قطوف من «عزاء الفلسفة»١

كُلُّ الذي خَلَبَ العيون بَريقه
قد أنضجته الأرضُ في سُفلاها
ينأى السَّنى الباهي الذي يَحْدو السَّما
عن هذه الأرواح في ظَلْماها
هذا الضياءُ الحق من يَبْصُر به
سيقول ما للشمس باخ ضياها؟
بوئثيوس (الكتاب الثالث، قصيدة ١٠)

بقدر ما يَتَلقَّى امرؤ من الصيت كأجرٍ على مكرمةٍ أتاها … يفقد الضمير، المنغمس في الرضا الذاتي، شيئًا من فضيلته السرية.

***

ولكنك، أيتها المقيمة في عقر الروح، قد طَرَدت من قلبي كلَّ مطمعٍ في حطام الدنيا، بل لم تتركي فيه مكانًا لمطمع.

***

ولقد أنقَضَ ظهري ثقلٌ آخر، هو أن الناس لا تحكم على الأفعال وفقًا لمناقبها الخاصة بل وفقًا لما ينتج عنها بالمصادفة، فيكون الفعل في نظرهم حصيفًا ما دام الحظ حليفَه، أما مَن لم يحالفه الحظ فلا نصيب له من رضا الناس.

***

أتريد حقًّا أن توقف دولاب الحظ عن الدوران؟ ألا تعلم، يا أشدَّ الفانين حمقًا، أن الحظ إذا بدأ في التوقف لا يعود حظًّا؟!

***

الجَشِع الضاري يبتلع ما طلبه، وما ينفك يفغر فمَه طلبًا للمزيد.

***

ألا لا تدعه غنيًّا ذاك الذي ما يزال أبدًا لاهثًا متلهفًا، وقد وَقَرَ في اعتقاده أنه محتاج!

***

غير أن كلماتك تروقُ المرءَ أثناء سماعها فحسب، إن للمُعذَّبين مَواجيد من بأسائهم غائرةً، حتى إذا ما فرغت كلماتُك ولم تَعُد ترن في الآذان عاد هذا الأسى المتأصل ليُثقِل القلبَ من جديد.

***

إذا كان الكون نفسه متقلِّبًا لا يثبتُ على حال، فكيف تضع ثقتَك في عرض الدنيا، ويقينك في النعيم الزائل.

***

بين صنوف البلايا جميعًا ليس هناك أبلغ شقاءً من أن يكون المرءُ قد سَبَق له أن عرف السعادة.

***

ما مِن أحدٍ يرضَى بما قَسَمَ له الحظ، فلكلٍّ منا نصيبه المقدور من الألم الذي لا يعرفه إلا من كابده.

***

ليس شقاءً إلا ما تَعُدُّه أنت كذلك.

***

كل قَدَرٍ هو قدرٌ سعيدٌ لو أنك تَلَقَّيته بثباتٍ ورباطة جأش.

***

ألا ما أتعسها تلك السعادة التي تأتي من حُطام الدنيا: فلا هي تدوم للعاقل ولا هي تُقنع الأحمق.

***

لماذا، يا أهل الفناء، تبحثون عن السعادة خارج أنفسكم وهي كامنةٌ فيها؟!

***

لَكأني بكم تستشعرون فقركم الداخلي فيدفعكم إلى التماس خيراتكم من خارج أنفسكم.

***

لا قيمة للمال إلا حين يُغدَق به؛ أي حين لا يعود مملوكًا!

***

إن الطبيعة تَقنع بأقل القليل، فإذا ما عمدتَ إلى أن تتخمها بما هو فوق الحاجة، فإن ما تُغدقه سيكون مغثيًا بل مضرًّا.

***

أحسبت أن الجمال يعني أن تَرفُل في ثيابٍ متالِّقة من كلِّ صنف؟ ولكن إذا كان الثوب يَسُر ناظري فإنما ينصبُّ إعجابي على جودة خامته أو على مهارة الحائك.

***

من كثرت ممتلكاته كثرت احتياجاتُه!

***

تعلَّم يا من يروعك الآن هاجس السيف والرمح في يد اللص، تَعَلَّم أن تذرع حياتك خاوي الوفاض؛ حتى يمكنك أن تُصفر وتغني أمام قاطع الطريق.

***

ما أروعها نعمةَ الثروة الفانية! ما أن تحصل عليها حتى يغادرَك الأمان!

***

ويح ذلك الرجل، أيًّا من كان، الذي استخرج لأول مرة أكوام الذهب الدفين من الأرض، والماس القانع بمخبئه، ومنحنا أخطارًا بمثل هذا السعر!

***

الشرف لا يأتي إلى الشريف من المنصب، بل يأتي إلى المنصب من الشريف.

***

على مَن تريدون أن تمارسوا سلطتكم؟! أليس يثير ضحككم أن تروا مجتمعًا من الجرذان وقد انبرى جرذٌ منهم يدَّعي لنفسه حق التسلط عليهم والتحكم في شئونهم؟!

***

لقد حسب الطاغية أن التعذيب مناسبةٌ للبطش، فجعله المُعذَّب مناسبةً للبطولة.

***

عندما يُوسَّد المنصب إلى غير أهله فإنه لا يجعل منه أهلًا على الإطلاق، وإنما يفضحه لا أكثر ويكشف ضعفَه وتفاهته.

***

إذا حسبت أن الحياة يمكن أن تطول بدوام الشهرة وبقاء الذِّكر، فسوف يأتي اليوم الذي تُقْبَر فيه شهرتك أيضًا، هنالك يكون بانتظارك موتٌ ثانٍ.

***

الحظُّ السعيد يَخْدع والحظ السيِّئ يُربِّي ويعلِّم.

***

الحظ السعيد يُغوي الناس، بمداهناته، عن طريق الخير الحقيقي، بينما الحظ السيِّئ كثيرًا ما يَرُدُّهم إلى خيرهم الحقيقي كالراعي يَرُدُّهم بعصاه.

***

عندما تَخَلَّى عنك الحظُّ فقد أخذ معه أصدقاءه وترك لك أصدقاءك، ولو أنك بقيت سالمًا ومحظوظًا كما تظن لما أُتيحت لك مثل هذه المعرفة بأي ثمن.

***

آه أيها الفانون لو أن قلوبكم محكومةٌ أيضًا بما يَحكم العالمَ … بالحب.

***

هذه رابطة الحب الجامعة، كل الأشياء تَعْنُو لقيود الخير، فليس من سبيل آخر لبقائها، ما لم تَعقِد عُقدة الحب، وما لم تَعُد صاغرةً لقيود الأسباب التي مَنَحَتها الوجود.

***

اللسان الذي ذاق الأَمَرَّ في البداية سيجد الشهد، الذي كَدَّ النحل في إعداده، أكثر حلاوة.

***

بوسعك الآن وقد بَصُرت بوجه السعادة الزائفة أن تضع نيرها عن عنقك، وجديرٌ بالسعادة الحقيقية الآن أن تنفُذ إلى روحك.

***

كل شيءٍ لا بد أن يعود إلى سبيله الصحيح، ويبتهج بعودته، فلا شيء يمكن أن يحفظ النظام الذي أودعه ما لم يربط مبدأه بمنتهاه، ويصنع فَلَكَه الدائري الثابت.

***

لقد انعكست القضية وإذا بالثروة التي يُرتَجَى منها أن تجعل المرء مكتفيًا بذاته قد أحْوَجَته في الحقيقة إلى عون الآخرين.

***

الطبيعة يكفيها أقلُّ القليل، أما الجشع فلا يُشبعه شيء.

***

مهما اكتنز الغنيُّ من مالٍ وأثقل جِيده باللآلئ وذَرَعَت ثيرانه العزب، فإن الهمَّ لن يفارقه في حياته، والثروة الخائنة لن ترافقَه في مماته.

***

صديقُك في السراء ينقلب عدوًّا في الضراء، وليس أقدر على إلحاق الأذى من صديقٍ انقلب عدوًّا.

***

مَن يُرد أن يكون ذا سلطانٍ حقيقيٍّ، فليبسط سلطانه أولًا على نفسه.

***

إذا كان ثمة من خير في الحسب فهو هذا، وهذا وحده: أنه يفرض على الحسيب ألا يُقَصِّر عن أسلافه في الفضل.

***

إن السعي إلى اللذة محفوفٌ بالهم، والشبع منها مملوءٌ بالندم، كم أورثت أجساد المتهالكين عليها من أسقامٍ وتباريح، وكأنها ضربٌ من عقاب الإثم.

***

لجميع اللذات طبعٌ واحد، أن تغري تابعيها وتنخسَهم إليها، لكنها، كسرب النحل المدوم، تذر عسلَها الحلو، ثم تفر بعيدًا، تاركةً في قلب من تمسُّه لدغةً لا تزول.

***

إذا أردت أن تتألق في أبهة المنصب فسوف يتعَيَّن عليك أن تنبطح لمن أنعم عليك به: أي أنك إذا أردت أن تَبُزَّ الآخرين في الكرامة سيكون عليك أن تُرخِص نفسك وتهينها بالتَّزَلُّف.

***

انظُر إلى قبة السماء وتَأَمَّل ثبات بنائها وسلاسة حركتها وكُفَّ عن الإعجاب بما لا يستحق الإعجاب، على أن أعجب من السماء العقل الذي يُسيِّر السماء.

***

ليست طبيعتُك نفسها ما يجعلك تبدو جميلًا بل ضعف أبصار من ينظرونك.

***

إنهم سادرون في عَماهم لا يعرفون أين يَكمُن الخير الذي يريدون، ويهبطون إلى الأرض ينبشون فيها عما هو أعلى من السماء.

***

أية لعنةٍ بحجم غفلتكم يمكن أن أستنزلها عليكم؟ الهثوا وراء الثروة والمجد، وحين يستوِي لكم منهما ركامٌ زائفٌ، هنالك تُدركون ما هو الخير الحقيقي.

***

يَكْمن خطأ الإنسان في أنه يأخذ ما هو بسيطٌ وغير قابلٍ للانقسام فيحاول تقسيمه فيُحيل حقيقته إلى زيفٍ وكماله إلى نقص.

***

من أراد أن يبحث عن الحقيقة بكُنْه الهمة وألا تُضلَّه السُّبل فعليه أن يتجه إلى داخله ويوقد نوره الباطن، وأن يطوي تُرَّهات عقله الطويلة إلى دائرة واحدة، وأن يُعلِّم قلبه أن ما يبغيه في الخارج بالكد والعَنَت هو يملِكه بالداخل مذخورًا في أعماق الروح.

***

لا يمكن لأي شيءٍ أن يعصِي الله ويكون مخلصًا لفطرته.

***

هل لي أن أطرح مفارقةً أو تضاربًا في الحجج لعل اصطدامًا من هذا النوع أن يُولِّدَ شررًا جميلًا من الحقيقة؟

***

مَن ذا الذي يمكن أن يُقيِّد الحب بقانون؟! … الحب قانونُ نفسه.

***

مهما يمكر الأشرار ويكيدوا كيدًا فإن إكليل غار الحكيم لن يسقط منه أبدًا ولن يَذْوِي.

***

الشرُّ عقاب ذاته مثلما أنَّ الخير ثوابُ ذاته.

***

لا يمكنك أن تَعتبره إنسانًا ذلك الذي مَسَخَته رذائلُه.

***

أنقع السمِّ ما ينفذ إلى العقل والروح فيسلب الإنسان من نفسه، تاركًا الجسم على حاله بينما يصيب العقل بجرحٍ بليغ.

***

حقًّا إن أعينهم اعتادت الظلام فلا يستطيعون رفعَها إلى ضياء الحقيقة الواضحة، فما أشبههم بالطيور التي يَحتَدُّ بَصَرها بالليل ويَعْمَى بالنهار.

***

إذا كنت قد صُغت روحك على ما هو أسمى فلا حاجة بك إلى حكم ليهبك جائزة، فأنت بنفسك مَن دفعت حالَك إلى الامتياز وأضَفْت نفسك إلى عداد الممتازين، أما إذا تَدَنَّيت بها إلى الوضاعات فلا تبحث عن عقابٍ من الخارج، إنك أنت من أسففت وتَبَذَّلت ونزلت بها إلى أسفل سافلين.

***

ليس ثمة ما يدعو إلى كراهية الأشرار، فكما أن الضعف مرض الأجسام كذلك الشر مرض الأرواح، وإذا كنا نعتبر مرضى الأجسام أحق بالعطف لا الكراهية، فإن من أصيب في روحه لأحق بالشفقة لا اللوم.

***

إلامَ تُزاحمون القَدَر في عمله وتُنزلون الموت بأيديكم؟ إن كنتم تريدون الموت فإنه قريبٌ بطبعه يحثُّ أفراسه المجنَّحة.

***

الإنسانُ فريسة السباع، فهل الإنسان فريسةُ الإنسان أيضًا؟ لماذا يصنع الحرب ويريد أن يهلك بسيف أخيه؟ لأن تعاليمه مختلفة؟ فقط لهذا السبب؟! … أهذا سببٌ عادلٌ للعنف وإراقة الدماء؟

***

أتريدُ أن تعطي لكل ذي حقٍّ حقه؟ إذن أحب الأخيار فهم أهلٌ لذلك، أما الأشرار فأشفق عليهم وارْثِ لهم.

***

حتى إذا كنت تجهل الحكمة من وراء التدبير العظيم للعالم فليس لك أن تَشُكَّ في أن كلَّ شيء يجري على نحوٍ قديم؛ لأن مُدبرًا خيِّرًا يحكم العالم.

***

الزمن يُهَوِّل من شأن الأشياء النادرة، والجموع تروعها الأشياء غير المعتادة، ولكن دع غيوم الجهل تنقشع عنها وسرعان ما يزول معها العجب والاندهاش.

***

من هنا يأتي السبب الواضح للاندهاش من نظام القَدَر: إلهٌ حكيمٌ يفعل وبشرٌ جهولٌ يستغرب أفعالَه، كلما شهدت شيئًا يجري على غير ما تريد وتحتسب فاعلم أن الأحداث تجري مجراها الصحيح ولكن رأيك هو الزائغ والمُلتبس.

***

قد تشاء العناية أن تخز البعض كي لا يُبطِرهم طول الرخاء.

***

إنه بقدرة الله، وبقدرة الله وحدها، قد تكون الشرور خيرًا أيضًا، وذلك حين يُصرِّفها الله تصريفًا يحقِّق نتائج خَيِّرة.

***

تظنون أن الشر يملأ الأرض، ولكن لو أمكنكم أن تنظروا بمنظار العناية لما وَجَدتم له على الأرض أثرًا.

***

هو الحب المتبادل إذن، يُبدئ الدورات الأبدية ويعيدها، أما النزاع فمنبوذٌ من ممالك النجوم.

***

اصغ، كلُّ حظٍّ، سواء كان يسرًا أم عسرًا، إنما يَتَغَيَّا أن يُكافئ الصالحين أو يعظهم، وأن يعاقب الأشرار أو يُقَوِّمهم، من الواضح إذن أن كلَّ ما يجري به القضاء هو عدلٌ ونفع، وكل نصيبٍ هو خيرٌ على اليقين.

***

ينبغي على الحكيم ألا يشكو كلما اشتَبَك مع الحظ، مثلما ينبغي على الشجاع ألا يسخط إذا حَمي وطيس الحرب، ذلك أن الشدائد نفسها هي فرصةٌ لكلٍّ منهما: لواحدٍ كي ينال المجد، وللآخر كي يؤكِّد حكمته ويقويها.

***

إن قَدَرَك بيديك! … بيدي صنف القدر الذي تودُّ أن تُشكِّله لنفسك؛ لأن كل ما يبدو عسيرًا هو إما عظةٌ وإما تقويمٌ وإما عقاب.

***

امض بجسارة إلى حيث يقودُك الطريق المجيد للقدوة الرفيعة، لماذا تَثَّاقل وتَنْكُص على عَقبيك، إذا كان اجتياز الأرض يَهَبُك النجوم؟

***

وحده الإنسان من بوسعه أن يرفع رأسه ويقف منتصبًا، إن في هذا الوضع لعبرة: لا تكن أرضيًّا، لتتجه روحك إلى السماء، حتى لا تَشْخَص إلى الأرض، وبينما جسمُك ينزع إلى أعلى يسوخ عقلُك إلى أسفل.

١  صارت بعض هذه القطوف أقوالًا مأثورة وجرت على أقلام الكتَّاب في العصور اللاحقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤