الفصل السادس

المنصب والسلطة

وماذا عساي أن أقول عن السلطة والمنصب، اللذين يطاولان السماء في نظركم، لأنكم لا تعرفون السلطان والمنصب الحقيقيين، وهل بِوسع الحمم المتفجِّرة من بركان إتنا، أو بوسع السيل العرم، أن يسبِّب من الخراب ما يسببه هذان حين يقعان في أيدي الأشرار؟ ألا تذكر كيف سعى أسلافنا إلى إلغاء سلطة القناصل، التي كانت أُس الحرية ذاته، لما وجدوه من غرور القناصل؟ مثلما محوا لقب «ملك» من قبل لما وجدوه من غرور الملوك، فإذا تصادف، في حالاتٍ شديدة الندرة، أن تقع هذه المناصب لرجالٍ أمناء، فلا شك أن الخير الوحيد فيها إذَّاك هو أمانة الرجال الذين يتولون المناصب، يترتب على ذلك أن الشرف لا يأتي إلى الشريف من المنصب، بل يأتي إلى المنصب من الشريف.

فإلى متى يغريكم بريقُ السلطة؟ انظروا، يا أبناء الفناء، على من تريدون أن تمارسوا سُلطتكم، أليس يثير ضحككم أن تروا مجتمعًا من الجرذان وقد انبرى جُرَذٌ منهم يدَّعي لنفسه حق التسلط عليهم والتحكم في شئونهم؟ ثم انظروا إلى الجسد الإنساني هل وجدتم ما هو أضعف وأوهى من الإنسان: ألا تكفي لدغة حشرةٍ ضئيلة، أو انسرابها في داخله، إلى القضاء عليه؟ وهل يمكن لأحدٍ أن يمارس تسلطه على شيء سوى الجسد وما هو أدنى من الجسد — الممتلكات؟ هل بمقدورك أن تفرض أي قانون على الروح الحرة؟ أو أن تزحزح عقلًا متماسكًا عن سكينته وثباته؟ ألا تَذكُر ذلك الطاغية الذي ظنَّ أنه يمكنه بالتعذيب أن يُرغم رجلًا حرًّا على أن يشي بشركائه في المؤامرة المنسوبة إليه، فما كان من الرجل سوى أن عضَّ لسانه وبصقه في وجه الطاغية؟ لقد حسب الطاغية أن التعذيب مناسبةٌ للبطش، فجعله الرجل مناسبةً للبطولة.١
وهل ثمة شيءٌ يمكن أن توقعه بأحدٍ وأنت بمأمنٍ ألا يقع لك يومًا على يد شخصٍ آخر؟ إننا لَنَذكر كيف دأب الملك المصري بوزيريس Busiris٢ على قتل الأجانب، حتى ذاق هو نفسه الموت على يد أجنبيٍّ هو هرقل، ونذكر في الحرب البونية (= الفينيقية) الأولى القائد ريجولوس Regulus٣ الذي وضع الأغلال في أعناق كثيرٍ من الأسرى القرطاجنيين، فما عتَّم بعد ذلك أن وقع أسيرًا لديهم وأسلم نفسه لأغلالهم، أية سلطةٍ هذه التي لا يأمن صاحبُها أن ينزل به ما أنزلَه بغَيره؟

لو كانت المناصب والسلطات خيرًا بطبيعتها وفي ذاتها لما وقعت في أيدي الأشرار، فالأضداد لا تجتمع أبدًا، والطبيعة لا تسمح للنقيض بأن يتصل بنقيضه، ومما لا شك فيه أن أسوأ الناس هم من يتولون المناصب في أغلب الأحيان، من الواضح إذن أن المناصب ليست خيرًا في ذاتها؛ لأنه ليس خيرًا بذاته ذلك الذي يرتبط بالأشرار ويُسلِم نفسه لهم.

والشيء نفسه ينسحب على ألوان الحظ الأخرى، التي تقع أكثر ما تقع في أيدي أشد الناس خبثًا وشرًّا.

ثمة نقطةٌ أخرى في هذا الصدد: لا شك أن الشخص يكون شجاعًا إذا وُجِدت فيه أمارات الشجاعة، ويكون سريعًا إذا تمتع بصفة السرعة، كذلك الموسيقى تجعل منه موسيقيًّا، والطب يجعله طبيبًا، والبلاغة تجعله خطيبًا؛ لأن من طبيعة كل شيءٍ أن يؤدي الدور الملائم له، ولا يختلط بأدوار أشياء أخرى مناقضة، بل يرفض الأضداد في حقيقة الأمر، غير أن الثروة لا يمكن أن تروي غُلَّة الجشع، والسلطة لا تجعل من المرء سيدًا على نفسه إذا كان يَرسُف في أغلال شهواته، وعندما يُوَسَّد المنصب إلى غير أهله، فإنه لا يجعل منه أهلًا على الإطلاق وإنما يفضحه لا أكثر ويكشف عجزه وتفاهته، لماذا كان ذلك؟ لأنكم تحبون أن تُسَمُّوا الأشياء بأسماءٍ زائفة لا تخصُّها، وسرعان ما ترفضها على المحكِّ خصائصها الحقيقية؛ لذلك فلا الثروة ولا السلطة ولا المنصب يَصِح أن تُسمَّى بهذه الأسماء، والنتيجة نفسها تنسحب على الحظ ككل، فليس فيه شيءٌ يستحق عناء السعي، وليس فيه أي شيء من الخير الذاتي، ذلك أنه لا يَئول دائمًا إلى الأخيار، ولا يجعل ممن يؤول إليهم أخيارًا.

إننا نعرف الخرابَ الذي أحدثه نيرون،
عندما أحرق روما وذبح القناصل،
ونعرف كيف قَتل أخاه بيده،
وكيف تقطَّر بدم أمه المُهراق،
وأخذ يُجيل في الجثمان عينًا خبيرة
دون أن تندَّ دمعةٌ ترطب خدَّه،
ذوَّاقة بارد يتأمل الجمال البارد،٤
كان مُلْكُه يمتد من مَشرِق الأرض إلى مغربها،
ومن شمالها القارس
إلى جنوبها المُتلظِّي،
فهل استطاع السلطان الرفيع
أن يكبح جنون نيرون المسعور؟
يا له من قدرٍ وخيم
حين تجتمع السلطة والقسوة،
ويُضاف السيف الظالم
للباطش الهمجي.
١  لا يذكر بوئثيوس اسم الطاغية ولا اسم الفيلسوف، وقد روى ديوجينيس لا إرتيوس قصة أكثر من فيلسوف عضَّ لسانه وبصقه في وجه الطاغية، وقد أشرنا إلى ذلك في حاشيةٍ سابقة.
٢  بوزيريس، في الميثولوجيا اليونانية، ملكٌ مصري دأب على أن يضحي إلى زيوس بكل أجنبي يدخل مصر، وقد قُهِر وقُتِل على يد هرقل.
٣  ريجولوس قائد روماني هزمه القرطاجنيون سنة ٢٥٥ق.م في الحرب البونية الأولى، وتروي سجلات التاريخ الروماني أنه ذهب إلى روما بتعهد لكي ينظم عملية تبادل أسرى، فلما فشل في مسعاه عاد إلى قرطاجنة طوعًا وأسلم نفسه للقرطاجنيين وأُعدم تعذيبًا عام ٢٥٠ق.م.
٤  حَكَم نيرون إمبراطوريةً رومانية واسعة من عام ٥٤ إلى ٦٨م، وقد أمر بقتل أخيه (غير الشقيق) بريتانيكوس وأمه أجريبينا، ويُروَى أنه بعد قتل أمه جعل يتفحَّص جثتها ويتأملها ويُثني على جمالها وهيئتها!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤