الفصل الثاني عشر

بعض ذخائر السريان وكنوزهم الثمينة في العصر الذهبي

(١) أقدم أثر نصراني إنما كُتِب بالسريانية

أقدم الآثار النصرانية الكتابية رسالة أبجر الخامس ملك الرها وجواب السيد المسيح له، فقد أثبتت التقاليد السريانية استنادًا إلى أوسابيوس إمام المؤرخين البيعيين أن أبجر ملك الرها وجَّه رسالة إلى السيد المسيح يدعوه إلى عاصمته ليتخلص من غوائل اليهود، فأجابه السيد المسيح قائلًا: «لا بد لي من أن أتمِّم في أورشليم ما لأجله انحدرت إلى الأرض، وبعد صعودي إلى السماء أرسل إليك أحد تلامذتي ليشفيك من علتك وينيرك بأنوار الإيمان.»

وصرح أوسابيوس في تاريخه أن رسالة السيد المسيح كانت محفوظة في المكتبة الملكية بالرها،١ وقد تولى هو بنفسه نقل الرسالتين إلى اليونانية عن أصلهما السرياني،٢ وظلت هاتان الرسالتان الأثريتان محفوظتين في المكتبة الرهاوية حتى القرن الحادي عشر، فنقلهما رومانس الثالث ملك الروم (١٠٢٨–١٠٣٤) إلى القسطنطينية.
قال يحيى الأنطاكي: «في آخِر السنة الثالثة من ملك رومانس سار إليه سليمان بن الكرجي صاحب الرها، واستصحب معه الكتاب الوارد من أبجر ملك الرها إلى السيد المسيح وجواب السيد له، وكان كل واحد منهما على ورق طومار مكتوبين بالسرياني، وخرج الملك والكسيوس البطريرك وجميع أهل المملكة لاستقبالهما، وتسلَّمهما الملك بخشوع وخضوع تعظيمًا لكتاب السيد المسيح، وأضافهما إلى الآثارات المقدسة التي في بلاط الملك، وعني رومانس الملك بترجمتهما من السرياني إلى اليوناني، وترجمهما لنا إلى العربي الناقل الذي تولَّى نقلهما إلى اليوناني على هيئتهما ونصهما.»٣

(٢) منديل السيد المسيح

حُفِظ هذا المنديل المبارك في كنيسة مار قزما بمدينة الرها زمنًا طويلًا قبل أن يستولي عليها المسلمون، ولما تولى المتقي الخلافة العباسية (٩٤٠–٩٤٤) كتب إليه ملك الروم يطلب منه المنديل المذكور. قال ابن العبري: «في السنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة للهجرة (٩٤٢م) أرسل ملك الروم إلى المتقي يطلب منه منديلًا مسح بها المسيح وجهه، فصارت صورة وجهه فيها، وأنها في بيعة الرها، وذكر أنه إن أرسلها إليه أطلق عددًا كثيرًا من أسارى المسلمين، فاستفتى المتقي القضاة والفقهاء فأنكر بعضهم تسليمها، وأجاب بعضهم قائلًا: إن خلاص المسلمين من الأسر والضر والضنك الذي هم فيه أوجب؛ فأمر المتقي بتسليم المنديل إلى الرسل، وأرسل معهم مَن يستلم الأسارى.»٤

(٣) ذخائر كنيسة مار يوحنا الكبرى في الرها

ضمت هذه الكنيسة القاتوليقية ذخائر ثمينة وصفها المؤرخون السريان وغيرهم، وقد فُقِدت إذ تبعثرت عام ١١٤٥ للميلاد في معركة زنكي الطاغية، وكان بين تلك الذخائر صندوقة من الفضة الخالصة مرصَّعة بالذهب، احتوت على رفات أدي الرسول وأبجر ملك الرها٥ الذي يُعَدُّ أول ملك مسيحي على الأرض.٦

(٤) مائدة مذبح من الفضة في كنيسة الرها العتيقة

من أثمن الآثار القديمة التي خلَّفها السريان مائدةُ مذبح من الفضة الخالصة، ورد ذكرها في تاريخ الرها المعروف بعنوان «مختصر تاريخ الأحوال»، وهو من أدق التواريخ الواصلة إلينا وأقدمها، وكان العلامة يوسف شمعون السمعاني أول مَن نشره بالطبع في مكتبته الشرقية،٧ وهاك ما ورد فيه عن مائدة المذبح المذكور معرَّبًا عن السريانية: «في السنة ٧٤٩ للإسكندر (٤٣٨م)، في عهد يهيبا مطران الرها (٤٣٥–٤٥٧)، استحضر سنطور الرهاوي مائدة مذبح كبرى من الفضة تزن سبعمائة وعشرين رطلًا، وزيَّن بها كنيسة الرها العتيقة.»

(٥) كنوز أيونيس الرصافي في الرها

اشتهر أيونيس السرياني عام ٦٠٨ للميلاد بنفوذه وجاهه وثروته في الرها، وكان في مقدمة مَن ولَّاهم ملوك الروم على تلك المدينة، وقد زاره في قصره كسرى ملك فارس، واطَّلَع على ما حواه ذلك القصر من الكنوز الثمينة والآثار والمسكوكات القديمة.

وعلى إثر وفاة أيونيس طُمِرت تلك الكنوز في قلب أرض داره؛ خوفًا من أن يستولي كسرى عليها، وبقيت مطمورة هناك مدة قرنين كاملين، ولما كانت السنة ٨٠٢ انتقلت دار أيونيس إلى حوزة سلبسطر أحد أنسبائه، وذاع يومئذٍ وشاع أن في قلب الدار كنزًا ثمينًا جدًّا، فاستخرج منها أولاد سلبسطر دنانير وجواهر ذهبية وفضية وأواني ثمينة جدًّا.

ولما شعر هارون الرشيد (†٨٠٨) بالأمر، وجَّه أحد خصيانه فقبض على أولئك الأولاد واضطر أمهم العجوز وبناتها أن يطلعنه على الكنز، فأحضرن له شيئًا كثيرًا من كئوس وصحون وملاعق ذهبية وفضية، وجرار وأكواز فضية ممتلئة دنانير رومانية، ومسكوكات عديدة نُقِشت عليها تماثيل حيات وعقارب ذهبية وفضية، واشتمل بعضها على مواد كيماوية ذهبية ظنها أصحابها ترابًا فباعوها بأبخس الأثمان، وقد نُقِلت تلك الكنوز إلى هارون الرشيد فضمها إلى خزانة المملكة.٨

(٦) ذخائر كنيسة ميافرقين

ميافرقين: قاعدة ديار بكر بين الجزيرة وأرمينيا … وكانت تُسمَّى قديمًا مدينة الشهداء لما جمعه بها القديس ماروثا من عظام شهداء الفرس الذين قتلهم كسرى، وأقام بها كنيسة على اسم الرسولين بطرس وبولس، وكانت من عجائب الكنائس. قال ياقوت: وكانت بها بيعة من عهد المسيح، وفي البيعة الكبرى جرن من رخام أسود فيه منطقة زجاج فيها دم يوشع بن نون (والصحيح أنه كان من بقايا دم المسيح) وهو شفاء من كل داء، وإذا طُلِي به على البرص أزاله، يقال إن ماروثا جاء به معه من رومية الكبرى عند عوده من عند الملك.٩

(٧) تبعثر ذخائر السريان وكنوزهم القديمة

نضرب صفحًا عن ذكر ما كانت تحويه خزائن بطاركة السريان ومطارنتهم وكنائسهم وأديارهم، من الآثار القديمة، والأواني القدسية الثمينة، والحلل الفاخرة التي لا مثيل لها إلا في خزائن الملوك والسلاطين، فقد أشار القس هارون الأرزنجاني إلى شيء من تلك الكنوز الوافرة التي تُعَدُّ كنضاضة من ذلك التراث العظيم.١٠ وفي تقاليد السريان بطور عبدين أن تيمور لنك الطاغية انتزع من كنائسهم وأديارهم كل ما كان فيها من حلي وحلل ومصاغات لا تُقدَّر بثمن.١١

هوامش

(١) تاريخ أوسابيوس: خبر ١٣، عدد ٦٧.
(٢) مجلة الآثار الشرقية: مجلد ٢، سنة ١٩٢٧، صفحة ٢١٢–٢٢٣.
(٣) تاريخ يحيى الأنطاكي: صفحة ٢٥٢–٢٦٣.
(٤) تاريخ مختصر الدول: صفحة ٢٨٧. وتاريخ يحيى الأنطاكي: جزء ٢، صفحة ٩٨.
(٥) تاريخ الرهاوي: فصل ١٤١، صفحة ٣١٦.
(٦) ميمر مار يعقوب السروجي ١٨٠ مجلده صفحة ٧٣٨.
(٧) المكتبة الشرقية، للسمعاني: مجلد ١، صفحة ٤٠٣.
(٨) تاريخ الرهاوي: فصل ٨٧ و١٠٩، صفحة ١٣٧ و٢٢٤، وهذا الخبر ذكره ميخائيل الكبير وابن العبري أيضًا.
(٩) شرح مجاني الأدب: مجلد ١، صفحة ١٠٦.
(١٠) اللؤلؤ المنثور: صفحة ٤٧٧.
(١١) سياحة من بيروت إلى الهند، للأب لويس شيخو (المشرق، مجلد ١٥، سنة ١٩١٢، صفحة ٧٨٠).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤