بداءة

figure
جيتي في شبابه.

ثارت الكنيسة على الطبيعة، ثم ثارت القلعة على الكنيسة، ثم ثارت المدينة على القلعة، ثم ثار الفرد على المدينة.

تلك سلسلة من الثورات تكررت في كل قطر من الأقطار الأوروبية على التقريب، ولكنها لم تكن قَطُّ أوضح مظهرًا ولا أعمق أثرًا ولا أجدر بالدراسة ممَّا كانت في الأقطار الألمانية خاصة.

فسلطان الطبيعة كان عظيمًا في كل أرض، ولكنه لم يكن قَطُّ أعظم مما كان في الأرض التي التقى فيها الشمال والجنوب، والتي غنت للطبيعة وقدَّسَتها وحفظت من غنائها لها وتقديسها إياها ثمالة شائعة في فنونها وعباداتها إلى اليوم.

وسلطان الكنيسة كان عظيمًا في كل أمة، ولكنه لم يكن قَطُّ أعظم ممَّا كان في الأمة التي قامت عليها أركان «الدولة المقدَّسة» وسيطرت عليها الكهانة حتى دفعت بها إلى ثورة الإصلاح.

وسلطان القلعة كان عظيمًا في كل بلد، ولكنه لم يكن قَطُّ أعظم مما كان في البلاد التي تقسَّمها الأمراء دويلات دويلات، وانقسمت فيها الدويلات أقاليم أقاليم، وطال فيها عهد الإقطاع إلى القرن العشرين، وأصبح فيها توقير النبلاء دِينًا إلى جانب الدين؛ حتى شكا نبلاء سكسونية مرة من تعميد أبنائهم بالماء الذي يُعَمَّدُ به أبناء الوضعاء!

وسلطان المدينة كان عظيمًا في كل دولة، ولكنه لم يكن قَطُّ أعظم مما كان في الدولة التي اشتهرت فيها «المدن الحرة» واستقلت فيها بالمصالح والنظم والدساتير.

وثورة الفرد على المدينة كانت معرضًا للدراسة النفسية في كل بيئة، ولكنها لم تكن قَطُّ أغنى بمسائل البحث ممَّا كانت في البلاد التي خرجت فيها النزعة الفردية مزيجًا من ثورة الطبيعة وثورة الكنيسة وثورة القلعة وثورة المدينة وثورة الأفراد، وقلَّما امتزجت ثورات خمسٌ في نفس واحدة إلا بدت للعين كأنها ضرب من السكون!

وبحقٍّ كان «هيجل» فيلسوفًا ألمانيًّا ينظر إلى العالم من خلال النفس الألمانية، وبحقٍّ فسَّر التاريخ كله بالصراع الدائم بين فكرتين تتصارعان ما تكاد إحداهما تغلب الأخرى حتى تتصدى لها فكرة جديدة تنازعها أسلاب الغلب وتأبى عليها قرار الراحة؛ فقد كانت النفس الألمانية ميدانًا بقيت فيه بقية من كل صراع وغنيمة من كل غالب وكل مغلوب، وانتهت بها النهاية في هذه الصفة إلى إنسان جامع للثورات التي هي أشبه بالسكون، أو للسكون الذي هو أشبه بالثورات، ونعني به «جيتي» شاعر الألمان الكبير ومحور الكلام في هذه الرسالة؛ فهو من ثَمَّ الألماني في الألمانيين، وهو سليل الكنيسة الثائرة على الطبيعة، والقلعة الثائرة على الكنيسة، والمدينة الثائرة على القلعة، والفرد الثائر على المدينة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤