تقدير جيتي

قدر جيتي في حياته وبعد مماته، واتفق له التقدير في منزلته الحكومية وفي مؤلفاته وفي منزلته الأدبية؛ فارتقى إلى أرفع المناصب في إمارة «فيمار» وأنعم عليه الإمبراطور بلقب النبالة وهو تنويه غير قليل في بلاد الألمان في ذلك الزمان، وبيعت مؤلفاته للناشرين بأثمان لم يُعهد لها نظير في غير كتب فولتير، وسعت إليه وفود الأدباء من الأقطار الأوروبية تُكبِره وتحييه، وتسنم ذروة الشهرة العالمية في عصر ندر فيه الأدباء العالميون.

ولما مات دفن إلى جانب صديقه شيلر في مقبرة الأمراء وأقيمت له التماثيل وحفظت آثاره في داره، وتنافس جرمان النمسا وجرمان ألمانيا في تخليد ذكره وشرح مؤلفاته وتدوين الكبير والصغير من أخباره.

واليوم يحتفل الجرمان بذكرى وفاته فتشترك الحكومة والشعب في تقديس هذه الذكرى وتتحد الأحزاب في هذا الغرض على اختلاف أغراضها. وتشتغل الصحف بحديثه حتى التي لا علاقة لها بالشعر والأدب، فصحف الأسنان تكتب عن أسنان جيتي! وصحف السباق تكتب عن جيتي وركوب الخيل! وصحف الأزياء تكتب عن ملابس جيتي وأزياء عصره.

وقبل ثلاث سنوات احتفل الألمان كذلك بذكرى مرور قرن كامل على تمثيل رواية فوست للمرة الأولى، وقبل ثلاث عشرة سنة احتفلوا إلى جانب رفاته بإنشاء دستورهم الجديد، وفي سنة ١٨٤٩ احتفلوا بمرور قرن كامل على ميلاده، وهذا غير الاحتفالات المتفرقة التي يحييها أنصار أدبه ودارسوه، وغير الكتب والتراجم والشروح والتعليقات التي تعد بالمئات.

وقد اشتركت أمم أوروبا في الاحتفال بالذكرى الأخيرة فتوافد مندوبو الدول إلى فيمار وخطب الخطباء في الجامعات وصدرت مجلات كثيرة في فرنسا وإيطاليا وممالك الشمال ليس فيها من الغلاف إلى الغلاف إلا الكلام عنه وعن تراجمه وآرائه وآثاره، ولا تزال الصحف الأوروبية تكتب وتستكتب عنه ما يكفي لتأليف مكتبة كبيرة، بل لقد شوهد بين الأكاليل التي وُضِعَتْ عند قبره إكليل من الرأس طفري مكتوب عليه: «إلى الشاعر العظيم.» ويلي ذلك هذا التوقيع البسيط: «الحبشة».

figure
تمثال جيتي وشيلر في فيمار.

ذلك تقدير لم يظفر به من الأدباء إلا أفراد معدودون، ومع هذا لا نريد أن نعلق قيمة جيتي ولا غيره على أمثال هذه الاحتفالات، فكثيرًا ما يظفر الأدباء الصغار بأمثالها في الحياة وبعد الممات، وكثيرًا ما تراد بها نوافل الأديب وحواشيه دون جواهره وحقائقه. واحتفالات جيتي في الواقع من هذا القبيل لا فرق بين ما جرى منها في ألمانيا وما جرى في البلاد الأجنبية، فكلها قد تُعْزَى إلى أسباب غير أسباب الأدب المحض والثقافة الخالصة، والإلمام بهذه الأسباب مفيد للتمييز بين تقدير الحقيقة وتقدير الظواهر والمناسبات.

فاحسب قبل كل شيء حساب المنصب الكبير والعمر الطويل، فإن المنصب الكبير قد سوَّغ للناس منه ما لا يسيغونه من سواه، والعمر الطويل قد ثبت قدميه في الميدان وأتاح له الوقت لاستدراك نقصه وتكثير مؤلفاته وإبراز مناقبه، ولو مات في سن الشباب لذهبت آفة التفكُّك والاقتضاب بقليل ما كتب، لأنه أشتات لم يعرف الناس قيمتها إلا بالإضافة إلى ما بعدها.

واحسب حساب المصادفة والاتفاق بين الزمن الذي علا فيه نجمه والزمن الذي علا فيه نجم الأمم الجرمانية وتَهَيَّأَتْ فيه بواعث الوحدة السياسية والاعتزاز بالقومية، فنظر الألمان في ذلك الزمن إلى علَم أدبي يأوون إليه فلم يجدوا أمامهم غير شاعرهم الكبير لرسوخ قدمه واشتهاره في غير وطنه، فأصبح التشيع له عصبية وطنية على قلة إعداد جيتي في حياته بتلك العصبية.

واحسب حساب المآرب السياسية في «دستور فيمار» وذكرى فوست وهذه الذكرى الأخيرة التي يحتفلون بها اليوم، فكأنما أراد الألمان أن يذكروا العالم بديونهم الأدبية عليه في الوقت الذي أرهقتهم فيه ديون الحرب وحاولت السياسة أن تقطع ما بينهم وبين الشعوب، ومتى ذكرت شعوب العالم أن الألمان هم أمة جيتي وشيلر وهيني ولسنغ وبيتهوفن وأقطاب الأدب والفن والثقافة ففي ذلك إنصاف لهم يتعذر معه الإرهاق والإعنات.

أما الأمم الأجنبية فما ظنك بها لو كان جيتي قد ناضلها في سبيل العصبية الألمانية كما ناضلها بعض الألمان الغيورين؟ لقد كان تقديرها إياه يختلف لا محالة بعض الاختلاف.

فضمور العصبية الألمانية في كتب جيتي كان أحد الأسباب التي قربت بينه وبين الفرنسيين والطليان والإنجليز، كما قربت بينه وبين الاشتراكيين في الأمم الجرمانية والأجنبية على السواء، ويضاف إلى ذلك إعجابه بثقافة الفرنسيين واعترافه بفضلهم وكثرة مؤلفاتهم في مكتبته المحفوظة إلى يومنا هذا وتورُّعه عن خصومتهم حتى في إبان الحرب بين بلاده وبلادهم، ثم يضاف إليه التغني بإيطاليا وفتنة آثارها وجمال مناظرها والحنين إلى أدب الجنوب وإيثاره في بعض نواحيه على أدب الشمال، ثم يضاف إليه تعظيم جيتي لشكسبير وثنائه على بيرون وستيرن وجولد سمث وجمهرة الأدباء الإنجليز.

ولقد كان رائد جيتي في إنجلترا توماس كارليل وهو كاتب مرٌّ النفس كان يكره الدعوى الفرنسية ويأبى عليها قيادة الفكر في القارة الأوروبية، فكان ينحي على فلاسفة فرنسا وأدبائها وزعمائها ويضرب الأمثال بالألمان ويطنب في المقابلة بين هؤلاء وهؤلاء ليضع فردريك بإزاء نابليون ويضع جيتي بإزاء فولتير ويضع عبقرية الألمان بإزاء عبقرية الفرنسيين.

وكانت رائدة جيتي في فرنسا مدام «دي ستايل» وهي كاتبة نُفِيَتْ من بلدها ونقمت على الأدباء خصومها، فكانت تضربهم بتفخيم مناقب الأدباء الألمان والإشادة بالأمة الألمانية على الإجمال؛ فهذه النوافل جميعها قد أحاطت بشهرة جيتي فزادتها ولم تزِد في قيمة عمله، ولو أنها ذهبت عنه لنقصت شهرته ولم ينقص قدره في ميزان الأدب الصحيح.

•••

كذلك لا نحب أن نعلق قيمة جيتي على كلمة قالها نابليون وتهافت عليها المعجبون بالشاعر كأنها شهادة الشهادات، ونعني بها قول نابليون لمن حوله بعد أن رأى الشاعر: «هاكم رجلًا.» فإن هذه الكلمة التي ألقى بها نابليون بعد جلسة واحدة لا تزيد على وسام يمنحه من يرضى عنه، وكلنا يعلم شأن هذا الوسام في النقد والتمييز.

على أن حاضري الحديث وناقليه قد اختلفوا في مناسبة هذه الكلمة فجاءت في مذكراتهم على روايات، ورواية جيتي نفسه لا تدل على شيء كبير، فهو يقول: إن نابليون نظر إليه مليًّا ثم قال: «مسيو جيتي، إنك رجل!» ثم سأله: كم عمرك؟ فلما علم أنه في الستين قال: «إنك مدخر العافية.» فكأن نابليون كان ينظر في كلمته إلى بنية الرجل لا إلى عبقريته.

وقد كان نابليون مضحكًا في نقده لقصة فرتر التي زعم أنه قرأها سبع مرات، فإنه انتقد بعض العبارات التي يظهر منها أن الطمع كان ممزوجًا بالحب في حمل فرتر على الانتحار، وقال: «إن هذا لا يوافق الطبيعة البشرية، وإنه يُضعف في ذهن القارئ عقيدته في سلطان الحب على نفس فرتر.» ثم سأل جيتي: لماذا كتبتها هكذا؟

وقد قبل جيتي هذا الانتقاد، ولكن القارئ يرى بغير جهد أن الصواب كان في جانب الشاعر لا في جانب نابليون، فإن المرء لا ينتحر لسبب واحد، وإنما تتضافر الأسباب وتتعاقب حتى تتجمع كلها في السبب الأخير.

وما نظن أن نابليون عني بجيتي كما عنى بنفسه، فإنه كان يحثه على تأليف رواية عن يوليوس قيصر يكون ظاهرها لقيصر وباطنها لنابليون، وقد علم أن أدباء فرنسا بين صغير لا يرضيه وكبير لا يرضى عنه، فالتفت إلى أديب الألمان المشهور.

إنما يدل على جيتي فهم أثره لا ترديد ذكره، ويدل عليه أكثر من ذلك أن الذين يفهمونه يُكبرونه ولو خالفوه في الرأي وباينوه في المزاج؛ ففي طليعة خصومه وناقديه هنريك هيني الشاعر المبدع الذي يضارعه في البلاغة وعذوبة الأناشيد ويفضله عليه الكثيرون في الظرف وطرافة الموضوعات، فإنه بعد أن نقده وأَلَمَّ بمحاسنه ومآخذ الناقدين عليه عاد يقول: «وبعدُ، فإن جيتي لهو عاهل آدابنا، فإذا صوَّبْنا مبضع النقد إلى إنسان كهذا فيحسن بنا أن نتقدم إليه بما ينبغي من التوفير، كذلك فعل الجلاد الذي عهدوا إليه أن يقطع رأس شارل الأول، فإنه قبل أداء عمله ركع أمامه والتمس منه غفرانه.»

وإن كلمة من هيني في هذا الصدد لترجح بكل ما يقوله نابليون وكل ما تقوله الاحتفالات.

بل يدل على أن جيتي تَنْبَثُّ أفكاره في ذهن كل مفكر حتى يكاد لا يكتب الكاتب في زماننا هذا إلا وجيتي ماثل في خلده، وقد عمد بول هازار الأستاذ في كلية فرنسا إلى إحصاء حسن الدلالة في هذا الباب، فانتقى بعض كتب المعاصرين التي لا علاقة لها بجيتي وتواليفه وراجعها فظهر له أن ثمانية — من عشرة كتب — تستحضر أفكار جيتي وتشير إليها، وتلك دولة شاسعة في عالم الثقافة لا تفتح إلا لأفذاذ الفاتحين.

وإنك لتعدُّ بين المعجبين بجيتي عقولًا وقرائح يفرق بينها ما يفرق بين القطبين النقيضين في التفكير، فهناك كارليل وبيرون وأمرسون وماتيو أرنولد وتنيسون ومرديث، وهناك سان بيف ورومان رولان وأندريه جيد وموروا، وهناك ماتسيني وجيوفاني جنتيل وبراندو مازريك ومرجكفسكي وتاغور، وهناك ماركس وأنجيل ونتشه وهاوبتمان ولدفج وتوماس مان، وبين هؤلاء الإنجليزي والأمريكي والفرنسي والروسي والهندي وأهل الشمال وأهل الجنوب، وبينهم المتصوف والمتطرف وعاشق المثل الأعلى وطالب الواقع القريب، وبينهم الشاب والشيخ والقديم والحديث والشاعر والفيلسوف، وكلهم يجد في جيتي بغيةً ويلمس فيه عظمةً ويستريح منه إلى جانب ويأخذ منه بنصيب، وتلك أيضًا دولة في عالم الثقافة لا تفتح إلا لأفذاذ الفاتحين.

هذا هو التقدير، وهذه هي العظمة، وهذا هو الخلود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤