والتحف النفيسة، وقد لفظ هذا البطريرك على مسامع السلطان خطابًا بليغًا باللغتين العربية والفارسية، ودعا له بالتأييد والنصر.

وذكر المؤرخون أن أغناطيوس الرابع بطريرك السريان (١٢٦٤–١٢٨٣) توجَّه إلى «الطاق» عاصمة التتر وزار هولاكو، ونال منه فرمانًا يؤيده في البطريركية الأنطاكية، ثم سار البطريرك دفعة ثانية وزار الملك «أباقا» بن هولاكو وخليفته في تخت المملكة، فكتب له فرمانًا ثانيًا بالبطريركية.٤
وأثبت المؤرخون أيضًا أن هولاكو لما سمع بشهرة الربان شمعون السرياني وبراعته في الطب، أرسل يستدعيه إليه، وعيَّنه طبيبًا خاصًّا في بلاطه الملكي؛ فنال الربان شمعون حظوة عظيمة عند ملوك التتر وملكاتهم، وعند أولاد العترة الملكية كافة. وصرف الربان جهوده ونفوذه في دفع الضيم عن أبناء ملته، وتعزيز شأنهم وصيانة كنائسهم في جميع الأمصار الخاضعة لحكم التتر.٥
وقد توثقت العلاقات الطيبة بين ملوك التتر وبين المفريان ابن العبري لما سمعوا عنه من غزارة المعارف وسمو الأخلاق. ولما جرى الاحتفال بتتويج أحمد خان ملكًا على التتر سنة ١٢٧٩، انطلق المفريان إلى «الطاق» لحضور ذلك المهرجان، واستصحب معه رهطًا من أساقفته حاملين الهدايا والتحف إلى الملك الجديد؛ فرحَّب بهم الملك أحمد خان وتوسَّع في ضيافتهم، وقلَّد المفريان فرمانًا شاهانيًّا.٦
وبعد هذا التاريخ غزا التتر دير مار بهنام بجوار الموصل عام ١٢٩٥م، وسلبوه أمتعته وكنوزه، فقصد الربان يعقوب رئيس الدير ملك ملوك التتر واسترجعها، ثم وافى الملك نفسه في عظماء دولته وحرمه، فزار ضريح القديس بهنام، وأهدى إليه هدية، وسجد له وندم على ما صار، وأصدر الأمر بأن تُنقَش فوق قبته كتابة باللغة الإيغورية أي التترية إقرارًا بفضل مار بهنام، وتأمينًا لحياة رهبانه، وهاك تعريب الكتابة: «يحل سلام الخضر بهنام ولي الله ويستقر على القآن وعظمائه وخواتينه».٧

هوامش

(١) تاريخ مختصر الدول: صفحة ٤٤٤.
(٢) اللؤلؤ المنثور: صفحة ٤٠٢.
(٣) تاريخ مختصر الدول: صفحة ٤٧٩.
(٤) الزهرة الذكية في البطريركية السريانية الأنطاكية: صفحة ٧٤.
(٥) تاريخ الدول السرياني، لابن العبري: صفحة ٥١٢.
(٦) التاريخ البيعي، لابن العبري: جزء ٢، في أخبار ابن العبري.
(٧) مجلة الآثار الشرقية: مجلد ٣، سنة ١٩٢٨، صفحة ١٩٧ و٢٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤