حياة جيتي

١٧٤٩–١٨٣٢

كان جيتي يغبط صاحبه شيلر لموته في العقد الخامس من عمره، فذكراه أبدًا مقرونة بذكرى الشباب المحبوب والنضارة الموموقة.

وقَلَّمَا يصيب المرء في تمنيه ولو كان من الحكماء، فلو مات جيتي في سن صاحبه لضاع أكبر نصيبه من الشهرة وهبطت مكانته في عيون قومه وعيون سائر الأقوام؛ لأن طول عمره أقامه في الأدب الألماني الحديث مقام الأُبُوَّةِ والرُّجحان، وأتاح له أن يُتِمَّ ما بدأه من الكتب في أوائل الحياة.

لكنه كان يتمنى ذكرى الشباب على خطأ أو على صواب، فعزاء له ولا ريب أن تضمه الأرض إليها وهي في نضرتها وأن تلف ذكراه في أكفان ربيعها؛ فقد مات في الثاني والعشرين من شهر مارس خاتمة الشتاء، فلا يذكره الذاكرون إلا بدرت إلى أذهانهم صور الربيع في مطلع وروده ورياحينه! وتلك قسمة خير من قسمة صاحبه المغاضَر قبل أوانه؛ وإن لم يكن فيها محاباة من القدر ولا إجحاف.

نعم لا محاباة من القدر في هذا الازدواج بين تحية جيتي وتحية الربيع، فإنما عاش الرجل حياته كلها على طولها في ربيع ناضر من نسج الفن والطبيعة على السواء، ونشأ في حجر الجَمال من لدن كان في طفولته الأولى إلى أن نَيَّفَ على الثمانين؛ ففي الرابعة عشرة حب وجمال وفي سرير الموت حب وجمال! وكانت إحدى كلماته الأخيرة في غيبوبة الاحتضار إشارة إلى رأس امرأة في الخيال. فقال لمن كان يراهم في غيبوبته من ملأ الفنون: «انظروا إلى رأس تلك المرأة الفاتنة ذات الغدائر الفواحم في لونها الفاخر من ورائها الظهارة السوداء!» وهكذا كانت عيناه لا تملَّان محاسن الدنيا في صحو ولا غيبوبة، وقَلَّمَا فارقه الصحو في أزمات الروح والجسد، وقَلَّمَا احتوته الغيبوبة إلا في قبضة الحِمام أو في قبضة السِّقام.

بل لقد خطب الرجل وهو في الرابعة والسبعين فتاة في التاسعة عشرة! فلما أعرضت عنه تشفَّع إليها وإلى أمها بأميره الذي حقق فيه قول أبي الطيب:

عَلَّ الأمير يرى ذلي فيشفع لي
عند التي تركتني في الهوى مثلَا

فلما أصرت أمها على الرفض كما ينبغي أن تصر كل والدة في مثل هذه الخطبة انقلب إلى بيته مزوَّدًا بقبلتين اثنتين جادت بهما الفتاة عليه في موقف التعزية! وراح يعاني برح الغرام وينظم قصائد الغزل! وينسى أنه لا يبدو للدنيا في صورة ربيعية وإن كانت الدنيا لا تبدو له إلا كذاك!

وظلت الحياة يانعة لقريحته كما ظلت يانعة لقلبه، فأثمرت شجراته في الفن والعلم أطيب الثمر، وأخصبت أيامه كلها في شتى المباحث والمشاركات كأخصب ما عرف في أيام الشعراء المفكِّرين، فمن شعر إلى شريعة إلى سحر إلى تصوير إلى موسيقى إلى طب إلى معادن إلى نبات، تختلف في الجودة ولكنها لا تختلف في النماء، فإن أينعت منها جوانب وأقفرت جوانب أخرى فكما تختلف البقعتان في الأوان الواحد، هذه عداها الماء والزرع وهذه يجري إليها الماء وتعمل فيها يد الأكَّار، وكلتاهما مطويتان في أوان الربيع، وليس اختلافهما كاختلاف الربيع والشتاء، أو كاختلاف النضرة والذبول.

أجل! هو ربيع دام في هذه الأرض نَيِّفًا وثمانين عامًا يخصب حينًا كما يخصب الربيع ويجدب أيضًا كما يجدب الربيع، وهو ربيع الطبيعة والفن معًا … فإن شئت فقُلْ إنه تمثال حياة، وإن شئت فقل إنه حياة تمثال! ولكنك لا تستطيع أن تتصوره دون أن تجمع في تصوُّرك إياه بين الحياة والتمثال في إهابٍ واحد! وستعلم من تفصيل وصفِه اللاحق أننا نعني الحقيقة هنا ولا نعني اللعب بالكلمات.

figure
جيتي في سنة ١٨٢٦.

ولد جوهان ولفجانج جيتي بمدينة فرنكفورت في الثامن والعشرين من شهر أغسطس لسنة ١٧٤٩، من سلالة كان فيهم الحائك والحداد والبيطار والضابط والتاجر؛ فهم من ناحية الأبوين صُنَّاعٌ ارتقوا إلى طبقة الموسرين، وكان أبوه في الحادية والأربعين وأمه في الثامنة عشرة حين وُلِدَ لهما هذا الطفل المشكوك في حياته الذي عاش بعد ذلك إلى الثالثة والثمانين، فشب في بيت لا تَقارُب فيه بين الأبوين في السن ولا تقارب في المزاج؛ إذ كان أبوه جافيًا شديدًا في «النظام» حريصًا على سمت وجاهته ولقبه الذي اشتراه بالمال، مرير النفس لفشله في رجاء العظمة والظهور، وكانت أمه طروبًا ضحوكًا مشغوفة بالسرور. ووصف جيتي في شيخوخته ما ورِثه من كليهما فقال إنه ورث من أبيه قوة الخالجة والشك والتطلع، وورث من أمه المرح وحب الحياة والخيال! وكانت أمه فيما عدا ذلك تقرأ الكتب الخفيفة من أدب الألمان والطليان فتبث في ولدها — أو في أخيها كما كانت تسميه بعض الأحيان — هوى القراءة والتخيُّل والأقاصيص، فميراثه منها في القريحة أكبر وأزكى، وشبهه بأبيه أقرب وأوضح كما ترى في صور الثلاثة.

figure
جوهان كاسبر والد جيتي.

تعلم اللاتينية والإيطالية والفرنسية في طفولته الأولى، وكان أبوه يتولى تعليمه في معظم الأحوال لأنه درس علوم الحقوق وحصل فيها على لقب الدكتوراه، وكان يؤلِّف في الإيطالية وله رحلة مكتوبة بها.

ولما بلغ جيتي السابعة نشبت حرب السنوات السبع بين النمسا وبروسيا؛ فكانت أمه في جانب «ماري تريزا» وكان أبوه في جانب «فردريك» الكبير، أما هو فكان — هذه المرة — في جانب أبيه.

ثم احتَلَّت فرنكفورت فرقة فرنسية تساعد النمسا على بروسيا، واحتل قائدها «ثوران» منزل جيتي فغنم الطفل الصغير من هذا الاحتلال فائدة لا تُنسى؛ لأن ثوران كان ضابطًا مثقفًا يحب مجالسة الأدباء ورجال الفنون، ويجمع الصور النفيسة ليرسل بها إلى بلاده، ولأنه أذن لجيتي أن يشهد المسرح الفرنسي الذي كان يرافق الجيش في احتلاله حيث شاء أن يشهده، وتلك مزية يفرح بها الطفل من غراره مطبوع على حب الفنون.

figure
كاترينا إليصابات والدة جيتي.

وأخذ يتعلم الرياضة والموسيقى والتصوير واللغة الإنجليزية وهو في الثانية عشرة، فاخترع قصة يعيش أبطالها في ممالك مختلفة ويكتب كل منهم إلى صاحبه بلغة بلده، ليحذق هذه اللغات ويفتن في أساليبها. وأدت به قراءة التوراة إلى درس العبرية فنظم الشعر في قصة يوسف وإخوته، وكان يملي ما ينظمه أو يكتبه على زميل له من صنائع أهله، فتعوَّد الإملاء عادة لزمته طول حياته. ثم برح بيت أبيه إلى جامعة ليبزج ليدرس فيها الشريعة وما إليها وهو في السادسة عشرة، فبقي زمنًا يدرس الشريعة ويزور المتاحف ويمارس التصوير ويلهو أحيانًا ويجرب الهوى والهجر والغيرة والإسراف كلما اتفق له ذلك، حتى ضني جسمه وأصيب بنزيف أوشك أن يقضي على حياته … وعاد إلى بيت أهله بعد سنوات ثلاث وقد تداعى جسده وتداعى يقينه، فلبث فيه أشهرًا بين الموت والحياة. وهنا سنحت له فرصة الفراغ لدرس الكيمياء القديمة والسحر والطلاسم مع بعض الأطباء، فقرأ فيها ما شاء وخرج منها كما خرج من جميع مباحثه بمتعة الفنان وتأمُّل الفيلسوف، ثم قصد «ستراسبورج» في هذه المرة ليستأنف دراسته في جامعتها، وكانت المدينة فرنسية في الحياة العامة وأساليب المعيشة، فتزوَّد من حياتها وعلومها وصاحَبَ طلاب الطب والعلوم الطبيعية فحضر معهم دروس الطب وطبقات الأرض وما إليها، وشاهد هناك الكنيسة الكبرى فحببت إليه الفن القوطي القديم بعد نفور وسوء ظن، وكان لهذه الكنيسة أثر بليغ في تقديره للعبقرية الألمانية وتوقيره لآداب وطنه.

ثم أتم دروس الجامعة وهو في الثانية والعشرين، وراح يتدرب على المحاماة في «فتزلار» ويحب كدأبه أينما كان وأنَّى كان! فالتقى بالفتاة «شارلوت بف» وأحبها ووصف حبه إياها في قصة «آلام الفتى فرتر» مع شيء من التحوير يقصد به المداراة وصرف الأنظار، فاشتهرت القصة وذاع اسم مؤلفها بين العِلية والمتأدبين وسائر الطبقات، وفي طليعتهم «كارل أوغست» أمير «فيمار» الفتى المحب للفنون والآداب. فلما كان هذا الأمير يعبر «فرنكفورت» في طريقه إلى باريس أواخر سنة ١٧٧٤ استقدم جيتي إليه ودعاه إلى عاصمته، ثم تكررت الدعوة فلباها جيتي وهو لا يقدر البقاء الطويل في تلك العاصمة. وكان من أسباب تلبيته حادثُ غرامٍ يريد أن يفلت منه ونفور من صناعة المحاماة يحسِّن له هجرها ولو إلى حين، فقد بدأ فيها بداءة مضحكة ولم يمحُ النجاح اليسير الذي أصابه فيها نفوره الأول منها، وقد أشار إلى هذا النفور في رواية «فوست» أثناء الكلام عن العلوم والدراسات.

•••

كان الأمير ربيب الأدباء نشأ على دأب أهله مشجِّعًا للآداب الألمانية، وكان فتى كريم النفس عارم الفتوة لا يفتأ بين صيد وطرد ومبيت في الخلاء ودعابة ومجون، وكان له مذهب في الحب كمذهب جيتي لولا أنه جامح وثَّاب، وجيتي لا يطيق الصبر الطويل على الجماح والوثوب. ومن غرائبه في هذا الباب أنه أمر بأن تُجمع له مكتبة تضم أشتات ما كتب الكاتبون قديمًا وحديثًا عن الحب بجميع ضروبه وأشكاله، ومن دلائل نبله في شبابه وكهولته أن أناسًا وشَوْا عنده بالفيلسوف «فيخت» واعترضوا على توظيفه بجامعة «يينا» لنزعته الثورية الظاهرة، فوضعوا بين يديه كتابًا من كتبه ليقرأه ويعدل عن توظيفه … فلما قرأ الكتاب أمر بتوظيف الفيلسوف.

عرف كل من الأمير والشاعر صاحبه معرفة البصير الناقد والصديق الشاكر للفضائل المتسامح في العيوب، فتوثَّقَت بينهما الصداقة ودامت مدى الحياة، وفي عاصمة هذه «الإمارة الصغيرة» تولى الشاعر مناصب الوزارة العالية وتقلَّب في أعمال شتى، منها ما هو متصل بثقافته كالتعليم والتمثيل ومنها ما هو بمعزِل عنها كالزراعة والمعادن والحرب، فسوَّى بينها في العناية وأخلص لها جميعها إخلاصه للشعر والقصة. ووالاه الأمير برعايته خلال ذلك كله فلم يبخل عليه بشيء يتوق إليه. فلما أحب أن يزور إيطاليا تركه يقيم فيها نحو عشرين شهرًا ووظيفته جارية وأجره غير ممنون، وقد نفعته هذه الرحلة فيما أقنعته برفضه وفيما أقنعته بأخذه، فقد عدل عن طلب التفوُّق في التصوير ونفذ إلى صميم الفن القديم.

figure
جيتي وأمير فيمار.

وعلى طول العِشْرَةِ بين الرجلين لم يقع بينهما من الخلاف إلا ما يقع بين الأخوين أو بين الصديقين الحميمين، فاصطحبا في أعمال الدولة حتى قضى الأمير نحبه وأحس جيتي تغيُّر الحال فاعتزل جميع هذه الأعمال، وإن فضل الأمير في هذا الوفاء لفضل يلحقه بأكبر ذوي التيجان وإن كانت إمارته من أصغر الإمارات.

نعم فاسم «فيمار» الآن اسم عظيم بين البلدان يحف به سحر الطبيعة وسحر الشعر وسحر المأثورات، اشتق الألمان اسمها من الكرم فسموها فاين مار Weinmar أي سوق الخمرة، واقترن تاريخها الحديث بتاريخ أكبر الأدباء في بلاد الجرمان أجمعين، واتصل عهدها القديم بعهد «لوثر» المصلِح الكبير الذي عاش فيها وخطب فيها واتخذها معقلًا يناضل منه روما فيما كان لها من سلطان الملك والدين. وأراد الألمان أن يخطُّوا أساس دولتهم الجديدة بعد الحرب العظمى فلم يجدوا بلدًا غير فيمار عاصمة «الروح» في ألمانيا التي لم تتنكر لها الدنيا كلها حين تنكرت لبرلين وملوك برلين. ولكن هذا كله ما كان ليذكر عن «فيمار» لولا مروءة «كارل أوغست» وأريحيته وعلو همته وترحيبه في عاصمته الصغيرة بكل عظيم الفكر والنفس في دولة الجرمان الرحيبة الأكناف، فلولاه لما كانت «فيمار» إلا قرية صغيرة يضيع اسمها بين أسماء الحواضر ولا تحتويها الخريطة إلا من باب الإحصاء.

•••

هذه هي القرية التي أوى إليها الشاعر من خامس نوفمبر سنة ١٧٧٥ إلى اليوم الذي مات فيه، يداول بينها في الإقامة وبين «يينا» القريبة منها، لم يفارقهما إلا لسياحة أو غربة قصيرة، ولم يقع له فيهما من الحوادث ما يستحق أن يسمى بالحوادث؛ إذ كانت حياته حياة الفنان المتملي والحكيم المتأمل، فهي حياة الخوالج والمؤلفات وليست حياة الوقائع والأخطار.

figure
بيت جيتي الخلوي بين حدائق فيمار.
figure
جيتي في إيطاليا.

ولقد عاش في عصر الثورة الفرنسية ولقي نابليون أعظم رجال الدول في ذلك الزمان، ولكنك إذا سطرت تاريخه استطعت أن تحذف ذكر الثورة بأسرها دون أن تختل معك قواعد ذلك التاريخ، واستطعت أن تلغي لقاءه لنابليون ولكنك لا تستطيع أن تلغي لقاءه للأديب هردر أو الشاعر شيلر، بل لا تستطيع أن تلغي لقاءه لحسناء من أولئك الحسان اللواتي غذَّيْنَه بغذاء الأرباب من نور العيون ووهج القلوب، فكل حسناء عرفها كان لها شأن في آثاره أجل من شأن نابليون.

على أننا نحسب أن أعظم حوادث التكوين والتوجيه في حياة هذا العبقري المعمر إنما يبحث عنها في سنواته العشر الأولى لا فيما أعقب ذلك من سنوات الشباب أو الكهولة أو الهرم؛ ففي سنته السادسة وقع زلزال لشبونة فطال فيه جدال الناس في العدل الإلهي وسقطت بذور الشك في ضمير الطفل اليقظ المستريب، وفي سنته السابعة نشبت الحرب بين النمسا وبروسيا فسمع عنها في بيته كل ما يقال عن مطامع السياسة وحركات الشعوب من الجانبين المتحاربين، وفي سنته العاشرة شهد التمثيل الفرنسي ورأى مظاهر القوة الفرنسية، وهل في عناصر جيتي الشيخ الملقى على سرير الموت ما يزيد على هذه الأصول؟ قد يكون، ولكنه بعدُ من قبيل الإضافة والتفضيل لا من قبيل التكوين والتوجيه.

ومات الشيخ في مولد الأرض وعُرس الربيع، مات وهو يطلب المزيد من النور ويهتف بمن حوله وهو يجود بنفسه أن «افتحوا النافذة ليدخل النور»، ثم عجز عن الكلام فطفق يومئ بأصبعه في الهواء ويكتب بها كلمات وأوائل كلمات، كأنه لا يريد أن يكف عن «التعبير» وفيه رمق حياة.

ولا حاجة بنا إلى علم الأسرار لنفهم معنى النور الذي طلبه جيتي وهو يودِّع الحياة، فلقائلٍ أن يتعمَّق في التفسير ويذهب إلى معنى للنور أخفى من هذا المعنى الذي تراه العيون. أما جيتي فما طلب قَطُّ شيئًا أنفس وأقدس من نور الشمس في وضح النهار، وما كان الضياء الخفي في أقدس معانيه إلا دون هذا الضياء المشهود نفاسة في عينه وضميره على السواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤