الفصل السابع

السريان والخلفاء المسلمون والنهضة العلمية العربية

احتظى السريان بالثقة والاحترام عند الخلفاء الراشدين (٦٣٢–٦٦١م)، والخلفاء الأمويين (٦٦٢–٧٤٦م)، والعباسيين (٧٥٠–١٢٥٨م)، وأول مَن نال القربى لديهم حين الفتح العربي هو منصور بن يوحنا السرياني، الذي أصبح وزيرًا للمالية في عهد الخلفاء الراشدين. أما ابنه سرجون، وحفيده يوحنا المشهور بالقديس يوحنا الدمشقي (†٧٤٩م)، فقد تولَّيَا ديوان الأعمال والجبايات في عهد الخلفاء الأمويين.

وأثبت جميع مؤرخي السريان أن إثناسيوس برجوميا الرهاوي ولَّاه الخليفة عبد الملك بن مروان (٦٨٥–٧٠٥م) الإدارة المالية في القطر المصري، وكان عهده في تلك الوظيفة عهد خير وبركة وإقبال على الدولة الأموية،١ وذكر ميخائيل الكبير أن مروان الخليفة (٧٤٤–٧٥٠م) لدى ارتحاله إلى حران ببلاد ما بين النهرين خفَّ لاستقباله أيونيس الرابع بطريرك السريان (٧٤٠–٧٥٥) في هدايا وافرة وتُحَف نفيسة حملها على خمسين جملًا؛ فرحَّب به الخليفة ترحيبًا جميلًا وكتب له فرمانًا عام ٧٤٦ للميلاد، خوَّله بموجبه الولاية على جميع الشئون البيعية٢ وهو أول فرمان أعطي لبطريرك سرياني من خليفة المسلمين.

وإذا انتقلنا إلى عهد الخلفاء العباسيين اتضحت لنا مكانة أئمة السريان وعلاقات علمائهم بكلٍّ من أولئك الخلفاء؛ فقد تفجرت ينابيع المعارف على يدهم، وسالت الصحف بأقلام مترجميهم ومصنفيهم وأطبائهم في طول البلاد وعرضها، وأغنوا العالم بنفائس الأسفار التي استخرجوها إلى العربية عن اللغات السريانية، واليونانية، والفارسية، والعبرية، والهندية؛ فبلغت دولة العلم أيام عز الخلافة العباسية شأوًا بعيدًا، قلَّمَا ذكر الكتَّاب مثله في العصور الخوالي.

وهذه كتب التاريخ طافحة بأخبار أولئك الجهابذة كالبطريرك ديونيسيوس التلمحري، وأخيه تاودوسيوس في عهد الخليفة المأمون (٨١٣–٨٣٣م)، ومنهم العلَّامة حبيب أبو رائطة التكريتي في القرن التاسع، وروفيل وبنيامين الطبيبان اللذان قرأ عليهما مار ماري علم الطب،٣ والفيلسوف الكبير يحيى بن عدي (†٩٧٤م) في عهد المطيع لله (٩٤٦–٩٧٤م)، وعيسى بن زرعة (٩٤٣–١٠٠٨م) في عهد القادر بالله (٩٩١–١٠٣١م)، والشيخ يحيى بن جرير التكريتي، وأخوه أبو سعد الفضل التكريتي وغيرهم.

وفي السنة ١٢٢٣ قُتِل الطبيب الكبير أمين الدولة أبو الكرم صاعد بن توما البغدادي اليعقوبي، كان ممتازًا بسيرته وعلمه فأعزه الخليفة الناصر (١١٨٠–١٢٢٥م) كل الإعزاز، وقرَّبه وأمنه على جميع أسرار دولته، وعلى أبنائه وبناته ونسائه. واتفق أن الخليفة المذكور ضعف بصره، فكلف امرأة يقال لها: «ست نسيم» أن تنهض بكل ما يكتبه هو، وأطلعها على جميع أسرار الدولة، وكان إذا وصل خطها إلى الوزير الكبير اعتقد أنه هو خط الخليفة نفسه؛ فيقوم بإنجاز كل ما فيه من أوامر ونواهٍ.

وبعد مدة من الزمان اتفق تاج الدين رشيق الخصي مع «ست نسيم»، فجعلا يكتبان ما يخطر لهما كأنه من فم الخليفة ويعرضانه على الوزير فيكمله، وما عتم أن اطَّلَع الوزير على تلاعب «ست نسيم» والخصي؛ ذلك أنه استدعى أمين الدولة ابن توما المشار إليه وقرره، فصرَّح له بأن الخليفة ضعيف البصر، وأن امرأة تكتب له ما شاء من الأوامر، ولما شعرت نسيم بافتضاح أمرها بلغت ابني قمر الدين فكمنا للطبيب أمين الدولة ووثبا به وهو خارج من دار الخليفة وضرباه سكينتين، فصاح بهما الطبيب صيحة عظيمة، فاستأنفا وطعناه طعنة نجلاء وفتكا به وبحامل فانوسه، ثم شيع الطبيب إلى بيته ودُفِن فيه، وبعد تسعة أشهر نُقِل جثمانه إلى بيعة مار توما ولُحِد في ضريح آبائه، وخلف ثلاثة أبناء، وهم: شمس الدولة، وفخر الدولة، وتاج الدولة، امتازوا كأبيهم وارتقوا إلى أسمى المراتب.٤
وممَّن اشتهر بين السريان كذلك حسنون الطبيب الرهاوي، وجبرائيل الطبيب الرهاوي مصنِّف الكتب الفلسفية والطبية نحو السنة ١٢٦٣ في اللغة السريانية، وشمعون الطبيب المشهور مجدِّد دير مار قرياقس، وأمين الدولة أبو الكرم صاعد بن توما البغدادي (†١٢٢٣م)، والطبيب عيسى تلميذ حسنون المذكور الذي ابتنى في سيس كنيسة فخمة على اسم برصوما، والربان دانيال بن الحطاب المارديني٥ … إلخ.
وكان أولئك العلماء والأطباء يلازمون الخلفاء في بلاطهم، ويجلسون إلى مائدة طعامهم، ويسامرونهم، ويعالجون مرضاهم، ويرافقونهم أحيانًا في حروبهم وأسفارهم،٦ وكان الخلفاء بدورهم يجلون أطباءهم ويرحبون بهم، ويسنون لهم أعطيات سخية، ويعودونهم في منازلهم حين مرضهم ويراسلونهم، ويتسمحون معهم في قضايا دينهم، ويحضرون أحيانًا الصلاة عليهم بالشمع والبخور في جنازاتهم.٧
ويؤثر عن بعض الخلفاء العباسيين أنهم كانوا يتعهدون أديار النصارى ومناسكهم، فيصادفون من الرهبان كل ترحيب وإجلال. وقد نزل يومًا هارون الرشيد بدير مار زكي الذائع الصيت الواقع على ضفة نهر البليخ، فاستطابه الخليفة وبر أهله.٨ وغير خافٍ أن هذا الدير العظيم الذي كان يُدعَى «دير العمود» قد أسسته الملكة ثئودورا (†٥٤٨م) السريانية المنبجية بجوار مدينة الرقة إحدى الأبرشيات السريانية، وعرفنا ممَّن تولَّى كرسيها المطراني سبعة عشر مطرانًا سريانيًّا من السنة ٧٩٣ حتى السنة ١٢٠٠.٩

هوامش

(١) تاريخ الرهاوي: فصل ١٤٩، صفحة ١٨٩. وتاريخ الدول السرياني، لابن العبري: صفحة ١١٢ و١١٣.
(٢) تاريخ ميخائيل الكبير: صفحة ٤٦٤.
(٣) تاريخ مختصر الدول: صفحة ٢٨٥.
(٤) تاريخ الدول السرياني، لابن العبري: صفحة ٤٤٩-٤٥٠.
(٥) من شاء الاطلاع على أخبار هؤلاء الجهابذة السريان، فَلْيراجع كتاب «تاريخ مختصر الدول»، لابن العبري، طبعة الأب صالحاني.
(٦) تاريخ مختصر الدول: صفحة ٢٢٦–٢٦٥.
(٧) تاريخ مختصر الدول: صفحة ٢٤٣.
(٨) اللؤلؤ المنثور: صفحة ٥١٠.
(٩) السريان في لبنان، تأليف فيليب دي طرازي: جزء ١، قسم ١٢، فصل ٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤