ولهلم ميستر

إذا كانت «فوست» أكبر كتب جيتي الشعرية فولهلم ميستر هي أكبر كتبه النثرية، تلك رواية تمثيلية وهذه رواية قصصية، وقد جرى في تأليفها على عاداته ولا سيما في كتبه المطوَّلة، فبدأها في سنة ١٧٧٧ وفرغ منها في سنة ١٨٢١، وقسمها إلى جزأين أحدهما سمَّاه تلمذة ولهلم ميستر والآخر رحلاته، وكان شأنه فيهما كشأنه في جزأي «فوست» على السواء. فالأول منسجم قويٌّ والثاني مضطرب ضعيف، والأول بيِّن صافٍ والثاني غامض موشَّع بالرموز والأسرار. وقد لجأ هنا إلى الحشو والتلفيق كما لجأ هناك. فمن ذلك ما قَصَّهُ أكرمان وأثبته في أحاديثه يوم الأحد الخامس عشر من شهر مايو سنة ١٨٢١، فقال بعد كلام عن كتب جيتي التي تُطبع بعد وفاته:

ثم تكلمنا عن الحكم والخواطر التي طُبِعَت في ختام الجزأين الثاني والثالث من الرحلات، وكان جيتي لمَّا شرع في تنقيح هذه الرواية وإتمامها قد نوى أن يمدها إلى جزأين بدل جزء واحد، كما جاء في الإعلان عن الطبعة الجديدة لمؤلَّفاته الكاملة، ولكن الرواية تجاوزت ما قدره لها أثناء الكتابة، وكان كاتبه يوسِّع الكلمات والسطور فخدع جيتي وظن أن ما عنده كافٍ لثلاثة مجلدات لا لمجلدين اثنين، وعلى هذا أرسل المسودات في مجلدات ثلاثة إلى الناشرين. فلما بلغ الطبع موضعًا من الرواية تبين لجيتي خطأ الحساب وعلم أن الجزأين الأخيرين صغيران في الحجم، وبعث الناشرون في طلب المزيد، ولا سبيل إليه لصعوبة التغيير في مجرى الرواية وإضافة حكاية جديدة في هذه العجلة، فحار جيتي في الأمر، واستدعاني فأفضى إليَّ بالمسألة وذكر لي كيف فكر في تلافيها، ووضع بين يديَّ ملفين كبيرين من الأوراق المخطوطة التي أخرجها لهذا الغرض، ثم قال لي: إنك ستجد في هذين الملفين أوراقًا شتى لم تُنشر ومقطوعات مبتورة تامة وغير تامة، وآراء في العلوم الطبيعية والفن والأدب والحياة يختلط بعضها ببعض. فماذا ترى في اقتباس صفحات ستٍّ أو ثمانٍ مطبوعة من جميع هذه الأوراق لسد الفجوة في الرحلات؟ إنها لا شأن لها بالرواية إذا توخَّيْنَا الدقة ولكننا نستطيع أن نسوِّغ إضافتها بما سبق من الإشارة إلى المحفوظات المدَّخرة في بيت مكاريا حيث تصان أمثال هذه الأوراق، وكذلك نذلل الصعوبة في الوقت الحاضر ونعثر بالوسيلة التي تتيح لنا أو نزجي إلى الدنيا بهذه الأشياء الممتعة.

هذا بعض أنماط التأليف عند جيتي في الروايات والكتب، وفي هذه الرواية عدا ذلك كتاب كامل أو باب كامل أضافه إليها بأوهى سبب! ونعني به الكتاب السادس من تلمذة ولهلم المشهور باسم «اعترافات النفس الطيبة»؛ فهذا الباب يُطبع الآن على حدة فلا يشعر القارئ أنه مقتضب من رواية شاملة، وأصله مستمد من أحاديث ورسائل لإحدى صديقات أمه اسمها سوزان كاترين كلتنبرج وصفها في الباب الثامن من ترجمة حياته وقال: إنها هي صاحبة الاعترافات التي ضمها إلى «تلمذة ولهلم ميستر»! فانتظم له بهذا باب مسهب كسائر الأبواب!

وقد قسمت الرواية إلى قسمين أحدهما للتلمذة والآخر للرحلة لأن بطلها ممثل يتدرب على فنه، وكان الممثلون في ذلك العهد لا يدركون مرتبة الأستاذية إلا بعد برهة يقضونها في التلمذة وبرهة أخرى يقضونها في الرحلة، فولهلم ميستر يخوض هذا الغمار ويتدرب على الفن وعلى الحياة وتفضي به تجربة الدنيا وتجربة نفسه إلى ترك التمثيل ومزاولة الطب؛ لأنه عرف كفاءته الصحيحة بطول المرانة.

•••

لقد كان في فوست سمات من جيتي فهل في ولهلم ميستر مثل هذه السمات؟ نعم، وأولى هذه السمات هي تثقيف النفس بالمشاهدة والتجربة ومعرفة الكفاءة بالعمل والمزاولة، فكلاهما ترك فنًّا كان ينشده ويطلب الأستاذية فيه وعدل عنه إلى علوم أخرى. فأما الفن الذي تركه ميستر فقد علمنا أنه التمثيل، وأما الفن الذي تركه جيتي فهو التصوير! تركه بعد أن كان يرشح نفسه فيه لبلوغ أقصى مداه، فلما زار إيطاليا وجرب قدرته هناك وقضى ما قضى من الوقت في مراسه وابتغاء التفوق فيه على غير جدوى صدف عنه وعاد من إيطاليا على هذه النية.

figure
منظر من تصوير جيتي.

وقد كان في نيته أن يقصر رواية «ولهلم ميستر» على التمثيل وأن يتمها بأن يقود البطل في طريق النبوغ والأستاذية، فعدل به كذلك عن هذه الطريق كما عدل هو عن طريقه. فهما في تجربة النفس وتاريخ العدول عن الرغبة الأولى يلتقيان.

وسمة أخرى تتشابه بينهما هي قِلَّة المثابرة والتصميم والانتهاء إلى التفويض والتسليم، والتجاؤهما إلى الطلاسم والقوى الخفية يتسليان بها عن عزيمة الجهد كما يتسلى الفنان بمعاني القريحة عن وقائع الحياة، وما به دجل ولا غباء.

والسمة الظاهرة عليهما فوق كل سمة هي كثرة العشيقات وأسلوب التنقُّل من غرام إلى غرام، فأسلوب جيتي وهو يلوذ من عشيقة بعشيقة كأسلوب «ولهلم ميستر» وهو ينتقل من ماريانا إلى فيلين، ومن فيلين إلى مينون، ومن مينون إلى النبيلة، ومن النبيلة إلى أوريلي والآنسة كتلباخ، ومنهما إلى تيريز، ومن هذه إلى الأمازونة، وكذلك يتشابه الأسلوبان في ترويض النفس بالحب وفي صوغ العواطف وادِّخار الشعور، ويتشابهان كذلك في علو النظرة الفنية في معظم هذه العواطف على إسفاف الشهوات.

وإذا خطر لك أن تسأل عن هذه الرواية كما سألت عن فوست: ما الغرض منها؟ وما مغزاها؟ ففي وسعك أن تعلم قبل السؤال أنها لا غرض لها ولا مغزى! وأن جيتي أول من يكاشفك بأنه لا يقبض على مفتاحها، ولكنها وِطَابٌ حافل بحقائق الحياة في الفَنِّ والتعليم والنقد والعلم والدين والسياسة هيهات يدانيه وِطَابٌ، ثم هي مشاهد ناطقة بالصدق والحكمة، وشخوص موسومة بالملاحة والإتقان، ولا سيما شخص الفتاة «مينون» التي راحت في آداب الغرب عَلَمًا من الأعلام.

figure
منظر الوداع من جبال إيطاليا تصوير جيتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤