تصدير

الزواج المقدس بين التراث الكلاسيكي والمسيحية

بقلم  أ.د. أحمد عتمان
يُثير النص المترجم، والذي نقدِّم له، تساؤلات كثيرة ومشكلات عويصة، المؤلف نفسه أنيكيوس مانليوس سيفيرينوس بوئثيوس Anicius Manlius Severinus Boethius (٤٨٠–٥٢٤م) قد أصاب مجدًا وعزًّا بالغين في حياته، التي انتهت بالسجن والإعدام، فهو رجل سياسة ومفكر مسيحي، صاحب منصب عالٍ وثراء فاحش ومقرب لرجال السلطة الإمبراطورية.
أما مؤلفه الذي نحن بصدد الحديث عنه عزاء الفلسفة Consolatio Philosophiae، أو في مخطوطات أخرى في عزاء الفلسفة De Consolatione Philosophiae فهو من المؤلفات المحيرة، حيث أربك الكثير من النقاد والدارسين وما زال حتى اليوم يثير الحيرة والدهشة والتساؤلات.
بالنسبة للعنوان ومغزاه، فلم يكن الأول من نوعه، إذ سبقته مؤلفات عدة في تاريخ الأدب الإغريقي واللاتيني، نذكر منها على سبيل المثال مؤلفات الشاعر الفيلسوف سينيكا بالعناوين التالية:
  • عزاء إلى ماركيا Ad Marciam de Consolatione.
  • عزاء إلى بوليبيوس Ad Polybium de Consolatione.
  • عزاء إلى هليڨيا Ad Helviam de Consolatione.

ويحمل العنوان الأخير اسم هليڨيا أم سينيكا التي يعزيها المؤلف في نفي ابنها أي سينيكا نفسه.

أما إذا كان الهدف الرئيس من مؤلف بوئثيوس هو الحث على أن يصمد الفيلسوف في وجه الشدائد، فإن هذا بالضبط كان القصد من مؤلف سينيكا بعنوان «في صمود الحكيم» De Constantia Sapientis.

لكن الشكل الأدبي الذي صيغ فيه عمل بوئثيوس يختلف تمامًا عن «تعازي» سينيكا، التي جاءت أشبه ما تكون برسائل تخاطب الشخص المنكوب، هذا الشكل الأدبي هو الأكثر إثارة للحيرة والدهشة فهو ليس رسالة، ولا هو مقالة، ولا هو دراسة أو مجرد تأملات، وإنما هو عمل أدبي قُح يفيد من دراية المؤلف بعدة أشكال أدبية، منها تعازي سينيكا المشار إليها، ومنها محاورات أفلاطون، ومنها الساتورا التي بعد قليل سنتحدث عنها، ولكن من الخطأ أن ننسب عزاء الفلسفة إلى شكل أدبي واحد من هذه الأشكال، دون أن ننفي تأثرها بهذه الأشكال جميعًا.

ولا يتفق كاتب هذه السطور مع ما ذهب إليه بعض النقاد والدارسين، حين رأوا في عزاء الفلسفة ساتورا مينيبية، واعتمدوا فيما ذهبوا إليه على حقيقة شكلية فعلية، ونعني أن العمل يخلط الشعر بالنثر، ومع اعترافنا الواضح بهذا التشابه الشكلي، إلا أنه شتان ما بين عزاء الفلسفة والساتورا المينيبية، ومن حق القارئ الكريم أن نوضح له أولًا ماهية الساتورا المينيبية أو الهجائية المينيبية Satura Menippea، فهي نسبة إلى مينيبوس من جادارا في سوريا (النصف الأول من القرن الثالث ق.م)، وهو مبدع الأسلوب الهزلي الساخر من ناحية، والجدي من ناحية أخرى (Spoudogelation)، والذي يخلط بين الشعر والنثر، علمًا بأن كلمة ساتورا Satura اللاتينية تحمل في معناها الأصلي الخلط في الأساليب والموضوعات، وهذه سمات عامة في شعر الهجاء اللاتيني ابتداءً من لوكيليوس وحتى يوڨيناليس، وأثر مينيبوس في مواطنه ملياجروس Meleagros ولوكيانوس Lucianus وفارو Varro صاحب هجائيات مينيبية Saturae Menippeae.
وإذا أردنا أن نضرب مثلًا على «الهجائية المينيبية» من الأدب اللاتيني فلن نجد أفضل من مؤلف سينيكا الشهير الذي حفظت المخطوطات عناوين له كثيرة، نذكر منها العنوانين التاليين: «أبو كولوكينتوسيس (= التقريع أي مسخ الإنسان إلى نبات القرع» Apocolocyntosis)، وهو عنوان له صلة بمبدأ تناسخ الأرواح في الفكر الفيثاغوري وانتقال روح الإنسان بعد الموت إلى تقمص أحد النباتات ﮐ «القرع» وما إلى ذلك، أما العنوان الثاني فهو «سخرية من موت كلاوديوس»  Ludus de Morte Claudii، ذلك أن هذا المقال عبارة عن هجائية مينيبية Satura Menippea تسخر من تأليه الإمبراطور كلاوديوس بعد موته وتجمع بين الشعر والنثر.١

فأين عزاء الفلسفة من تلك السخرية المضحكة في عمل سينيكا «التقريع»؟ من الجلي إذن إننا لا يمكن أن نعتبر «عزاء الفلسفة» عملًا هجائيًّا أو هزليًّا، فليس فيه من «الساتورا» سوى سمة الخلط بين الشعر والنثر.

الواقع أن هذا المزج بين الأجناس الأدبية المختلفة في عزاء الفلسفة لا يضاهيه سوى المزج الواضح كذلك في المضامين الفكرية والفلسفية في ثنايا العمل نفسه، ففي هذا العمل تجد إشارات واضحة أحيانًا وتلميحات خفية أحيانًا أخرى لكلِّ مفردات التراث الإغريقي واللاتيني من هوميروس إلى يوريبيديس وأريستوفانفيس وسقراط وأفلاطون وأرسطو … إلخ.

معظم المدارس الفلسفية الإغريقية ممثلة تمثيلًا مقصودًا في هذا العمل من الأبيقورية إلى الرواقية، ومن الكلبية إلى الغنوصية، ففكرة الأسرار والكشف عنها للمخلصين الأصفياء وراء ظهور آلهة الفلسفة أو الفلسفة مجسَّدة لواحد من صفوة أتباعها ألا وهو بوئثيوس.

ويقودنا هذا الحديث إلى أخطر مشكلة في هذا النص، فنحن أمام مفكر مسيحي لاهوتي له أكثر من مؤلف في اللاهوت المسيحي، يمر بلحظات عمره الأخيرة ويودع الدنيا بعمل سماه عزاء الفلسفة، ولا يذكر كلمة واحدة عن العقيدة المسيحية، أليس هذا أمرًا غريبًا؟ والأغرب أن هذا المسيحي — وهو أحد الشهداء بحق — يركز حديثه تمامًا في التراث الكلاسيكي الوثني، ومن النظرة الأولى يستوقفنا العنوان «عزاء الفلسفة» فالفلسفة مجسدة هي اللاعب الأول Protagonist في هذا العمل الأدبي الإبداعي، هي التي توجه كل صغيرة وكبيرة، وهي التي تقود المؤلف إلى بر الطمأنينة ورباطة الجأش بعد الجزع الذي استولى عليه تمامًا في السجن، ومنذ القدم عرف أن الفلسفة تأتي على حساب الفكر الأسطوري والعقائدي؛ ولذا عمد السوفسطائيون إلى هدمها، وكان أفلاطون ميالًا للهجوم على الأسطورة والشعر — وهما صنوان — إلا أنه لم ينج منهما تمامًا لأنه بطبعه شاعر، ولما جاءت المسيحية حاربت التراث الوثني برمته ونفته من مملكتها تمامًا، فألغت الدورات الأوليمبية والمسارح وكل ما يمت للوثنية بصلة، ولا سيما الفلسفة فهي العدو الأول للدين والعقيدة، والمثل الصارخ على ذلك ما فعله مسيحيو الإسكندرية المتطرفون والمنتقمون بالفيلسوفة والرياضية هيباتيا حيث مزقوها إربًا إربًا، أما في «عزاء الفلسفة» فتظهر إلهة الفلسفة وقد نزلت من عليائها لتواسي الفيلسوف في أزمته الطاحنة، هنا تبدو إحدى مخلفات التراث الوثني — الفلسفة — وهي تعالج أحد معتنقي المسيحية ومفكريها، هنا تتجلى أروع صورة للزواج المقدس بين المسيحية والتراث الكلاسيكي وعندما يصرح إرازموس في القرن السادس عشر «صلِّ من أجلنا يا سقراط» ora pro nobis Socrate فإنه يردد صدى هذا الزواج المقدس ويؤذن لقيام النهضة.

رويدًا رويدًا عبر القرون الأولى الميلادية بدأ الحوار بين المسيحية والوثنية يحل محل التنافر والعداء، وكان ذلك أمرًا طبيعيًّا، فالمسيحية وإن ولدت في فلسطين إلا أن محيطها المؤثر كان العالم الإغريقي الروماني، وكان على آباء الكنيسة الأوائل أن يتعلموا اللغة الإغريقية واللاتينية ليشرحوا العقيدة الجديدة ويردوا على أقطاب التراث الوثني، وكان من نتائج ذلك أن البلاغة الإغريقية واللاتينية كما فهموها من كتابات أرسطو وشيشرون أصبحت سلاحهم في الانتصار للمسيحية، وتشهد بذلك كتابات القديس أوغسطين الملقب بشيشرون المسيحية.

واستخدم المنطق الأرسطي في الجدل الديني المسيحي، تمامًا كما سيحدث بعد ذلك عندما يستخدم بعض فلاسفة الإسلام المنطق الأرسطي في جدلهم الديني، سواء داخل حظيرة الإسلام أو مع أصحاب الديانات الأخرى.

والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان الآن هو: مع خلو عزاء الفلسفة من كلمة واحدة مباشرة عن المسيحية، ومع انغماسها الكلي في التراث الوثني هل يَرِد في هذا العمل الإبداعي ما هو ضار بالمسيحية أو ما يناهضها؟ هل عزاء الفلسفة الذي يحتفي بالوثنية هذا الاحتفاء الظاهر يحوي ما يناقض أو يحارب المسيحية ويهدمها؟ الإجابة قطعًا بالنفي المؤكد، ذلك أن الروح المسيحية ترفرف على هذا العمل الإبداعي وتشع من بين كل سطوره، فالمؤلف وبذكاء شديد تجنَّب ذكر المسيحية تمامًا، ولكنه دعم هذه العقيدة دعمًا غير مباشر، فمما لا شك فيه أنه اختار الموضوعات والشخصيات الوثنية التي تتوافق مع المسيحية، فمبادئ الرواقية عامة ورواقية سينيكا خاصة تنسجم مع المسيحية بما فيها من زهد ورحمة وقدرة على التحمل، ويقال إن هناك رسائل متبادلة بين سينيكا والقديس بولس، ويقال الشيء نفسه تقريبًا عن التوافق بين الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة من جهة، والمسيحية من جهة أخرى ولا سيما فكرة الاتحاد مع الإله واختلاط ما هو بشري بما هي إلهي.

خلاصة القول إن عزاء الفلسفة عمل يمثل ذروة من ذرى التوافق بين المسيحية والوثنية، فهو نص يحتفي بعقائد وأساطير وفلاسفة الوثنية ممجدًا بطريق غير مباشر المسيحية وداعيًا للتسامح والرحمة والصمود والثبات والتواضع وكافة القيم المسيحية، ولا سيما فكرة ألوهية البشر حيث تقول الفلسفة لبوئثيوس.

Ita ego quoque tibi ueluti corollarium dabo. nam quoniam beatitudinis adeptione fiunt homines beati, beatitude uero est ipsa diuinitas, diuinitatis adeptione beatos fieri manifestum est. sed uti iustitiae adeptione iusti, sapientiae sapientes fiunt, ita diuinitatem adeptos deos fieri simili ratione necesse est. omnis igitur beatus deus.
سأقدم لك لازمة … corollarium بما أنه من خلال امتلاك السعادة، يصبح الناس سعداء وحيث إن السعادة في الحقيقة هي الألوهية فمن البين أنه من خلال امتلاك الألوهية يصبحون سعداء، وبالمنطق نفسه الذي يصبح به الناس عادلين بممارسة العدل، وحكماء بممارسة الحكمة فإن أولئك الذين يمتلكون الألوهية يصبحون إلهيين فكل إنسان سعيد هو إذن إله.

غني عن البيان أن بوئثيوس يعتقد إذن أن الفلسفة ليست ضد العقيدة الدينية، وإذا كنا نرى أن ابن رشد هو صاحب هذه الفكرة التي أنارت ظلام العصور الوسطى عندما انتقلت إلى أوروبا عبر «فصل المقال»، فإننا في الواقع لا بدَّ وأن نعترف أن دور ابن رشد اقتصر على إيقاظ العقول الأوروبية النائمة، فلما نهضوا وجدَّدوا هذه المقولة الرشدية مسبوقة فهي موجودة عند رجال الدين المسيحي الأوائل المتنورين، وعلى رأسهم بوئثيوس الذي يسبق ابن رشد بما لا يقل عن سبعة قرون.

بقيت لنا كلمة عن ترجمة هذا النص التي نقدم لها، فلقد سبق لنا أن قلنا بأن عصر التوسط للتراث الكلاسيكي بأية لغة أوروبية حديثة قد انتهى بظهور ترجمات المتخصصين، وما زلنا عند رأينا، ولكنه لا يعني القضاء المبرم على جهود المثقفين المصريين والعرب في هذا المجال، فالمثقفون هم الذين بدءوا حركة الاتصال بالتراث الكلاسيكي منذ أن ترجم رفاعة رافع الطهطاوي «وقائع الأفلاك في مغامرات تليماك» وجاء بعده سليمان البستاني فترجم إلياذة هوميروس شعرًا عام ١٩٠٤م، ثم جاء أحد المثقفين غير المتخصصين وهو طه حسين فأسس قسم الدراسات اليونانية والرومانية عام ١٩٢٥م، ثم جاءت جهود لويس عوض ودريني خشبة وشكري عياد وغيرهم، ومن قبل سبق لي أن راجعت ترجمة ثروت عكاشة لأو؟يديوس أعني رائعتيه «مسخ الكائنات» و«فن الهوى»، وتمتعت بقراءة هذه الترجمة أيما متعة مع علمي أنها ليست عن اللاتينية مباشرة بل كانت مهمتي أن أضاهيها بالنص اللاتيني، ومثل هؤلاء المترجمين واسعي الثقافة وأصحاب الذوق الأدبي الرفيع.

والترجمة التي بين أيدينا تدخل في إطار هذه الترجمات الثقافية، ولقد تمتعت بقراءتها حقًّا؛ لأن المترجم يتمتع باطلاع واسع على الفلسفة وبأسلوب رائع وحس أدبي رفيع، ولما ضاهيت الترجمة بالنص اللاتيني الأصلي لم أجد نقصًا جوهريًّا أو خروجًا مخلًّا عن هذا الأصل، وحاولت قدر الطاقة سد أي فجوة بين الترجمة والنص الأصلي، وأتمنى أن يتمتع القارئ بالاطلاع على هذا النص الفريد.

(وبالله التوفيق.)
١  عن فن الساتورا ونشأته وطبيعته وعن سينيكا الفيلسوف الشاعر راجع: أحمد عتمان، الأدب اللاتيني ودوره الحضاري حتى نهاية العصر الذهبي ط٢ (دار المعارف، ١٩٩٥م) ص١١٢–١١٧.
المؤلف نفسه، الأدب اللاتيني ودوره الحضاري في العصر الفضي (إيجيبتوس، ١٩٩٠م) ص١١٣–١٣٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤