حياة بوئثيوس وأعماله
ولد أنيكيوس مانليوس سييرنيوس بوئثيوس لأسرة أرستقراطية عريقة تحوَّلت إلى المسيحية في القرن الرابع، ويُعَد هذا تحولًا مبكرًا بالنسبة لأسرة رومانية محافظة وطيدة الأركان، ومن ثم حازت نفوذًا وثراءً عظيمين، وكان من بين أسلافه وأقاربه كثير من القناصل، ومنهم اثنان من الأباطرة، وواحد تقلَّد منصب بابا الكنيسة الكاثوليكية، وتَقَلَّد والده نفسه منصب قنصل عام ٤٨٧م على عهد الملك أودويسير، ولكنه تُوفِّي وابنه بعدُ صبي صغير، فتولى تربيتَه روماني نبيل رفيع المكانة هو كوينتس أوريليوس سيماخوس الذي تقلد منصب قنصل عام ٤٨٥م، ثم صار فيما بعد حاكمًا لمدينة روما ورئيسًا لمجلس الشيوخ، وهو الذي قدم بوئثيوس إلى عالم الأدب والفلسفة، وزوَّجه ابنته.
وقد بَدَت على بوئثيوس، فيما يروي قريباه إينوديوس وكاسيودوروس، مخايلُ النبوغ الاستثنائي منذ الطفولة المبكرة، وبدا شغفُه بالتحصيل والدرس، وتلَقَّى أعلى ضروب التعليم، فما ناهز الشباب حتى كان حاذقًا لجميع الفنون الحرة من البلاغة إلى المنطق والفلك، وقد بَلَغ من إحكام العبارة وبلاغة الأسلوب وإتقان اليونانية مبلغًا لم يُتح إلا لقِلَّة قليلةٍ في نهاية القرن الخامس.
على الرغم من هذه المناصب السياسية الرفيعة التي حازها بوئثيوس فقد ظلَّ شغفُه وهواه ومَهْوَى فؤاده هو البحث والدراسة وممارسة الفلسفة، يقول بوئثيوس في تعليقه على كتاب أرسطو «في التأويل»: «أود أن أترجم أعمال أرسطو كلها، بقدر ما تتوافر لدي، إلى لغة الرومان، وأنقل عباراته كلها بأمانةٍ إلى اللسان اللاتيني، كل ما سطره أرسطو في الفن العسير للمنطق، وفي المجال المهم للخبرة الأخلاقية، وفي الفهم الدقيق للموضوعات الطبيعية، سوف أترجمه على النحو الصحيح، وفضلًا عن ذلك فسوف أجعل كل هذا مفهومًا بتزويده بشروحٍ مُفسِّرة، وأود أيضًا بالتأكيد أن أترجم كل محاورات أفلاطون، وأشرحها بالمثل، وأعرضها بذلك في صيغةٍ لاتينية، وبعد أن أفرغ من ذلك لن أتردد في إثبات أن أفكار كل من أرسطو وأفلاطون متوافقة في كل النواحي، وأنها ليست متناقضة فيما بينها كما يُفترَض على نطاقٍ واسع، وسوف أبين كذلك أنها تتفق فيما بينها في النقاط الحاسمة فلسفيًّا، هذه هي المهمة التي سأكرس لها نفسي بقدر ما يتيح لي الأجل والفراغ.»
ولم تقتصر أعماله الفلسفية على النقل، فقد ألف خمسة أعمال في المنطق خاصة به (في القياس الحملي، والقياس الشرطي، والقسمة المنطقية، والفروق الطوبيقاوية)، وألف خمس رسائل فلسفية (أربع منها على الأقل صحيحة النسبة إليه) حدد فيها العقائد الإيمانية وشرحها بطريقة عقلية: (١) في الثالوث الأقدس. (٢) هل الألوهية تقال جوهريًّا على الأب والابن والروح القدس؟ (٣) كيف يكون الخير في الجوهر الخيِّر؟ (٤) في الإيمان الكاثوليكي. (٥) كتاب ضد يوتيخوس ونسطوريوس.
وله مؤلفات علمية منها واحد «في الموسيقى» (في خمس مقالات)، والثاني «في الحساب» (في مقالتين).
وفي رسائله اللاهوتية محاولة للتوفيق بين مناهج الفلسفة العقلية المنطقية وبين حقائق الوحي القائمة بحقها الشخصي، وفي تطبيقه للمنهج والمصطلحات الأرسطية على المشكلات اللاهوتية يعد بوئثيوس بحق رائدًا للمدرسيين.
في ترجماتك يقرأ الإيطاليون فيثاغوراس الموسيقي وبطليموس الفلكي، ويسمع الأوسونيون نيقوماخوس الحسابي وإقليدس الهندسي، ويتجادل أفلاطون اللاهوتي وأرسطو المنطقي بصوتٍ روماني، لقد رَدَدت أرشيميدس الميكانيكي باللاتينية إلى الصقليين، وأي مبحثٍ أو فن علَّمته بلاغة اليونان من خلال شتى الرجال فقد تَلَقَّته روما بفضلك وحدك بلغة آبائها، لقد جعلت هذه الأعمال اليونانية واضحةً بأسلوب مشرقٍ وتعبيرٍ مبين بحيث إن مَن عَرَف الاثنين سيفضِّل ترجمتَك على الأصل.