عبقرية جيتي

من العبقريين من تعرف مداه بكتاب واحد أو قصيدة واحدة، لأنه يرتقي إلى أَوْجِهِ في بعض أعماله فيأتي بخير ما عنده أو بكل ما عنده، وتعرفه حَقَّ عرفانه فلا تحتاج إلى تجربة له بعدها ولا تصيب في التجربة الجديدة إلا تكرارًا لا جديد فيه.

ومنهم من يعطيك جزءًا من عبقريته في كل جزء من كتاباته، فبعضها لا يدل على مداها كلها، وتكرار القراءة فيها ينتهي بك كل يوم إلى جديد، فلا غنى لك عن التجربة بعد التجربة لسبر غورها والإحاطة بمداها، والحكم عليها في جميع أحوالها.

وجيتي من هؤلاء العبقريين الذين لا ينبئ قليلهم عن كثيرهم؛ لأنه لم يجمع نفسه في قطعة واحدة ولا موضوع واحد، فهو كثير الجوانب كثير التجزئة، الموضوع الواحد عنده لا يدل على كل موضوعاته، والجزء الصغير لا يدل على جملة الموضوع، فكل فكرة له هي أصغر من الرجل في جميع أفكاره، كما أن اليوم الواحد في غمار أيامه هو أصغر لا محالة من سنيه الثمانين.

تلك إحدى الصعوبات التي تعوق عن التعريف بهذا العبقري الكبير، وصعوبة أخرى مثلها هي بساطته وقلة احتياله في تعبيره وتجافيه عن التزويق والتفخيم في سياقه؛ فلا اصطناع ولا إيهام ولا زخرفة وإنما هي أفكار يلقيها إليك على هينة كما جاءته على هينة. وكلها سواء عنده في الحفاوة والخطر؛ فلا الكبير عنده مستهول ولا الصغير مزدرى! إنما هو المارد الجبار يحمل الصخرة كما حمل الحصاة، ويمشي بأثقل أحماله وأخفِّها في خطو وئيد وقوام قويم.

وإذا كان بعض الكُتَّاب يمشي إلى غرضه كما يمشي البهلوان على الحبل، أو كما يمشي اللاعب على يديه، أو كما يمشي الراقص المترنِّح المتبختر أو كما يمشي الكاهن الوقور لا ينظر إلى يمنة ولا إلى يسرة، فجيتي ليس يعرف هذه المشى وليس يركب إلى غرضه حبلًا ولا يترنح ولا يتكلف، بل يخيل إليك أحيانًا من قلة النصب في حركته أنه يمشي إلى غير غرض كما يمشي المتريض في ساعة فراغه. فإذا أفضيت معه إلى غايته فقد تتعب وقد تنكر المسعى، ولكنك تشعر أنك كنت تمشي مع دليل أمين ولم تكن تتبختر مع رقاص أو تقفز مع بهلوان! وأنت بعدُ ومذهبك في حركات الأقدام؛ فالجاري على الحبل أبرع ولا ريب في فنون هذه الحركات من السالك في الطريق كما يسلك سائر الخلق، ولكنه بهلوان وليس كل إنسان ببهلوان! ويلعب والناس لا يتعلمون المشي ليلعبوا على الحبال!

figure
حجرات منزل جيتي من الداخل.

وكلمة واحدة — مع هذا — تسمعها من جيتي تنبئك أنه قد وصل إلى مدى لا يصل إليه الكثيرون، ولا يلزم أن تكون هذه الكلمة رنانة ولا مُوَشَّاة ولا صاخبة ولا أنيقة، فقد تنبئك نبأها الصحيح ولا حَظَّ لها من رنين أو وشي أو صخب أو أناقة.

يحدثك رجل عن القاهرة ساعات متواليات، فيسبق إلى وهمك أنه سكنها وجاس خلالها وأطال المقام فيها، ثم ما هي إلا كلمة يزل بها لسانه حتى تعلم أن ما سمعت بحذافيره إن هو إلا وصف ناقل لا وصف شاهد، وإن حديث صاحبنا عن القاهرة إن هو إلا حديث قارئ أو متلقِّف من الأفواه.

ويقول لك غيره كلمة واحدة عن القاهرة لا تستغرق الثواني فضلًا عن الساعات المتواليات! فتجزم جزم اليقين أنها كلمة العارف الذي زار وأقام وأطال المقام، فهل يلزم أن تكون في هذه الكلمة بلاغة خارقة أو نبرة متكلَّفة أو كناية ملفوقة؟ كلا! بل لا يلزم حتى أن تكون صحيحة كل الصحة في معناها؛ إذ هناك الخطأ الذي لا يخطئه إلا من شهد واختبر، وهناك الخطأ الذي يقع فيه الإنسان لقلة الرؤية والاختبار، بل هناك الخطأ الذي هو أدل على المشاهدة من الصواب، فالشرط الوحيد إذن في تلك الكلمة أن يقولها القائل بعد رؤية ومعرفة، وفي هذا الشرط وحده قيمتها التي تربى على قيمة الأخبار المسهبة يرويها لك من لم يَرَ ولم يعرف، فأنت حين تنوي أن تذهب إلى القاهرة لا تذهب إليها مع من تلا عليك تلك الأخبار وبسط لك تلك المرويات، وإنما تذهب إليها مع من نبس بالكلمة الموجزة ذات الدلالة وإن لم يكن على صواب.

إن كلمات جيتي عن عالم الحقيقة لهي من طراز هذه الكلمة التي لا طنين فيها ولا كلفة، فإذا سمعتها قلت: «أجل!» هذه كلمة ناظر وعارف، هذه كلمة السر التي يصطلحون عليها في ذلك المكان، هذه «هي الأسرار المكشوفة لكل إنسان ويكاد لا يراها إنسان» كما قال.

فمن شاء أن يستدل على عبقري كهذا بكلامه فليتريث كثيرًا ولا يقنع بالنموذج اليسير، فكل فكرة هنا أصغر من المفكر، وكل ثمرة هنا وراءها شجرة كبيرة ووراء الشجرة حديقة أكبر! وقد تدل الثمرة على شجرة واحدة حملتها، أما الحديقة بما وسعت فلا تدل عليها إلا ثمرات من عدة أشجار.

•••

نعم نحن حيال حديقة عامرة لا شجرة واحدة، نحن حيال شاعر وحكيم ومصور وعارف بالموسيقى ووزير وباحث في النبات والتشريح وطبقات الأرض والنور.

وفي كل علم من هذه العلوم كان لبحثه أثر ولرأيه قيمة؛ ففي النبات اهتدى إلى نظرية «التحور» ورد أجزاء الشجرة المختلفة إلى جزأين في أساس التكوين، وراقب النمو المُطَّرِدَ والنمو المعكوس وغيرهما من ضروب الطوارئ على حياة النبات، والتفت إلى أثر العصير الغذائي الكثيف والعصير الغذائي الملطِّف في اختلاف الجذوع والأوراق والأزهار.

وفي التشريح اهتدى إلى العظْمة الوسطى في الفك الأعلى التي تنبت فيها القواطع، وكان المظنون أنها لا توجد إلا في الحيوان، ورجع بتركيب الدماغ إلى الفِقَار في الحيوان والإنسان، فكان في تقريراته هذه في علمي النبات والتشريح رائدًا لمذهب التطور، وطليعة من طلائع العلم الحديث.

أما في طبقات الأرض فقد كان له رأي محترم في تركيب الحجارة المحببة والمعادن، وكان مصرًّا على مناقضة نيوتن في تعليل الألوان يأبى كل الإباء أن يرتاب في بساطة النور أو يقبل التعليل القائل بتركيبه من عدة ألوان، وإنما اللون عنده مزيج من النور والظلام: يكثر فيه قسط النور ويقل قسط الظلام فهو اللون الأصفر، ويكثر فيه قسط الظلام ويقل قسط النور فهو اللون الأزرق، ومن الأصفر والأزرق يتولد الأخضر، ومن هذه الألوان تتولد سائر الألوان، وكلما قارب اللون الظلام كان أثره في النفس إلى الحزن وكلما قارب النور كان أثره إلى البهجة والانشراح.

وقد أعرض علماء الطبيعة عن هذا الرأي ولم يأخذ به إلا نفر من غير الإخصائين، ولكنه على كل حال رأي لا يستحق الازدراء.

وقد عرف له فضله علماء عصره وما بعده فيما عدا هذا فقال كاروس: «إننا إذا رجعنا إلى أقصى ما نستطيع في تاريخ الجهود التي قام بها الباحثون لإدراك فلسفة ما لتركيب الدماغ وجدنا أن الفكرة الأولى عن تحوُّر أشكال العظم وردها جميعًا إلى شكل واحد إنما هي فكرة يرجع فضلها إلى جيتي.»

وقال سانت هلير: «لعله لم يصدر من عشر سنوات كتاب واحد في علم وصف الأعضاء أو علم النبات خلو من وسم هذا الكاتب المشهور.»

figure
جيتي في الحديقة.

وقال هلمهولتز: «إن جهود علماء النبات وعلماء الحيوان لم تَزِدْ على أن تجمع المواد والمشاهدات حتى تعلموا كيف يرتبونها على أنماط يتبين منها التسلسل ووحدة النسق. وهنا وجد عقل شاعرنا الكبير مجالًا يوائمه وكان الوقت مؤاتيًا له والمواد المجتمعة في علم النبات وعلم التحليل المقارن كافية للاستعراض الواضح، فأدخل في العلم فكرتين هاديتين تحفلان بالثمار، حيث كان معاصروه يهيمون على غير هدى أو يقنعون بتسجيل الوقائع اليابسة.»

•••

ونحن لو قصرنا النظر على كتبه في الأدب لاتَّسع أمام أعيننا أفق يترامى في كل جانب، فما من خاطرة جالت في عقل إنسان إلا كان لها مجال في عقله، وكان له فيها رأي العارف المختبر إن لم يكُن له فيها رأي المصيب المعصوم.

ومعظم أخطائه هي أخطاء النظر المستريح إلى جزء واحد لا أخطاء النظر العاجز عن التأمل والاستبانة، أو هي أخطاء السائر الذي لم يبلغ أمده ولا يزال في طريقه لا أخطاء المحجوب عن الحقيقة بعيدها وقريبها، وما شئت بعد هذا من رأي نافذ في الأخلاق والعقائد والاجتماع وسرائر النفس والتاريخ والفن والأمم والرجال، يفهم ما حوله ويشعر به ويستمرئه كأنه لا محيد له عن الفهم والشعور والاستمراء، لا كأنه يتحفز لعمل له أوقاته ومحاولاته، ثم يلقي بالرأي كأنه يتنفس أو يؤدي وظيفة من وظائف حياته له بأدائها غبطة وارتياح، لا كأنه ينهض بعبء أو يعالج مشقة مفروضة عليه، وهذه هي الآراء التي تفيض بها كتبه وأحاديثه ويحتويها هو كلها ولا يتأتى لرأي منها أن يحتويه كل الاحتواء.

•••

على أننا نقف هنا لنقر جوانبه المتعددة في نصابها ولا نرسل القول فيه على إطلاقه؛ فهنالك أشياء لا بد من العلم بها مع العلم بهذه الصفة في الشاعر، لكي نعرف نصيبه هو منها ونصيب أمته وزمانه ومعيشته، ثم نعرف التفاوت بين عبقريته وبين العبقريات التي اتَّصَفَتْ بتعدد الجوانب وسعة النطاق.

فلا بد أن نذكر أن الاستبحار في العلوم خَصلة عرف بها الألمان بين الأمم الأوروبية ولاحظوها في تعليم الأطفال الصغار، فكثر فيهم من يجمعون بين مختلف الدراسات والفنون.

ولا بد أن نذكر أن القرن الثامن عشر الذي نشأ فيه جيتي لم يكن عصر إخصاء وتشعب بل كان عصر إحاطة وإجمال وتمهيد من الإجمال إلى التفصيل، فالاشتغال فيه بالفنون الكثيرة أمر غير غريب ولا سيما الفنون في طور الابتداء، ولنلاحظ أن جيتي لم يخلق «فوست» خلقًا من الخيال وإنما كان فوست مثالًا للعالم الألماني المتبحر في القرون الوسطى، أي قبل جيتي بأجيال، وقد كان فوست محيطًا بكل ما في عصره من علوم.

figure
أحد تماثيل جيتي في شبابه.

ولا بد أن نذكر أن أكثر الفنون التي عالجها جيتي كانت مفروضة في عمله الوزاري ولم يكن يشغله عنها شاغل من مطالب المعيشة، فوسائل البحث عنده ميسورة والوقت كذلك ميسور، بل ربما كان البحث سلواه في إزجاء الفراغ.

ولا بد أن نذكر أن طبيعة التفكير التي واجه بها تلك الآفاق الواسعة هي طبيعة واحدة على تعدد الموضوعات، فهي طبيعة الفني المتذوِّق المتملي الذي يستمتع بتكوين عواطفه ومعارفه كما يستمتع الفنان بتكوين تمثاله، وسبيلنا إلى فهم هذه العبقرية أن نقرن بينها وبين عبقرية أخرى متعددة الجوانب واسعة الآفاق يذكر اسم صاحبها مع اسم جيتي في هذه الأيام، ونعني بها عبقرية «ليوناردو دافنشي» المصور الموسيقي المهندس الفيلسوف الدارس للأحياء وظواهر الطبيعة في كل شيء، فهذه العبقرية قد جمعت طبيعة الفنان المأخوذ بجمال الظواهر وتعبيراتها إلى طبيعة العالم المدرب على التجربة وربط الأسباب إلى طبيعة الرياضي القادر على الفروض والتقديرات. أما جيتي فقد كان فنيًّا في أدبه فنيًّا في عمله فنيًّا في فروضه، وكان محرومًا من ملَكة الفرض الرياضي لأنه يناقض عبقريته المطبوعة على فهم ما بين يديه وترك البعيد المقدَّر حتى يجيء إليه، ولا ندري ماذا كان يصنع جيتي لو كان كليوناردو فقيرًا يضطره البحث إلى إهمال عمله الذي يعيش منه، ولكننا ندري أن ليوناردو كان خليقًا أن يصنع أضعاف ما صنع لو رُزِقَ سعة الوقت ويسر الوسيلة.

•••

فمباحث جيتي على تعددها تمت بنسبها إلى طبيعة واحدة، وهي طبيعة العبقرية الفنية الذواقة التي تلتذ جمال الحاضر وتحيله إلى رياضة متزنة ومحصول جميل.

وإذا ذكرت العبقرية الذواقة في صدد الكلام على جيتي فلك أن تفهم كلمة الذوق بأعم المعاني وأَخَصِّهَا في آنٍ واحد، فقد كان الرجل جيد الذوق في حسه كما كان جيد الذوق في تفكيره، والروايات التي تنقل عن جودة حسه تدهش السامع وتعيد إلى الذاكرة غرائب الأقدمين في بعض الأحيان. فمن ذاك ما رواه «شواب» عن تمييزه لطعوم النبيذ حيث قال: «إن جيتي لخبير بالنبيذ لا يُجارَى، وقد شهدنا على ذلك مثلًا رائعًا في وليمة عند الأمير كارل أوغست حضرها بعض الأخصاء، فبعد الفراغ من الطعام وارتشاف كئوس النبيذ الفاخر استأذن قائد البلاط مسيو دي سبييجل في إحضار صنف من النبيذ دون التصريح باسمه، فجاء بنبيذ أحمر وعرضه على الحاضرين فترشَّفوه فإذا هو جد فاخر، وزعم أكثرهم أنه خمرة برغونية ولكنهم لم يتفقوا على رأي في بادئ الأمر، ثم عادوا إلى الإجماع على هذا الرأي لما رأوا كثيرًا من ذوي الأذواق في القصر يجنحون إليه بينهم الأمير. إلا أن جيتي ما فتئ وحده يترشَّف كأسه ويعيد ترشُّفَها ويومئ برأسه إيماءة إنكار، ثم وضع الكأس فارغة على المائدة وهو يراجع نفسه، فقال قائد البلاط: يلوح لي أن صاحب السعادة يرى غير هذا فهل أجسر على سؤاله من أي الأصناف هذا النبيذ؟ فأجاب جيتي: إنني أجهله، ولكني لا أحسبه من خمر بورغونية، إنما أرجح أنه من خمر يينا معصورة من أعناب شتى منتقاة لبثت زمنا في دن خمرة مديرية. وكان هذه هي الحقيقة.»

والروايات الأخرى التي تروى عن جودة سمعه منذ طفولته تدل كذلك على تمييز نادر للأصوات والأنغام، فقد كان في صباه الباكر يحكي أصوات الممثلين والمغنين ويدرك بحور الشعر ويقيم أوزانه، وكانت قدرته على الصياغة العذبة في جميع أيامه فوق كل قدرة عرفت بين شعراء الألمان إلا من ندر، حتى قال شيلر قرينه ورصيفه: إننا نعنِّي أنفسنا بصوغ الأناشيد وجيتي لا يتكلف لها إلا كما تهز الشجرة فتساقط الرطب الجني.

فهذه الطبيعة الذواقة التي تتملَّى ما بين يديها لحظة لحظة هي طبيعة جيتي الشاعر وجيتي المفكر وجيتي العالم وجيتي الفيلسوف، وهي التي تتجلَّى في كشوفه العلمية كما تتجلى في أناشيده وأغانيه، فليس ها هنا إلا ملَكة واحدة تدير نفسها على نواحٍ كثيرة، وهي نعم ملكة نادرة في قدرتها ونفاذها واتساعها ولكنها بعدُ ملَكة واحدة تتجلى بعينها في كل مقام.

وإلا فما هو تحور النبات وتطور العظام إن لم يكن هو العناية بالجزء بعد الجزء والقول بأن المجموع لا يدرس إلا في الأجزاء وإن دراسة الجزء المحدود تلهمنا العلم بالكل الذي لا حَدَّ له من حيث نريد أو لا نريد؟

وما هو الإصرار على بساطة النور وكراهة الآلات التي تدخل بين العين والمرئيات إن لم يكن هو تقديس الفنان للنور وحبه لاستجلاء الجمال في مشهد العين بغير وساطة من منظار أو موشور؟

لقد كان جيتي لا يمَل القول بكفاية «الظواهر الطبيعية» وقلة الحاجة إلى التعمق فيما وراءها، فكان يقول: «أعلى تجارب الإنسان الروعة، فإذا كانت الظواهر الطبيعية تروعه فدعه يقنع بها، فهو لن يسمو عليها ولا ينبغي أن يذهب وراء هذه التجربة.» وكان يقول: «يجب ألا نحاول النفاذ إلى ما وراء الظواهر فهي في ذاتها الدرس المطلوب.» وكان أبدًا يعجب للذين ينقبون عن الأسرار الخفية والظواهر المكشوفة كلها أسرار تناديهم فلا يلتفتون، فهل هذا إلا كلام فنان يأبى أن يزاول العلم والفلسفة إلا مزاولة طلاب الروعة والجمال؟

figure
أحد تماثيل جيتي في شيخوخته.

بلى! وخلاصة درسه كله ما قال في هذه الأبيات: «كأيٍّ من سنة أطلقت فيها فكري بين الاستجلاء والدرس يتعمق ويتفقه كيف تعيش الطبيعة في خلائقها! فهي الواحد الخالد يتكرر في الكثرة المفرَّقة، فصغير ما هو عظيم، وعظيم ما هو صغير، وكل شيء على منواله يتبدَّل أبدًا ولا يني أبدًا يزاوج بين البعيد والقريب وبين القريب والبعيد، ويتخذ له صورة ثم ينسخ هذه الصورة، ما أحسبني أصنع هنا إلا أن أراع وأعجب بما أراه!»

أجل! ما كان لجيتي في هذه الدنيا من عمل إلا أن يراع ويعجب، وإن كل ما فيه من سخر باسم خفي لن ينقض ذرة من صرح إعجابه الفخم العميم؛ لأنه سُخر من عرف كثيرًا وشعر كثيرًا وأعجب كثيرًا لا سخر من لم يعرف ولم يشعر ولم يدرِ ما الإعجاب، وقد كان إعجابه هذا عملًا جميلًا ولم يكن لغوًا ذاهبًا في الهواء، كان عملًا قوامه الدرس ورياضة النفس والإقبال عليها بالتثقيف والتحسين، وكان سبيله إلى فهم شيء والشعور به أن يعمله ويعيش فيه؛ فالعمل طريق المعرفة والتجمل، والحياة لا تكون إلا تفكيرًا يعقبه عمل وعمل يعقبه تفكير كما يتعاقب الشهيق والزفير! هكذا كان يقول في كتبه وأحاديثه. وهكذا كان يسأل في رواية فوست: ما معنى آية الإنجيل «في البدء كانت الكلمة»؟ هل معناها في البدء كانت الفكرة؟ هل معناها في البدء كان العمل؟ وإلى هنا انتهى السؤال.

•••

لا بد أن نذكر كل ما تقدم لنعلم كُنْهَ هذه العبقرية وكُنْهَ وصفها بالسعة وتعدد الجوانب؛ فهي عبقرية فنية قبل كل شيء، وهي بعدُ فنية عملية قابلة للتطبيق والبروز فلا تفارق الأرض وإن طمحت إلى أرفع المعاني، وهي في هذا كله عبقرية مستجيبة تتلقى وتنتظر وليست بالعبقرية الطاغية التي تصول وتتعجل؛ ففي موضوعات جيتي إجادة كثيرة وليس فيها اختراع كثير.

وستعيش آراء جيتي العلمية في مراجع البحث وسجلات العلماء ولا يعيش هو إلا في عالم الشعر بل في عالم الغناء؛ لأنه شاعر الأغاني غير مدافَع، فليس للشاعر الغنائي ملَكة مطلوبة إلا وهي فيه على حظ وافر، وحسبه في هذا حلاوة النغم وبلاغة اللفظ وسهولة التعبير وقلة التكلُّف التي هي طبع في خلائقه وطبع في أدائه، أما غير ذلك من الملَكات فله فيها مدافعون ومنازعون؛ إذ ليس في آرائه العلمية رأي واحد إلا وله شريك ينازعه السبق إليه، فإن «فيك دازير» قد أعلن كشف العظْمة الفكية في مجمع العلوم بباريس قبل جيتي بخمس سنوات، ولينيس سبقه إلى رأي صائب في تحوُّر النبات، و«أوكن» سبقه إلى رأي في تركيب الدماغ من الفِقَريات وهو رأي لا يسلمه الآن جميع العلماء، وأفلاطون وأرسطو وليوناردو دافنشي كانوا يقولون بأن اللون مزيج من النور والظلام وهم وجيتي في هذا القول مخطئون. وأيًّا كان علم جيتي بهذه الكشوف أو جهله بها قبل اهتدائه إليها فالفضل فيها منازع ومكانه بين العلماء لو سلمت له بغير نزاع لا يرتقي إلى مكان العلية والأفذاذ.

figure
جيتي في ملابس الديوان.

كذلك الشعر لا يسلم له فيه إلا فَضل الغناء وحلاوة الصياغة، فرواياته التمثيلية ستُنسى في عالم التمثيل وترجع إلى أصلها أغاني متفرقات وقصائد وكلمات، وإذا مثلت يومًا كما كانت تمثل من قبل فعلى سبيل الذكرى والاستطلاع والتفرج بالنظر إلى الآثار. أما أناشيده ورسائله أو أشجانه الرومانية وأساطيره المنظومة وكل ما هو في كتاباته من قبيل الغناء فله حظ البقاء وبه يقترن اسمه بين خوالد الأسماء.

قال هيني سيد الفكاهة والنقد الطريف بين كتاب الغرب أجمعين: «نحن أبرع شعراء الغناء في العالم، فليس لأمة أن تفخر بشعر في الغناء كشعر الألمان، وإن الأمم لفي شغل الآن بقضاياها السياسية عن كل شاغل، فإذا جاء يوم طرحت فيه هذه القضايا جانبًا فيومئذٍ نذهب جميعًا إلى الغاب، نذهب كلنا من ألمان وبريطان وأندلسيين وفرنسيين وطليان إلى الغاب الخضراء ونغني هناك وندع الحكم للبلبل، وعلى يقين أنا أن أغاريد ولفجانج جيتي ستخرج بالجائزة من هذه المباراة الشادية.»

•••

والآن فلنستمع إلى الرأي الوحيد في جيتي الذي لا يقول به اليوم أحد في العالم، وذلك هو رأي جيتي في نفسه! فهو الرأي الوحيد الذي يستحق كل رفض ولا يستحق أي قبول.

كان جيتي إلى الرابعة والعشرين من عمره لا يستقر على رأي في كُنْهِ عبقريته، فلما برح «فتزلار» يائسًا من حب شارلوت مضى على النهر يطيل محاسبة نفسه ويفكر في حاضره ومستقبله، فلاح له منظر يخلب قريحة الشاعر ويغري ريشة المصور، فخطر له أن يسأل نفسه أمصور هو أم لا مستقبل له في التصوير؟ ثم خطر له أن يستشير القدر على مثال الأقدمين، فأخرج من جيبه مبراة وقال لنفسه: إذا أنا رأيتها وهي تهوي إلى النهر فأنا فنان، وإذا هي غابت عن نظري وراء الصفصاف فلست بذاك، ثم قذف بها فجاءه الجواب لا إلى النفي ولا إلى الإثبات، وإذا بالمبراة تقع أولًا وراء الصفصاف ثم يثب بها الماء فيراها بملء عينيه!

كان هذا ظنه بنفسه أيام الشباب، فلما شاخ واستوى على ذروة الشهرة الأدبية قال لصاحبه أكرمان: «إنني لا أعوِّل كثيرًا على ما بلغت في الشعر، فقد نبغ في زماننا شعراء عظام وسبقنا وسيلحق بنا شعراء أعظم، ولكنني إذا نظرت إلى أنني — في هذا القرن — كنت الفرد الوحيد الذي عرف الصواب من الخطأ في علم الألوان العويص ألفيتني فخورًا وعرفت رجحاني على الكثيرين.»

ونحن ننقل هذا الرأي لأنه حكمة طيبة في الحياة لا لأنه حكم طيب في الأدب، فجيتي ينسى أخلد ما فيه ويفخر بأفشل ما فيه، ينسى الشعر ويفخر بالعلم، ثم لا يفخر من العلم إلا بما بان فيه فشله ووضح فيه خطله، فلو أنه فخر بآرائه في النبات أو التشريح لصدق فخره وظهر عذره، ولكنه يزهى برأيه في الألوان وهو أضعف الآراء وأدناها إلى الدثور والفناء. الحق أن الإنسان لا يحسن الأمنية لنفسه ولو كان من الحكماء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤