تقلبات السياسة
تعرضت الإمبراطورية الرومانية للانقسام على يد قبائل جرمانية قامت بغزو الإمبراطورية من جهة الشرق بين القرن الثالث والخامس، ومنذ أواخر القرن الرابع أصبح الحكم مشاركةً بين إمبراطور في الشرق مركزه القسطنطينية (بيزنطة) وآخر في الغرب مركزه روما، وفي عام ٤٧٦م تولى أودويسر حكم الدولة الغربية بعد أن تخلص من آخر أباطرة الغرب، وأرسل شارة الإمبراطورية إلى القسطنطينية، والحق أنه في نظر البرابرة لم يكن من الجائز لغير رومانيٍّ أن يكون ملكًا، ويبدو أن أودويسر كان قانعًا بالسيطرة على السلطة في روما، ويعتبر زينون في الشرق هو الإمبراطور الوحيد.
كان تيودوريك (٤٧١–٥٢٦م) ملكًا قوطيًّا عادلًا حكيمًا، يتَّسم بالشجاعة والذكاء، تَلَقَّى تعليمًا راقيًا في القسطنطينية، واستطاع أن يفرض السلام والنظام في ربوع إيطاليا، وباعتباره ملكًا على البرابرة و«فايسروي» نائبًا للإمبراطور فقد نجح في تأسيس تعايش سلمي بين الرومان والقوط، وفي عهده ازدهرت الصناعة وساد الأمن وأعيد تشييد المباني وشق القنوات، واستطاع أن يجذب إلى خدمته رومانيين ذوي مكانة مثل ليبيريوس وكاسيودوروس وبوئثيوس.
وكان تيودوريك مسيحيًّا ولكن على المذهب الأرياني (من أتباع أريوس، شأن القوط جميعًا، وهي نِحلةٌ هرطقية تذهب إلى أن الأب والابن ليسا جوهرًا واحدًا)، أدت هذه الهرطقة إلى انشقاق الكنيسة، ورغم ذلك استطاع تيودوريك بحكمته وقوته أن يدير دفة الحكم في مدينة البابا وعاصمة الكاثوليكية، وظل على علاقة ودية مع رجال الكنيسة، وبسط ظل التسامح وحرية العبادة (باستثناء الوثنية) في أرجاء مملكته.
كان دخول بوئثيوس إلى عالم السياسة والمناصب العامة مدفوعًا بحبه للواجب، وامتثالًا لدعوة أفلاطون إلى حكم الفلاسفة، وكانت دروس الفلسفة هي مرشده وهاديه في أداء وظائفه، كان من الطبيعي لرجل نزيهٍ مستقيم الخلق مثل بوئثيوس أن يصطدم بمكر الساسة، وأن يُثير على نفسه حسد الحاسدين، وقد نجح زمنًا في كبت ضراوة القوط ودفع ظلمهم إذ كان يحظى بثقة الملك وإعجابه، غير أن هذه الأحوال لم تكن لتدوم طويلًا.
كان لانتهاء الشقاق نتائج سياسية ولاهوتية، فقط نشطت دعوةٌ لتدعيم مجلس الشيوخ، بل إن الوفاق بين الشرق والغرب مَثَّل تهديدًا لوضع تيودوريك، وعاد الرومان ينظرون إلى إمبراطور الشرق باعتباره مليكهم الحقيقي وبقي تيودوريك في نظرهم ذلك الغازي المهرطِق.
لم يكن بدٌّ في هذه الظروف المشتبكة من أن يسقط بوئثيوس في فخاخ المكائد السياسية، فقد كان رجل مبدأ ولم يكن داهيةً أو سياسيًّا بالغريزة، وقد اكتسب في زمن ازدهاره عداوة رجال البلاط، وحانت الفرصة لهؤلاء كي ينتقموا منه ويوغروا ضده صدر تيودوريك الذي كان مغضبًا من الأصل بسبب تَرَدِّي موقفه وتجدد اضطهاد الأريانيين في الشرق، سعى أعداء بوئثيوس بالدس والوقيعة، وأبلغوا تيودوريك بأن أحد أعضاء مجلس الشيوخ، وهو ألبينوس، على صلة سرية بالساسة في القسطنطينية، وهَبَّ بوئثيوس للدفاع عن ألبينوس دون أن يخطر بباله أن التهمة يمكن أن تطاله، قام أعداء بوئثيوس بتلفيق الأدلة التي تثبت خيانته، ودعموها، إذ بَدَت واهيةً غير كافية، بتهمة ممارسة السحر! وجنَّدوا في كل ذلك شهود الزور.
في كتابه «تاريخ الحروب»، الجزء الخامس، يقول المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس، الذي عاصر الأحداث: «كان سيماخوس وزوج ابنته بوئثيوس ينحدران من أصل نبيل وعريق، كانا قنصلين وتصدرا مجلس الشيوخ، مارسا الفلسفة وكرَّسا نفسيهما للعدل واستخدما ثروتهما لتفريج كربة الغريب والقريب، فحظيا بمجدٍ أوغر صدور أعدائهما، فزينوا الكذب والبهتان ضدهما لتيودوريك، فصدَّقهم وحكم عليهما بالموت بتهمة التآمر، وصادر أموالهما، وحين كان تيودوريك على مائدة طعامه بعد ذلك بأيامٍ قليلة قدَّم إليه خَدَمه رأس سمكة كبيرة، بدا رأس السمكة لتيودوريك هو رأس سيماخوس مذبوحًا لتوِّه، كانت أسنانها الناتئة من شفتها السفلى وعيناها المحدقتان إليه في رعبٍ مسعور تضفي عليها مظهرًا يطفح بالوعيد، ارتعد تيودوريك لهذا النذير المرعب وهُرع إلى فراشه، وأمر خدمه أن يُراكموا فوقه الأغطية، فهدأ برهةً غير أنه أفضى بعد ذلك لطبيبه إلبيديوس بكلِّ ما حدث، وبكى لما ارتكبه في حق سيماخوس وبوئثيوس، ولم يَدُم أسفُه وندمُه طويلًا فقد مات بعد ذلك بفترة وجيزة، وكان هذا الفعل هو الظلم الأول والأخير الذي ارتكبه في حق رعاياه، ذلك أنه لم يَقُم في هذه الحالة بما دأب عليه من التحقق والتمحيص قبل أن يصدر حكمًا.»