مؤلفات جيتي

يقسِّم الأستاذ تيوفيل جوتييه سيرة جيتي من حيث التأليف إلى أربعة أقسام:
  • الأول: ينتهي سنة ١٧٧٥ وهو دور التكوين، وأهم ما كتب فيه رواية «جوتز» التمثيلية وقصة «فرتر»، وكلتاهما مشبعة بروح المدرسة الرومانية الجديدة التي اصطلحنا على تسميتها «بالمجازية الجديدة» أو الزوبعية، وفي هذا الدور أيضًا أعد جيتي الأجزاء الجوهرية من رواية فوست الأولى.
  • والدور الثاني: ينتهي سنة ١٧٩٤، وهو دور المدرسة القديمة أو اليونانية، وفيه خلص جيتي من هيمنة المدرسة المجازية واقتفى أثر الإغريق. وأهم ما كتب في هذا الدور معظم قصائده الغنائية وروايات «أفيجيني» و«تاسو» و«أجمونت» التمثيلية، ورحلته إلى إيطاليا، وحكاية الثعلب، وأغاني ومقطوعات.
  • والدور الثالث: ينتهي سنة ١٨٠٥ وهو دور الصداقة مع شيلر، وفيه يظهر روح شيلر الفلسفي وعنايته بالتعميم والنظر والمُثُل العليا والرمز إلى الخفايا خلافًا لجيتي الذي كان يُعنى بالحوادث الخاصة والصور المحسوسة والمشاهدات الحاضرة من الوجهة العملية، وأهم ما كتب في هذا الدور من القصص «صبي الساحر» و«الله والراقصة» و«طالب الكنوز» و«تلمذة ولهلم ميستر» ورواية «هرمان ودوروثي» التمثيلية.
  • والدور الرابع: ينتهي سنة ١٨٣٢، وهو دور الشيخوخة أو الدور الذي بدأ بموت شيلر وانتهى بموت جيتي، وفيه اشتغل جيتي بالمباحث العلمية وكاد ينصرف عن الأدب. وأهم ما كتب في هذا الدور قصة «القرابات المختارة» وترجمة حياته التي سماها «الشعر الحقيقية» و«الديوان الشرقي» ورحلات ولهلم ميستر وتتمة فوست، وهي التي غلبت فيها نزعة الرموز والألغاز على نزعة الوضوح والمشاهدة الحاضرة.
figure
جيتي يملي على كاتبه.

وهذا أصح تقسيم وأوجزه لسيرة جيتي الكتابية، إلا أنه لا يخلو من عيوب التقسيمات الحاسمة التي لا تظهر في شيء كما تظهر في فصل أدوار الحياة والتفكير، ولا سيما تفكير جيتي دون سائر المفكرين.

ووجه التخصيص في جيتي أنه كان عبقريًّا متعدد الجوانب والمشاركات فلا تنحصر أدوار نموه وتقدُّمه في طريق واحدة، وأنه كان رجلًا معنيًّا بما بين يديه في ساعته الحاضرة، فنظرته إلى الشيء في هذه الساعة قد تختلف عن نظرته إليه في الساعة التي تليها: حسب الطوارئ أو حسب الشعور الراهن الموقوت.

خذ مثلًا لذلك انتماءه إلى المدرسة «المجازية الجديدة» الذي كثرت حوله المناقشات والآراء، فهذه المدرسة المجازية الجديدة تثور على السيطرة الفرنسية ولا سيما في التمثيل وشرط التزام «الوحدة في العمل والمكان والزمان» الذي كان النقاد الفرنسيون يشترطونه في الرواية التمثيلية، وهذه المدرسة تعجب بشكسبير لسببين: أحدهما خروجه على ذلك الشرط، والثاني رجوعه إلى أصل جرماني؛ ففي دعوة هذه المدرسة شيء من الثورة الوطنية من هذه الناحية.

وكان دعاة المدرسة المجازية يثوبون إلى قصص القديسين ومأثورات الكنيسة الكاثوليكية ونوادر الأبطال في القرون الوسطى لاستلهام الخيال واختيار الموضوعات، وربما اقتبسوا من أخبار الشرق ومأثوراته لأنهم يطلُبُون الخيالي البعيد ولا يستريحون إلى الواقعي المشهود، وتلك في لبابها روح دينية موكلة بالمسائل الخفية مطبوعة على النظرة الغيبية: تأخذ من مأثورات الكنيسة الكاثوليكية لأنها تشمل فخامة الدين وتاريخ المراسم والشعائر، وتأخذ من الشرق لأنه ينبوع الأسرار والتواريخ القصية والشعوب التي يلفها البُعد في ثياب كثياب الكهانة وظلام كظلام الغيب.

فالمدرسة المجازية الجديدة في لُبابها إن هي إلا مدرسة وطن ودين، فكيف كان انتماء جيتي إليها في مؤلفاته الأولى والأخيرة؟

إنه كتب رواية «جوتز» ذي اليد الحديدية وهو أحد الأبطال الألمان المشهورين في القرن السادس عشر، وقد خرج جيتي في هذه الرواية على شرط الوحدة في العمل والزمان والمكان خروجًا لا يُقاس إليه خروج شكسبير، فهو في اختيار الموضوع وفي أسلوب تناوله على رضا المدرسة المجازية من هذين الوجهين فهل معنى ذلك أنه لم يتأثَّر بالآداب الفرنسية ولم يستمد منها؟

كلا! لأنه ألَّف قصة «فرتر» في هذه الفترة وعليها مسحة واضحة من «هلواز الجديدة» والعود إلى الطبيعة الذي كان يبشر به روسو وكتاب الثورة الفرنسية، فهل معنى ذلك أنه لم يتأثَّر بأدب الإغريق ولم يستمدَّ منه؟

كلا! لأن قصة فرتر نفسها في بساطتها وصفائها تشبه الآثار الإغريقية ولا تمت بآصرة قريبة إلى المدرسة المجازية.

ثم إن جيتي كان لوثريًّا في مذهبه شكوكيًّا في عقيدته؛ فحماسته للكنيسة الكاثوليكية تَناقضٌ غير معقول، فهل معنى ذلك أنه يناقض المجازيين في كل شيء أو في كل طور من أطواره؟ كلا! فإن الألغاز والأسرار تتردد في الجزء الثاني من فوست وهو الجزء الذي كتبه في دوره الأخير، وتتردد كذلك في رواية «ولهلم ميستر» ومعظمها من آثار أيامه الوسطى.

وقد نظم جيتي ديوانه الشرقي في أيامه الأخيرة، وقد رأينا أن المجازيين كانوا يحبون الموضوعات الشرقية، فهل معنى ذلك أن الشاعر آمن في شيخوخته بالمدرسة المجازية التي استهوته أول شبابه.

كلا! فما تناول جيتي موضوعات الشرق إلا كما يتناولها طالب الحس لا طالب الأسرار، فهو بالإغريق هنا أشبه منه بالمجازيين، وكل ما في الديوان من التصوُّف الذي يحكي به السعدي وحافظًا وأمثالهما لا يخرج به عن هذا النطاق.

وقد امتلأ الجزء الثاني من فوست بأساطير الإغريق ومناظر الإغريق، فهل معنى ذلك أنه خلو من خفايا المجازيين ومأثورات الدين؟

كلا! فربما كان هذا الجزء أدخل في أساليب المدرسة المجازية من أي كتاب كتبه جيتي في إبان الشباب.

وقِسْ على ذلك كل ما يقال عن آثار جيتي ومؤثراته وأطواره وأقسام حياته.

ولعله قطع بالقول الفصل في هذا الباب حين قال عن مآخذه ومصادر أدبه يرد على من يتهمونه بالسرقة والاقتباس: «هذا مضحك! فعلى هذا النحو يجوز لنا أن نسأل الرجل القوي عن الثيران والغنم والخنازير التي أكلها فأعطته القوة! وصحيح أننا نُولَد وفينا كفاءاتنا ولكننا مدينون في تكويننا لألوف المؤثرات التي تحتويها هذه الدنيا الواسعة التي نأخذ منها ما يوائمنا ويدخل في قدرتنا، وإنني لمدين بالكثير للإغريق والفرنسيين ومدين بما لا حَدَّ له لشكسبير وسترن وجولد سمث، ولكنني إذا قلت هذا فليس معناه أنني أكشف للناس عن ينابيع ثقافتي؛ إذ هذا عمل لا آخر له ولا طائل تحته، وكفى المرء أن يكون ذا نفس تحب الحق وتقبسه حيثما كان.»

والنقاد يخطئون في تقدير المشاهد التي رآها جيتي وأثَّرت في تأليفه كما يخطئون في تقدير المصادر التي رجع إليها واقتبس منها: مثال ذلك رحلتاه إلى إيطاليا اللتان زعم النقاد ما زعموا عن أثرهما في مؤلفاته، فلا خلاف في أن آثار إيطاليا وبلاد اليونان قد زادته علمًا بالفن القديم وفن النهضة وغيَّرَت نظرته إلى أدب الشمال وأدب الجنوب. ولكن هل معنى ذلك أن زيارة تلك البلاد أفادته في إنتاجه الذهني تلك الفوائد التي يزعمونها؟ كلا بل لعلها بلبلت أفكاره وشغلته بالبحث عن القواعد والنظريات فكلفته التوفيق زمنًا بين آرائه وأعماله، ولم تكن هذه الزيارة لازمة لإنشاء قصائده أو أشجانه الرومانية التي اشتهرت بين أشعاره الغنائية، فقد كان في وسعه أن ينظمها وهو في داره على مقربة من زوجه التي أوحت إليه معظم معانيها، فلولا نفحات عارضة لما أنتجت الرحلتان معًا غير التفكير والمقارنة، ولولا تسديد شيلر إياه وتوجيهه إلى العمل بعد ذلك لطال بقاؤه في تلك المتاهة.

فصفوة القول فيه أنه كان صاحب عبقرية يقظى تتلقى كل ما يصادفها ولا يعنيها ممَّا تلقاه إلا أن تلمس الحقيقة المباشرة وتتملى الحياة الجميلة، واقتصاره على لمس الحقيقة المباشرة بغير ألفاف ولا مراسم، وعلى تملي الحياة الجميلة بغير خوف ولا تعسُّف، هو هو الروح الإغريقي الذي لزمه طول حياته في جميع مؤلَّفاته، فحتى مقاربته للألغاز الدينية ومخلَّفات القرون الوسطى إنما هي مقاربة الإغريقي القديم لو عاد إلى الحياة ينظر في القرن الثامن عشر إلى بقايا تلك الألغاز والمخلَّفات. ولكن ينبغي أن نذكر ولا ننسى أبدًا أن جيتي لا يكون جيتي حقًّا إلا في عالم الفن الإغريقي دون الفلسفة الإغريقية، فإذا دخل عالم الفلسفة فربما تركها تتعمق فيه لتبرز في ثوب الفن والجمال، أما هو فلا يتعمق فيها بحال ولا يرضى جهد التعمق في أي مجال.

•••

وهناك سمة أخرى تتصف بها مؤلَّفات جيتي جميعها وترتبط بهذه السمة التي أشرنا إليها، وتلك هي التفكُّك وقلة التماسك، فكتبه كلها ما كبر منها وما صغر وما تَمَّ سواء في هذه السمة.

وكثيرًا ما اجتمع الكتاب الواحد من مقطوعات متفرقة كُتِبَتْ في أوقات متباعدة واتَّسقت في آخر على غير نسق.

وإذا كان الكتاب رواية فأنت ترى فيها أشخاصًا لا خلل في رسمهم وتمثيلهم ولكنك لن ترى فيها حوادث متلاحقة ولا فصولًا متناسقة، ويغلب على أشخاص رواياته أن يكونوا رجالًا أو نساء عرفهم وعاشرهم ونقلهم من الحياة إلى الرواية بتصرف قليل أو بغير تصرُّف، فعمله في تكوينهم عمل التذوق وصدق الملاحظة لا عمل الإنشاء والاختراع، فكل شخص في رواياته نموذج معهود في الدنيا لمن يلتفتون إليه.

وسبب هذا التفكُّك في كتب جيتي يرتبط كما قلنا بتلك الطبيعة التي وقفت همه على لمس الحقيقة المباشرة وتملي الحياة الجميلة في إبانها، أو تلك الطبيعة التي جعلته يأخذ الدنيا شيئًا شيئًا والزمن ساعة ساعة ويستمتع بما بين يديه ويدع كل مطلوب إلى أوانه حتى يجيء أوانه؛ فهو على ثقة من قطاف الساعة وامتلاء كل جزء من أجزاء الزمن بثمرته وحصاده، وهو لا ينصب لجمع الحقائق والمحاسن بل تجتمع عنده الحقائق والمحاسن فلا يتكلف للقطها إلا أن يفتح لها وِطابه، وقد قيل في أضاحيك السكارى أن سكرانًا منهم نام في موضعه على الأرض وأبى أن يسعى إلى بيته لأن بيته سيسعى إليه لا محالة في هذه الأرض الدائرة! فإذا جازت المقارنة فجيتي كذلك يجلس في ساعته الحاضرة ولا يتعداها إلى غيرها انتظارًا لغيرها هذا أن يدور إليه في هذا الزمن الدائر، ولكنه يفعل ذلك لفرط الوعي واليقظة لا لفرط السكر والغفلة، ولك أن تسميه كسلًا كما تشاء، ولكنه كسل الشبع والطمأنينة لا كسل الفاقة والإعياء.

•••

ومؤلفات جيتي عديدة لا يتسع المجلد الكبير للكتابة عليها كلها فضلًا عن الرسالة الصغيرة، فلا محل هنا لتفصيل نقدها واستيفاء البحث فيها، وإنما نجتزئ بأشهَرها وأدلها عليه وأقربها إلينا نحن الشرقيين، وما قصدنا التعريف بمؤلفاته كما قصدنا التعريف بفنه ونفسه، فإذا أبلغنا في هذا القصد ففي ذلك كفاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤