الفصل الثامن عشر

الخط السرياني

(١) استنباط الكتابة

لا شك أن الذي استنبط صناعة الكتابة أولى الجنس البشري منة عظيمة استحق من أجلها الشكر المؤبد، والرأي السائد بين العلماء هو أن الكتابة استنبطتها الأمة الفونيقية التي سكنت في سواحل فونيقي المعروفة في يومنا بالسواحل اللبنانية، وهذا وحده كافٍ ليجعل للسريان حق الفخر باستنباط الكتابة؛ لأن بلاد فونيقي، كصور وصيدا وبيروت وجبيل … إلخ، ليست إلا بقعة صغيرة من بلادهم.١

(٢) تلقين السريان صناعة الكتابة لسائر الأمم

قال البحَّاثة اللغوي المطران إقليميس يوسف داود ما نصه: «جاء في صحف اليونانيين القدماء أنه في نحو السنة ١٥٩٠ قبل المسيح، وصلت إلى أرض اليونانيين من بلاد الفونيين التي يقال لها فونيقي، وهي أقصى أرض السريان غربًا … فئة من الشاميين في مقدامها رجل اسمه قدمو، وجلبت إلى هناك صناعة الكتابة، وصار اليونانيون منذ ذلك الزمان يكتبون بالحروف السريانية إلى يومنا هذا، وقد حفظوا إلى الآن أسماءها السريانية بعينها، وأبقوها على ترتيب السريان، بل إن اليونانيين حافظون أسماء الحروف السريانية بالصيغة السريانية دون سائر الأمم التي تعلَّمت الكتابة من السريان. ثم إن اليونانيين أبقوا الحروف على الصور التي كانت لها عند السريان يوم تعلَّموها منهم.٢

(٣) العلماء وأصل الكتابة

أثبت العلماء أن الأمم العريقة في الحضارة اقتبست صناعة الخط عن السريان، وهاك ما يؤيد ذلك، قال ديودورس الصقلي المؤرخ الشهير في القرن السابق للميلاد: «إن استنباط الكتابة يعود فضله إلى السريان.» وكتب إقليميس الإسكندري في القرن الثاني للميلاد: «ذهب كثيرون من القدماء إلى أن السريان هم الذين استنبطوا الكتابة.»٣
وممَّن تناول هذا الموضوع الدكتور جايمس الإنكليزي، قال ما تعريبه: «كان كلما وصل إلى يد تاجر سرياني آجر محفور بالكتابة المسمارية، تناول قلمه وعلَّق على ذلك بالسريانية ما شاء تعليقه. أما في دوائر الحكومة، فإذا كان الكاتب سريانيًّا دوَّن المَحاضِر بقلم الحبر على ملف البردي، وإذا كان الكاتب آثوريًّا دوَّن كتابته بقلم قصب على الآجر. وبالجملة فإن الحضارة السريانية خلفت في جميع الأماكن الشاسعة التي انتشرت فيها آثارًا خالدة.٤

(٤) فروع الخط الفونيقي السرياني

أقدم الخطوط أو الأقلام المشتقة من الخط الفونيقي هو الخط الذي اصطلح عليه اليهود في عهد قورش ملك فارس (٥٣٨–٥٣٥ق.م)، وما زالوا مصطلحين عليه دون سواه في كتابة الأسفار المُنزَّلة، وهم يسمونه «القلم المقدس». وفي تقاليد اليهود أن عزرا الكاتب الشهير لما قدِمَ نحو السنة ٤٥٧ ق.م من بلاد فارس إلى أورشليم، أدْخَل هذا الخط السرياني المربع في جميع أسفار الكتاب المقدس؛ لأن أمته كانت تفهم حين ذاك اللغة السريانية أكثر من العبرانية.

وهاك أسماء الأقلام أو الخطوط التي تتفرع من الخط الفونيقي السرياني: أبدعها وأجملها وأشهرها بعد القلم المربع المذكور هو الخط السطرنجيلي الذي خصَّصه السريان منذ بدء النصرانية بكتابة الإنجيل، ويشاهد منه عدة مخطوطات نفيسة ثمينة في مكتبات الفاتيكان، ولندن، وباريس، وبرلين، وأوكسفرد، وأميركا، وفلورنسا … إلخ. ومن هذا الخط السطرنجيلي البديع الذي اشتهر خصوصًا في عصر السريان الذهبي نشأ خط السريان الملكيين، ثم خط السريان المغاربة والموارنة، ثم خط الكلدان أو السريان المشارقة، وهناك خط آخَر سرياني خصَّ به أهل فلسطين، وله خواص تميِّزه عن سائر الخطوط السريانية.

ويطول بنا المجال لو شئنا نعدِّد أشكال الخطوط التي اشْتُقَّت من الخط السرياني الفنيقي الأصلي، إلا أننا اكتفينا هنا بتعداد الخطوط التي انبثقت منه، وهي:
  • (١)

    الخط اليهودي المربع.

  • (٢)

    الخط الفونيقي أو الساحلي.

  • (٣)

    الخط اليوناني.

  • (٤)

    الخط اللاتيني.

  • (٥)

    الخط البابلي.

  • (٦)

    الخط النبطي.

  • (٧)

    الخط المندوي.

  • (٨)

    الخط التدمري.

  • (٩)

    الخط السطرنجيلي.

  • (١٠)

    الخط الملكي.

  • (١١)

    الخط الفلسطيني.

  • (١٢)

    الخط السرياني الغربي والماروني.

  • (١٣)

    الخط السرياني الشرقي أو الكلداني.

  • (١٤)

    الخط الحميري.

  • (١٥)

    الخط الكوفي.

  • (١٦)

    الخط النسخي العربي.

ومن المعلوم أن الفرس أيضًا كانوا يكتبون بالخط السرياني، فإن خطَيْهم الزندي والبهلوي مأخوذان من الخط السرياني، وقِسْ عليهم الأرمن، فإنهم إلى القرن السادس كانوا يكتبون بالخط السرياني، وكذا العرب فإنهم تعلموا الكتابة من السريان … والخلاصة: أن جميع الأمم القديمة المشهورة تعلَّمت صناعة الخط الشريفة من الأمة السريانية.٥
تكفي إذن الأمة السريانية هذه المزية الفريدة ليسجل لها التاريخ في صفحاته المجيدة بأقلام ذهبية ذكرى منزلتها المثلى في الحضارة والثقافة، فقد أصبحت باستنباطها صناعة الخط مرجعًا لكل الأمم المتحضرة، حتى لُقِّبَت بكل جدارة «أميرة الثقافة» و«أم الحضارة».٦

(٥) الخطاطون والنسَّاخ السريان

لو شاء أحد أن يدقق في البحث عن جماهير الخطاطين والنسَّاخ السريان، لتعذَّر عليه الوقوف على أسمائهم فضلًا عن مصنفاتهم، ونعتقد أن عددهم ينيف دون مبالغة على عشرات الآلاف، ولكن هي النوازل المتتابعة حلت ببلادهم، فذهبت بالقسم الأوفر من تلك الكنوز الكتابية التي أمسى فقدها وبالًا على العلم والحضارة، غير أنه رغم تلك النوازل حُفِظ عدد غير يسير من مخطوطات السريان في خزائن الشرق والغرب.

وللبطريرك العلَّامة أفرام الأول برصوم جدول طريف ألحقه بكتابه «اللؤلؤ المنثور» عدَّد فيه أكثر من ثلاثمائة خطَّاط عاشوا منذ القرن الخامس حتى القرن العشرين، وقد اطَّلَع بنفسه على آثار الكثيرين منهم.٧ وعثرنا نحن أيضًا على طائفة من الخطاطين والنساخ اشتهروا في مختلف العصور قديمًا وحديثًا، وعلى سبيل المثال نورد أسماء بعضهم فيما يلي: الربان ربولا في القرن السادس وهو منمق الإنجيل المصور المحفوظ في مكتبة فلورنسا، وماروثا مفريان تكريت في القرن السابع، وسابا الرأس عيني في القرن الثامن، وأفريم الكفرتوتي في القرن التاسع، ورومانس تلميذ البطريرك أثناسيوس في القرن العاشر، والبطريرك يوحنا بن شوشان في القرن الحادي عشر، وأغناطيوس رومانس مطران أورشليم، ويعقوب بن الصليبي مطران آمد، والبطريرك ميخائيل الكبير، وكريم بن حوشاب في القرن الثاني عشر، والبطريرك يوحنا السادس عشر، ومبارك بن داود البرطلي في القرن الثالث عشر.

وجاء بعدهم الربان صليبا بن خيرون الحاحي في القرن الرابع عشر، والبطريرك بهنام الحدلي، والبطريرك نوح البقوفاوي، وباسيليوس بن عبيد الصددي مطران حمص، وفيلكسين جرجس بن قرمان مطران حردين وحماة، وفيلكسين إبراهيم حديبان خليفته في الكرسي المذكور، والقس مبارك الآمدي في القرن الخامس عشر، والمطران قرلس بشارة، والمطران ديوسقورس ميخائيل، والقس سهدو الكركري، والقس اليان النبكي في القرن السادس عشر، والمفريان بهنام الباتي، والخوري أصلان بن مربي المارديني، والمفريان شمعون المانعمي في القرن السابع عشر، والقس عبد النور الآمدي، وأثناسيوس أصلان الآمدي مطران ديار بكر، والأسقف إقليميس إبراهيم اليازجي الصددي في القرن الثامن عشر، وغريغوريوس جرجس كساب مطران أورشليم، والمطران عبد النور حداد الأربوي، وغريغوريوس زيتون مطران مذيات في القرن التاسع عشر، والبطريرك عبد الله الثاني الصددي، والقس يعقوب ساكا البرطلي، والشماس متى بولس الموصلي في القرن العشرين … إلخ.

(٦) نوابغ الخطاطين عند السريان الكاثوليك

نذكر في طليعتهم البطريرك أغناطيوس أندراوس الأول أخيجان (١٦٦٢–١٦٧٧)، وجاء بعده المطران ديونيسيوس رزق الله أمين خان (†١٧٠١)، والمطران غريغوريوس نعمة قدسي (†١٧٤٥)، والقس عبد الأحد سفر الرهاوي (†١٧٢٠)، والمطران أيونيس إيليا عتمة (†١٨٨٩)، والمطران يعقوب متى أحمردقنه (†١٩٠٨)، والقس إيليا نحيت (١٨٢٥)، والخوري أفرام كرش مرش (†١٨٨٨)، والقس طوبيا يونان (†١٩١٦)، والقس يوحنا قندلفت الرهاوي (†١٩١٥).

ومن نوابغ خطاطيهم أيضًا القس أسطفان سفر (†١٩١٦)، وشقيقه القس أندراوس، والقس نعمان بطبوطة (†١٩١٧)، والشماس أنطون شبين، والقس بطرس سابا البرطلي، والخوري إسحاق أرملة الذي نسخ أكثر من أربعين مجلدًا بخطه السرياني، فضلًا عما نسخه بالخط العربي، وامتاز روفائيل ابن شقيقه عبد الجليل أرملة بخطه السطرنجيلي البديع، والمعلم جرجس الرهاوي المتفنن في أشكال الخطوط السطرنجيلية والسريانية، ورياض شدياق أحد تلامذة دير الشرفة … إلخ.

هوامش

(١) اللمعة الشهية، للمطران يوسف داود: صفحة ٩٨-٩٩.
(٢) اللمعة الشهية: صفحة ١٠٦-١٠٧.
(٣) اللمعة الشهية: صفحة ١٠١ و١٠٢.
(٤) تاريخ العصور القديمة، للدكتور جايمس: صفحة ١٠٩.
(٥) اللمعة الشهية: صفحة ١٢٣-١٢٤.
(٦) مجلة الآثار الشرقية.
(٧) اللؤلؤ المنثور: صفحة ٤٨٥–٤٩٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤