الفصل الثاني
الحظ يدافع عن نفسه
والآن أود أن أُحاجَّك قليلًا بكلام الحظ نفسه، وأن تنظر فيما إذا كان على حق:
أيها الإنسان، لماذا تَكِيل لي التهم وتلاحقُني كل يومٍ بشكاواك المتصلة؟ أي ظلمٍ
ألحقتُه بك؟ أية ثروةٍ سلبتها منك؟ هات أي قاضٍ يروقُك ونازِعني أمامه حول ملكية الثروة
والمنصب، وإذا أمكنك أن تُثبِت أن أي شيء من ذلك يخص أي بشرٍ فانٍ فَلَسوف أُسلِّم عن
طيب خاطرٍ بأن ما تريد استرداده هو شيءٌ كان ملكك حقًّا، عندما أتت بك الطبيعة من بطن
أمك فقد تلقَّيتُك عاريًا من كل شيء، فرَعَيتك ووهبتك من هباتي، ومَنَنْت عليك بخيري
وربيتك، وهذا ما يجعلك الآن تضيق ذرعًا بي، ولقد غَمَرْتُكَ بكل الثراء والمجد الذي كان
عندي وتحت تصرفي، والآن يحلو لي أن أكُف يدي، كن شاكرًا كأنك قد عشت مما أقرَضتُك، وإذا
استعدت منك ما استعرته مني فبأي حق تشكو من ضياع شيءٍ لم تكن تملكه؟ لماذا تتظلَّم إذن؟
أنا لم أتَعَدَّ عليك، إن الثروة والجاه وكلَّ تلك الأشياء هي من حقوقي ومن سلطتي، إنها
خدمي والخدم تعرف سيدها، إذا أتيت تأتي معي وإذا ذهبت تذهب، وإنني لأعلنُها واضحةً: لو
كانت هذه الأشياء التي تتظلَّم لفُقدانها هي ملكك حقًّا لما كنت تفقدها أبدًا، أم تراني
أنا وحدي من يبخس حقه ويحرم من ممارسة سُلطته المشروعة؟ لقد حُقَّ للسماء أن تأتي
بالضياء الساطع بالنهار وأن تحجبه بالليل، وقد حق للعام أن يزين وجه الأرض حينًا بالزهر
والثمر ويلبده بالغيم والصقيع حينًا آخر، ومن حق البحر أن يهدأ ويروق تارةً ويروع
بالعواصف واللُّجج تارةً أخرى، أيريد الطمع البشري الدائم أن يُكْرِهني على ثبات ليس
في
طبعي؟ إن التغير هو جوهري ولبابي، في التغير تكمن قوتي الحقيقية ولعبتي الدائمة: إنني
أُدير عجلتي دورانًا متصلًا، ويلذُّ لي أن أدفع الأسفل إلى الذروة والأعلى إلى القاع،
فاصعد معها إن شئت ولكن لا تلعنها إذا اقتَضَتْك أحكام اللعبة أن تهبط، أفأنت تجهل
طباعي؟ ألم تسمع عن كرويسوس Croesus ملك ليديا Lydia الذي أرهب يومًا عدوَّه كيروس (قورش)
Cyrus، ثم ما لبث أن نُكِب وحُكم عليه بالموت
حرقًا، فأنقذته السماء بوابلٍ من المطر؟١ لا بد أنك سمعت عن إيميليوس
باولوس Aemilius Paulus وكيف ذرف دموع الحسرة على البلايا التي حاقت بسجينه
بيرسيس Perses آخر ملوك مقدونيا،٢ وما الذي تندبه التراجيديات بصخبها وعويلها، إن لم يكن هو القدر الذي يطيح
بالممالك السعيدة بضرباته العشوائية؟ ألم تسمع في صباك ما رواه هوميروس من أن هناك
وعاءين قائمين على عتبة زيوس، أحدهما مليءٌ بالشر والآخر مليء بالخير؟ ولقد اغترفت من
الخير أكثر من قسطك، ولكن هل تخلَّيت عنك كل التخلِّي؟ إن تقلبي نفسه ليمنحُك سببًا
وجيهًا لأن تأمل فيما هو أفضل؛ ولذا ينبغي ألا تضني روحك بأن تحملها على العيش وفقًا
لقانونٍ من عندك، في عالمٍ يشارك فيه الجميع.
لو راحت إلهة الوفرة بفيضها الغامر٣
تذُرُّ العطايا بيد سخية.
عدد الرمال يذرُّها البحر هيَّجته العواصف
أو عدد النجوم المنتثرة في حُلكة الليل الرائق
ولم يغل يده
لما كفَّ الجنس البشري شكاياته ونحيبه
ورغم أن الله يَتَقبَّل دعاءهم
ويُغدق عليهم الذهب بيدٍ مبسوطة
ويزين طمعهم بالأوسمة البراقة
فإن كل ما أعطاه يبدو عدمًا
فالجشع الضاري يبتلع ما طلبه
وما يَنفَكُّ يَفغَر فمه طلبًا للمزيد
أيُّ لجامٍ إذن وأية شكيمة
يمكن أن تكبح هذه الشهوة الجامحة وتضع لها حدًّا
بمجرد أن يطفئ مثل هذا السخاء
لهيب العطش إلى التملك والاكتناز
ألا لا تدعه غنيًّا ذاك الذي
ما يزال أبدًا لاهثًا متلهفًا
وقد وقر في اعتقاده أنه محتاج.
١
كرويسوس ملك ليديا (حكم من عام ٥٦٠ إلى ٥٤٦ قبل الميلاد) كان قويًّا ثريًّا،
يحكَى أنه قابل الحكيم اليوناني سولون وسأله من هو أسعدُ رجلٍ قابله في حياته،
فردَّ عليه سولون ردًّا مأثورًا: «لا ينبغي أن يُعَد أحدٌ سعيدًا ما لم يختم
حياته ختامًا حسنًا.» وقد لقي كرويسوس الهزيمة في النهاية على يد الملك الفارسي
كيروس، الذي أسره وأمر بإحراقه ثم عفا عنه، وهنا تختلف الروايات: ففي تاريخ
هيرودوت أن كيروس أمر بإطفاء النار غير أنهم لم يتمكَّنوا من إطفائها إلى أن
ابتهل كرويسوس لأبولو فهطل المطر وأطفأها، وفي رواية أخرى أن كروسوس هتف ثلاث
مرات باسم سولون، فتساءل كيروس من يكون سولون هذا، وحين سمع القصة أمر بإطلاق
سراح كرويسوس.
٢
إيميليوس باولوس قائد وقنصل روماني، قهر بيرسيس آخر ملوك مقدونيا في بيدنا
عام ١٦٨ق.م.
٣
إلهة الوفرة والرخاء والرفاهة Copia
هي تجسيد للنماء.