التوقيت، والسياق الكوني للفعل

يلفتنا علاج «الفلسفة» لمريضها وإيقاعه، وتناوب القبض فيه والبسط، وتناوب الشعر والنثر، إلى فكرة السياق الكوني للأشياء والكائنات جميعًا، فالكائن ليس معلقًا في فراغ، وإنما هو منسلك في منظومة كونية ذات حركيةٍ وإيقاع، والظواهر النفسية والعقلية وثيقة الصلة بحركة الكون، ولا يمكن تناول الجزء الإنساني بمعزل عن الكل الكوني، ومن هنا يأتي الحضور القوي والدائم للطبيعة وللكونيات في قصائد «العزاء» وفي مقاطعه النثرية.

ويلفتنا العلاج أيضًا لفكرة «التوقيت»: ليس يكفي أن تفعل، بل ينبغي أن تفعل في التوقيت الصحيح، كل شيء يجري في سياق، والوجود كله دوراتٌ وإيقاعات وحركة وسيرورة، ولا بد للفعل الناجع من أن يضرب في اللحظة الصحيحة، كأنه النغمة تقع في النغم والإيقاع موقعها الصحيح فتؤتي أثرها ولا تكون نشازًا منفِّرًا، وليس التدخل العلاجي من ذلك ببعيد، وطوال «عزاء الفلسفة» نجد الطبيبة حريصة كل الحرص على القصد في اختيار لحظة التدخل، ونوعيته، وضبط الجرعة، في عملية دفع حركة العلاج قُدُمًا وتهيئة المريض للخطوة القادمة وتمهيد طريقه للحركة التالية، وكأنها تعزف لحنًا بقدر ما تعالج مريضًا!

إذا ما أهل برج السرطان يَسفع الحقول … فإن من يبذر قمحه آنذاك في الحقول العقيمة ستخونه إلهة الحصاد وتُخلف وعدها له … ولا تنشُد بيد متلهفة أن تقطف أعنابك في مايو، إذا شئت أن تنعم بمذاق العنب فإنما يهب باكخوس (ديونيوس) عطاياه في مُقتبل الخريف، فلقد حدد الله المواسم، وهيَّأ لكل موسم عمله الخاص، ولا تملك قوةٌ أن تُفسد النظام الذي قدَّره، وهكذا؛ لأن طريق العصيان والعَسف يحيد عن الصراط السوي، فإن مآله الفشل والوبال.١
١  الكتاب الأول، القصيدة ٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤