مختارات متفرقة

الحكماء والشعب

في هذه القطعة تمثيل صحيح لطريقة جيتي في التسليم وتبسيط الحقائق الكبرى بردها إلى المحسوسات القريبة واجتناب المعضلات من أهون سبيل مع شيء من السخر والسكينة، وفي القطعة صدق حكاية لأساليب الحكماء الأقدمين في ردودهم المبهمة على المسائل العويصة، ولهذا اخترناها من بين «لواذعه».

أبيمنيدس : هلم يا إخوان، نجتمع في الغاب، فهذا الشعب مقبل، يتوافد من الشمال والجنوب ومن الشرق والغرب، يبغي العلم في غير كلفة فأعدوا له القوارع الشداد!
الشعب : أي هؤلاء الحالمون الذاهبون في الخيال! حدثونا اليوم حديثًا مبينًا من غير لبس ولا محال، قولوا، أهذا الوجود قديم؟
أنا كساجورس : ذاك أكبر ظني، فإنها لتكونن خسارة على الزمن الذي غبر قبل وجوده.
الشعب : وهل هو مستهدف للبوار؟
أنا كيمينس : ربما، ولكن ليس في ذلك كبير بأس فيما أرى، فما دام الله فلا بد من عالم.
الشعب : وما هو الأبد؟
بارمينيدس : فيم تكدون القريحة؟ ثوبوا إلى أنفسكم، فإن لم تأنسوا الأبد في ضمائركم وفي جوارحكم، فما يجدي عليكم قول قائل؟
الشعب : أين نفكر، وكيف نفكر؟
ديوجينيس الكلبي : يا سوء هذا العواء! إن المفكر ليفكر من فرعه إلى قدمه، وكما يومض البرق كذلك ينكشف للمفكر كُنْهُ الأشياء ماذا هي، وكيف هي، وكل ما فيها.
الشعب : أصحيح أن روحًا يسكن فينا؟
ممنرمس : سل عن ذلك أضيافك، فخليق أن ترى أن هذا الجوهر اللطيف الصافي الذي يسعد ذاته ويسعد الآخرين، لهو الذي أدعوه بالروح.
الشعب : وفي الليل هل يهبط عليه الكرى؟
برياندرس : هو لا ينفصل عنك، فكن عند شأنك أيها الجسد، فإذا عنيت بذاتك استفاد الروح راحة تنعشه وتجدي عليه.
الشعب : وما هذا الذي يقال عنه الوجدان؟
كليو بيليس : الذي يقال عنه الوجدان يجيب ولا يسأل!
الشعب : فسروا لنا سر السعادة؟
كراتيس : انظر إلى الطفل العاري، إنه لا يرتاب في شيء! إنه ينطلق وفي يده درهم واحد ويعرف أين يقع على مستودع القرص: على حانوت الخباز.
الشعب : قولوا، ما الدليل على خلود النفس؟
أريستيبس : نسج الحياة الصحيح، فإنه لينسجه الحي المحيي، فإذا اختلف خيطه أو التوى فالله بتخليصه أحرى.
الشعب : أيهما خير للمرء العقل أو الجنون؟
ديموكرتس : حسبما تفهم من العقل والجنون، أما إذا ادعى المجنون العقل فليس ما يمنع الحكيم أن يرده عن ضلاله!
الشعب : هل السلطان للمصادفة والوهم دون سواهما؟
أبيقور : أنا عن قديم شيمتي لا أريم، فاغتصب المصادفة وقَرَّ عينًا بالوهم؛ فإنك واجد فائدة ولذة في كلا الاثنين.
الشعب : أغرور وباطل أن نزعم أننا مخيَّرون؟
زينون : دونك التجربة فليس مثلها شيء، اجمع عزمك فإذا أنت غلبت على أمرك فليس في ذلك كبير دلالة!
الشعب : وهل أنا نَزوع إلى الشر بالفطرة؟
بيلاجس : قد نسامحك ونغضي عنك، بيد أنك قد خرجت من بطن أمك بنصيب مرهق، ألا وهو العي والبلاهة في السؤال!
الشعب : أترونني مطبوعًا على طلب الكمال؟
أفلاطون : لو لم يكن طلب الكمال أمنية العالم وهِجِّيراه لما بحثت وسألت. فلتعمل قبل كل شيء على أن تحيا مع نفسك، فإنك إن لم تظفر بفهمها فأولى بك ألا تُعنت الآخرين.
الشعب : مهما يكن فالسائد هو الأنانية والمال.
أبيكتيتس : خل لهما الغنيمة، ولا تنفس على الكون ألاعيبه التي يحركها في دست لعبه!
الشعب : وبعد، فخبرونا قبل أن نفترق فراق الأبد عما ينبغي أن نرضاه.
الحكماء : أول نواميس الكون اجتناب ذوي اللجاجة الملحفين.

في حديقة مارتا … الله

مارغريت : فأنت إذن غير مؤمن بالله.
فوست : لا تخطئي فهم ما أقول أيتها الحبيبة، فمن ذا يجرؤ على تعريفه وحصره، ثم يزعم أنه به مؤمن؟! ومن ذا يجرؤ على الشعور به، ثم ينكر الإيمان؟ ذلك المحيط بكل شيء، الحافظ لكل شيء، أليس هو المستوعب الحافظ لك، ولي، ولذاته العلية؟ أوَلا ترين إلى السماء كيف رُفِعَتْ؟ وإلى الأرض كيف بُسِطَتْ؟ أليست هذي النيرات الخوالد السوابح في الفضاء يرمقننا بلحاظ وامقة؟ أما يرنو طرفي إلى طرفك؟ ألا يهفو كل شيء إليك بمهجتي وفكري؟ وهذا الجاذب أليس هو لغز الأبد، باديًا كان أو خفيًّا؟ بهذا على فرط غموضه املئي فؤادك، فإذا ذقت السعادة في هذا الشعور، فادعيه بما شئت من الأسماء، ادعيه السعادة! أو القلب! أو الحب! أو الله! أما أنا فليس عندي له اسم، فالشعور هو كل شيء، وليس الاسم إلا لغطًا ودخانًا يحجب عنا لألاء السموات.
فوست

مناجاة فوست

أيتها الفلسفة والشريعة والطب جميعًا! وأنت أيها الفقه الأسيف، واحسرتاه! لقد تعمقت في درسك أيتها العلوم دائبًا صبورًا، ثم هأنذا الآن — أنا المفتون المسكين — ما برحت من المعرفة حيث كنت في البداية.

صحيح أني ألقب بالأستاذ والعالم الجهبذ، وأنني قضيت عشرة أعوام كاملة أدور بتلاميذي أسحبهم من أنوفهم يمنة ويسرة ذاهبًا بهم كل مذهب، ولكننا هاهنا بعد كل هذا نرى أننا عاجزون عن إدراك أمر من الأمور … إن هذا ليلهب دمي! وإن كنت في الحقيقة أوسع علمًا من سائر الحمقى والجهابذة والأساتذة والفقهاء والرهبان.

لقد أصبحت لا تنازعني وساوس ولا شكوك، ولا يروعني ذكر الشيطان ولا الجحيم، ولكنني كذلك حرمت بهجة السرور، ولا أحسبني تعلمت في الواقع شيئًا نافعًا أو أستطيع تعليم الأنام شيئًا فيه صلاح لهم وهداية.

لقد خلا وِفَاضي، فلا مال عندي ولا نشب ولا جاه ولا سلطان في العالمين. إن الكلب ليعاف عيشًا بهذه التكاليف.

ليس لي بعد اليوم ملتجأٌ إلى غير السحر، فآه لو أن لي قوة «الروح» وسر «الكلمة» يكشفان لي ما أجهل من الأسرار، وآه لو أنني أغدو غير مُكْرَهٍ على أن أهرف بما لا أعرف، ولو أنني أدرك كل ما يشتمل عليه الكون، وأرى — من وراء الألفاظ الجوفاء — ما يكنه من القوة الخفية والبذور الأزلية!

أيها البدر المنير الساجي، ألا كانت هذه آخر نظرة ترسلها على لوعتي وبرحائي! لكم سهدت الليالي على مكتبي هذا، وكنت دائمًا — أيها الصديق الساهم — تطلع عليَّ بين ركام الأسفار والطروس.

آه من لي — في سناك الحلو — بأن أتسنم إلى ذرى الأطواد، وأجوس الكهوف والغيران مع الأرواح، وأرقص فوق المروج الشاحبة، وأتطهر بفيض ضيائك الرطيب.

أواه! لا زلت رهن الضنى في غيابة هذا المحبس! وتعسًا له من جُحر مظلم لا يتطرق إليه من نور السماء المحبوب إلا لمحة من خلال هذا الزجاج ذي الألوان، يكظه حتى عنان السقف ركام من الأسفار المغبرَّة المأروضة وأكداس من الأوراق، وتملأ أرجاءه الأنابيب والقناني والصناديق وشتى الأدوات، وناهيك بسقط المتاع مما أورثنيه الأجداد! وهاك دنياك! وعن هذه يقال إنها دنيا!

وبعد هذا كله تتساءل فيمَ ينقبض فؤادك بين جنبيك جزعًا، وما بال شواعرك وخوالج حياتك يرين عليها غم دفين؟ تتساءل عن ذلك! وتستعيض من الطبيعة الحية التي خلقك الخالق في أحضانها أن تبيت وسط الدخان والوخم وتجاليد الحيوان وعظام الموتى.

النجاء النجاء! وانطلق في وسيع الفضاء! وحسبك هاديًا كتاب العلامة «نوستراداموس» الحافل بالأسرار، فإنك لتطلع به على دورة الأفلاك، فإذا تولت الطبيعة حينذاك تلقينك فإنها تعاطيك قوة نفسية معاطاة الروح للروح، وهيهات أن ندرك بالحس الغليظ العقيم هذه الطلاسم القدسية…

أيتها الأرواح السابحة حولي، أجيبي إن كنت لي سامعة!

فوست

القطعة الأولى

أيتها الحجارة، حدثيني! أيتها الصروح الباذخة أجيبي، أيتها الطرق، انطقي بكلمة واحدة! ألا تستيقظين أيتها العبقرية؟ بلى، كل شيء حي في أسوارك القدسية يا روما الخالدة، إلا في ناظري وعند خاطري، فما برح الصمت على كل شيء مخيمًا.

ألا من يوسوس لي في أية نافذة أنا ناظر في يوم من الأيام إلى الطلعة الحلوة التي ستحيي لي كل شيء وهي تفنيني؟ أليس لي أن أهتدي إلى السبيل الذي يدرج فيه وقتي النفيس ذهابًا إليها وإيابًا من عندها؟

لم أَرَ حتى اليوم إلا بِيَعًا وصروحًا، وأطلالًا وعمدًا، كالسائح الحازم الحريص على الفائدة من رحلته، ولكن سرعان ما أودع كل هذا! فلا يبقى غير هيكل واحد، هيكل الحب، يُقبِل عليه العارف بأسراره.

أنت يا روما عالم! ولكن العالم بغير الحب لا يكون عالمًا، وروما لا تكون روما.

أشجان رومانية

المقطوعة الخامسة (بعد أن استحدث الشاعر علاقة غرامية)

على أرض الآثار تستخفني حماسة قدسية، وتحدثني العصور الخوالي والعصور الحواضر باللحن الجهير فتؤنسني. هنا أطالع فكر الأقدمين، وأقلب بيد الخشوع صفحات أعمالهم فتستجد لي متعة في كل نهار، أما الليل فيشغلني فيه الحب بشواغل أخرى، فإذا بات حظي من العلم نصفه فلقد أصبت من السعادة ضِعفيها.

وبعد أفليس من التعلم والدرس أن يتأمل البصر تكوير نهد كاعب، وأن تجري الكف على استدارة خصر مبتل؟ إني لأفهم حينذاك ولا أفهم قبل ذاك ما الرخام، وما التماثيل، وإني لأفكر وأقارن، وأرى بعين تحس، وأحس بكف ترى.

ولئن سلبتني الغانية سويعات من النهار فإنها تعوضني عنها ساعات في الليل، وليس الليل كله بعناق! فإننا لنتحدث فيه الحديث الرصين، وتأخذها سِنَة من النوم فتنازعني ألف فكرة، وأنظم بين ذارعيها، وأقسم بأصبعي الماجنة على ظهرها تفاعيل بحر من القريض. وهي في منامها تتنفس فتضرمني أنفاسها حتى سويداء قلبي، والحب يتعهد أبدًا مصباحه الوقاد، ويحلم بالعهد الذي أدى فيه هذه الألطاف للأسبقين من الولاة الرومانيين.

أشجان رومانية

الهجرة

الشمال والغرب والجنوب أقطارها تتصدع، وعروشها تنثل، وممالكها تنهار، فاهجرها! وامض إلى الشرق الطهور تستروح الطيب من الآباء الطيبين، ويرد عليك صباك بالحب والنشوة والغناء حكيم المشرق القائم على عين الحياة.

هنالك بالطهر والإنصاف أنشد الرُّجعى إلى أصول بني آدم، إلى الأزمان التي كان فيها الملأ يتلقون من الله كلمة الحق السماوية منزلة في اللغات الأرضية، لا يقدحون فكرًا، لا يكدُّون ذهنًا، إلى تلك الأزمان التي كان فيها الملأ يُبَجِّلُونَ السلف وينهون عن كل دين غريب.

أريد التملي بهذه الطبائع الفطرية في عصور الفطرة: إيمان واسع وفكر ضيق لهما من الشأن ما للكلمة، فإنها كلمة منزلة.

أريد معاشرة الرعاة، والترويح عن النفس في ظلال الواحة، أرتحل مع القوافل وأتجر في «الشمل» والبن والمسك والطيب.

أريد أن أطرق كل سبيل من البادية إلى الحضر.

وسيان أصعدت في الوعوث أم هبطت في الوهود، فإن أغانيك يا «حافظ» تؤنسني أغانيك التي يترنم بها المرشد على ظهر برذونه مأخوذًا طربًا، وكأنما يوقظ بها النجوم الوسنى، ويرهب قطاع الطريق.

في حمامات الشرق وبين جدران الخان أريد أن أذكرك يا «حافظ» الملهم، وقد أماطت حبيبتي لثامها وتضوَّع من غدائر شعرها عبير الند والعنبر. أجل، ما أحرى بث الشاعر أن يبعث العشق حتى في قلب حورية من حور الجنان!

وإذا كنتم تنقمون عليه ذلك أدنى نقمة، فاعلموا أن كلمات الشاعر لا تفتأ تحوم حول جنة الخلد طارقة أبوابها تطلب الخلود.

الديوان الشرقي

الحرية

دعوني أنطلق على صهوة جوادي السابح، وابقوا أنتم في عقر مدَركم وتحت خيامكم، إني لأركض جذلان في الفضاء الشاسع، ليس فوق عمامتي غير الكواكب.

وما جعلت الكواكب هدى لكم في البر والبحر إلا لتكون السماء أبد الدهر قِبلة أنظاركم أجمعين.

الديوان الشرقي

حنين السعداء

لا تبُح بقولي إلا لعاقل حكيم، فإن سواد الناس على الهزء مطبوعون، أقول نِعْمَ الحيُّ من يشتهي المَنِيَّةَ في اللهب.

في ليالي الحب الندية التي أنت فيها تتلقى الحياة وتبذل الحياة، تستحوذ عليك عاطفة غريبة إذا ما أنار القبس في سكون، يستدرجك شوق جديد إلى قران أسنى وأعلى، فلا يقعدك بُعد المدى، وتخف مبادرًا مفتونًا. فإذا أنت يا صنو الفراشة من ولعك بالنور ذائب محترق!

مت والبس لبوسًا جديدًا! فإنك — ما جهلت هذا — لعلى ظهر الأرض المظلمة ضيف حزين.

الديوان الشرقي

اللقاء

أصحيح هذا! أأضمك يا عروس الكواكب ثانية إلى صدري؟ أوَّاه من ليل البعاد، يا له من درك سحيق، ويا له من عذاب وجيع!

بلى! إنك لأنت هنا يا مبعث أفراحي ومعدنها ويا أحلي تتمة لوجودي وأغلاها، إنني لذكرى آلام الماضي أرتجف بين يدي الحاضر.

قديمًا كان الكون جنينًا في الهاوية السحيقة فأوحى الله بإرادة الخلق الأولى، ونادى: «ليكن العالم!» فما هو إلا أن دوَّت آهة أليمة وإذا العالم ينتثر في تعدد الكائنات بجهد مقتدر شديد.

افترَّ النور، وانشقَّت عنه الظلمات فرقًا، وإذا بالعناصر تتشعب أشتاتًا وتتدابر، وينطلق كل عنصر على عجل كما تنطلق الأحلام الشعواء، فينتحي بعيدًا جاسيًا في أرجاء الفضاء السحيق، لا بغية له ولا انسجام فيه.

وكان كل شيء أخرس جديبًا، وكان الله في خليقته فريدًا وحيدًا! فخلق الفجر، فإذا هو يرق من الوحشة، ويبعث في هذه الغواشي أفانين الألوان المترقرقة، فتسنى إذ ذاك للحب أن يؤلف ما تَفَرَّقَ شمله فإذا الذين خلقوا بعضهم لبعض يتقاربون متلهفين، وأقبل على الحياة الخالدة النظر والشعور، وسيان الغصب والاختيار إذا صح التماسك والالتئام!

كذلك على أجنحة الفجر الأرجوانية درجت إلى شفتيك، وكذلك أرى الليل يطبع ألفتنا بآلاف الأختام الذهبية من منتثر نجومه، فكلانا على وجه البسيطة مثال الفرح والألم، ولو تكررت كلمة الآمر: «ليكن العالم!» لما فرقت بيننا بعد اليوم.

الديوان الشرقي

نشيد محمد أو فيض الإسلام

انظر إلى ينبوع الجبل جائشًا صافيًا، كأنما هو فوق السحب شعاع دري، وقد أرضعت ملائكة الخير طفولته في مهده بين أفلاق الصخور المعشوشبة.

إنه ينحدر من السحابة فتيًّا نميرًا على صلد الجلاميد، ويتنزى منها جذلان فرحًا إلى العلا.

إنه يسيل في وعر الأخاديد، يجرف أمامه مجزعة الحصباء التي لا تحصى ويسحب في إثر أقدامه العجلى أخوة من العيون الثرارة، كأنه المرشد الأمين.

وثمة في الوادي تنجم الرياحين عند قدميه، وتحيا المروج من أنفاسه، فلا يثنيه الوادي الظليل ولا الرياحين التي تطوق ساقيه وتحاول أن تسبيه بلحاظها الفواتن، بل هو يصمد في تدفعه متسلسلًا متعرجًا إلى فضاء السهوب.

وتبادر إليه الجداول ترفده، فيدخل السهل لامعًا كاللجين، فيتلألأ السهل بلألائه، وتطفر طربًا أنهار الوهاد وجداول النجاد، وتهيب به: «يا أخي، خذ معك إخوتك، وامض بها إلى أبيك الشيخ، إلى البحر المحيط الأزلي، الذي يترقبنا باسطًا ذراعيه، وا أسفا! لطالما بسط ذراعيه بلا جدوى ليضم إليه بنيه الأنضاء، ونحن في البيداء الجدباء تبتلعنا الرمال المحرقة، والشمس في كبد السماء تشفي الغليل من دمائنا، ولا يستوقفنا غير كثيب نستحيل عنده إلى غدير! يا أخي، خذ معك إخوتك بالوهاد وإخوتك بالنجاد، وامض بهم إلى أبيك! تعالوا جميعًا!»

وها هو العباب طامًّا زاخرًا ترفده الروافد ويخلع في مجراه على الأمصار أسماءها، وتنشأ عند أقدامه المدائن، بيد أنه لا يني هادرًا يتدفع، لا يثنيه أبدًا ثانٍ، مخلفًا وراءه المنائر والصروح: بدائع خصبه وإنتاجه.

وإنه ليقل فوق مناكبه الجبارة منشآت السفن، تخفق الألوف من قلوعها فوق رأسه وتهفو مشرعةً نحو السماء، شاهدة على قدرته وجلاله.

وهكذا يمضي بإخوته وكنوزه وبنيه نحو أبيه الذي ينتظره ويتلقاهم إلى صدره وهو يعج من الفرح.

مقطوعة

الجزء الأول

رسالة في ١٠ مايو

نفسي يغمرها صفاء بديع يوائم ما لأسحار الربيع الحلوة من صفاء تلتذه كل جوارحي، وأنا هنا وحيد، مستسلم لبهجة الحياة في هذا البلد الذي يوافق هوى كل نفس كنفسي، وإني يا صاح! هانئ جد الهناءة، مستغرق في دعة الإحساس بوجودي، حتى جار ذلك على فني، فهيهات لي الآن أن أرسم خطًّا واحدًا وإن كنت لا أحسبني في يوم من الأيام كنت رسَّامًا أعظم مني اليوم. فكلما تصاعدت حولي هبوات البخار من ذلك الوادي الحبيب، وكلما طرحت شمس الضحى على حلك غابتي الطخياء أشعتها فلم يسنح لغير النزر القليل منها التسرب إلى قرار هذا المحراب، وكلما افترشت العشب النامي عند منحدر أمواه الجدول فانكشف لي لصق أديم التربة العدد العديد من شتى ضروب النبات الصغيرة، وكلما أحسست بجوار قلبي ذلك العالم الصغير يتحرك ويموج في حشده وينطوي تحت وريقة من أوراق الكلأ على تلك الحشرات والهوام الجمة الأشكال التي تحير الناظر بتنوع أفانينها، أحسست شهود «العزيز المقتدر» الذي برأنا على صورته، وشعرت بذلك الذي وسعت محبته كل شيء يمدنا بروحه ويسبح بنا في نعيم مقيم … إذ ذاك — يا صاح — يغشى ناظري ويستقر العالم المحيط بي والسماء جميعًا في قرارة نفسي كما تنطبع في النفس صورة المحبوبة، ورُبَّ شوق لاعج ينازعني فأقول في سريرتي: «آه، ليتك تستطيع الترجمة عن كل ذلك! ليتك تستطيع أن تنفث في الطرس وتثبت عليه ما هو حي ماثل في وجدانك بهذه الحرارة كلها وهذا الامتلاء كله، إذن لأصبحت تلك الصورة مرآة نفسك كما أن نفسك مرآة الله»! ولكن هذا الهيام — يا صاح — يضعضع حواسي، فأنوء به طليحًا عاجزًا من سطوة هذه المشاهد الرائعة.

فرتر

رسالة في ١٣ يولية

كلا، لست واهمًا! إني أطالع في عينيها الدعجاوين حسن التفات نحوي واهتمامًا حفيًّا بي وبمصيري. أجل، بل أحس — ويحق لي أن أصدق ما يهجس به قلبي — أنها … وهل أجرؤ … هل أستطيع أن أفوه بهذه الكلمة التي تحمل في ثناياها جنة الخلد؟ أحس أنها تحبني!

إنها تحبني! ولكم أصبحت من ذلك الحين عند نفسي حبيبًا أثيرًا، أوَتدري مقدار ذلك؟ يجدر بي أن أخبرك أنت فإنك خليق بفهمي … شدَّ ما أنا كلِف بنفسي منذ أن أحبتني!

أترى هذا وهمًا يخيل إليَّ؟ أم هو الإحساس بحقيقة حالي؟ إني لا أعرف رجلًا أخشى منه على المنزلة التي لي في قلب شرلوت، ومع هذا فحينما تتكلم عن خطيبها وتتكلم عنه بكل تلك الحرارة والعاطفة، يقوم في نفسي أنني امرؤ خلعوه عن رفيع مقامه وسلبوه كل رتبة سنية، وجرَّدوه من حسامه!

فرتر

ملك العفاريت

من الراكب المُدْلِج في غبش المساء تحت وابل المطر وعصف الريح؟ ذاك والد ووليده، وهو يضمه ويدفئه ويحتضنه بين ذراعيه.

– بني، ما بالك تحجب وجهك؟

– أبتاه ألا ترى ملك العفاريت، ملك العفاريت بإكليله وطيلسانه؟

– بنيَّ! تلك سدفة من غسق المساء.

«أيها الطفل العزيز، هلم إليَّ، سنلهو معًا بأجمل الألاعيب! هنالك حيث تزدان ضفافي بالرياحين، وحيث أمي عندها كثير من الحلل الذهبية والشفوف!»

– أبتاه! أبتاه! عجبًا! ألا تسمع ما يوسوس به ملك العفاريت؟

– هدئ روعك! هدئ روعك يا بني، إنها الريح تهمس في ذابل الأوراق.

«ألا تريد أيها الطفل اللطيف، ألا تريد الذهاب معي؟ بناتي سوف يدلِّلنك وأي تدليل، بناتي يرقصن في جنح الظلام، بناتي سوف يغنين لك ويجلبن إلى جفنيك طيب النعاس.»

– أبتاه، أبتاه! عجبًا! ألا ترى هنالك بنات ملك العفاريت؟

– بني، بني، أرى جيدًا، أرى أنها أشجار الصفصاف العتيقة تتخايل من بعيد.

«أنا أحبك، وطلعتك الحلوة تروقني، فإذا أبيت أخذتك غصبًا.»

– أبتاه، أبتاه! ها هو ذا يمسكني، لشد ما آذاني ملك العفاريت! ارتعد الوالد، ودفع جواده، وضم في ذراعيه ولده المختنق بالنشيج وبلغ داره بعد جهد جهيد، وإذا الطفل في ذراعيه ميت.

أساطير

مختارات أخرى

يغلب ألا نتعلم فن التعبئة في الحياة إلا بعد انتهاء المعركة.

من كتاب الشعر والحقيقة

غاية الحياة هي الحياة نفسها.

من حديث مع ماير

أتريد تعرف كلمة الحياة الأخيرة؟ كن فرحًا، فإن لم تستطع فكن قانعًا.

أكزيني

لا تبلغ القمة إلا بدوران.

ولهلم ميستر

نحن نحسب الناس أخطر مما هم في الحقيقة، إن الأبله والكَيِّس كلاهما لا خطر منه، وإنما أشد الناس خطرًا نصف العاقل ونصف المجنون.

كلمات

يقال إن الرجل لا يكون بطلًا في عين خادمه، وإنما سبب ذلك أن البطل لا يعرفه إلا بطل، أما الخادم فلا يعرف إلا من هم على مثاله.

كلمات

كان كل شيء قبل الثورة «الفرنسية» جهدًا فأصبح بعدها مأربًا.

كلمات

من أصدق الأشياء وأعجبها أن ينجم الخطأ والصواب من ينبوع واحد، ولهذا كان من سوء الرأي في بعض الأحيان أن يقسى على الخطأ، لأن القسوة عليه تصيب الصواب.

حكم وأمثال

يندر أن نرضي أنفسنا، فليكن أكبر عزائنا أن نرضي الآخرين.

كلمات

المدرسة الفكرية أشبه شيء برجل يكلم نفسه مائة سنة ويفرط في الفرح بنفسه كائنًا ما كان حظها من السخف والحماقة.

كلمات

إذا جاز أن يُزدرى الفن لأنه محاكاة للطبيعة ففي الوسع أن يقال كذلك إن الطبيعة لا تخلو من المحاكاة، وإن الفن لا يحكي ما يرى بالعين تمام الحكاية وإنما يرجع إلى عنصر البصيرة الذي يقوم به تركيب الطبيعة وتعمل هي على أساسه.

كلمات

أظهر ما يبدو جلال الفن في الموسيقى؛ إذ ليس في الموسيقى مادة تصاغ وليس فيها إلا شكل ومعنى، وهي تعلو بكل ما تعبر عنه.

كلمات

ميول الحس الخاطئة هي ضرب من النزعة «الواقعية» وهي أبدًا خير من تلك الميول الخاطئة التي تسمي نفسها بالأشواق «المثالية».

كلمات

الجمال مظهر لقوانين خفية في الطبيعة لولاه لما ظهرت.

كلمات

لو ضاع كل شيء من قبيل رواية هنري الرابع التي كتبها شكسبير لأمكن أن تستعاد فنون الشعر والبيان جميعًا من هذه الرواية الفريدة.

كلمات
لفكتور هيجو ملكات فائقة بغير جدال، وهو يجدد الشعر الفرنسي وينضره، ولكننا نخشى أن يحيد أشياعه ومريدوه — إن لم يحِد هو — عن الجادة التي أقدم عليها؛ إذ الأمة الفرنسية أمة النقائض فهي لا تقف عند حد أو قياس، وهي بما منحت من قوى في النفوس ونشاط في الأجسام خليقة أن تزحزح الأرض لو وجدت مكان الارتكاز، ولكنها على ما يظهر لا تبالي أن تعلم أن المرء إذا تصدى للأحمال الثقيلة فعليه أن يلتمس البيئة والوسيلة، إن هذا الشعب لهو الوحيد بين شعوب العالم الذي يجمع في تاريخه نقائض كمذبحة سان برتلمي ومذهب الحرية الفكرية، أو كاستبداد لويس الرابع عشر وعربدة جماعة «العراة» Sans Culottes، أو كفتح موسكو وتسليم باريس في نحو سنة واحدة؛ ومن ثَمَّ يحق لنا أن نخشى في عالم الأدب أيضًا أن يتلو استبداد «بوالو» خروج على جميع الأصول وفوضى بغير عنان.
حديث مع كزميان

الفرح والحب جناحان يرتفعان بنا إلى جلائل الأعمال.

إفيجيني

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤