حب وتقديس

كان حبه لأبيه تقديسًا أكثر منه حبًّا، وإعجابه وانبهاره بلا حدود، وكنت إذا رأيته مهمومًا أو صامتًا أحاول أن أخرجه عن صمته، ويكفي أن أحدِّثه عن أبيه؛ فينطلق وتعاوده الذكريات، ويقصُّ عليَّ عنه قصصًا كلها إنسانية وشموخ، وتصرفات كلها رحمة؛ فمثلًا في طفولته وكان عمره لا يتجاوز الثانية عشرة عنَّف عاملة في المنزل، ودفعها بيده؛ فبكت وسندها شامل من ناحية وسامح من الناحية الأخرى ليضخما الأمر، وذهبا بها إلى دسوقي باشا وشكت له «ثروت» فما كان من دسوقي باشا إلا أن نادى ابنه الأكبر وقال له ستفعل بك مثلما فعلت بها. ولكن الخادمة رفضت بطبيعة الحال واكتفت بهذا الحكم كترضية لها.

وتقول لي زينات شقيقة ثروت إنها فعلت نفس الشيء مع خادمةٍ أخرى وهي طفلة فقال لها أبوها: هل لأن الله حكَّمك عليها تتصرفين بهذه الطريقة؟! ولو كنت أنت في مكانها هل ترضين بهذه المعاملة؟ ويحكي لي زوجي أن أباه كان يأخذه معه إلى مطعم الأمريكين وصالة «جروبي» ويقول لي: إنه لم يذق حتى الآن أحلى مما كان يأكله في هذين المكانين أيام الطفولة. وكيف كان يُجلسه مع كبار الشعراء والأدباء، وكيف كان يطلب منه الجلوس مع كبار زواره من الوزراء حتى ينزل هو من الدور العلوي ويستقبلهم، أظن أن كل هذا كوَّن شخصية الابن، وكون اتجاهاته في الحياة وكون حتى طريقة كتاباته بعد ذلك، وكانت مزيجًا من الأدب والسياسة.

وأما بالنسبة لوالدته فكان الأثير عندها؛ لأنه جاء بعد ثلاث سنوات من الانتظار والقلق، وأضفت عليه من حنوها وحبها ما يجعله يملك الدنيا وما فيها. شكا لها يومًا من ضائقة مالية ألمَّت به؛ فلم تتردد عن أن تقول له: «أنا وما أملك فداءً لك.»

وما من مرة ألمَّت به ضائقة مالية إلا وفتحت له أبواب السماء تحيطه برحمة الله وستره. وللأسف ليس من حقي أن أسترسل في التفاصيل.

وكانت فخورة به إلى أبعد الحدود، ولا يفوتها عمل من أعماله الإذاعية أو التليفزيونية. ولما اختارها الله إلى جواره كان ثروت في الثالثة والأربعين من عمره، وبدا متماسكًا أول الأمر، وفي يوم استيقظ في الصباح وأخذ يجهش بالبكاء من أعماق قلبه، فأخذت أهدئ من روعه ولكني قلت له: للأسف لا أستطيع ان أعوِّضك عنها؛ فالأم لا تعوض. ولكن يعلم الله أنني حاولت.

ترعرع «ثروت» و«شامل» في بيت كله محافظة على القيم والشرف والنزاهة، فشربا من هذا النبع الصافي، وكانا في شبابهما من شباب الأحرار الدستوريين ثم جاءت الثورة وحلَّت الأحزاب إلى أن حكم أنور السادات فأعاد الحياة السياسية، واختار «شامل» حزب الوفد واختلفت آراؤهما السياسية في الشئون الداخلية والخارجية ﻓ «ثروت» من المؤيدين و«شامل» من المعارضين، وكانت تقوم بينهما مناقشاتٌ حادة إلى أن قال «شامل» لا داعي للمناقشات في السياسة؛ فكل منا له رأيه الذي لن يحيد عنه؛ وتجنَّبا المناقشة في السياسة بقدر الإمكان.

و«شامل» دخل مجلس الشعب سنة ١٩٧٦م، وبقي فيه حتى سنة ١٩٧٩م، وكان من المعترضين على «معاهدة كامب ديفيد»، ثم عمل رئيسًا لمجلس إدارة شركة المساهمة للأقطان وبقي بها إلى سنة ١٩٩٠م، وكوَّن علاقات مع العملاء اليابانيين والسويسريين، وأصبح مرجعًا للعاملين في قطاع القطن على مستوى مصر كلها.

و«صفية النقراشي» هي زوجة «شامل» التي تساعده دائمًا وتقف إلى جانبه، وأصبحت أباظية بالأقدمية وبحبِّها لأهل زوجها، وهي كريمة «محمود فهمي النقراشي» باشا رئيس الوزراء ما قبل الثورة، والذي قال للإنجليز في أوج مجدهم: «اخرجوا من بلادنا أيها القراصنة!» وهي ذات خُلقٍ رفيع وثقافةٍ متشعبة.

وأنجبا «هدى» و«إبراهيم» أما هدى فهي على خُلقٍ عظيم، حصلت على الدكتوراه في الأدب الفرنسي وأصبحت أستاذة في كلية الآداب جامعة عين شمس.

وأما إبراهيم فهو الطيبة بعينها، ويتمثل بالقيم والأخلاق القويمة، يعمل الآن في «تورنتو بكندا» ولا أستطيع أن أذكر أولاد الدسوقي باشا دون أن أذكر أخاهم الخامس «سامح أباظة» فهو ابن بنت شقيقة الدسوقي باشا، توفيت والدته بعد ولادته بقليل؛ فضمَّه دسوقي باشا إلى أولاده فصاروا جميعًا إخوة، ولا أقول كالإخوة، بل إخوة فعلًا، لم يفرق الوالدان بينهم في المعاملة ولا في الحب، وسمعت من «زينات» و«كوثر» شقيقتَيْ ثروت عندما تتكلمان عن طفولتهما تقولان «نحن الخمسة …» وكان سامح من شباب الأحرار الدستوريين، وشرب السياسة من منبعها، وله ذاكرةٌ قوية، يعرف تواريخ تأليف الوزارات وأسماء الوزارات، ونعتبره الآن مرجعًا في تاريخ مصر.

أما شقيقتاه فهما عنده المثل الذي يجب أن تكون عليه المرأة الفاضلة وهما «زينات» و«كوثر» وقد تحلَّتا بالقيم والأخلاق، وترعرعتا في بيت كله ود وإخلاص؛ فاكتسبتا طهارة النفس والعلو عن الصغائر، والتزمتا بما تعلمتاه من طيبة الأم وترفُّعها، ومن جلال الأب وتمسكه بكل ما هو سامٍ ونبيل. وتزوجت زينات من طوسون أباظة، ووقفت إلى جانبه وشرَّفت أهلها بكل معنى هذه الكلمة، وقادت سفينتها بعقل وحكمة، وأنجبت «أبا بكر» و«دلبار» وهو اسم تركي على اسم والدة شوقي باشا، ونشَّأتهما على الصراحة والصدق.

وأما «كوثر» فقد تزوجت من «الدكتور أحمد عبد العزيز» ابن الطبيب الذائع الصيت في النصف الأول من القرن الماضي «الدكتور عبد العزيز باشا إسماعيل» وسافرت معه إلى أمريكا في أول حياته العملية. وعلى رغم أنها كانت صغيرة السن إلا أنها عرفت بفضل نشأتها كيف تكون مشرفة وكيف تكون أمًّا حازمة وحانية في نفس الوقت، وكانت نتيجةُ هذا الحزم وهذا الحنو فتاتَين هما مثال للأخلاق وحسن الطباع وغزارة العلم، وهما الدكتورة «سناء إسماعيل» و«وفاء إسماعيل» وعجبنا جميعًا كيف تستطيع كوثر التي تزوجت في السابعة عشرة من عمرها أن تربي أبناءها هذه التربية المثالية! وأما ابنها «عبد العزيز إسماعيل» فهو من ألمع أبناء جيله، عمل في البنوك وفي الأعمال الحرة، وبرز فيها جميعًا.

والذي يسترعي النظر في أولاد دسوقي باشا أن حبهم الشديد وإعجابهم به يكاد يصل إلى التقديس، ترى كيف استطاع دسوقي باشا أن يترك كل هذا التأثير في نفوس أولاده؟! ترى ما الذي خصه به الله ولم يخص به باقي الآباء؟ تمنيتُ دائمًا أن أجد جوابًا لهذا السؤال.

وأما حب الناس له فهو ما زال موجودًا إلى الآن تتوارثه الأبناء عن الآباء والأجداد، حتى إنه عندما دخل «شامل» الانتخابات عام ١٩٧٥م، نجح نجاحًا ساحقًا، وقال له الناخبون نحن ننتخبك من أجلك ومن أجل ذكرى والدك، وذلك بعد وفاة دسوقي باشا بعشرين عامًا، وعلى رغم استعداء المسئولين في تلك الحقبة الفلاحين على أصحاب الأرض.

والترابط والحب يجمع بين أولاد دسوقي باشا، فإنني أذكر أن قلتُ لزوجي يومًا: «أنا أحب أختيك.» فأجابني بتحدٍّ وحماس على الفور: «طبعًا فهما محترمتان ومهذبتان …» وهنا قاطعته: «خلاص بطَّلت أحبهم!» وأشهد لأختيه وأضمُّ لهما صفية زوجة شامل وأقول: إنني شعرت منهن بعد رحيل زوجي باهتمامٍ زائد ورعاية وحب أكثر بكثير مما كنتُ أتوقع.

وصلته ﺑ «ماهر أباظة» هي صلة قرابة وصداقة وحب نما منذ الطفولة الأولى، وصداقة الطفولة لها مكانةٌ خاصة في قلوب الناس ولا تنتهي ولا تُنسى، وعلى رغم فارق السن البسيط بينهما إلا أن «ماهرًا» كان يعامله باحترام، وهذا هو أدب زمان. وعندما وصلا إلى شهادة البكالوريا (الثانوية العامة الآن) نزلا من الإسكندرية إلى القاهرة ليتقدما إلى الجامعة، وأقاما في منزل دسوقي باشا، ولم يكن به أحد لأن أهل البيت جميعًا كانوا في المصيف، فبقيا ثلاثة أيام لا يأكلون إلا العنب. وقُبل ماهر في كلية الهندسة، وثروت في كلية الحقوق، ومشى بهما الزمن إلى أن تزوج مني. وكان ماهر — وهو عمي — لا يزال في كلية الهندسة لأن سنوات الدراسة تزيد فيها سنة عن كلية الحقوق، وكان ماهر وأخي محمد — وكان في كلية التجارة — يلازماننا عندما نذهب إلى السينما، وكنا أحيانًا نتناقش أنا وزوجي في السيارة، فلا ينطق الضيفان؛ خوفًا من أن تسوء الفسحة، وفي الأغلب كانا يتحيزان لزوجي لأنه هو الذي يدفع، وكانا يدخران مصروفهما لسهرات أهم من السينما. ويحضرني قصةٌ طريفة حدثت لهما وماهر في سن السادسة عشرة وأخي في الرابعة عشرة؛ فقد كنا في الصيف في الإسكندرية وأخذهما عمي «عثمان» إلى قهوة التريانو في محطة الرمل ثم أعطاهما جنيهًا ليحجزا به «لوجًا» في السينما للعائلة، وذهبا وأمام شباك التذاكر طلبوا منهما جنيهًا وقرشًا.

ولم يكن معهما هذا القرش فعادا إلى عمي «عثمان» ووقفا أمامه صامتَين فقال لهما: «ما لكما؟» فأجاباه بأنه لم يكن معهما قرش ليكملا به ثمن «اللوج»، فاندهش وقال لهما كيف لا يكون مع شابَّين مثلكما قرش؟ وأعطاهما القرش وحجزا التذاكر ولكنهما عادا من محطة الرمل إلى الشاطبي سيرًا على الأقدام.

ونعود إلى صداقة ثروت بماهر، فأذكر أنه في اليوم الذي أنعم فيه الرئيس حسني مبارك على ماهر بوشاح النيل دخل علينا الغرفة وكان ثروت على فراش المرض، فأشار إليه بكلتا يديه أن يقترب منه، ثم قبَّله قبلة كلها حب وسعادة.

وحدث أن فقدت هدى أباظة زوجة الدكتور عثمان خليل عثمان ابنًا شابًّا في مقتبل العمر وفي كامل صحته وفي ثوانٍ، ومن هول ما أصابها رفضت أن ترى أو تستقبل أحدًا، وأغلقت حجرتها عليها وانفردت بآلامها، وقالت: «لو جاء أحد يعزيني لتركتُ المنزل.» وأخبرتُ زوجي بحالتها فانزعج وأعطاها كل العذر فيما تفعل، وبعد دقائق أمسكت سماعة التليفون وطلبت ابنة عم أبي «هيام» وهي في سني، وأخذت أتفق معها على أن نذهب سويًّا للعزاء؛ فإذا بثروت يصرخ قائلًا: أنتما تعلمان أنها لا تستطيع أن ترى أحدًا ومع ذلك تصممان على زيارتها!

– هي وقفت إلى جانبي ومن واجبي أن أقف إلى جانبها.

– أنتما تذكِّرانني باﻟ… وقال كلمة لم أفهمها ولم أسمعها قبل ذلك ولكن معناها أننا نفعل مثل الذين يذهبون إلى المآتم ليأكلوا فيها.

– هي قضت معي أنا وإخوتي شهرًا في الربعماية وقت رحيل أمي، وكنا أطفالًا حينذاك وكان كل همها أن تواسينا وتخفف عنا، فكيف أتركها الآن؟

فصرخ مرة أخرى وأقسم قسمًا غليظًا.

– كيف تقسم كل هذا القسم على أداء واجب؟ فأعاد جملته بنفس الحدة.

فأسقط في يدي، إذ إنه من المضحك أن يكون واجب عزاء سببًا في نقاش بهذه الحدة بعد زواج دام خمسين عامًا، ولم أقف إلى جانبها في الكارثة التي حلَّت بها ولكن على الرغم مني، ولما فكرت وجدت أن معه كل الحق، فقد فكرت أنا في نفسي وفي الدَّين الذي في عنقي، أما هو فقد فكَّر في الأم الثكلى وفي مأساتها المروِّعة، وأشفق عليها أن تتحمل ما لا تطيق.

وكلما عدت من واجب عزاء كنت أطلب من زوجي بل وأرجوه ألا يفتح بيتنا لعزاء السيدات حينما ينتهي عمري؛ فانا أدرى الناس بما يحدث في هذه الاجتماعات.

فالحديث عن «الموضة» والأزياء، وعن طلاق فلانة، وخيانة فلانة، والظاهرة الغريبة أنهن يتعمَّدن أن يتجمَّلن ويتأنَّقن خصيصًا لهذه المناسبات، وقد سمعتُ بأذني كلمة «فرصة سعيدة.» تقولها سيدة لأخرى لم تقابلها من زمن بعيد! وقلت لزوجي قد تُحاول إحداهن أن تتقرَّب إليك بحجة مواساتك وتُخطِّط لتأمين حياتها إذا كانت بلا زوج؛ فيضحك ويقول لي: «أتلاحقينني حتى بعد عمر طويل؟» ثم يصمت قليلًا ويقول لي: «إنني أدعو الله أن يكون يومي قبل يومك.»

وقد علمتنا الحياة أن حزن الرجال يشتعل كالنار المُضرَمة، وسرعان ما يصبح رمادًا ثم يخمد، فسيجدُّ في البحث عن زوجةٍ أخرى، فإن كان شابًّا فالحجة احتياجه لمن تُربي أطفاله، وإن كان شيخًا فالحجة احتياجه للرعاية والمؤانسة، وعلى كل حال فهو يبحث عن زوجة. أما النساء فحزنهن أطول وأعمق، يتمزَّق قلبهن ولا يلتئم، وأغلب السيدات يعشن على ذكرى أزواجهن، ويكرسن حياتهن لتربية الأطفال، وبعض منهم تتَّشح بالسواد مدى الحياة، حتى يلحقن بأزواجهن في دار البقاء. وعندما أواجه زوجي بهذه الأفكار يقول لي: «لا ارتداء السواد ولا استمرار الترمل يُرجِع الزوج، وكل هذه عادات ليست من الإسلام.» وطبعًا لا أوافقه.

وعندما أكتب عن وفاء الزوجات للأزواج بعد رحيلهم أضع أمام عينيَّ عمتي؛ فقد ظلت تتَّشح بالسواد منذ توفي زوجها سنة ١٩٣٤م حتى توفيتْ هي سنة ١٩٧٣م. وعلى رغم أنني أعرف أن ارتداء السواد لا يعني شيئًا ولا يدل على الوفاء؛ فالزوجة المخلصة ترتدي السواد والزوجة الخائنة كذلك وربما يطول حدادها بسبب تأنيب الضمير، وعلى رغم أنني أعرف أن ارتداء السواد لا يُعيد الراحلين؛ إلا أنني في قرارة نفسي كنت أُعجَب بوفاء عمتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤