الفصل الحادي عشر

كل شيء يبتغي الخير

ب : «لا يَسَعني إلا أن أوافقَك، فكلُّ الذي قلته يقف متماسكًا يترابط بعضُه ببعضٍ بأوثق البراهين.»
ف : «كم تكون قيمته عندكَ إذا قادك إلى معرفة الخير ذاته؟»
ب : «سأعُدُّه ذا قيمةٍ مطلقة إذا مكَّنني أيضًا أن أرى الله، الذي هو الخير.»
ف : «سأجعل قولي واضحًا ببرهانٍ لا يناله الشك، شريطة أن تلتزم بما خلصنا إليه منذ قليل.»
ب : «سألتزم.»
ف : «لقد أثبتنا أن مختلف الأشياء التي يسعى إليها معظم الناس ليست كاملةً وليست خيرًا؛ لأنها مختلفةٌ بعضها عن بعض ويفتقر بعضها إلى بعض ولا يمكنها أن تُسبغَ على المرء خيرًا تامًّا مكتملًا، وقلنا، من جهةٍ أخرى، إن الخير الحقيقي يتأتَّى حقًّا إذا انضمت معًا في شكلٍ واحدٍ وقوةٍ فاعلة بحيث يتماهى الاكتفاءُ مع القوة والشرف والمجد واللذة، وما لم تكن جميعًا شيئًا واحدًا، وتكن كلُّها الشيء نفسه، فلن تستحقَ أن تُدرج بين الأشياء الجديرة بالسعي.»
ب : «لقد أثبت ذلك بما لا يَدَع مجالًا للشك.»
ف : «عندما تختلف هذه الأشياء وتتباين لا تكون خيرًا، ولكن عندما تشرع في أن تكون واحدًا تصبح خيرًا، يتبين من ذلك أنه إنما من خلال اكتسابها الوحدة تكون هذه الأشياء خيرًا، أليس كذلك؟»
ب : «بلى، يبدو ذلك.»
ف : «ولكن أتوافق أم لا على أن كل شيءٍ خيِّرٍ يُعَد خيرًا من خلال مشاركته في الخيرية؟»
ب : «أوافق تمامًا.»
ف : «إذن أنت مضطرٌّ إلى أن توافق بنفس القياس على أن الوحدة والخيرية متماهيتان؛ لأن الأشياء التي يتماهى تأثيرها الطبيعي لا بد من أن يكون لها الجوهر نفسه.»
ب : «لا يسعني أن أنكر ذلك.»
ف : «أنت تعرف إذن أن كل شيء في الوجود يبقى ويدوم ما دام واحدًا، فإذا لم يَعُد واحدًا فإنه لا يلبث أن يهلك ويتبدَّد.»
ب : «كيف ذاك؟»
ف : «تمامًا مثلما هو الحال في الكائنات الحية: إذا التقى الروح والجسم وبقيا متحدين نكون بإزاء كائنٍ حي، أما إذا تَفَسَّخت هذه الوحدة بانفصال أيِّ مُكوِّنٍ، فمن الواضح أن الكائن يهلك ولا يعود موجودًا، ينطبق الأمر أيضًا على الجسد نفسه: فما دام محتفظًا بهيئةٍ واحدةٍ من خلال اتحاد أعضائه فأنت ترى صورةً بشرية، أما إذا تفرقت الأجزاء وانفصلت وانحَطَمَت وحدة الجسم فإنه لا يعود ما كان، وبوسعك أن تستعرض كلَّ شيء وسيكون واضحًا لك من دون أي ظلٍّ من الشك أن كل شيءٍ يبقى ما دام واحدًا ويزول بزوال وحدته.»
ب : «نعم، بوسعي أن أُعدِّد كثيرًا من الأشياء التي ينطبق عليها ذلك.»
ف : «والآن، هل هناك شيءٌ يفقد خلال مسعاه الطبيعي إرادة البقاء ويرغب في الموت والفساد؟»
ب : «في حدود المخلوقات الحية التي تتمتع في طبيعتها بالإرادة لا أعرف في أيٍّ منها أي رغبةٍ في التخلي عن عزمها على البقاء كما هي، أو في التعجيل بالموت، ما لم ترغمها على ذلك قوى خارجيةٌ قاهرة، فما من حيٍّ إلا يجهد للبقاء ويتجنبُ الموتَ والهلاك، أما بالنسبة للشجر والنبات فيخالجني الشك فيما ينبغي أن أُقرَّه بشأنها.»
ف : «وحتى في هذه الحالة ليس هناك مجالٌ للتردد، فأنت ترى كيف ينمو الشجر والنبات في الأماكن الملائمة له، وكيف يَذوِي سريعًا ويموت إذا لم يلائمه المكان، منه ما ينمو في الحقول، وما ينمو في الجبال، والبعض تغذوه المستنقعات، والبعض يتعلق بالصخور والبعض يترعرع في الصحاري المقفرة فإذا ما غَرَسته في مكانٍ آخر صُوِّح وذبُل، إن الطبيعة لَتَرأم كلًّا بما يلائمه وتَكُد لتدرأ عنه الموت ما دامت شروط الحياة مواتية.
تأمل كيف تُدبِّر النباتات غذاءها بجذورها، لكأنها تضرب في الأرض أفواهها، وكيف تدبُّ العافية في لبِّها ولحائها، وانظر كيف يتوارى جانبُها الأَرَق، كالعصير، دائمًا إلى الداخل، بينما تتدرَّع بلحاءٍ خارجي له بأس الخشب يَقِيها غوائل الطقس، وانظر مَدَى حرص الطبيعة على أن تَضمَن لكل النباتات استمرارها بإكثار بذورِها، إنها، كما هو معلومٌ جيدًا، أشبه بآلاتٍ منتظمة، ليس لمدة حياتها فحسب، بل لامتداد نوعها وذَراريها إلى الأبد.

حتى الأشياء التي يفترض أنها غير حيةٍ تحافظ جميعًا على نفسها على نحو مماثل، لماذا يعلو اللهب إلى أعلى بخفَّته وتهبط الأجسام الصلبة إلى أسفل بثقلها، إن لم يكن ذلك لملاءمة هذه الأوضاع والحركات لكلٍّ منها؟ وفضلًا عن ذلك، فإنها تحفظ ما هو ملائم لكلِّ شيءٍ مثلما تُدَمِّر ما هو مؤذٍ له، فالأشياء الصلبة، كالحجر، تندمج بتماسكٍ شديدٍ بين أجزائها وتقاوم الانكسار، أما السوائل والهواء والماء، فتستسلم للانقسام وتعود فتلتئم بسهولةٍ مع أجزائها المنفصلة، أما النار فلا يمكن أن تُقطع على الإطلاق.

لَسنا بصَدَد الحركات الإرادية للعقل الواعي، بل الحركات الغريزية للطبيعة، فنحن، على سبيل المثال، نهضم الطعام الذي تناولناه دون أن نعي ذلك، ونتنفس لا شعوريًّا أثناء نومنا، فحُبُّ البقاء حتى في الأشياء الحية ليس مَرَدُّه إلى رغبة العقل بل إلى مبادئ الطبيعة، فكثيرًا ما يَقبَل العقل، تحت تأثير الضغوط الخارجية، فكرة الموت، بينما ترفضُها الطبيعة في وَجَل، ومن جهةٍ أخرى، قد تكبح الإرادة عملية الإنجاب، وهي الطريقة الوحيدة لاستمرار المخلوقات الفانية، بينما ترغب فيها الطبيعة على الدوام، إلى هذا الحد يَنجُم حُبُّ البقاء لا من الرغبة الواعية بل من الغريزة الطبيعية، هكذا مَنَحَت العناية مخلوقاتها سببًا عظيمًا لاستمرار الحياة، وهو الرغبة الغريزية للبقاء على قيد الحياة جهد المستطاع، ومن ثم فليس لك أي مبررٍ للشك في أن جميع الأشياء الكائنة لديها رغبةٌ فطريةٌ في استمرار وجودها وتجنُّب فنائها.»
ب : «أعترف أنني أرى الآن دون أدنى شك ما بدا لي غير يقيني منذ قليل.»
ف : «ولكن، أيما كائنٍ يريد بقاءهُ ودوامَ وجوده فإنه يَوَدُّ أن يكون واحدًا … يريد الوحدة، انتزع الوحدة من الشيء ولن يعود هذا الشيء موجودًا.»
ب : «هذا حق.»
ف : «إذن كل الأشياء ترغب الوحدة؟»
ب : «نعم.»
ف : «ولكننا أثبتنا أن الوحدة تتماهى مع الخير؟»
ب : «نعم.»
ف : «إذن جميع الأشياء ترغب في الخير، بحيث يسعُكَ القول بأن الخيرية هي ما ترغب فيه جميع الأشياء.»
ب : «ليس أصدق من ذلك استنتاجًا، فإما أن تضطرب جميع الأشياء دون وجهة واحدة وتتخبط بلا هدف ولا مرشد، وإما أن هناك شيئًا تتجه إليه جميع الأشياء، وإذا كان ثمة من شيءٍ تكدح إليه الأشياء فسيكون هو أسمى الخير كله.»
ف : «كم أنا سعيدةٌ يا بُني لأنك قَبَضت على جُمع الحقيقة، وبذلك يكون قد انكشف لك ما كنت تقول منذ قليل إنك لا تعرفه.»
ب : «ماذا؟»
ف : «انكشفَ لك ما هو هدف الأشياء جميعًا، فمن المؤكد أنه هو نفسه ما ترغب فيه جميع الأشياء، وبما أننا اتفقنا على أن ما يرغب فيه الجميع هو الخير، فلا مناصَ من أن نتفق على أن الخير هو غاية الأشياء جميعًا.»
من أرادَ أن يبحثَ عن الحقيقة بكُنه الهمَّة،
وألا تُضلَّه السُّبل
فعليه أن يتجه إلى داخله ويوقد نوره الباطن،
وأن يطوي تُرَّهات عقله الطويلة إلى دائرةٍ واحدة،
وأن يعلِّم قلبه أن ما يبغيه في الخارج بالكدِّ والعَنَت،
هو يملكُه بالداخل مَذخورًا في أعماق الروح
هنالك تنقشع غيوم الضلال الكئيبة،
عن الحقيقة المحجوبة، فتتجلَّى أوضحَ من الشمس ذاتها،
فكثافة الجسد التي تُولِّد النسيان
لم تحجب عن العقل الضياء كلَّه،
فبذرة الحقيقة ما تزال تَعلَق هناك،
ويمكن أن تُروِّحها الفلسفة١ وتُوقظ جَذوتَهَا
وإلا فكيف يَسَعُك أن تجيب كلما سُئلت،
وتقول صوابًا
لو لم تكن فيك جذوة
تَئِز بأعماق روحك،٢
ولو صَدَقت ربة الفن عند٣ أفلاطون،
فإن المرءَ لم ينس
إنما هو يُذكِّر نفسه بما يعلَمه.٤
١  أو التعليم.
٢  في محاورة «فيدون» يقول سيبيس: إحدى الحجج الممتازة (على أن التعلم ما هو إلا تذكر لما عرفته النفس في حياةٍ سابقةٍ ثم نسيته) هو أنه حين يسأل الناس، وكان السؤال موضوعًا على النحو الصحيح، فإن بوسعهم أن يقدموا جوابًا صحيحًا تمامًا، ما كان لهم أن يقدموه لو لم تكن لديهم معرفة ما وفهمٌ صحيح للموضوع (اكتسبوه قبل ولادتهم).
٣  أي مصدر وحيه وإلهامه، ربات الفنون المواسي Mousai هي إلهاتٌ تسعٌ تتولى أمر التعلم والفنون، وبخاصة الشعر، وقد دَأَب الكُتَّاب اليونان والرومان على أن يستهلوا قصائدهم بالتماس عون ربات الفن لهم على التأليف والإبداع.
٤  في محاورة «مينون» و«فيدون» يُبيِّن أفلاطون أن التعلم ليس عملية تلقينٍ بسيطة من معلِّم إلى تلميذ، بل عملية توليد معرفة من الداخل كانت الروح قد حازتها قبل ميلاد المرء ولكنها نسيتها، أو، بعبارة أخرى، أن التعلم ما هو إلا تذكُّر لما كانت النفس قد عرفته من قبل اتصالها بالجسد، وفي محاورة «مينون» يُقدم سقراط برهانًا على ذلك بحديثه مع صبي صغير من عبيد مينون، ومن خلال أسئلة بسيطة متدرجة يصل الصبي بنفسه إلى حل المسألة الهندسية المطروحة، وبذلك يثبت لمينون أن إجابات الصبي عن المسألة الهندسية إنما تأتي من داخله:
سقراط: ما رأيك يا مينون؟ هل أجاب بفكرة واحدة لم تخرج منه هو نفسه؟
مينون: كلا.
سقراط: إذن هذه الأفكار كانت موجودةً فيه.
مينون: نعم.
سقراط: إذن، بغير أن يتعلم من أحد شيئًا، بل بمجرد إلقاء الأسئلة عليه، هو يصل إلى معلومات، مستخرجًا العلم بذاته من ذاته.
مينون: نعم.
سقراط: ولكن استخراج المرء العلم من ذاته، أليس هو التذكر؟
مينون: بلى.
سقراط: فإذا لم يكن قد حصل على هذه الأفكار في هذه الحياة، ألا يصبح واضحًا أنه حازها في وقتٍ آخر وتعلمها؟
(انظر محاورة مينون، د. عزت قرني، دار قباء، القاهرة، ٢٠٠١م، ص١٠٣–١٢٣.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤