مآخذ وانتقادات
وقد تأخذ على اللألاء هناتٍ هيِّنات، تَنَزلاتٍ عن مستوًى يكاد إن استمرَّ يُتعب.
١
لعل أكبر المآخذ التي يمكن أن تؤخذ على «عزاء الفلسفة» هو أنه يستخدم الألفاظ، في
أسلوبه الجدلي الأفلاطوني، كما لو كانت قِيَمها ثابتةً لا تتغير، شأنها في ذلك شأن رموز
الجبر أو المنطق، ولعل هذا هو ما يجعل الحجج غير مقنعة للقارئ المعاصر في بعض الأحيان:
في الكتاب الثالث مثلًا تجد حجةً كهذه:
الشر لا شيء، ذلك أن الله الذي يستطيع أن يفعل كل شيء لا يستطيع أن يفعل الشر، وما
لا
يستطيع الله فعله هو لا شيء فمثل هذه الحجة قلما تنجح في إقناعنا، وإن كانت تحمل بذورًا
لنقاش تالٍ في الفصل الرابع.
٢
ما خطب هذه الطريقة؟
مثل هذه الطريقة الجبرية الإقليدية في التفكير والعرض تَسم الكثير من الكتابات
القديمة، وتغوي العقول الكبيرة فتورطها في غيابةٍ ميتافيزيقيةٍ لا تُفضي إلى شيء، ومن
المؤسف أنها تسم أغلب الكتابات الفكرية في التراث العربي القديم، وتجد مثالها النموذجي
في الدراسات حول عملٍ مثل «حي بن يقظان» لابن طفيل، حيث الألفاظ تُلَقِّح ذاتها فلا تلد
إلا ألفاظًا، وهيهات للوجود أن يَرضَخَ لمثل هذا الصنف من «خفة اليد» الذي يريد أن
يُخرج «الوجود» من «لفظ» أو من «تعريف» إخراج أرنبٍ من قبعةٍ فارغة أو إخراج بيضة من
أنف متفرج! فالجبر والرياضيات تحصيل حاصل، والتركيبي لا يخرج من التحليلي كما يعرف
المناطقة.
ذلك أن الكلمات في «اللغة
الطبيعية»
natural language غير رموز الجبر أو الحساب أو المنطق الرمزي … إلخ، فليس
للكلمة الواحدة من كلمات اللغة معنى محدد دقيق، وإنما للكلمة الواحدة، كما هي مستخدمة
بالفعل في الحياة اليومية، معانٍ لا حصر لها تتحدد بحسب السياقات والظروف المختلفة التي
تُستخدم فيها الكلمة،
٣ فالكلمة، كما يقول فتجنشتين، مطاطة تتسع وتضيق استخداماتها وفقًا للظروف
والحاجات المختلفة، ولا يوجد بين الاستخدامات المختلفة للكلمة الواحدة عنصرٌ مشترك
محدد، وإنما يوجد بينها «تشابهات
عائلية»
family resemblances متداخلة مندمجة كالتي تراها بين أفراد العائلة الواحدة.
٤
من ذلك أيضًا ما تجده في الفصل الثالث من «العزاء»، إذ يخلص بوئثيوس من عدد من الحجج،
مستمدة من فروض أفلاطونية محدثة يسلِّم بها بوئثيوس، إلى أن الخير الكامل والسعادة
الكاملة ليسا في الله فحسب بل «هما الله» نفسه، السعادة الكاملة إذن لا تتأثر بتقلبات
الحظ الأرضية مهما اشتدت، ولكن ما فات هذه الحجة هو أن تقول لنا ما صلة الإنسان الفرد،
مثل «بوئثيوس»، بالسعادة الكاملة التي هي الله، إن «الفلسفة» هنا تتحدث إلى «بوئثيوس»
كما لو كان مجرد «معرفته» بأن الله هو السعادة الكاملة سوف تَرُده سعيدًا!
وحين تعرض «الفلسفة» في نهاية الكتاب للمشكلة الكبرى «حرية الإرادة وشمول العلم
الإلهي» تنجح في البداية في إقناعنا بالفرق بين «سبق
العلم»
prescience و«سبق التحديد» أو القدر
المحتوم
predetermination، وبأن سبق العلم لا يمس حرية الإرادة ولا يتقاطع معها، ثم
ينتهي إلى أن المعرفة الإلهية هي التي أنشأت أسلوب
الوجود لكل الأشياء، ولا تدين لأي شيء عدا ذاتها، ها هنا بالتحديد تظن «الفلسفة» أنها
نجحت في حل مشكلات «بوئثيوس»، بينما يُترك القارئ وهو يُسائل نفسه عما إذا كان هذا
الاعتراف الأخير، الذي يجعل من الله محددًا لكل الأحداث، لا يهدم كل ما بنته «الفلسفة»
ولا يقوض تلك المرافعة الطويلة لإثبات حرية الإرادة!
٥