المطلب الأول

١

آمنت بالعقل ورضيتُ منه بالحاصل، وجرَيتُ وأجريت في السبيل التي هدى، والحلبة التي اختار. وفيما أنا آخذ بسنَّته إذا به يَرطمني في تلك المسألة الوحِلة؛ مسألة رسم الكتابة العربية، التي شقي بها الأوائل واحتاس فيها الأواخر. أدليتُ فيها برأيي الذي كوَّنته على هُدى هذا العقل، وهو حاضري ومُجري قلمي ومحرِّك لساني، فإذا هو كان يخدعني، وإذا هو ختَّال!

ألم تر كيف أني ما كدتُ أنطق بهذا الرأي حتى هبَّت من صفوف الخاصة والعامة، ممن يُساوي ومن لا يساوي، جماهير هائجة هيَجان جماعات الدَّبْر وأرجال الجراد، تُعوِل وتُوَلول صاخبة مستصرخة من يُعديها على مرتكب هذا الحِنث العظيم؟

بل إن سيدًا من أغزر الناس علمًا، وأكثرهم عملًا، وأقومهم تديُّنًا، بل حتى هذا السيد المتَّزن الكريم قد انساق مع التيار فظنَّ الظنون فجمَح قلمه، فأباتني، من رحمة له وإشفاق عليه، غير موسَّد.

ماذا عساني إذن أن أقول أمام تلك الهبَّات والصيحات والمرازءات؟ أقول … أقول … أظنُّ أني مُخطئ!

أما سمعتَ ووعيتَ منذ الصِّغَر قولهم: «ألسنة الخلق أقلام الحق»؟

هاك ألسنة الجماهير مِن مخاليق الله تقول إني مُخطئ.

إذن أنا مخطئ حقًّا، بهذا يَقضي القياس الذي شرعه أرستطاليس، عابد النجوم اللعين.

لكن أظنُّ أني غير مخطئ!

ألم يبلغك أنَّ الجماهير لا عقل لها؟ أولم تقرأ عن «بيكون» فيلسوف الإنجليز أنه قال: «أخسُّ ضروب الرياء مُصانعة الدهماء»؟ أولم تقرأ ما أُثر عن ذلك البطل الخطيب اليوناني من أنه إذا صفَّق له الجمهور وهو يخطب، التفت إلى مَن حوله قائلًا: «تُرى أي خطأ فرط مني؟» بل ما لي وللماضي البعيد؟ أولم تسمع من بعض الأحياء أنَّ رجلًا من خيرة أساتذة العربية هَوَّسته السياسة فكَلِف بالمظاهرات، وبينما جمهور أرباب الحناجر يزفُّه عالي الهتاف، إذا بأحد الظرفاء يندسُّ صائحًا بكلمة حسنة الرنين قبيحة المدلول، فاستطاب الجمهور رنينَها وطَفق يُردِّدها، وامتثل المزفوف الذي يفهم معناها، بعد أن لم يُغن عنه صوته الذي بحَّ من المعارضة ولكن أذابته حماسة الغوغاء؟

وإذن فأظنني لم أخطئ ما دامت تلك الجماهير من مخلوقات الله لم تصفِّق، بل تلقتني بالصفير، بهذا يُقضى أيضًا قياسًا لمولانا أرستطاليس العظيم.

مخطئ؟ غير مخطئ؟ «That is the question هذه هي المسألة.»

وإنها لأُحجية أعقد مِن ذنَبِ الضبِّ، ومشكلة غبراء عسراء بالغة في الاعتياص! فمن لي بحلِّها وإنقاذي مما يُساورني، في صحة رأيي أو فساده، من الشك الأليم؟ رُحماك اللهم! إذا كنتَ تُدرك الأبصار فإنك سبحانك لا تُدركك الأبصار، وقد حكمتَ بانقطاع وحيك بعد نبيك الكريم، فإلى من تَكِلني؟ إنه ليس أمامي في هذه الدنيا من أهل العلم الذين نصَّبوا أنفسهم للفتوى في مثل هذه البلوى إلا اثنان لا ثالث لهما؛ العقل والهوى. أما العقل فقد استضعفَني واستوطأ حائطي فتسوَّرها عليَّ، ثم دلف نحوي وتزلَّف وداهن وألقى في رُوعي أنك خلقته من نور، فأنستُ به واصطفيته لنفسي، ثم هشَّ وبشَّ وتطامن وهزَّ ذنَبه متملِّقًا، وأوهمني أنك أمرت الشيطان فقبَض قبضةً من حَمأَةٍ آسنة منتنة، فخلقت منها الهوى والزئبق والحِرباء، وأنك أودعت فيها خصائصها فاستبدَّ الهوى بأخويه فكان جِمَاع تلك الخصائص، فهو أثير طيار طيَّاش، هُمزة لُمزة، هرَّاج هبَّاج، لا حد لأفاعيله في الزمان ولا في المكان. وهو إذا تجسَّم كان زئبقًا زلجًا زلقًا لا تُمسكه اليد ولا تَضبطه البنان، ولو أبصره مُبصِر لما ظفرت عيناه بطائل؛ لأنه حرباءة خنثى مشكَّل هلوك، تقلَّبتْ عبثًا بين البعولة، ولما استيأست ارتدَّت عن مذهب أمها، وصبأت إلى عبادة الشمس، فعُوقبت بالتهاويل في إهابها، فيها كل لون وليس لها لون.

هذا الكلام المعسول الطريف الظريف كرَّه إليَّ الهوى، فلن أستفتيَه أبدًا ما حييتْ.

لم يبقَ لي بَعْد من أهل الفُتيا إلا العقل، وها أنا ذا أرى أنَّ ما قسمت لي منه فركنتُ إليه وصحبَني كريمًا راضيًا مرضيًّا، قد غرَّر بي في الساعة الأخيرة من صحبته التي امتدَّ أجلها.

أرى هذا، وأرى ما أودعته منه في الناس قد أفلس، وقلَّت قيمته وكسد سومه، وأن التقول والتأفُّك والزور والبهتان، وهي من بنات الهوى، أصبحت هي الصائح المَحكيَّ، وليس لغيرها صوت ولا همْس ولا صدى.

عفوكَ اللهمَّ! أإلى هذا العقل المفلس الذي أضحى هو والهوى سيَّين في قَرَن، بل الذي طعَنه الهوى في النوادي والمجتمعات فأسال دمه، وأقصاه عن مقعده ذات اليمين إلى مزجَرة مُستَوبَلة مُستحقَرة ذات الشمال، بل الذي تبلَّد واستخذى وسَفِه نفسه فحجَر عليه المُحتسب، وقتَّر عليه رزقه فهُزِل وبدت من هُزاله كُلاه، فسامَه من شُكُوله كلُّ مفلس؟ أإلى مثله تشاء إرادتك أن تكلني لحلِّ معمَّى تلك الأحجية، وتقرير خطئي من صوابي؟! لا. لا. لا! إنك لأعدَلُ مِن أن تُريد بي هذا الشر المستطير، وأحكم من أن تُكلِّفني توجيه وجهي في الاستفتاء والاستقدار والاستبصار إلى الجامدين من مُفلِسة العقول.

•••

ربِّ إنه لا عصمة إلا لك وحدك، وأما مثلي من بني الإنسان فقد كتبتَ عليه النِّسيان، والحوادث تُنسِي، والموقف كيوم الساعة، ترى الناس سكارى وما هم بسكارى. إني نسيت، لكني ذكرت الآن! ذكرتُ أني ظلمت نفسي بما أثَّمت عقلي، فأَستغفرك مما رميتُه به من تهمة التغرير بي في هذا الرأي الذي أقام قيامة الفارغين. أُشهدك أنه لم يَألُ جهدًا من قبل في تبصيري بهذه القيامة الهوجاء، فاغفر لي ما فرَّطتُ في جنبه، فإنك أنت العفوُّ الغفور.

•••

ها إني أشعر باستجابة استغفاري، وها قد صرَّح المَحض عن الزَّبد، وبان الصبحُ لذي عينين — كما قال بعض المتقوِّلين — وانجاب عن البصر الغطاء، وانقشعت سحابة ذلك الشك الأليم، واطمأننتُ إلى أني لم أخطئ، بل إني بفضل الله جِدُّ مصيب.

فإليك عنِّي ودعْني من عبَدة الأوهام، واستمع لما أقصُّ عليكَ من نبأ المُشكلة القائمة، مشكلة رسم الكتابة العربية التي يدور عليها الكلام، ويَكثُر فيها الملام، وتطيش الأحلام.

٢

إني رجل من أهل العربية، نشأت في حجرها ومارستها إلى الشيخوخة، وسأُمارسها ما دام في الأجل انفساح. وليست ممارسة العربية بالأمر الهيِّن؛ فقد شقيتُ أنا وغيري بها شقاءً مُرًّا:
  • (١)

    لأنَّ طول العهد ما بيننا وبين أهلها العرب الأولين نكَّر معالمها وعمَّى سبُلها. كان هؤلاء الأولون يتفاهمون بها ويَنطقون عباراتها نطقًا صحيحًا بالسجية، والسجية لا كُلفة فيها ولا عَناء ولا استكراه؛ لأنها عادة يَنطبع عليها اللسان، كسجيتك في النُّطق بلهجتك العامية سواء بسواء. لو كنتَ شاهدهم — عصر النبوة، ومن قبل عصر النبوة — لرأيتَ الفصحى تتدفَّق من أفواههم زاكيةً زاهرةً باهرة، مُعتدلة القوام، سليمةً مِن الآفات، لا يجدون في أنفسهم ضيقًا بها ولا حرَجًا، ولا يحتاجون في تقويمها لِمتون ولا لشروح وحواشٍ وحواشي حواشٍ، ولا يَلجئون لابنٍ من أبناء مالك أو عقيل، ولا لأشمونيٍّ، ولا صبَّان.

  • (٢)

    ولأنَّ قواعد نحو الفصحى وصرفها بالغة في الصعوبة والتعقُّد والعسر والارتباك، تُرغمك الآن على الرجوع إلى تلك المتون والشروح، والتعرُّف إلى أولئك العلماء الأجلَّاء.

  • (٣)

    ولأنها — كما وصلت إلينا — ليست لغة واحدة يخفُّ حملها، بل هي جملة لهجات جمعها أوائل المسلمين وكدَّسوا في المعاجم مُفرداتها جميعًا، وشواهدها جميعًا، فألقوا على كواهلنا في المُدارسة والاصطناع أضعافًا مضاعَفةً مِن الأوقار والأوزار والأحمال الثِّقال، وزادونا في الدرس والتحصيل عناءً وشقاءً وبلاءً، وبغوا علينا، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وظلمونا ظلمًا عظيمًا، وجعلوا من بالعُدوة القصوى من النظارة والمُراقبين يتفرَّجون بنا ويَبتسمون لقوة صبرنا على احتمال تلك المكاره والأوزار؛ إذ يرون أنفسهم قد خفَّت عليهم مئونة لغاتهم، فهم يُحلِّقون فوق رءوسنا في جوِّ السماء، ويروننا كالبراذين الدَّبرة المجرَّحة نجرُّ حمل لغتنا ومن ورائنا سائق غليظ يسومنا صعود الجبل، وليس لنا من مُنجد ولا مغيث.

  • (٤)

    ولأنَّ خير متعلِّميها — من شبان وشيوخ بلا استثناء — يتعذَّر على الواحد منهم أن يقرأ أمامك صحيفةً واحدة من أيِّ كتاب، أو نهرًا واحدًا من أية جريدةٍ؛ قراءةً متتابعة متَّصلةَ الأجزاء، من غير أن يَلحن لحنًا فاحشًا أو غير فاحش، أو على الأقلِّ من غير أن يتوقف ويُقَطِّع أوصال العبارات. وهو في قراءته مشغول أبدًا بتحديد البصر وإعمال الفكر تحسُّسًا لمعنى ما يقرأ، قبل أن يقرأ؛ حتى يستطيع أن يقرأ. وتراه في تلك الحال كالمَجذوب المتوجِّد، أو المكروب المتجلِّد، جاحظ العينين تارةً، أخزَرهما أو أحوَصَهما تارةً أخرى، مضروب اللسان باللعثَمة والغمغمة والفأفأة وغيرها من ضروب الارتِتاج.

إن كنتَ من الذين يقتنعون بالدليل ويَنصاعون لمُوجَبه؛ فالدليل في متناول يدك، إنك تعرفه من نفسك في قراءتك حين تتعمَّد النُّطق العربي الصحيح، وتُعرِّفه في قراءة غيرك من خرِّيج جامعة، أو أستاذ في جامعة، أو عضوٍ في مجمع لُغويٍّ، وتَعرفه على الأخص فيما تسمع من الخطب الارتجالية أو من الخُطب المَتلوَّة أو المُذاعة، ما لم يكن صاحبها قد شكَّلها أو شكَّلُوها له وكرَّرها في خلوته مرارًا من قبل؛ حتى لا يلحن فيها لحنًا شائنًا يُزري بمكانته لدى جمهور السامعين.

أما إن كنتَ مِن الذين لا يَنصاعون للدليل، فأنت مُتعنِّت مُدَّع فارِغ، ونفسي على الرغم منك كبيرة، وهي أكرم عليَّ مِن أن أُجشِّمَها خطاب المُدَّعين الفارغين.

٣

لكنَّ هذه اللغة العربية على ما بها من الصعوبات الجسام، هي في جوهر حقيقتها من أقوم اللغات، بل لا أُبعد إذا قلتُ إنها — من كثير من الوجوه — أقوَمُ اللغات.

ولا تصدِّق أنَّ المجمع اللغوي أو غير المجمع اللغوي يستطيع أن يمس شيئًا ذا قيمة من مُفرداتها أو من أصول قواعدها في نحوها وصرفها. ولو فُرض — ما لم يقع للآن — أنه عالج شيئًا من هذا — كما هو مكلَّف به في أمر تشكيله — فلن يكون ذلك إلا علاجًا في القشر دون اللُّبِّ، وتهذيبًا في الظاهر دون الباطن، وتشذيبًا في الشَّوى دون مساس بجوهر الهيكل. ومَن تُراوده نفسه بالنفوذ إلى اللبِّ فليس منا؛ لأنه يُفسد ذاتية اللغة، ويَحرمنا من تفهُّم ما تركه الأولون في المناحي الأدبيةِ من التُّحف والآثار.

٤

إنما لهذه اللغة الجميلة آفة خبيثة هي رسم كتابتها. إنَّ هذا الرسم، على ما في مظهره الآن من جمال، لهو علَّة العِلَل، وأسُّ الداء، ورأس البلاء. إنه سرطانٌ أزمَنَ فشوَّه منظر العربية وغشَّى جمالها، ونفَّر منها الوليَّ القريب والخاطب الغريب. وإذ أقول «سرطان» فإني أعني ما أقول؛ لأنه كالسرطان حسًّا ومعنًى. اصرف النظر عما هو معروف للجميع، وما أشرتُ إليه في أصل بياني من مساوئ هذا الرسم، وانظر هل تجد في رسم أية لغة من لغات أُمَم الحضارة أن هيكلًا واحدًا يحوي في تجاويفه أربع كلمات أو ثلاثًا أو حتى اثنتين، كما يحوي — في الرسم العربي — هيكل «علَّمتَنِيه» أربع كلمات، وهيكل «علَّمْته» ثلاثًا، وهيكل «علَّمتَ» اثنتين؟ ألا ترى أن تلك الهياكل العربية هي أشكال سرطانية، وأن فعلها في مَن يُريد قراءتها غير مشكولة بدقة هو فعل السرطان المخيف؟

٥

لقد لاحَظ المسلمون في الصدر الأول ما نُلاحظه الآن من أنَّ هذا الرسم مصيبة على العربية؛ لأنه مُضلِّل لا يشخِّصها ولا يقي من تصحيفها وتغيير أصل المراد بعباراتها، فعالجوا الأمر أولًا بالنقط، ولما وجدوا النقط وحده لا يُغني عمدوا إلى تكملة العلاج «بالشكل»، وجعلوا الشَّكلات مجرد نقطات بمداد أحمر، كما جعلوا الهمزات نقطات بمداد أصفر، فكان الكاتب مضطرًّا إلى استعمال ثلاثة ألوان من المداد، أسود وأحمر وأصفر. ثم خرجوا من هذا التكلُّف المُضني إلى اتخاذ الشكلات بحسب ما هي عليه اليوم، مرسومة بالمداد المرسومة به الكلمات. كما جعَلوا للهمزة علامتها الخاصة ورسموها بهذا المداد. ولا زال أهل العربية إلى اليوم — بعد ألف وثلاثمائة وثلاث وستين سنة من الهجرة — يختلفون في كتابة الهمزة وفي كتابة الألف المقصورة وغيرها، ولا زال بين رسم القرآن وبين رسم غيره من المكتوبات بونٌ غير قريب، ولا زالت مصيبة الرسم قائمة لم يحلَّها «الشكل» الذي أفلس بإجماع العارفين، ولا زالت هذه المُصيبة مانعةً من إمكان قراءة العربية قراءةً صحيحة مُوَحَّدة الأداء لدى جميع القارئين.

٦

ولقد اهتمَّ المجمع اللغوي من زيادة عن خمس سنوات بأمر هذا الرسم القاصر المضلِّل، كما اهتمَّت به الحكومة، واشتغلت ببحث مُشكلته لجنةٌ عمادُها حضرة الأستاذ الكبير والمربي القدير علي الجارم بك، وقد انتهى حضرته أول مرة بأن قدَّم للجنة الأصول بالمجمع (بجلسة ٢٤ أبريل سنة ١٩٤١) مشروعه الخاص بتيسير الكتابة، مصحوبًا بتقرير قال فيه عن مساوئ الرسم الحالي ما يأتي حرفيًّا بغباره:

وبقيَ علينا أن نُنقذ قراء العربية من اللحن الشائن والخطأ المعيب، وأن نجعل لغتنا الشريفة في صفٍّ مع جميع اللغات الحية التي لا تحتاج في قراءتها صحيحة إلا أن تُترجم الأصوات عن رسوم الحروف.

وفي الحق، إنَّ القراءة أصبحت عندنا عملًا عِلميًّا دقيقًا كثير التعقيد والتركيب، وصارت فنًّا من الفنون أو عبئًا من الأعباء، وإن شئت أن تقول إنها أصبحت لغزًا من الألغاز فقل. إنك لا تستطيع القراءة العربية على وَجهها إلا إذا كنت لُغويًّا صَرفيًّا نحويًّا معًا، فإن لم تكن كل هؤلاء جميعًا عجزتَ عن أن تكون قارئًا أو شبه قارئ.

فإن قالوا إنَّ الشكل يسدُّ هذه الحاجة ويُذلِّل تلك الصعوبة. قلنا إنَّ الشكل لا يُنقذ من الخطأ، بل إنه قد يكون مَدعاةً للخطأ! وكيف تستطيع العين أن تدرك الحروف وما تحتها وما فوقها في آنٍ واحد مع الضبط والدقة، ثم تَنقُله إلى أعصاب المخ فتنقله هذه إلى أعصاب اللسان سليمًا صحيحًا؟ لقد جرَّبنا في مدارسنا أنَّ التلاميذ يُخطئون في قراءة المشكول خطأهم في قراءة غير المشكول. جربنا أن الطالب المثقَّف لا يستطيع قراءة القرآن الكريم وهو مشكول على أدقِّ ما يكون الشكل وأحكم ما يكون الضبط. ثم إنَّ الشكل كثيرًا ما يُنقل عن مواضعه عند الطبع، فتُنقل حركة المفتوح إلى المضموم، وتنقل الحركة من حرف يجب شكله إلى حرف لا يتطلَّب لضبطه شكلًا. وأخرى أن الشكل عمل شاق جدًّا في الطباعة يحتاج إلى دقة وإلى زمن وإلى أجر مُضاعف؛ لذلك قلَّ من الكتب المَشكول، ورأى أصحاب الصحُف والمَجلات أن الشكل صعوبة مادية لا تُذلَّل.

تلك شهادة خبير تَعدل ألف شهادة من غيره. كان من كبار مُفتِّشي اللغة العربية، وكان وكيل دار العلوم ومربي كثير فيها وفي غيرها من أساتذة العربية. هاكه يقول — وصاحب الدار أدرى بما فيها: إنَّ قراءة العربية برسمها الحالي أصبحت لغزًا من الألغاز، وإن قارئها إن لم يكن لغويًّا نحويًّا صرفيًّا في آنٍ لعجَز أن يكون قارئًا أو شبه قارئ. وإنَّ الشكل مَجلَبة للخطأ لا تستطيع الأعضاء المُوكلة بالنُّطق الاهتداء به. وإنَّ تلاميذ المدارس يخطئون في قراءة المشكول خطأهم في قراءة غير المشكول، وإنَّ الطالب المثقَّف لا يستطيع قراءة القرآن وهو مشكول على أدق ما يكون. وليس بعد شهادة هذا الخبير قولٌ لقائل، إلا من كانوا يُحلُّون الأمر عامًا ويُحرِّمونه عامًا، ومثل هؤلاء لا قيمة لهم بين الرجال.

على أن حضرة الجارم بك قد لبثَ مِن بعدُ يكدُّ ويستعين بالاختصاصيِّين في فني الخط والطباعة؛ رجاءَ تحسين مشروعه هذا الذي قال إنه يُيسِّر الرسم ويَقي مِن اللحن في القراءة. ولما عدتُ للعمل بالمجمع بعد غيبة طويلة بسبب المرض، وجدتُ هذا المشروع قد أعيد عرضه في صيغته النهائية على لجنة الأصول التي أنا مِن أعضائها، وكان ذلك في مُنتصف شهر نوفمبر سنة ١٩٤٣. فلم أُوافق أنا ولا غيري عليه، بل نقدته نقدًا قاسيًا، ثم أخذت أفكِّر في هذه المصيبة التي حيَّرت الأوَّلين والآخِرين، وفي طريقة لإطلاق العربية من عقالها حرةً كريمة كما ولدتها أمها وكما نشَّأها آباؤها الأولون، أولئك الذين يلوح أن فقدانهم الدُّربة والمرانة أقعدهم عن اصطناع ثوب لها مَقيس على قدِّها، فحشَرُوها في قماط ومخنقة مما لا يُتَّخذ إلا للرضَّع من الأطفال، فجنوا عليها جنايةً كبرى؛ إذ ضغطوا أعضاءها وكبتوها عن النمو وبلوغ ما هي ميسَّرة له من الكمال.

٧

فكَّرت جديًّا في الأمر، وقلَّبته على كل وجوهه، فاتجه فكري إلى النظر في اتخاذ الحروف اللاتينية لرسم العربية، فنظرتُ واستيقنْتُ أن لا محيص مِن هذا الاتخاذ، إنقاذًا للعربية من مساوئ رَسمها التي نعرفها جميعًا والتي أشار إليها حضرة الجارم بك بكل صراحةٍ وجلاء في تقريره المَذكور آنفًا.

وفي الجلسة الثانية أو الثالثة من جلسات مؤتمر المجمع الذي افتُتح في ١٥ يناير سنة ١٩٤٤ تكلمتُ في هذه المسألة الأساسية التي لا يُدانيها في أهميتها شيء مما يَشتغلُ به المجمع ومؤتمره، فاقترحتُ لحلِّها ما انتهى إليه رأيي من وجوب اتخاذ تلك الحروف اللاتينية، حتى تُضبط كلمات اللغة وتَسهُل قراءتها على الكافة — مثقَّفين وغير مثقَّفين، شيوخًا أو شبَّانًا أو أطفالًا، عربًا أو عجمًا — قراءةً صحيحة موحَّدةَ الأداء في ألسُن الجميع. فطلب إليَّ المؤتمر تقديم اقتراحي هذا بالكتابة، فكتبتُه وتلوته بجلستَيْ ٢٤ و٣١ من يناير المذكور، فرأى المؤتمر طبعه وتوزيعه على حضرات الأعضاء كيما يَستطيعوا المناقشة فيه. وقد كان.

٨

كان لا بدَّ لي في تفصيل هذا الاقتراح من وصف حال العربية وبيان صعوباتها، ونسبتها، من حيث تلك الصعوبات إلى اللغات الأخرى، وبيان حال أهلها المتحمِّلين بها، ونسبتهم في الرقيِّ أو التأخُّر إلى غيرهم من الأمم. وكان لا بدَّ في هذا الوصف والبيان من تقرير الواقع فعلًا، وكان لا بد في تقريره تقريرًا صادقًا من أن أجرِّد نفسي تجريدًا تامًّا من التأثُّر بشيء من الميول والعواطف، تلك الصَّوارف والمشوِّشات التي أشار الحكماء — مُعلِّمو الإنسانية — بوجوب التجرُّد منها كلما أريد تقرير الواقع في أي شأن من الشئون، أو الأخذ في تعرُّف حقيقة من الحقائق المَقدورة معرفتها للإنسان. جرَّدتُ نفسي فعلًا من كل مؤثِّر عاطفيٍّ، وتناولتُ الأمر كما لو كنتُ أجنبيًّا عن العربية وأهلها لا حقَّ لها ولا لهم عندي ولا مجاملة بيننا ولا ولاء. فخرج الوصف في الفقرات الثماني الأولى — التي ستَقرؤها — وصفًا بالغًا في التصوير الواقعي Trés réaliste، لا يُماري في صدقه أقلُّ مثقَّف يعرف الفرق بين الوصف الواقعي الواجب في مثل هذا البحث وبين الوصف العاطفي Idéaliste الذي يرفضُه أئمَّة الإنسانية؛ لأنه هذر لا غناء فيه. كما خرج ذلك الوصف من أقسى ما يكون في النَّعي على حال العربية وحال أهلها من خياليِّين وغير خياليِّين.
فمما أوردت فيه من الحقائق الواقعية الأربعُ الآتية التي يغضُّ بعض قومنا بصرهم دون رؤيتها كما تُخفي النعامة رأسها بين رجلَيها، حاسبةً في غباوتها أنها بهذا التواري المضحك تَحمي نفسها من سهام الصائدين:
  • أولًا: قلت: «إنَّ المُستشرقين من الأمم المختلفة ليَعجبون منا، نحن الضِّعاف الذين يُطأطئون كواهلهم أمام تمثال اللغة لحَمل أوزار ألف وخمسمائة سنة مضت.»

    وهذا تقرير صادق لا يَحتمل المُماراة؛ فإنَّ المعروف عن اللغة العربية أنها مضى عليها — على أقلِّ تقدير — ألف وخمسمائة سنة وهي على حالها في مفرداتها ونحوها وصرفها. وقلَّ أن توجد لغة بقيَتْ على حالٍ واحدة مثل هذا الزمن الطويل؛ إذ اللغات في تطوُّر مُستمرٍّ يَعرفه من ألقى البال وهو شهيد. وكلما تقادَم العهدُ ازداد التطوُّر وأصبح قديمُ اللغة عبئًا ووزرًا ينقض ظهر المُحدثين؛ لبُعد ما بينها وبين ما نشأ فيهم واعتادوه من مختلف اللهجات. ومن يَقُل عن الأوزار والأثقال إنها أوزار وأثقال فقوله حقٌّ لا ريب فيه، ومَن يراقب إبهاظ هذه الأوزار كواهل حامليها ويرَ صبرهم عليها وتعبُّدَهم لصنَمها صاغرين، فهو إن يعجب فعجبه طبيعي لا تصنُّع فيه.

  • ثانيًا: قلت: «إنَّ العربية قد سرى قانون التطور في مَفاصلها وحتَّتَها في عدة بلاد بآسية وأفريقية إلى لهجات يُخطئها الحصر، وإنه لم يخطر ببال أي بلد من تلك البلاد المُنفصلة سياسيًّا أن يَتَّخذ من لهجة أهله لغةً قائمة بذاتها لها نحوها وصَرفها كيما يسهل عليهم أمور الحياة.»

    والواقع الذي لا شكَّ فيه هو هو الذي قررتُ، مهما يَهرف الفارغون الذين لا يميِّزون بين تقرير الواقع وبين إرادة شيء مما لهذا التقرير من المفهومات.

  • ثالثًا: قلت: «إنَّ أهل العربية مُستكرَهون على تعرُّف فُصحاها؛ كيما تصحُّ كتابتهم وقراءتهم.» وهذا الاستكراه صحيح مطابق للواقع المحسوس، وهو كما قلت وأقول: «ظلمٌ وبغيٌ؛ لأنه تكليف للناس بما لا يُطيقون.»

    ومن أظرف الأشياء أن أستاذًا كبيرًا من أساتذة العربية، ممن يَبتغون الإعلان عن أنفسهم أنهم من حماة العربية — كما أَعلن موسوليني وغير موسوليني أنهم حُماة الإسلام — هذا الأستاذ العظيم قابَلني مصادفة فسألني: «كيف تقول إنَّنا مُستكرَهون على تعرف الفصحى؟» سألني متصوِّرًا أني كبعض من يَعرفهم ممن يكتمون الحق وهم يعلمون. فقلتُ لغبطته ببساطة تفكُّ قطوب تزمته: «يا سيدي، إنها ليست لغة الحارة، وإنك لو لم تكن أُكرهْتَ عليها وتعلَّمتها بعَرْك أذنَيك وبالنَّبوت لما وصلت إلى مركزك. ولو أنَّ تلاميذك لا يتعلَّمونها طوعًا أو كرهًا فإنهم لا يَظفرون بالشهادات ولا يجدون لهم مُرتزَقًا في الحياة، بل يقضونها أذلَّاء مُتعطِّلين.»

  • رابعًا: قلت: «إن اللغة العربية ليست لغةً واحدةً لقومٍ بعينهم، بل هي مجموع لهجات أهل جزيرة العرب، أُودعَت المعاجم لتكون كلها هي العربية، ويكونَ مجموعُها حجَّةً على من ينتسب للعربية. وإن هذه اللهجات قد ماج بعضها في بعض فانعجنت واختلطت، وإن أيَّةَ منها لو أمكن فصلها لكانت دراستها أشقَّ على دارسها من تعلُّم جملة لغات حية تُيسِّر عليه سبيل الحياة. وإن من الظلم إلزام المصريين وغير المصريِّين بتعرف كل تلك اللهجات كيما تصح كتابتهم وقراءتهم.»

قلت هذا وهو الحق الواقع؛ فإنَّ العربية — كما يدرك كل خبير بها — خضمٌّ يَحتشد في عبابه جُملة بحور، وراكبه لا يأمن فيه الغرق. وإذا ادَّعى العكس أحد من القصار المتطاولين فليتقدَّم للامتحان، وعنده يُكرم أو يُهان. وواضح أن مَن تُلزمه ركوب هذا الخضمِّ الطامي فقد ظلمتَه ظلمًا مبينًا.

•••

بهذه الصراحة الواجبة على المتصدِّي للبحث وللوصف الواقعي الصحيح، ممن تقتضيه مهمته نبذ الشِّعر والخيال، وأن يُسمِّيَ الوردة وردة والشوكة المدمية المُؤلمة شوكة، بهذه الصراحة وتلك القسوة التي لا محاباة فيها لعاطفة ولا مجاملةَ لآصِرَةٍ ولا لولاء مكسوب أو موروث، نقدتُ العربية وبيَّنتُ أنَّ الطرُق إليها متشعبة وكلها أشواك وعقبات، وأن تعلُّم أية لغة من اللغات الحية، بل تعلُّم عدَّة منها، أيسر وأهون من تعلُّم أية لهجة من تلك اللهجات العربية الأولى.

٩

على أني إذ رأيتُ مما يلائم طبعي ويُعلي نفسي أمام نفسي، ويُرضي نفسي عن نفسي أن أجهر بالحق في مواطن الحق غير هيَّاب ولا وَكِل، وقد صدعتُ به فعلًا عُريان مكشوفًا لاشيةَ عليه ولا قترة تُغشِّيه دون مُتوسِّميه؛ إذ رأيتُ وصدعتُ، فإنه لم يغب عني أن كثيرًا من قومنا خياليُّون سطحيُّون لا يُفرِّقون — عند التقدير — بين ما في الواقع وما في الخيال، بل يَخلطون بينهما ويقيسون ما يسمعون وما يشهدون من الأقوال والأفعال بقياس عقليتهم هم وما في أدمغتهم هم من ألوان التوهُّمات والتخيُّلات. ولقد خفتُ فعلًا من ضلالات هذه العقلية على الحق وعلى أربابها، خشيتُ أنَّ بعضهم إذ يرون هذه الصراحة في الوصف والقسوة فيه، والتنويه بسهولة اللغات الأجنبية، بالإضافة إلى ما في العربية من الصعوبات الجسام — والصَّراحة وادٍ لم يُسيموا من قبل فيه حتى يألفوه — ربما تحكَّمتْ فيهم تلك العقلية المختلطة المخلَّطة وطوحت بهم — خطأ وجهلًا — إلى مهاوي التظنُّن وسوء التأويل، فتوهَّموا في غباوتهم أني أكره العربية وأبتغي حذفها من الوجود والاستعاضة عنها بغيرها من تلك اللغات.

من أجل هذا سارعت (في الفقرة التاسعة) بالإشارة إلى ما قد يقوم من هذا التظنن الذميم، ووصفت مقترفيه بالبلادة واستنزلت عليهم غضب الله، في عبارة هي أشد ما في العربية من عبارات الزجر والقمع والاستبراء. قلت — كما ستقرؤه — بالحرف الواحد: «لعل البعض يتساءل: ما بال هذا الرجل يُنحي هكذا باللائمة على العربية ويُصعِّب من أمرها؟ ألعلَّه يريد نبذها والاستعاضة عنها بلغة أجنبية من اللغات الحية؟» ثم أردفت هذا التساؤل بالإجابة الآتية: «حاش لله! وبُعدًا لهذا الظن البليد كما بَعِدت ثمود! وشقحًا له وحجرًا محجورًا!»

ثم استطردتُ فبيَّنت موقفي من الفصحى وموقفها مني. وأخذتُ من بعد في تقديم عِلَل جنوحي إلى اتخاذ الحروف اللاتينية، وبيَّنتُ طريقتي فيها، وفاضلتُ بينها وبين غيرها، ثم فصَّلت مَزاياها، وأقمت أثناء البحث كل ما قدَّرت أن يَرِد من الشُّبه والاعتراضات ورددتُ عليها. ولم أحجم عن مجابهة كلٍّ بما تحسَّستُه لديه من وجه اعتراض، وكل هذا في عبارات عربية صريحة لا مُداوَرة فيها ولا الْتِواء.

١٠

وسواء أكنتَ من النافِرين من اتخاذ الحروف اللاتينية أم كنتَ مِن غير النافِرين، فإنِّي أنصح لك أن تقرأ بيان اقتراحي الذي طبعتُه لك مع هذا بنصه الحرفي،١ وأن تجشِّم نفسك الصبر على القراءة في تُؤَدة وإمعان، مهما يكن الفارغون قد أوهموك بأنه من الضَّلالات. إن لك ولي فائدة في الأخذ بنصيحتي. أما فائدتك فإنك قد تكسب منه لعَقلك ولخُلُقك الشيء الكثير، وليس لعاقل أن يأبى الاستفادة لعقله ولخلُقه. والمسلم — على الخصوص — مكلَّف بطلب العلم ولو بالصين، وكل أهلها يوم هذا التكليف وثنيون، بل إنَّ جامعاتنا أصبحت تدرَّس فيها الفلسفة، وأئمَّتها من جبابرة العقول المارقين، بل ليست هذه أول شردة للمسلمين؛ فإنَّ كثيرًا من رجال الصدر الأول لجئوا من قبل إلى الحكمة والفلسفة يَغترفونهما من فيض عقول اليونانيِّين الملاعين.

وأما فائدتي فأن تتحقَّق أنت والمتصلون بك أنَّ الناس إزاء هذا الاقتراح ثلاثة أفرقاء؛ فريق من الإمَّعات سماعون للكذب، لا يَقرءون وإنما تصف ألسنتهم السوء تقليدًا ورجمًا بالغيب. وفريق ثانٍ يقرءون ولا يفهمون؛ لأنَّ التفكير في موضوع اقتراحي يسمو على مستوى عقولهم، ولغة البيان أيضًا فوق طاقتهم، لكن الواحد منهم إذا سُئل عما قرأ حمَله سوء خلقه وقلَّة بضاعته أن يدَّعي لنفسه ما ليس لها؛ فهو يزعم أنه فهم ما قرأ. ثم إذا سُئل عما فهم لجأ إلى ما هو أوجز وأكثر انفهامًا وقبولًا عند العوام؛ إنه يقول: كل الحاصل من هذه الثرثة واللت والعجن أنَّ صاحبها يُريد أن يَنبذ لغة القرآن. وإن استحيا شيئًا ما قال: إنه يريد تغيير كتابة اللغة العربية، وأن يجعلها ككتابة يني وكرالمبو وكيرياكو من جرسونات قهاوي الأروام. أما الفريق الثالث فإنه يقرأ ويفهم، ولكنَّ صدرَه يتطاحن فيه عاملان: عامل الإنصاف، وعامل ضرورات العيش أو إرضاء شهوة من شهوات الأمَّارة بالسوء. ومتى قضت ضرورات العيش أو شهوات النفس خَرِس عامل الإنصاف قليلًا ثم عبس وبسَر، ثم ولى مُدبرًا وتوارى. وهذا الفريق شر الثلاثة؛ لأنه يتناول العبارة فيَعمد منها إلى ما ينفعه ويصدُّ عما يضرهُّ، فهو يَنتقر ويَختزل ويَمسخ ويُشوِّه، ثم يَبني على هذا الانتقار والاختزال والمسخ والتشويه ما شاء من شوامخ الأباطيل ويبيعها للناس. وهو في كل ذلك على بيِّنة من إجرامه وشنيع إصراره، لا شيء يَردعه من عقل أو من ضمير؛ إذ عامل الإنصاف حين ولَّى عنه قد مَرض ومات وانقبر. ومهما يكن أهل هذا الفريق قد قرءوا «أن الحرة تجوع ولا تأكل بثدييها.» بل مهما يكن الله أنذرهم بأنه إنما يملي لهم ليزدادوا إثمًا، فإنهم لا يأبهون لذلك التبكيت ولا لهذا النذير. ألم يقرءوا أن الله إنما «يضع الموازين القسط ليوم القيامة» لا لما قبل يوم القيامة؟ أولم يسمعوا أنَّ الحساب لن يكون إلا في الآخرة، وأنَّ رحمة ربك وسعت كل شيء؟ أولم يحفظوا في كتُب الهجاء أن عصفورًا في اليد خير من كركي في جو السماء؟ وإذن فلينتهزوا شهود العاجلة وليسعوا لها سعيها وهم مُجرمون، وليَرفسوا تلك الآجلة التي كُلُّها عليهم همٌّ وغمٌّ وبلاء مبين. وكل هذه المحادَّة لله وللضمير، إنما يأتونها — على ما ترى — اجترارًا لغُنْم حقير، أو إرضاءً لشَهوة من خسيس الشهوات. ألستَ معي في أنهم شرُّ الثلاثة؟ ألا إنَّ ابن حواء عَيبة أعاجيب!

١١

ذكرت في بياني صعوبات العربية، ونَعيتُ على سوء رسمها الحاضر، وعلى زيادة الطريقة الجارمية لهذا السوء. وتعهَّدتُ بأن أكافئ جهد استطاعتي من يصل إلى طريقة لكتابة العربية بالحروف العربية ذاتها كتابةً فيها يؤدِّي الحرف بذاته صورته الصوتية أداء صادقًا (العبارة الأخيرة من فقرة ٥٨).٢ وبينت (في فقرة ٦٨) أنه يُحزنني اطِّراح الحروف العربية والاستعاضة عنها بالحروف اللاتينية، وأن ضرورة المحافظة على كيان العربية هي التي تضطرُّني لهذا الاقتراح البغيض.

وعباراتي في تينك الفقرتين مكتوبة بالعربية لا بالصينية ولا بالهيروغليفية، ومفهومها أنَّ الحروف ليست بذاتها محلًّا للحب ولا للكُره، وإنما هي تُستحسَن إذا وفَتْ بالغرض منها فيُحتفظ بها، وتُستقبَح إذا قصَّرت عن هذا الوفاء وعجزت كل حيلة عن علاج قصورها فتُطرَح وتُرمى في سلة المهملات.

١  القسم الثاني من هذا الكتاب.
٢  وقد كرَّرتُ هذا التعهُّد أمام المؤتمر بجلسة ٧ فبراير سنة ١٩٤٤ أثناء مناقشة مشروع حضرة الجارم بك. وكذلك قابلتُ حضرة الخطاط الاختصاصي الذي كان يستعين به الجارم بك فشافهته بهذا التعهد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤