تصدير
الزواج المقدس بين التراث الكلاسيكي والمسيحية
-
عزاء إلى ماركيا Ad Marciam de Consolatione.
-
عزاء إلى بوليبيوس Ad Polybium de Consolatione.
-
عزاء إلى هليڨيا Ad Helviam de Consolatione.
ويحمل العنوان الأخير اسم هليڨيا أم سينيكا التي يعزيها المؤلف في نفي ابنها أي سينيكا نفسه.
لكن الشكل الأدبي الذي صيغ فيه عمل بوئثيوس يختلف تمامًا عن «تعازي» سينيكا، التي جاءت أشبه ما تكون برسائل تخاطب الشخص المنكوب، هذا الشكل الأدبي هو الأكثر إثارة للحيرة والدهشة فهو ليس رسالة، ولا هو مقالة، ولا هو دراسة أو مجرد تأملات، وإنما هو عمل أدبي قُح يفيد من دراية المؤلف بعدة أشكال أدبية، منها تعازي سينيكا المشار إليها، ومنها محاورات أفلاطون، ومنها الساتورا التي بعد قليل سنتحدث عنها، ولكن من الخطأ أن ننسب عزاء الفلسفة إلى شكل أدبي واحد من هذه الأشكال، دون أن ننفي تأثرها بهذه الأشكال جميعًا.
فأين عزاء الفلسفة من تلك السخرية المضحكة في عمل سينيكا «التقريع»؟ من الجلي إذن إننا لا يمكن أن نعتبر «عزاء الفلسفة» عملًا هجائيًّا أو هزليًّا، فليس فيه من «الساتورا» سوى سمة الخلط بين الشعر والنثر.
الواقع أن هذا المزج بين الأجناس الأدبية المختلفة في عزاء الفلسفة لا يضاهيه سوى المزج الواضح كذلك في المضامين الفكرية والفلسفية في ثنايا العمل نفسه، ففي هذا العمل تجد إشارات واضحة أحيانًا وتلميحات خفية أحيانًا أخرى لكلِّ مفردات التراث الإغريقي واللاتيني من هوميروس إلى يوريبيديس وأريستوفانفيس وسقراط وأفلاطون وأرسطو … إلخ.
معظم المدارس الفلسفية الإغريقية ممثلة تمثيلًا مقصودًا في هذا العمل من الأبيقورية إلى الرواقية، ومن الكلبية إلى الغنوصية، ففكرة الأسرار والكشف عنها للمخلصين الأصفياء وراء ظهور آلهة الفلسفة أو الفلسفة مجسَّدة لواحد من صفوة أتباعها ألا وهو بوئثيوس.
رويدًا رويدًا عبر القرون الأولى الميلادية بدأ الحوار بين المسيحية والوثنية يحل محل التنافر والعداء، وكان ذلك أمرًا طبيعيًّا، فالمسيحية وإن ولدت في فلسطين إلا أن محيطها المؤثر كان العالم الإغريقي الروماني، وكان على آباء الكنيسة الأوائل أن يتعلموا اللغة الإغريقية واللاتينية ليشرحوا العقيدة الجديدة ويردوا على أقطاب التراث الوثني، وكان من نتائج ذلك أن البلاغة الإغريقية واللاتينية كما فهموها من كتابات أرسطو وشيشرون أصبحت سلاحهم في الانتصار للمسيحية، وتشهد بذلك كتابات القديس أوغسطين الملقب بشيشرون المسيحية.
واستخدم المنطق الأرسطي في الجدل الديني المسيحي، تمامًا كما سيحدث بعد ذلك عندما يستخدم بعض فلاسفة الإسلام المنطق الأرسطي في جدلهم الديني، سواء داخل حظيرة الإسلام أو مع أصحاب الديانات الأخرى.
والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان الآن هو: مع خلو عزاء الفلسفة من كلمة واحدة مباشرة عن المسيحية، ومع انغماسها الكلي في التراث الوثني هل يَرِد في هذا العمل الإبداعي ما هو ضار بالمسيحية أو ما يناهضها؟ هل عزاء الفلسفة الذي يحتفي بالوثنية هذا الاحتفاء الظاهر يحوي ما يناقض أو يحارب المسيحية ويهدمها؟ الإجابة قطعًا بالنفي المؤكد، ذلك أن الروح المسيحية ترفرف على هذا العمل الإبداعي وتشع من بين كل سطوره، فالمؤلف وبذكاء شديد تجنَّب ذكر المسيحية تمامًا، ولكنه دعم هذه العقيدة دعمًا غير مباشر، فمما لا شك فيه أنه اختار الموضوعات والشخصيات الوثنية التي تتوافق مع المسيحية، فمبادئ الرواقية عامة ورواقية سينيكا خاصة تنسجم مع المسيحية بما فيها من زهد ورحمة وقدرة على التحمل، ويقال إن هناك رسائل متبادلة بين سينيكا والقديس بولس، ويقال الشيء نفسه تقريبًا عن التوافق بين الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة من جهة، والمسيحية من جهة أخرى ولا سيما فكرة الاتحاد مع الإله واختلاط ما هو بشري بما هي إلهي.
خلاصة القول إن عزاء الفلسفة عمل يمثل ذروة من ذرى التوافق بين المسيحية والوثنية، فهو نص يحتفي بعقائد وأساطير وفلاسفة الوثنية ممجدًا بطريق غير مباشر المسيحية وداعيًا للتسامح والرحمة والصمود والثبات والتواضع وكافة القيم المسيحية، ولا سيما فكرة ألوهية البشر حيث تقول الفلسفة لبوئثيوس.
غني عن البيان أن بوئثيوس يعتقد إذن أن الفلسفة ليست ضد العقيدة الدينية، وإذا كنا نرى أن ابن رشد هو صاحب هذه الفكرة التي أنارت ظلام العصور الوسطى عندما انتقلت إلى أوروبا عبر «فصل المقال»، فإننا في الواقع لا بدَّ وأن نعترف أن دور ابن رشد اقتصر على إيقاظ العقول الأوروبية النائمة، فلما نهضوا وجدَّدوا هذه المقولة الرشدية مسبوقة فهي موجودة عند رجال الدين المسيحي الأوائل المتنورين، وعلى رأسهم بوئثيوس الذي يسبق ابن رشد بما لا يقل عن سبعة قرون.
بقيت لنا كلمة عن ترجمة هذا النص التي نقدم لها، فلقد سبق لنا أن قلنا بأن عصر التوسط للتراث الكلاسيكي بأية لغة أوروبية حديثة قد انتهى بظهور ترجمات المتخصصين، وما زلنا عند رأينا، ولكنه لا يعني القضاء المبرم على جهود المثقفين المصريين والعرب في هذا المجال، فالمثقفون هم الذين بدءوا حركة الاتصال بالتراث الكلاسيكي منذ أن ترجم رفاعة رافع الطهطاوي «وقائع الأفلاك في مغامرات تليماك» وجاء بعده سليمان البستاني فترجم إلياذة هوميروس شعرًا عام ١٩٠٤م، ثم جاء أحد المثقفين غير المتخصصين وهو طه حسين فأسس قسم الدراسات اليونانية والرومانية عام ١٩٢٥م، ثم جاءت جهود لويس عوض ودريني خشبة وشكري عياد وغيرهم، ومن قبل سبق لي أن راجعت ترجمة ثروت عكاشة لأو؟يديوس أعني رائعتيه «مسخ الكائنات» و«فن الهوى»، وتمتعت بقراءة هذه الترجمة أيما متعة مع علمي أنها ليست عن اللاتينية مباشرة بل كانت مهمتي أن أضاهيها بالنص اللاتيني، ومثل هؤلاء المترجمين واسعي الثقافة وأصحاب الذوق الأدبي الرفيع.
والترجمة التي بين أيدينا تدخل في إطار هذه الترجمات الثقافية، ولقد تمتعت بقراءتها حقًّا؛ لأن المترجم يتمتع باطلاع واسع على الفلسفة وبأسلوب رائع وحس أدبي رفيع، ولما ضاهيت الترجمة بالنص اللاتيني الأصلي لم أجد نقصًا جوهريًّا أو خروجًا مخلًّا عن هذا الأصل، وحاولت قدر الطاقة سد أي فجوة بين الترجمة والنص الأصلي، وأتمنى أن يتمتع القارئ بالاطلاع على هذا النص الفريد.
المؤلف نفسه، الأدب اللاتيني ودوره الحضاري في العصر الفضي (إيجيبتوس، ١٩٩٠م) ص١١٣–١٣٣.