الفصل الثالث

مدارس السريان ومشاهير جهابذتهم في العصر الذهبي

تُعَدُّ الأمة الآرامية السريانية بين الأمم الراقية ذات التاريخ المجيد في العصور الغابرة. ذهب رهط من أهل البحث إلى أن السريان هم الذين استنبطوا الكتابة؛ لأن بلاد الفونيقيين الذين علَّموا الكتابة لليونان ليست إلا بقعة صغيرة من بلاد السريان، أشهر مدنها: صور، وصيدا، وبيروت، وجبيل. والفونيقيون كما هو ثابت كانوا أمة شامية١ أيْ سريانية، وكانت لغتهم إما سريانية محضة، وإما قريبة إلى السريانية أكثر من سائر اللغات السامية.٢

أنشئت المدارس عند السريان منذ دخولهم في النصرانية، فانتشرت بينهم انتشارًا عجيبًا غريبًا جعلتهم في طليعة شعوب الشرق بالثقافة والبلاغة، وناهيك بما أنجبته تلك المدارس البعيدة الصيت من العلماء الأعلام والمؤلفين العظام الذين ذاعت شهرتهم شرقًا وغربًا، وقد أطنب في وصفهم وتعداد مآثرهم المؤرخون والكتَّاب وعلماء المشرقيات.

إذا ضربنا صفحًا عن علماء السريان ذوي الصبغة الدينية، فمَن لم يسمع بيوحنا بن ماسويه (†٨٥٧) رئيس أعظم مدرسة في بغداد ازدحم الطلاب على أبوابها،٣ وهل من يجهل اسم يعقوب الكندي (†٨٦١) فيلسوف العرب،٤ أو اسم حنين بن إسحاق (†٨٧٦) شيخ تراجمة الإسلام ورئيس الفلاسفة والأطباء،٥ أو اسم موفق الملك بن التلميذ (١٠٨١–١١٦٤) الملقَّب بسلطان الحكماء٦ إلخ؛ فلا غرو إذا أطلق المؤرخون والأدباء على الأمة السريانية — كما سلف القول — لقب «أميرة الثقافة» و«أم الحضارة».

بعد هذه المقدمة الوجيزة، يطيب لي أن ألمع إلى بعض المعاهد السريانية التي كانت مراكز للتعليم في القرون الخالية. وفيما يلي أورد للقارئ أسماءها وأسماء فريق من الجهابذة الذين تعلَّموا أو علَّموا فيها، وهي:

(١) مدرسة قطسفون أو المدائن

تُعَدُّ هذه المدرسة في مقدمات المدارس السريانية الشهيرة. فيها نشأ ططيان الآشوري مؤلف كتاب «الدياطسرون» في القرن الثاني للميلاد.

(٢) مدرسة الرها

ازدهرت هذه المدرسة التي أنشأها ملوك الرها الأباجرة ازدهارًا رائعًا منذ القرن الثاني حتى القرن الخامس للميلاد، ونبغ فيها عدد وافر من الأئمة المشاهير، نذكر منهم: برديصان (١٥٤–٢٠٢م)، والفيلسوف وافا، والعلالمة أسوانا. وفي القرن الرابع تولَّى رئاسة تلك المدرسة مار أفرام الكبير (†٣٧٣م) نبي السريان، ثم ربولا أسقف الرها (†٤٣٥م)، ثم خلفه يهيبا (†٤٥٧م) … إلخ.

(٣) مدرسة نصيبين

اشتهرت مدرسة نصيبين الكبرى في القرن الرابع وعاشت حتى القرن السابع، وفيها نبغ مار يعقوب الكبير (†٣٣٨م) وخلفاؤه في كرسي نصيبين، وفي هذه المدرسة علم نرساي الشهير (†٥٠٧م)، وباباي الكبير (†٦٢٧م)، وغيرهما من مشاهير الأساتذة.

(٤) مدارس أنطاكية وجوارها

من مدارس السريان الزاهرة مدرسة أنطاكية الكبرى، ومدرسة دير مار بسوس الذي سكن فيه أيام عزِّه ستة آلاف وثلاثمائة راهب،٧ ثم مدرسة دير تلعدا الذي أنشئ في القرن الرابع، ومدرسة دير الجب الخارجي وغيرها. واشتهر في تلك المدارس إسحاق الأنطاكي الكبير (†٤٦٠م)، والبطريركان بولس الثالث (†٥٧٥م)، وبطرس الثالث (†٥٩١م)، ويعقوب الرهاوي (†٧٠٨م) وغيرهم.

(٥) مدرسة قنسرين

قامت مدرسة قنسرين في القرن السادس بسعي مؤسِّسها يوحنا برافتونيا (†٥٣٨م)، وعُرِف من جهابذتها البطريرك إثناسيوس الأول (†٦٣١م)، وتوما الحرقلي الذي نقل عام ٦١٦م العهد الجديد عن اليونانية إلى السريانية، والفيلسوف الكبير سويرا سابوخت في القرن السابع، وقد امتاز سويرا هذا بعلومه ومصنفاته الفلسفية والفلكية، وعلى يده وصلت الأرقام الهندية إلى العرب.٨

(٦) مدرسة رأس العين

اشتهر أمر هذه المدرسة في العصر الذهبي، وكان مركزها على ضفة نهر الخابور بين رأس العين والحسجة بالقرب من قرية المجدل، وتفرَّد رهبان ديرها المعروف بدير «قرقفة» بضبط حركات ألفاظ الكتاب المقدَّس وتجويد قراءته. وعُرِف من رأس العين سرجيس الرأس عيني (†٥٣٦م) إمام عصره في الطب والمنطق والفلسفة، وهو أول النقلة من اليوناني إلى السريانية، ومن أخباره أن البطريرك أفرام الأنطاكي (٥٢٦–٥٤٥م) وجهَّه في مسائل خطيرة إلى روما وإلى قسطنطينية، فنجحت مساعيه.

(٧) مدرسة قرتمين

تأسست هذه المدرسة في طور عبدين سنة ٣٩٧ للميلاد، واشتهر رهبانها خصوصًا بصنع الرقوق وتهيئتها لنسخ الكتب، وتفنَّنوا بتجويد الخطوط وتجديد الكتابة السطرنجيلية على يد رئيسهم المطران يوحنا عام ٩٨٨م.

ويُروى أن عمنوئيل ابن أخي المطران المشار إليه نسخ على رق الغزال سبعين مجلدًا من الكتاب المقدَّس طبقًا للترجمة البسيطة والسبعينية والحرقلية، ووقفها لدير قرتمين،٩ وظل هذا الدير زاهرًا حتى القرن الثاني عشر.

واشتهر من هذا الدير علماء وأحبار عديدون، نذكر منهم ثئودوسيوس البطريرك (٨٨٧–٨٩٥م) الذي برع في الطب، وألَّف فيه كتابًا عُرِف باسمه.

(٨) مدرسة دير برصوما بملطية

أنجبت هذه المدرسة الزاهرة علماء مشاهير قام منهم بطاركة وأساقفة ومؤلفون عديدون، نذكر منهم يعقوب بن الصليبي مطران آمد (†١١٧١م)، وثئودوروس بروهبون (†١١٩٣م)، وميخائيل الكبير (†١٢٠٠)، والمفريان غريغوريوس بن العبري (†١٢٨٦م). وفي هذه المدرسة راجت أسواق العلم من القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر.

وحوت هذه المدرسة مكتبة عامرة حفلت بعدد وافر من المخطوطات السطرنجيلية، والصكوك، والفرمانات القديمة، وقد زيَّنها البطريرك ميخائيل الكبير بكُتُب جمة نسخها أو نقحها بيده، نذكر منها نسخة بديعة من الإنجيل كتبها كلها بحروف ذهبية وفضية ودبجها بصور شتى، ثم جعل ذلك المصحف الثمين ضمن صندوق فضي مذهَّب.١٠

(٩) مدرسة دير البارد

موقع هذه المدرسة في أطراف ملطية وهنزيط، تأسست في العام ٩٦٩ للميلاد، وظلَّت موطنًا للتعليم والتأليف حتى السنة ١٢٤٣، وقد اشتهر أمر رؤسائها وأساتذتها بإنشائهم بعض صلوات وأناشيد تفرَّدوا باستعمالها، وأدخلوها في الطقس السرياني، تشهد لذلك مخطوطات عديدة حُفِظت إلى هذا اليوم.١١
نكتفي بهذا النزر اليسير من المدارس السريانية في مختلف الأقطار. وقد أسَّس السريان في كل مدينة أو قرية استوطنوها مدرسةً أو أكثر، حتى بلغ عدد مدارسهم في بلاد ما بين النهرين وحدها زهاء خمسين مدرسة من أرقى المدارس وأوسعها. قال البحاثة السيد أحمد أمين: كان للسريان في ما بين النهرين نحو خمسين مدرسة تُعلَّم فيها العلوم السريانية واليونانية … وكانت هذه المدارس يتبعها مكتبات … وكان في الأديار السريانية شيء كثير لا من الكتب المترجمة في الآداب النصرانية وحدها، بل من الكتب المترجمة من مؤلفات أرسطو، وجالينوس، وأبقراط؛ لأن هؤلاء كانوا محور الدائرة العلمية في ذلك العصر، وكان السريان نقلة الثقافة اليونانية إلى الإمبراطورية الفارسية١٢ ثم إلى الخلافة العباسية.
هكذا اتسع نطاق الثقافة عند السريان حتى أناف عددُ مؤلفيهم في العصر الذهبي على أربعمائة كاتب أو مؤلف اتصلت بنا أسماؤهم، وبلغت تآليف بعضهم ثلاثين أو أربعين كتابًا،١٣ ولعل هناك كتبة كثيرين ضاعت أسماؤهم بضياع مؤلفاتهم١٤ بسبب الحروب، والفتن، والزلازل، وما شاكلها من الفواجع والرزايا.

هوامش

(١) إنجيل مرقس ٧–٢٦.
(٢) اللمعة الشهية، للمطران يوسف داود: ص٩٩.
(٣) الآداب السريانية، تأليف روبنس دوفال: ص٢٧٢ و٣٨٦.
(٤) زبدة الصحائف، نوفل نوفل: ص٤٥.
(٥) مجلة المنارة: سنة ١٩٣٥، صفحة ٨٥٢.
(٦) إعلام العلماء بأخبار الحكماء لابن القفطي، وخريدة القصر للخزرجي.
(٧) J.B. Chabot; La Légende de Mar Bassus et son Couvent à Apamé, page 55 etc.
(٨) المشرق: مجلد ١٤، سنة ١٩١١، صفحة ٢٣٩.
(٩) كتاب رغبة الأحداث، للخوري إسحاق أرملة: جزء ٢، صفحة ١٥٧.
(١٠) تاريخ الرهاوي الكنسي: صفحة ٨٩.
(١١) مخطوطة قديمة تخصُّ القس بطرس سابا البرطلي وغيرها.
(١٢) ضحى الإسلام، لأحمد أمين: جزء ٢، صفحة ٥٩-٦٠.
(١٣) مقدمة تاريخ كلدو واثور، تأليف المطران ادي شير: صفحة ٨.
(١٤) راجع ما أثبَتَه في هذا الشأن كتاب «اللؤلؤ المنثور» لمؤلفه العلامة البطريرك أفرام برصوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤