إلى القارئ

هذا الكتيب قسمان، في أولهما ثلاثة مطالب؛ في المطلب الأول أقدِّم لك بيانًا لما جرى بالمجمَع اللغوي في مسألة رسم الكتابة، وكيف اقترحتُ لها الحروف اللاتينية، وكيف أني في كلامي على صُعوبات العربية ونسبتها إلى غيرها من اللغات ونسبة أهلها إلى غيرهم من الأمم، قد نهجت طريقة الوصف الواقعي الصادق القاسي، دون الوصف العاطفي الكاذب الرقيق. وأقدِّم لك في المطلب الثاني تفصيلًا لجميع ما وصَل لعِلمي من الاعتراضات على اقتراحي، ثم ردِّي على كلٍّ منها. وفي المطلب الثالث أضع تحتَ نظرك نماذج لخير الطرق التي اقتُرحت لتعديل الرسم مع استبقاء الحروف العربية.

وقد جعلتُ المطلب الأول إحدى عشرة فقرة مُتتابعة بحسب ما به من الفكرات الرئيسية المُختلفة. أما المطلب الثاني فيقع في فقرة واحدة؛ هي فقرة ١٢، تحتها أدرجتُ الاعتراضات بالترتيب العددي من الأول إلى الثالث والعشرين. وجعلتُ المطلب الثالث فقرةً واحدةً أيضًا هي رقم ١٣. وكل أرقام الفقرات الثلاث عشرة المذكورة مطبوعة في هذا الكتيِّب بالحجم الكبير.

أما القسم الثاني فإنه صورة حرفية لبيان اقتراحي الذي قدَّمتُه لمؤتمر المجمع، وكان قد طبع بالمطبعة الأميرية ونفَدت نُسَخُه. فأنا أعيد طبعه الآن كما هو مع ما كان يتلوه من النَّماذج، ولم أزد عليه إلا بضعة بيانات وضعتُها عند تمثيل هذا الكتيِّب للطبع، وقد جعلتُها هوامش في ذيل صحائف المتْن حتى لا تختلط بأصله.

وترى فيما بعد فهرسًا حاويًا لرءوس مسائل القِسم الأول بمطالبه الثلاثة على الترتيب المتقدِّم.

وأسترعي نظرك:
  • أولًا: إلى أنَّ هذا الكتيِّب تمَّ إعداده للطبع، وقُدِّم للمطبعة فعلًا في أواخر يونيو سنة ١٩٤٤، وأخذت هي في عملها في غُضون شهر يوليو. وحينئذ كانت الاعتراضات اثنين وعشرين فقط، غير أني وجدتُ مجلة «الثقافة» نشرت تباعًا في أعدادها الصادرة في ١٨ و٢٥ يوليو وأول أغسطس سنة ١٩٤٤ اعتراضًا آخر لحضرة الأستاذ يوسف العش مِن دمشق، فرأيتُ الردَّ عليه هو أيضًا. وبما أنَّ المطبعة كانت قد أتمَّت نهائيًّا تهيئة جميع الاعتراضات المدرجة بالمطلب الثاني من القسم الأول للطبع، وتجاوزتْها فعلًا إلى المطلب الثالث فهيَّأت بعضه تهيئةً ابتدائية؛ فقد وجَّهتُ نظرها كيما تحتاط لإدراج ردِّي على اعتراض حضرة الأستاذ المُومأ إليه عقب الاعتراضات الأخرى، وقد فعلتْ. فتكون الاعتراضات ثلاثةً وعشرين لا اثنين وعشرين فقط، كما أشير إليه في صُلب الكتيِّب في صدر المطلب الثاني المذكور.
  • ثانيًا: إلى أني لم يكن من نيتي أن أطبع — بهذا الكتيِّب — سوى الاعتراض الثاني والعشرين الذي نشرتْه «المجلة» البغدادية، أما سائر الاعتراضات الأخرى فكنت معوِّلًا على إيداعها — هي وتعقيباتي عليها — إدارة المجمع ليطَّلع عليها حضرات أعضائه ومَن يُريدون من حضرات المعترضين؛ لأني بطبعي أكره مساجلة الناس والأخذ والرد معهم بطريق النشر العلني. لكنَّ بعض المهتمين بهذه المشكلة ألحُّوا في وجوب طبع جميع الاعتراضات والتعقيبات؛ لما في هذا من تجلية الأمر للجمهور وتمكينه من تقدير الآراء وإبداء ما قد يكون لديه من أسباب الموافَقة أو المخالفة، مما هو مدعاةٌ للتمحيص الذي قد يؤدِّي إلى الاستقرار على شيء بعينه. وقد توارد عليَّ هذا الإلحاح من كل جانب، فقبلتُ وقدمتُ الكتيب للطبع مع كل تلك الاعتراضات والردود كما تقدَّم. على أني حرصت على عدم ذكر اسم أحد من المعترضين سوى حضرتَي الفاضلَين صاحبي الاعتراضين الأخيرين؛ وأولهما من العراق والثاني من دمشق. وقد رميتُ بهذا التجهيل إلى التهوين من وقع ما يكون في ردودي من بعض العبارات القاسية.
  • ثالثًا: إلى أني في الفهرس لم أشر إلَّا إلى ما في الاعتراضات من النُّقط الأساسية، وأما تعقيباتي فلم ألخِّص شيئًا من نقاطها، بل تركتُ للقارئ أن يطلع على أصلها ذاته إن أراد.

هذا، ومن الناس من يتساءلون كيف يمرُّ بخاطري — وأنا ممن يعتزُّون بقوميتهم وبلغتهم العربية — أن أستبدل الحروف اللاتينية بالحروف العربية لرسم الكتابة؟ لهؤلاء المتسائلين كل العذر، لكنِّي أَعرف أيضًا كيف أفهم واجبي وأؤدِّيه في أي وضع أكون. تركتُ العمل وعوَّلتُ على قضاء ما بقيَ من زمني بقريتي، هادئًا بعيدًا عن المغامرات والمساجلات والمناصَبات في أي منحًى من مناحي الحياة العامة، لكنَّ لشِقوتي لم يذرني القدر أهدأ، بل فوجئت في عزلتي — فيما فوجئت به — بتعييني عضوًا بمجمعنا اللغوي. تردَّدتُ بين القَبول والرفض، في القبول مشقة، وفي رفض المقدور عليه في ظن الناس ما يُشبه فرار الجبان، وفكرة الجبن شرُّ ما تضيق به نفسي. قبلتُ على مضَّة مُعلِّلًا النفس بأن الأمر خدمة للعربية بمعهد هادِئ بين نخبة من خيرة علمائنا وأدبائنا الأفاضل، إنَّ قصرتُ في مجاراتهم كان لي من رجاحة عقولهم ورحابة صدورهم وكرم أخلاقهم ما يسع قصوري أو تقصيري، ولا يُشعرني بشيء من قلَّة غنائي. وأول ما عُنيتُ به بداهةً معرفة واجب عضو هذا المجمع اللغوي. قرأتُ في مرسومِ تأليفِه أنَّ من لبِّ مهمته المحافظة على سلامة العربية، وأن يحقق ما يُصدره وزير المعارف لهذا الغرض من القرارات، ثم قرأتُ في لائحته أنَّ عليه النظر في تيسير الكتابة العربية. وفي قرارٍ لوزير المعارف: أنَّ عليه أن يبحث أمر تيسير هذه الكتابة تيسيرًا يقي ألسنة قرائها من اللحن والخطأ، فواجب المجمع في هذا الصدد معيَّن بالنصوص الصريحة، وأنا من ضمن أعضاء لجنة الأصول المكلَّفة تأدية هذا الواجب ضمن ما عليها من التكليفات. واجبي إذن بيِّن؛ هو المحافَظة على الفصحى، وجعل قارئ ما هو مكتوب بها لا يَلحن في قراءته ولا يخطئ. وإذ قبلتُ عضوية المجمع فإما أن أؤدِّي هذا الواجب بحسب ما أراه، وإما أن أفارق. ولا سبيل في رأيي لتأديته حق التأدية إلا باتخاذ الحروف اللاتينية وفيها حروف الحركات، لا إطلاقًا، بل على وجه خاص رأيته. أما «الشكل» الكلي أو الجزئي أو حروف أو ذنبات تُوضع للحركات في غضون الرسم العربي، فقد فكرت فيها كثيرًا ولم أجد شيئًا منها صالحًا.

فتأدية الواجب هي التي أمرَّت بخاطري اتخاذ الحروف اللاتينية ودفعتني إلى اقتراحها، فليعلمه المتسائلون. ثم ليعلموا أن الكتابة الراهنة إنما تَصلُح لتصوير العامية فقط، فإن استطاعوا أن يجعلوا أولي الأمر يقرِّرون اتخاذ هذه العامية لغة رسمية للبلاد، ويعدِّلون اختصاص المجمع اللغوي، فعندها أستبصر لنفسي، وهيهات أن يستطيعوا شيئًا من هذا، هيهات!

ولا يفوتني هنا التنويه بذكر رجلين من ذوي الجِدِّ والرأي الناضج؛ الأستاذ شوقي أمين من موظَّفي المَجمع، ومحمود عمر رئيس الكتاب بمحكمة النقض والإبرام. أمليتُ ثانيهما ما وضعتُه من المسودَّات، وتكفَّل بتبييضه وإعداده للطبع، ولقد نبَّهني — في بعض المواضع — إلى قصور العبارة عن أداء المعنى المقصود، فأصلحتُ ما نبَّهني إليه مُغتبطًا بسلامة نظره كلَّ الاغتباط. أما أولهما الأستاذ شوقي، فقد تولى عني تصحيح تجارب (بروفات) المطبعة، ولقد وجدته من المُتحرِّجين، بل المتحنِّثين Puritains المتأثمين في مُفردات اللغة، لا يطيق أن يرى لفظًا لم تُجمع كل المعاجم عليه أو على وجه استعماله. وإليك ما استعملتُ من الألفاظ فلم يرضه: «احتاس، يُساوي (بحذف المفعول)، غبآء، تندُّر، نضوج، عديدون (بمعنى متعدِّدين)، نبوءة، تأكَّد الرجلُ من كذا، مران، معدن (بمعنى منجم) كشارة.» لم يرضَ، بل رأى أن أستبدل بها على الترتيب: «انحاس، يساوي كذا (بذكر المفعول)، غباوة، تنادر، نِضاج أو نضج، متعدِّدون، تكهُّن، تأكَّدَ للرجل كذا، مرانة، منجم، قطوب.» ومع اعتقادي بأن ما استعملته من الألفاظ سائغ لا تأباه أقيسة العربية ولا ذوق كتَّابها، غير أني — إعجابًا بتحرُّجه — قبلت تغيير بعضها بما أشار به أو بغير ما أشار. إنما هناك مسألة لم أستطع زحزحته فيها عن رأيه: في الجمل الاقترانية؛ وهي ما يكون حَدَثُ إحداها واقعًا في الزمن نفسه الواقع فيه حدث الأخرى؛ مثل: «زيد كان يقرأ في الوقت الذي فيه عمرو كان يأكل.» لا أرى أي مانع في العربية من أن يقال: «كان زيد يقرأ بينما كان عمرو يأكل.» كما يقال: «بينما كان عمرو يأكل كان زيد يقرأ.»

غاية الأمر أن استعمال إحدى العبارتين يكون تبعًا لما يُهتم بالإخبار عنه من فاعليهما، لكن سيدنا شوقي يمنع التعبير الأول بتاتًا، ويرى أن «بينما» لها الصدارة كحروف الاستفهام وأسمائه، وأن التعبير الثاني هو وحده الصحيح، ويقول: إن هذا منبَّه عليه في كتب النحاة، وإن من يريد استعمال التعبير الأول فعليه أن يستبدل بكلمة «بينما» كلمتي «على حين» أو «في حين» مثلًا؛ فيقول: «كان زيد يقرأ في حين عمرو كان يأكل.» ولقد حاولتُ إقناعه بأنَّ في العبارة جملتَين، وأن «بينما» لها الصَّدارة في الجملة الثانية التي هي فيها، وأني لم أُنزلها عن صدارتها، وأنَّ هذا لا تأباه أساليب العربية على الرغم مما يُحتجُّ به من أقوال النحاة. ولكنه توقَّف وتأبَّى وكاد يغوِّث، فاحترامًا لفضيلة ثباته على ما يعتقده الصواب المتعين، وإشفاقًا عليه من التغويث، قد حرَّمت على نفسي استعمال «بينما» واستعضت عنها بكلمتي «على حين» أو «في حين»، وهما على كل حال عربيتان صحيحتان كل الصحة، ومطروقتان في الاستعمال، فلحضرته كل إعجاب به وكل شكر له واحترام.

عبد العزيز فهمي
١٥ أغسطس سنة ١٩٤٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤