الفصل الخامس عشر

الفنون الجميلة عند السريان

التطريز والتصوير والنقش

راجت عند السريان أسواق الفنون الجميلة كالنقش، والحفر، والتصوير، والزخرفة، والتطريز، والهندسة، والموسيقى، وتجويد الخط، فأتقنوها منذ أقدم العصور وبرعوا فيها، ولعلهم فاقوا غيرهم من الشعوب بما خلفوه من الآثار المستبدعة في الفنون المذكورة، وما برحت بعض معاهدهم القديمة فضلًا عن متاحف الشرق والغرب تشتمل على طرائف من تلك الذخائر النفيسة مما يدهش العقول ويبهج الأبصار، وكلها تبرهن عما وهبهم الله — عز وجل — من الحذق والنباهة والإتقان في العمل، وهاك ما تيسر لنا الوقوف عليه من هذا القبيل في مطالعاتنا الكثيرة وأبحاثنا الدقيقة:

(١) رداء سنعاري ملكي مطرز بالذهب

مما سطره الكتاب المقدس عن فنون السريان الآراميين رداء سنعاري نفيس ورد ذكره في سفر يشوع بن نون١ وقال عنه يوسيفس المؤرخ: «هو رداء ملكي موشى بالذهب.»٢ أما سنعار فهي برية بلاد ما بين النهرين، منها خرج إبراهيم إلى أرض كنعان، وكان إبراهيم آراميًّا كما نصَّ الكتاب المقدس.٣

(٢) تصاوير وكتابات آرامية سريانية في كنيس دورا

خلف السريان القدماء آثارًا جمة برهنت على براعتهم في التصوير والنقش، لا في أبنيتهم فقط بل في أبنية غيرهم من الشعوب، فمن أروع آثارهم الفنية ما حُفِظ في كنيس لليهود يرتقي عهد بنيانه إلى السنة ٥٥٦ للإسكندر، وقد اكتشف ذلك الكنيس في مدينة دورا ونُقِل بأجمعه إلى دار الآثار بدمشق، فتعهدناه بنفسنا ودهشنا بما شاهدناه فيه من زخرف وجمال وإتقان، ولفتت نظرنا خصوصًا تصاوير جميلة وكتابات آرامية قام بها مصور سرياني.

ومما رسمه ذلك المصور بريشته على جدران الكنيس صورةُ خروج بني إسرائيل من مصر، وصورةُ موسى الكليم والعليقة الملتهبة في حوريب، وصورةُ حلم يعقوب أبي الأسباط، وصورةُ زيارة ملكة سبأ لسليمان الملك. وقد لوَّن المصوِّر السرياني تلك الصور العجيبة بلون أحمر غامق، ونقش أيضًا في سقف الكنيس على لوحتين كتابات آرامية سريانية.٤

(٣) تصاوير السريان في كنائسهم اللبنانية

  • كنيسة مار شربيل في معاد: كان للوثنيين في قرية معاد هيكلٌ على اسم المشتري حوله أحد أغنياء السريان الرهاويين٥ المقيم في لبنان إلى بيعة مسيحية، وأطلق عليها اسم مار شربيل شهيد الرها وطنه. وعلى جدران هذه الكنيسة رُسِمت صور جميلة عُدَّت طرفة من طرف الأيام، غير أن مرمِّميها الجهلة في الأعوام الأخيرة عبثوا بآثارها القديمة، ومحقوا صورها ونقوشها النفيسة.٦
  • كنيسة مار ثئودورس في بحديدات: من أقدم كنائس السريان في لبنان كنيسة مار ثئودورس الشهيد في بحديدات، وهي مزدانة برسوم جميلة، وكتابات قديمة، منها صور الكاروبيين يحملون بين أيديهم تسبيحة التقاديس الثلاثة مكتوبة بحروف سطرنجيلية، وهناك صور غيرها تزينها كتابات سطرنجيلية أيضًا تعرِّف أسماء الأشخاص المصوَّرين فيها،٧ ولا حاجة إلى التصريح بأن هذه الكنيسة القديمة كانت في حوزة السريان قبل أن يتولاها الموارنة.٨
  • كنيسة مار جرجس في إهدن: بنى السريان هذه الكنيسة في أوائل النصرانية في لبنان، وأطلقوا عليها اسم مار جرجس ومار إبحاي وستنا السيدة في إهدن،٩ وزيَّنوها بصور جميلة تحاكي صور بيعة مار شربيل في معاد ومار ثئودورس في بحديدات ومار كور كيس في رشكيدا،١٠ ولما أمتلكها الموارنة بتوالي الأزمان أطلقوا عليها اسم مار جرجس فقط.
  • كنيسة مار كوركيس في رشكيدا: هاك كنيسة رابعة أنشأها السريان بلبنان في سالف الأيام، وهي كالكنائس الثلاث السابق ذكرها، نُقِشت على حيطانها صور لا تقل إتقانًا وجمالًا عن صور تلك الكنائس.
    وقد شرحنا أخبار هذه الكنائس الأربع بالتفصيل الوافي في كتابنا «السريان في لبنان»،١١ وسننشره في وقت قريب إن شاء الله تعالى.

(٤) تصاوير السريان في كنائسهم بالعراق

  • تصاوير كنيسة المفارنة الكبرى في تكريت: تكريت مدينة في العراق بين الموصل وبغداد، تُعَدُّ إحدى عواصم السريان وقاعدة مفارنتهم، وكان لهم فيها شأن عظيم دون سائر المدن، فشيدوا فيها كنائس جمة، أكبرها وأفخمها كنيسة مار سرجيس ومار باخس التي قام بتأسيسها المفريان بريشوع (٦٦٩–٦٨٤)، وعني كثيرًا بزخرفتها وزينها بتصاوير رائعة تبهر الأبصار حتى أصبحت — كما قال المفريان ابن العبري — من أظرف الكنائس وأبدعها، واحتوت على أضرحة بعض المفارنة، وقد حُفِر على كلٍّ منها في السطرنجيلية اسم المفريان المدفون فيه وتاريخ سيامته ووفاته، ولم يسمح المفارنة للنساطرة أن يشيدوا لهم كنيسة في تكريت حتى القرن الثامن، فابتنوا عام ٧٦٧ كنيسة على شاطيء دجلة خارج سور المدينة.١٢
  • تصاوير كنيسة السريان في بغداد: من الكنائس التي تجلت فيها براعة فن التصوير كنيسةُ بغداد السريانية الكبرى في عهد الخلفاء العباسيين، فإنها احتوت من عجائب الصور ما أدهش الناظرين، وقد قصدها الناس من الآفاق.١٣
  • تصاوير كنيسة مار بهنام بالموصل: سبق لنا في الفصل الثالث عشر وصف الصور البديعة الباقية حتى اليوم في كنيسة دير مار بهنام الشهيد المشيد في القرن الرابع بجوار الموصل، فنكتفي هنا بالإشارة إليها ونحيل القاريء إلى مطالعتها في مكانها.

(٥) تصاوير كنائس السريان في طور عبدين

  • تصاوير كنيسة دير قرتمين: أوردنا في الفصل السابق وصف هذه الكنيسة النفيسة، وهنا نكرر القول إنها كانت تشتمل على صور الإنجيليين الأربعة ورموزهم، أعني الإنسان والأسد والثور والنسر، وكانت مزدانة أيضًا بثلاثمائة صورة تمثلت فيها حياة السيد المسيح وأعماله ومعجزاته.١٤
  • تصاوير كنيسة قلث: هذه الكنيسة المشيدة على اسم الرسول مار سمعان القناني في قرية قلث بطور عبدين، اشتهرت بقدمها ولا سيما بالتصاوير المدبجة في جدارنها، ولم يزل بعضها واضحًا والبعض الآخَر طمسه الزمان.١٥
  • تصاوير كنيسة والدة الله في حاح: تعتبر هذه الكنيسة من أجمل كنائس طور عبدين وألطفها وأعرقها في القدم، يعلو سوقها قبة شاهقة فخمة يليها قدس الأقداس، وهي على شكل صليب مزدانة بصور كثيرة ونقوش وافرة، ووراء مذبحها كوى ثلاث رسمت عليها زخارف متنوعة.١٦
  • تصاوير كنيسة مار شمعون في حبسناس: يتقادم عهد بناء هذه الكنيسة إلى القرن السابع، ويعلو قدس الأقداس فيها رواق شاهق دبجت حجارته بنقوش بديعة تلفت الأنظار.١٧
  • تصاوير كنيسة عرناس: بُنِيت هذه الكنيسة الكبرى فوق رابية في بلدة عرناس، وتعرف بكنيسة والدة الله ومار بسوس، ومار قرياقس وأمه يوليطي، وهي تضارع كنيسة حبسناس بهندسة بنائها ونقوشها وزخارفها وتصاويرها.١٨

(٦) تصاوير ديرَيْ الكرسي البطريريكي ورخارفهما

  • تصاوير دير مار برصوم في ملطية وأمتعته: من جملة الأديار التي أقام فيها بطاركة السريان دير مار برصوم بجوار ملطية، وهو دير عظيم أنشئ عام ٧٩٠ للميلاد، وصار كرسيًّا بطريركيًّا في القرن الثامن حتى أواخر القرن الثالث عشر، وقد تفانى البطاركة بإتقان هندسة أبنيته وتجميله بالصور والزخارف،١٩ نذكر منهم البطريركَيْن ميخائيل الكبير (١١٦٧–١٢٠٠)، وأغناطيوس الثالث (١٢٢٢–١٢٥٢)، ذلك فضلًا عما حواه من مخطوطات وافرة وأمتعة وأوانٍ بيعية ثمينة.

    وكتب أغناطيوس الثالث في وصيته لدير مار برصوما صليبًا كبيرًا من الذهب، ومروحتين فضيتين، وحلة حبرية نفيسة، وثلاث حلل حبرية حريرية، وبطرشيلات فاخرة، ومصنفات بديعة، وكوز فضة للميرون، ورأس عكاز ذهبيًّا، وكتاب سيامات كهنوتية بخط سلفه ميخائيل الكبير، ذلك عدا ما كتبه من النقود لملك قيليقيا الأرمني وللكهنة وغيرهم.

  • تصاوير دير الزعفران: أصبح دير الزعفران مركزًا لبطاركة السريان منذ أوائل القرن الثاني عشر، غير أنهم لم يستقروا فيه إلا من عهد البطريرك أغناطيوس الخامس (١٢٩٣–١٣٣٣) المعروف بابن وهيب، ولم يزل كذلك على رغم اضطرار بعضهم إلى السكنى خارجًا عنه لدواعٍ استثنائية.

    أما كنيسة الدير فتشتمل على بعض الصور، ولا سيما صورة مار حنانيا شفيعه. ومذبح الكنيسة خشبي مطعم بنقوش زاهية جميلة، وعلى بابها الغربي كتابات سطرنجيلية محبوكة بزخارف ملونة، وفي صدر الكرسي البطريركي أسماء جميع البطاركة مرسومة بالسريانية بشكل دوائر، منذ الرسول بطرس إلى هذا الزمان. وحوى دير الزعفران مذبحًا جميلًا نقشت على طرفيه بحروف سطرنجيلية ضخمة آيات من الإصحاح السادس عشر لإنجيل متى الرسول، ابتداءً من قوله: «وجاء يسوع إلى نواحي قيسارية فيلبس»، حتى قوله «وعلى هذه الصخرة أبني بيعتي».

(٧) تصاوير السريان في مصاحفهم

مثلما نبغ السريان في تنميق الأقمشة والأخشاب والجدران والعاج بالصور والزخارف، نبغوا كذلك في تزيين المصاحف بأروع الرسوم وأبدع الخطوط، وقد خلفوا منها عددًا وافرًا تتباهى به المتاحف والمكتبات شرقًا وغربًا، إنما اكتفينا هنا بالإلماع إليها فقط لأننا أفرزنا لها فصلًا خاصًّا حوى وصفها وبيان مزاياها.

(٨) مشاهير المصورين السريان

  • منمق إنجيل ربولا ومصوره: أقدم مصور سرياني وقفنا له على آثار في هذا الفن هو الربان ربولا، الذي عاش في النصف الثاني من القرن السادس، فإنه تولى رئاسة دير مار يوحنا في زغبة، ونمَّق سنة ٥٨٦ ميلادية الإنجيلَ الرائع المعروف باسمه في مكتبة فلورنسا وزيَّنه بالصور النفيسة، وسنذكر في فصل لاحق مزايا هذا الإنجيل وخبر منمِّقه العلَّامة.
  • سويرا سابوخت (†٦٦٧م): مهر في العلوم الفلكية، وصنَّف فيها كتابًا زيَّنه بصور البروج والكواكب.٢٠
  • منمق إنجيل قرقوش ومصوِّره: هذا إنجيل سطرنجيلي ثانٍ أمتعنا النظر برؤيته، وأعجبنا ببراعة الراهب مبارك بن داود البرطلي الذي أفرغ مواهبه في تنميق صحائفه ووشاها بالرسوم الباهرة، وسنتحدث بالتفصيل عن هذا الإنجيل النفيس، وعن براعة محبره في غير هذا الفصل.
  • سائر مشاهير المصورين السريان: ما عدا الربان ربولا الزغبي، وسويرا سابخت، والراهب مبارك البرطلي، عثرنا على أسماء رهط من المصورين السريان خلفوا آثارًا نفيسة دلَّت على نبوغهم في هذا الفن، نذكر منهم على سبيل المثل: الراهب شمعون، والراهب يشوع، والراهب يحيى في القرن التاسع،٢١ والشماس يوسف الملطي (†٩٩٧م) الذي تميز بفن النقش والتصوير المزوق، فضلًا عن التفنن في الخط، وفي ذلك جاراه الراهب يحيى أو يعيش السبيريني في القرن الحادي عشر، والراهب سهدو الرهاوي سنة ١١٤٩م، ومثلهم الراهب القس بطرس ابن الشماس أبي الفرج سابا السبيريني، نسبةً إلى باسبرينا في طور عبدين، ثم الراهب القس سهدو آل توما الطورعبديني، والمطران ديوسقورس ثئودورس امتاز بخطه السطرنجيلي النفيس، وأبدع خصوصًا في التصاوير الملونة، ومن آثاره إنجيل مصور في الخزانة الزعفرانية.٢٢ وجاء بعد هؤلاء المصورين القس وسف العرناسي (١٤٤٩) نسبةً إلى عرناس إحدى قرى طور عبدين، والراهب دانيال القصوري (†١٥٥٧) نسبةً إلى قرية القصور الواقعة في جنوبي ماردين، والبطريرك أغناطيوس نعمة الله (١٥٥٧–١٥٧٦–١٥٩٠) وغيرهم.

هوامش

(١) سفر يشوع بن نون: ٧–٢١.
(٢) قاموس الكتاب المقدس، تأليف الدكتور جورج بوست: صفحة ٤٨٠.
(٣) سفر التكوين: ١١–٣١، و١٢–١.
(٤) مجلة Illustration في باريس: تاريخ ٢٩ تموز ١٩٣٣.
(٥) لبنان، لمحات في تاريخه وآثاره وأسره، للخور أسقف يوسف داغر: صفحة ١٣٠.
(٦) تسريح الأبصار، للأب هنري لامنس: جزء ١، صفحة ٨٥–٨٧.
(٧) تسريح الأبصار: جزء ١، صفحة ٨٧-٨٨.
(٨) نقلًا عن مخطوط قديم في مكتبة الخوري ميخائيل صائح الموصلي، ورد فيه: أن المفريان أغناطيوس صليبا رقى الشماس بهنام قسيسًا على بيعة مار ثئودورس في بحديدات بلبنان، بتاريخ ٢٤حزيران ١٥٦٧ للإسكندر (١٢٥٦ ميلادية).
(٩) فهرس مخطوطات المكتبة الواتكانية: رقم ٥٢.
(١٠) لبنان، لمحات في تاريخه وآثاره وأسره: صفحة ١٣٠.
(١١) السريان في لبنان: جزء ١، قسم ٦، فصل ٥ رقم ١ و٣، وفصل ٧ رقم ٢، وفصل ٨ رقم ١.
(١٢) المشرق: مجلد ٢٢، سنة ١٩٢٤، صفحة ٣٦٧-٣٦٨، نقلًا عن الجزء الثاني من تاريخ ابن العبري الكنسي.
(١٣) معجم البلدان، لياقوت: مجلد ٤، صفحة ١٤١.
(١٤) مخطوطة دير الشرفة: رقم ١١–٦.
(١٥) المشرق: مجلد ١٦، سنة ١٩١٣، صفحة ٥٧٥ (سياحة في طور عبدين).
(١٦) سياحة في طور عبدين (المشرق: مجلد ١٦، سنة ١٩١٣، صفحة ٦٧).
(١٧) سياحة في طور عبدين (المشرق: مجلد ١٦، سنة ١٩١٣، صفحة ٦٧).
(١٨) سياحة في طور عبدين (المشرق: مجلد ١٦، سنة ١٩١٣، صفحة ٦٧٤).
(١٩) تاريخ الرهاوي: جزء ٢، صفحة ٣١٥-٣١٦. وميخائيل الكبير: صفحة ٦٤٢.
(٢٠) المستشرق ساخو: المقالات السريانية غير المطبوعة، صفحة ١٢٧–١٣٤.
(٢١) اللؤلؤ المنثور: صفحة ٤٨٧.
(٢٢) اللؤلؤ المنثور: صفحة ٤١١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤