الفصل الثالث

حظوظه السعيدة

«إذا قدَّم الحظ هذا الدفاع فما أظنُّك واجدًا ردًّا عليه من جانبك، فإذا كانت لديك حجةٌ بوسعك أن تقدمها لتؤيدَ دعواك فهات بها وكلي آذانٌ صاغية.»

عندئذٍ قلت: «إن كل ما قُلته معقولٌ بالتأكيد ومسوغٌ بحلاوة البلاغة والموسيقى، غير أن كلماتك تروق المرء أثناء سماعها فحسب، إن للمعذبين مواجيد من بأسائهم غائرةً، حتى إذا ما فرغت كلماتك ولم تعد ترِن في الآذان عاد هذا الأسى المتأصِّل ليثقل القلب مرةً أخرى.»

فأجابت: هو ذاك، فهذا ليس العلاج بعد، إنما هو نوعٌ من التسكين لحزنٍ شديدٍ ما يزال يستعصي على العلاج، أما العلاجات التي تَنْفذ إلى العمق فسوف أستخدمها في الوقت الملائم.

ومع ذلك فما أحسبُك على اقتناعٍ بأنك من الأشقياء حقًّا، أم نسيت كم اصطفاك الحظ بعطاياه وآثرك بهباته؟ ألا يكفي أنك حين فقدت أباك تولَّتك رعاية أناسٍ من أعلى الطبقات، وجُعِلت صهرًا لأرفع عائلات المدينة؟ فقد كنت عزيزها قبل أن تكون صهرها، وذاك لعمري أغلى صنفٍ من الروابط جميعًا، من ذا الذي يشك في أنك أسعد الناس حظًّا فيما حباك الله به من زوجةٍ نبيلةٍ وأبناء نجباء؟ ناهيك بألوان المجد الذي بلغته وأنت شابٌّ بعد، وحظيت منه بما لم يحظ به أغلب البشر في كل العصور، وبحسبي أن أذكر ما توَّجَك به الحظ السعيد مما لم يُتوِّج به أحدًا سواك، ويكفي أن أذكِّرك بذلك اليوم المجيد الذي تتضاءل بجانبه كل نعم الدنيا، ولا تنال من بهائه كل ألوان الرزايا مهما ثقلت وتراكمت، وأعني ذلك اليوم الذي رأيت فيه ابنيك قنصلين في آنٍ معًا يُزفَّان من دارك بين تهنئة القناصل وتهليل الجماهير، إذ جلسا على مقاعد المجد بينما تُلقي أنت خطاب التهنئة إلى الملك، وتنتزع الإعجاب لبلاغتك ونبوغك، في اليوم نفسه جلست في المدرج Circus بين القنصلين، في عرضٍ فخمٍ يليق بقائدٍ منتصر، تتلقى الحفاوة وتسعد الجماهير التي احتشدت حولك في شغفٍ وترقب.
أرى أنك قد أغلظت القول لإلهة الحظ Fortuna، لقد طالما لاطفتك ودلَّلتك كمعشوقٍ لها، وغمرتك بما لم تغمر به أحدًا من قبلك، هل لك أن تراجع حساباتها وتوازن بين ما أعطَت وما أخذت؟ هذه هي المرة الأولى التي ترمقُك فيها بالنظر الشَّزر، ولو أحصيت أوقات الشقاء، من حيث الكم والكيف، فلن يسعك أن تنكر أنك كنت امرءًا سعيدًا حتى الآن، أما إن كنت تنكر ذلك باعتبار زوال هنائك الذي مضى وفوات سعدك وانقضاء أسبابه، فليس لك أن تدَّعي رغم ذلك أنك الآن شقيٌّ بائس؛ لأن نفس الأشياء التي تراها بؤسًا هي أيضًا أشياء عابرةٌ ككل شيء آخر، هل أنت غريبٌ عن الحياة وافدٌ على مسرحها لأول مرة غير ملمٌّ بمشهدها وغير مدركٍ لأمرها؟ أتظن أن هناك أي دوامٍ لأي حال من أحوال البشر، وأنت تعلم أن هناك لحظةً مفردةً وشيكةً سوف تأتي على المرء وتمحوه محوًا؟ فرغم أن حظوظ الحياة قلما تدوم لأحد، فإن اليوم الأخير من عمر المرء فيه نوعٌ من الموت لإلهة الحظ حتى إذا لازمته وبقيت معه، أيُّ فرقٍ إذن بين أن تهجرها أنت بالموت وأن تهجرك هي بالفرار؟!١
عندما تشرع الشمس بعربتها الوردية
في نشر ضيائها،
تكسف النجوم أمام ألقها الوهاج،
عندما ينسم ريح الغرب الدافئ
يكسو الرياض بورود الربيع الحمراء،
ثم لا تلبث ريح الشمال الملبَّدة أن تعصف،
فيذهب الجمال ولا يبقى منه غير الشوك
البحر يتألق تارةً في هدوء
ساجي الموج رائقًا،
وطورًا تضربُه ريحُ الشمال،
وتثير عليه الأعاصير الغاضبة،
إذا كان الكون نفسُه متقلبًا
لا يَثبُت على حال،
فكيف تضع ثقتك في عرض الدنيا،
ويقينك في النعيم الزائل،
مكتوبٌ في القانون الأزلي
ما من شيء مخلوقٍ له صفة الدوام.
١  في معنى قريبٍ، وإن اختلف السياقُ اختلافًا بعيدًا، يقول صديقنا طيبُ الذكر د. محمد راضي: «وقد علَّمني زمني ألا أنظر إليه جملةً، نظري إلى النسيج المتصل في الثوب الواحد، فما شجاعة الحياة إلا في قدرة المرء على اقتطاع ما أراد من زمنه حتى يملك فضيلة التسامح وشيمة الصَّفح، فكيف يَسعُنا أن نغفر لمن صادفونا في رحلة الحياة ما أخرت لنا أيديهم من شقاءٍ في زمنٍ لاحقٍ بما قدمت من نعيمٍ في زمنٍ سابقٍ إلا إذا أوتينا نعمة الاقتطاع من تيار الزمن؟» (أ.د. محمد صبري راضي، حوليات قلبٍ مغوار، تحفة روائية غير منشورة).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤