تأويل «العزاء»
أفضل طريقة لفهم «العزاء» هي أن نأخذه بمعناه الظاهر، باعتباره نتاج شخصٍ يكتب وهو مشرف على الموت ولا يملك ترف التلاعب والتورية؛ ﻓ «الفلسفة» هنا تمثل سلطةً عقلية حقيقية، ونجاحها في مواساة «بوئثيوس» يفترض أنه نجاحٌ تام. أما التغيرات الظاهرية في الاتجاه فينبغي أن تُعَد مراحل في إعادة تعليم السجين، أو تأثيرات غير مقصودة لرغبة المؤلف في جعل هذا العمل خلاصة لمنظومة فلسفية توفيقية. وأما اقتناع «الفلسفة» بأنها نجحت في حل مشكلة «سبق العلم» فينبغي أن نأخذه على أنه رأي المؤلف نفسه.
هذا غلوٌّ في الرأي لا يستقيم مع الوقائع الثابتة؛ فالمؤلف يبذل في كتابه جهدًا كبيرًا في عرض الحجج وتفصيلها، والخطوط الرئيسة في تفكير «الفلسفة» تنسجم تمام الانسجام مع الميتافيزيقا التي تنضح بها رسائل بوئثيوس اللاهوتية، بل مع تعليقاته المنطقية في بعض الأحيان.
ويقتضينا القصد أن نأخذ في «العزاء» بظاهر المعنى، على أن نضع في الاعتبار أن المؤلف لا يغفل حدود العقل وحدود الفلسفة، بل يعترف بها على لسان «الفلسفة» ذاتها في النص؛ فهي تُقدِّم حججًا وحلولًا مقبولة للمشكلات، وتُقدِّم منهجًا للعيش ينبغي اتباعه، غير أنها تعجز عن تقديم فهم شامل ومترابط لذات الله وعلاقته بمخلوقاته، وبذلك تترك للدين مجالَه وتترك للتسليم عمله، إنها تعرف ذلك وتعترف به وتضعه موضعه في النظام الفلسفي نفسه.
من العقل أيضًا أن يعرف العقل حدوده.