آلام فرتر

ينمُّ جيتي على نفسه في أولى الرسائل التي كتبها فرتر؛ فإن فرتر الذي يقول لنا في تلك الرسالة: «ما الإنسان؟ وكيف يجرؤ على مؤاخذة نفسه؟» ثم يقول لنا: «أريد أن أنعم بالحاضر وليذهب الماضي حيث ذهب.» إنما هو جيتي بعينه الذي لا يرى الإنسان إلا ألعوبة في يد القدر ولا يطلب من الحياة إلا ما تعطيه حين تعطيه، وكلما تقدمنا في القراءة سطرًا عرفنا جيتي من وراء فرتر وعرفنا أنه هو الذي يتسلى عن المصائب والآلام بقراءة الشعر الإغريقي القديم، فكل مصيبة استطاع أن يحيلها «إلى شعور فني» فهي مصيبة ذاهبة ومحنة مقبولة، وقصة فرتر كلها إنْ هي إلا لوعة أحالها إلى «شعور فني» فاطمأنَّ واستراح.

لسنا نعني بهذا أن أشخاص القصة هم أشخاص الحياة في كل صفة وكل واقعة؛ فمن البداهة أن فرتر غير جيتي في شيء واحد على الأقل وهو أن فرتر انتحر وجيتي لم ينتحر ولا فكر في الانتحار قط تفكير الجد والعزيمة! نعم إنه كان يحادث «شارلوت» وخطيبها في البقاء والخلود ليلة الوداع التي فارقهم بعدها، ونعم إنه حدثنا في ترجمة حياته عن الخنجر الذي كان يصوبه إلى صدره ليلة بعد ليلة ليرى هل يسعه أو لا يسعه أن يدفعه قيراطين اثنين إلى قلبه كما قال! ولكنك تقرأ هذا الحديث في ترجمته فتعرف على الفور أنها تجربة فنية أخرى لا أكثر ولا أقل، وإنه كان يفعل ذلك وكل ما في ذهنه مثال العاهل العظيم «أوتو» الذي طعن نفسه بالخنجر بعد عشاء بهيج مع صحبه وحاشيته، فهي تجربة تمثيل ومداعبة تخييل، ولا يمكن أن تكون غير ذاك.

إنما أوحى إليه أن يختم حياة فرتر بالانتحار أمران: أحدهما ضرورة النهاية الفاجعة في القصة المحزنة، والآخر — والأهم — هو انتحار صديقه أورشليم الذي كان معه في «فتزلار» بلدة شارلوت؛ فقد خطر لجيتي أن يكتب القصة على أثر سماعه بالخبر، ثم أرجأ كتابتها بضعة أشهر حتى تهيأت نفسه للشروع فيها فأتمها على فترات في أسابيع قليلة، وجاء بطلها مِن ثَمَّ يحكي جيتي في أول السيرة ويحكي أورشليم في ختامها.

على أن أورشليم لم ينتحر للحب وحده وإنما انتحر للفضيحة وإيصاد أبواب العلية في وجهه وفساد الصلة بينه وبين رئيسه، وطول عزلته من جَرَّاء ذلك كله وإقباله في تلك العزلة على قصص الشقاء ومباحث الموت والانتحار يناجيها ويتعزى بها ولا يناجي أحدًا من أصدقائه في علة كَمَدِهِ وحزنه ولا يلتمس العزاء عند أحد، فحزن جيتي عليه لغيبته وانفراده واتَّخذ فجيعته ختامًا لقصته يعرب فيه عن حزنه على صديقه وعلى نفسه.

كذلك لم تكن شارلوت على الصورة التي صوَّرها لنا جيتي في هواها له ورفع الكلفة بينها وبينه، فقد كانت تألَفُه وتميل إلى مجالسته لطرافة حديثه وتعلق إخوتها الصغار به وفرحهم برؤيته، ولكنها لم تبلغ في الألفة أن ترفع الكلفة، ورواية كستنر خطيبها في هذا الصدد أولى بالاعتماد وأدنى إلى الحقيقة، فهو يقول لنا في مذكراته بتاريخ الرابع عشر من شهر أغسطس: «حضر جيتي في المساء وقوبل بغير اكتراث، وانصرف بعد هنيهة.» ويقول في الخامس عشر: «… أزهاره أُهملت، فتكدر وألقاها وطفق يتكلم بالتورية.» ثم يقول في السادس عشر: «لامت لوت جيتي وقالت له إنه لن يطمع منها في غير الصداقة، فشحب وجهه واكتأب.» وعلى هذا نوى جيتي الرحيل واجتوى البلدة فرحل ولم يقطع الصلة بينه وبين شارلوت وخطيبها كستنر، بل اقترح عليهما يومًا أن يهدي إليهما خاتم الزواج.

كذلك يختلف كستنر عن ألبرت خطيب شارلوت في قصة فرتر؛ فهو خير من ألبرت وأنبل وأقدر، وقد ساء كستنر أن يصوره صديقه على صورته في القصة؛ فعاتبه، فاعتذر جيتي وعادا إلى الصفح والإخاء.

•••

قلنا: إن جيتي كتب قصة فرتر في أسابيع قليلة، ولكنها على قِصَرِ الوقت الذي كُتِبَتْ فيه تضارع أخلد أعماله وأقومها.

والثقات في اللغة الألمانية يقرنونها بأبلغ وأحلى وأنفس ما اشتهر في آداب تلك اللغة، فإلى هذا ولا ريب يعزى بعض النجاح الذي أصابته في بلادها. ولكنها لم تنجح في ألمانيا فحسب بل كان نجاحها في فرنسا أكبر وأظهر، فكثر في فتيانها وفتياتها من يلبسون على زي فرتر وشارلوت، وقرأ نابليون القصة مرات وحملها معه إلى مصر، وتجاوزت شهرتها القارة الأوروبية حتى وصلت إلى الصين ونقشت بعض مناظرها على آنية الخزف، وكان لها نوبةٌ خِيفَ منها على عزائم الشبان أن تسوِّل لهم الانتحار، وقيل: إنها سولته لبعضهم فماتوا والقصة في جيوبهم. ولقد حرمت حكومة ليبزج بيعها وفرضت غرامة على كل من يبيعها، وثار بها النقاد يقرفونها وينعون عليها الخور والنعومة، ولا يزال إلى اليوم أناس يذهبون فيها هذا المذهب ويعتقدون فيها هذه العقيدة.

على أن جيتي ينكر الأثر السيئ الذي زعموه لقصته ويقول: إنه لم يخلق مرضًا ولم يزد على أن وصف المرض الشائع، وأن عاقبة فرتر أحرى أن تحمل الشبان على اجتنابها لا على الوقوع فيها.

ونخاله على صدقٍ فيما قال عن المرض الشائع في زمانه؛ فإن أورشليم قد انتحر قبل كتابة فرتر وانتحاره هو الذي أوحى إلى الشاعر كتابتها، وقبيل ذلك نمت إلى جيتي إشاعة عن انتحار صاحب آخر — اسمه جوي — من أصحابه في فتزلار. والكلام في انتحار اثنين في فترة واحدة من بلدة واحدة ينميان إلى بيئة واحدة خليق أن يدل كما قال جيتي على أن المرض قديم وليس بالطارئ الحديث، فتعبير القصة عن روح العصر هو سر نجاحها الأكبر فوق حلاوة اللغة وبلاغة الأسلوب.

يقول جيزو عن فتيان عصره: «الفتيان في هذه الأيام يشتهون كثيرًا ولا يعتزمون إلا قليلًا.» وهي كلمة موجزة وصف بها جيزو حالة النفوس في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر فلم يَعْدُ الصواب؛ ففي عهد اليقظة الذي يسبق الثورات ويتخللها يكثر الطموح وتكثر العقبات ويقوى الشك ويضعف اليقين وتهون الحياة، وتلك هي الحالة التي رانت في عهد جيتي وما بعده على بلاد الحضارة الأوروبية لا على البلاد الألمانية وحدها، فجيتي وصف ما رأى ولم يخرج في هذه القصة على أحكام قريحته ولا على طبيعته الغالبة عليه.

ومعظم النقاد يحسبون «فرتر» من آثار المدرسة المجازية ويبعدون بها عن أنماط قدماء الإغريق، ويتساءل لسنغ كبيرهم في عصر جيتي: «أتحسب أن فتى من فتيان الإغريق أو الرومان كان يبخع نفسه لهذا السبب وعلى هذه الوتيرة؟» ويجيبه لويس الإنجليزي أكبر مترجمي جيتي أن نعم؛ لأن سفكليس جعل أحد عشاقه ينتحر لفقد عشيقته، ولأن الرواقيين أدخلوا عادة الانتحار إلى رومة، ولأن الرواقيين في الإسكندرية ألفوا جماعة للانتحار يتداعى أنصارها إلى المآدب ليأكلوا ويشربوا ثم ينتحروا. ولسنغ مصيب في فهم الروح الإغريقية السليمة، ولويس مصيب فيما عدَّد من الشواهد، ولكن الحالة هنا ليست بالحالة السليمة والمسألة هنا ليست مسألة الضحية في القصة بل مسألة التناول والأداء، فإذا نظرنا إلى هذا فقَلَّمَا نجد في آثار الأقدمين أثرًا أبسط من هذه القصة ولا أصفى، وقد تجد في جوها مشابه من جو «قسيس ويكفيلد» التي كتبها جولد سمث الإنجليزي، وجو المرحلة العاطفية التي كتبها «ستيرن» الإنجليزي أيضًا، أو تجد فيها مشابه من «هلواز الجديدة» الفرنسية، ولكنها بعدُ عريقة في اليونانية حتى لتبدو عليها المشابه الأخرى كأنها مسحة عارضة من أثر الطلاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤