الفصل الثاني والعشرون

الغسانيون والسريان في عصرهم الذهبي

(١) علاقات الغسانيين بالسريان

لا نرى أن نختتم بحثنا عن عصر السريان الذهبي دون أن نلمع إلى العلاقات الوثيقة التي كانت تربط شعوب بني غسان وأمراءهم وملوكهم بالأمة السريانية، ولم تقتصر تلك العلاقات على الشئون الوطنية، بل شملتهم في العقائد الدينية حتى عهد المجمع الخلقيدوني عام ٤٥١ للميلاد. وفي جداول أساقفة المجامع المسكونية الأربعة الأولى، أعني النيقاوي والقسطنطيني، والأفسوسي، والخلقيدوني، ورد ذكر فئة من أساقفة غسان قرروا ما قرره جمهور الأساقفة في تلك المجامع من العقائد الدينية، وبعد ذلك التاريخ انتمى الغسانيون قاطبة إلى السريان القائلين بالطبيعة الواحدة في السيد المسيح، وتشبثوا بها التشبث كله فدافعوا عنها سرًّا وجهرًا، وقولًا وعملًا.١

(٢) أبرشيات السريان في غسان

تمكَّنت المنوفيزيتية في بلاد غسان وازدهرت فيها أبرشيات عامرة، تسلسل مطارنتها وأساقفتها جيلًا بعد جيل قرونًا عديدة، نذكر منها أبرشية بصرى، ودرعا أو أدرعت، وبيثونيا، وتدمر، ويبرود، والنبك، وحوارين، وصدد … إلخ. ثم أبرشية الرصافة، وأبرشية الرقة، والكراسي الأسقفية الخاضعة لهما، ذلك ما عدا أبرشيات العرب الرُّحَّل كعرب تغلب، ومعد، وكلب … إلخ.٢ وقد تولاها أساقفة كانوا تارة من السريان وطورًا من غسان.

وأول أساقفة غسان المنوفيزيتيين كان ثئودور الذي نصب مطرانًا لكرسي بصرى بأمر الملكة ثئودورا السريانية، وتحريض الحارث بن جبلة أمير الغساسنة.

(٣) أديار السريان في غسان

أسَّس السريان في بلاد غسان وباديتها أديارًا شتى بلغ عددها ١٣٧ ديرًا،٣ أشهرها دير جفنة، تأسَّس تيمُّنًا ببني جفنة ملوك غسان،٤ ودير حالي الذي ابتناه عمرو بن جبلة ملك غسان،٥ ودير اليمن، ودير طي الذي عُدَّ من أقدم أديارهم، ودير حنينا وكان من أفخم الأديار، وفيه عقد المنذر بن الحارث سنة ٥٨٠م مجمعًا لإلقاء الصلح والسلام بين القلوب المتنافرة، ومنها دير زغبة الذي اشتهر في عهد رئيسه ربولا منمق الإنجيل السطرنجيلي البديع، وقد وصفناه في غير هذا الموضع. وقِسْ على ما سبق دير الأكراح، ويقال له دير العمود أو دير مارزكى الذي شيدته على شاطئ الفرات الملكة ثئودورا السريانية، وفيه تثقف رهبان وأساقفة وبطاركة امتازوا بعلومهم وفضائلهم. وقِسْ على ذلك أديارًا لا تقع تحت حصر.

(٤) كنائس السريان في غسان

ما عدا الأديار العامرة التي شادها الغساسنة — كما قلنا — فهناك كنائس فخمة أسَّسوها في أطراف إمارتهم الواسعة الأرجاء، أقدمها وأبدعها كنيسة مار سرجيس ومار باخس الشهيدين في الرصافة، وقد سبق لنا وصفها.٦ ونضم إليها كنيسة الرقة التي أُطلِق عليها اسم «قاثوليقية» لفخامتها وضخامتها، وقد تقدَّم لنا وصفها كذلك.٧
ولا تقل كنيسة بيثونيا عن تينك الكنيستين عظمة وجمالًا، ابتناها ترساي كاتب الديوان الملكي، وفيها دُفِن بعد وفاته.٨
ونضم إليها كنيسة بديعة شادها الأمير المنذر بن الحارث الذي صار قسيسًا، وأُطلِق عليه لقب «المحب للمسيح» نظرًا إلى تقواه وغيرته، وذكرت مخطوطة لندن السريانية٩ أن أوسطاث نائب سرجيس رئيس دير عوقبثا تولَّى خدمة هذه الكنيسة الجميلة. ونضرب صفحًا عن تعداد سائر الكنائس التي شادها الغساسنة في بلادهم.

(٥) المؤلفون الغساسنة في عصر السريان الذهبي

قام في غسان كَتَبة عديدون أنشأ البعض منهم تصانيفهم في اللغة السريانية، والبعض الآخَر في اللغة العربية، فمن الذين صنفوا في اللغة السريانية نذكر: القديس طيطس مطروبوليت بصرى الذي اشتهر في القرن الرابع، وصنف تآليف جليلة أعظمها شأنًا كتابه في تزييف بدعة «ماني» الملحد. وقد اكتشف المستشرقون تصانيفه السريانية ونشروها مع ترجمتها.١٠
ونهج منهاجه خلفه القديس أنطيفاتر فصنَّف عدة كتب في مواضيع دينية شتى، منها مقالاته في اتضاح الإيمان وميامره أيْ مواعظه في الأعياد وردوده على الهراطقة.١١ ولسنا ننسى يوحنا مطران بصرى (†٦٥٠) العلَّامة الذي ذاع صيته بين فضلاء أساقفة عصره، صنَّف ليترجية سريانية بليغة معروفة باسمه، أولها: «أيها الإله واهب المحبة والاتفاق».١٢

ونضم إلى هؤلاء الملافنة بولس مطران الرقة الذي أكب في القرن السادس على نقل مصنفات البطريرك سويرا (†٥٣٨) عن اليونانية إلى السريانية، ونظم أنشودة للميرون جميلة. وقس عليه البطريرك بطرس الثالث القلنيقي (٥٧١–٥٩١) الذي اشتهر بتآليفه المحكمة، وارتحل إلى بلاد غسان ليوثق عرى الصداقة الدينية بين الكرسي الإسكندري والكرسي الأنطاكي، وأنشأ مقالات جمة في اليونانية والسريانية، وله ليترجية سريانية معروفة باسمه افتتحها بهذه العبارة: «أيها الإله الأب العلي الأزلي».

أما العلماء الذين عاشوا في بلاد غسان وكتبوا باللغة العربية فكثيرون، أشهرهم الشاعر المفلق أبو مالك المعروف بالأخطل التغلبي (٦٤٠–٧١٠)، وهو يُعَدُّ من أفاضل الشعراء بجودة نظمه، ومتانة عبارته، وغزارة معانيه، وتفنن أساليبه، ومن أخباره أن أمه ليلى علقت على صدره صليبًا لم ينزعه مدة حياته كلها حتى عند دخوله على الخلفاء الأمويين، وعُرِف لذلك بذي الصليب.

وُلِد الأخطل نصرانيًّا وتبع العقيدة المنوفيزيتية الشائعة بين قبائل غسان، وكان يجاهر بدينه دون حياء ولا وجل، وقضى أيامه في البلاد الخاضعة للدولة الأموية، فمدح خلفاء بني أمية كيزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان، والوليد (٦٨٠–٧١٥)، حتى سُمِّي شاعرهم الخاص، وبرز في مديح أعيان زمانه وكانوا بأجمعهم يفضلون شعره على كل نفيس وثمين.

وعني الأب أنطون صالحاتي السرياني اليسوعي بديوان الأخطل، فنشره غير مرة كاملًا مستوفى نقلًا عن عدة نسخ قديمة وحديثة، وعلَّق عليه حواشي جزيلة الفائدة.

ونسج على منوال الأخطل ابن اخته عمير المعروف بالقطامي (†٧١٩)، وكان نصرانيًّا منوفيزيتيًّا كخاله الأخطل وعاش في عهده، وكان معروفًا بين الخاصة والعامة بالشاعر الفحل، وقد نشر ديوانَه المستشرقُ برت عام ١٩٠٢ في ليدن بهولندا.

هوامش

(١) أمراء غسان، للمستشرق نولدكه: طبعة بيروت سنة ١٩٣٣، صفحة ٢١.
(٢) راجع ملحق ميخائيل الكبير.
(٣) مخطوطة لندن: رقم ١٢٥٤.
(٤) المشرق: مجلد ١، سنة ١٨٩٨، صفحة ٦٣١.
(٥) المشرق: مجلد ١٠، سنة ١٩٠٧، صفحة ٥٢٩.
(٦) راجع هذا الكتاب: فصل ١٣ عدد ٣.
(٧) راجع هذا الكتاب: فصل ١٤، رقم ١٣.
(٨) تاريخ يوحنا أسقف آسيا: جزء ٣، رأس ٣٩، صفحة ٤٨.
(٩) مخطوطة لندن: رقم ١٢٥٤.
(١٠) النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، للأب لويس شيخو: صفحة ٣٤.
(١١) النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية: صفحة ٣٤ و٣٥.
(١٢) الليترجيات الشرقية والغربية، للبطريرك أغناطيوس أفرام رحماني: ٣٩٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤