الفصل الثالث

«الفلسفة» تقبل التحدي

ثم انجلى الليل وتبدَّد الظلام،
وعادت إلى عيني حدَّتهما السالفة،
مثلما حين تهُبُّ ريحُ الغرب العاتية
تملأ السماءَ السحبُ السوداءُ والظلامُ العاصف،
وتحتجبُ الشمسُ قبل الوقتِ الذي ينبغي أن تتلألأَ فيه النجوم،
ويلفُّ الليلُ الأرضَ كلَّها،
ولكن إذا انطلقت ريحُ الشمال من كهفها الطراقي،
وجَعَلت تجلدُ الظلام بسوطها وتحرِّر النهارَ السجين،
فإن الشمس تتألق بفيضٍ مفاجئ من النور،
وتَبْهَر الأعينَ الطارِفة بأشعتها.

بنفس الطريقة تَبَدَّدت غيوم حزني وابتَهجت بالضياء، والتفَتُّ أتملَّى وجه طبيبتي وقد عاد إليَّ صوابي، وثبتُّ عيني عليها، فعرفت فيها مُربِّيتي التي نشأت في بيتها منذ شبابي — الفلسفة. وسألتها لماذا هبطت من عليائها إلى منفاي الموحش، «ألِكَي يتَّهموكِ ظلمًا مثلما اتَّهموني؟!»

ردَّت السيدة: «كيف أتخلى عنك يا ولدي؟ وكيف لا أقاسمك عناءك الذي تحمَّلته بسببي وبسبب كراهية الناس لاسمي؟ أتحسبني أخشى الاتهام أو أرتعد فرقًا كما لو كان جديدًا عليَّ؟ وهل هذه هي المرة الأولى التي تتعرَّض فيها الحكمة للخطر وتتهدَّدها قوى الشر؟ فقديمًا أيضًا، قبل عهد خادمي أفلاطون، كم خضت في معارك كبيرةٍ ضد قُوَى الغباء الطائشة، ثم في حياة أفلاطون انتصر أستاذه سقراطُ على الموت الظالم بوقوفي إلى جانبه، وبعدها بذلت جموعُ الأبيقوريِّين١ والرواقيين٢ وغيرهم كل ما بوسعهم لكي يقبضوا على ميراث الحكمة الذي تركه لهم، حاول كلٌّ منهم أن ينتزعني بالقوة كجزءٍ من غنيمته، ولكني كافحت وقاومت، وخلال ذلك تمزق ردائي الذي نسجته بيدي، لقد انتزعوا نُتَفًا من الرداء وذهبوا يباهون بأنهم استحوذوا على الفلسفة كلها، وإذ احتفظوا بمزقٍ من ثيابي فقد أسبغ عليهم ذلك شهرةً بين الجهال بأنهم أهلي وذويَّ، ومن ثم فإن كثيرًا منهم قد أضلته جهالة الجموع الحمقى.٣
وحتى إذا كنت لم تسمع بقصص الفلاسفة الأجانب (أي من غير الرومان): كيف نُفِيَ أنكساجوراس Anaxagoras٤ من أثينا، وكيف أُعدِم سقراط Socrates بالسم، وكيف عُذِّب زينون Zeno٥ فما أظنك تجهل (قصص فلاسفة الرومان) كانيوس Canius٦  وسينيكا Seneca٧ وسورانوس Soranus٨ وذكراهم ما تزال جديدةً مدوِّية، فما أودى بهم سوى أنهم إذ نُشِّئوا على تعاليمي فقد بدوا ناشزين عن أخلاقيات الطَّغام مستخفين بها، لا عجب أن تتقاذفنا العواصف الهوج في بحر الحياة هذا ما دام هَمُّنا الأكبر هو أن نُغضب الأشرار، ورغم كثرتهم العددية الهائلة فإن بوسعنا أن نزدَريهم؛ لأنهم لا هاديَ لهم، إنما يحدوهم الجهل فيخبِطون خَبط عشواء، فإذا عنَّ لهم أن يجدوا في حملتهم علينا فإن قائدنا، العقل، يسحب قواته إلى قلعته تاركًا هؤلاء منشغلين بجمع أتفه الغنائم، هنالك يمكننا أن نُطِلَّ عليهم من أعلى حصننا المنيع، سالمين من غارتهم ضاحكين من حماقتهم.»٩
١  الأبيقوريون هم أتباع أبيقور Epicurus (342–271B.C)، وهو فيلسوف أثيني شهير ذهب إلى أن اللذة هي الهدف الطبيعي والخير الأسمى للإنسان، وعرَّف اللذة على أنها حالةٌ من الاستقلال والسلام العقلي والجسدي، وعرَّف الفلسفة على أنها محاولة بلوغ السعادة عن طريق التأمل وإعمال العقل.
٢  الرواقية Stoicism مدرسةٌ فلسفيةٌ أسسها زينون حوالي عام ٣٠٠ق.م وكان يحاضر في «الرواق المزخرف» Stoa Poikile وهو ممرٌّ مسقوف ومصبوغ بألوان متعددة، ومن هنا جاء اسم «الرواقية»، استمرت الرواقية زهاء خمسة قرون، وخلال هذه المدة طرأت على تعاليمها تغيراتُ كبيرة، غير أن ما يجمع الحركة كلَّها هو تعاليمُها الأخلاقية التي تؤكد على الشجاعة في مواجهة الألم والخطر، وعدم الاكتراث بالأوضاع المادية، وقوة التحمل والنزاهة والسكينة والسلام النفسي تحت كل الظروف، وقد مرت الرواقية بثلاث مراحل أساسية: المرحلة المبكرة وتشمل مؤسسها زينون وخريسيبوس وكليانثس، والمرحلة الوسطى وتشمل بانايتيوس ويوسيرونيوس، والمرحلة المتأخرة وهي مرحلة رومانية تضم أسماء لامعة مثل سينيكا وإبيكتيتوس والإمبراطور ماركوس أوريليوس.
٣  من الواضح أنَّ بوئثيوس يعلي من قَدْر الثالوث الفلسفي: سقراط وأفلاطون وأرسطو، ويجعل للأبقوريين والرواقيين موضعًا هامشيًّا.
٤  أنكساجوراس (الكلازوميني) Anaxagoras (500–428B.C) من أوائل الفلاسفة الذين استقروا في أثينا، قُدِّم للمحاكمة بتهمة الفساد والخيانة، ولكنه تمكَّن من الهرب بمساعدة أصدقائه.
٥  زينون (الإيلي) فيلسوفٌ يوناني وُلد عام ٤٩٠ق.م، تلميذ بارمنيدس وصديقه، من ممثلي المدرسة الإيلية، وهو واحد من ثلاثة فلاسفة رَوَى ديوجينيس لا إرتيوس (أو اللاإررتي) أن كلًّا منهم عضَّ لسانه وبصقه في وجه الطاغية (وهو، في حالة زينون، الطاغية نيارخوس الذي جعل يعذب زينون لكي يعترف)، وقد أُعدِم زينون بعد ذلك سحقًا في هاون.
٦  لعله الفيلسوف الرواقي يوليوس كانوس الذي حكم عليه كاليجولا بالموت، وذكره سينيكا كنموذجٍ للسكينة الفلسفية.
٧  سينيكا Seneca خطيبٌ وأديبٌ وتراجيدي وفيلسوف روماني رواقي شهير، وُلد بقرطبة في السنة الرابعة قبل الميلاد، تقلد منصب بريتور وعُهد إليه بتربية الطاغية نيرون وأصبح مستشارًا له بعد ذلك، أجبر على الانتحار بأمر نيرون عام ٦٥م.
٨  سورانوس Soranus روماني بارز على عهد نيرون، كان واليًا على آسيا، اتصف بالعدل والنشاط، توفي منتحرًا أيضًا بأمر نيرون.
٩  القلعة هنا ترمز إلى الفضيلة، والغنائم ترمز إلى متاع الدنيا وحُطامها ومختلف الخيرات الخارجية الزائفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤