الخير الأسمى
يرى البعض أن الخير الأسمى هو ألا يحتاجَ المرءُ إلى شيءٍ ولا يَنْقُصَه شيءٌ، ومن ثم فقد غذُّوا السير لامتلاك الثروة الوفيرة، ويرى البعض الآخر أن الخير الحقيقي هو ذلك الذي ينتزِع التبجيل والتوقير، ومن ثم سعوا إلى المنصب الذي يَكفُل لهم احترام مواطنيهم، وقرَّر البعض أن أعلى خيرٍ يكمن في أعلى قوة، ومن ثم فقد سَعَوا إلى أن يصبحوا هم أنفسهم حُكامًا أو أن يكونوا على صلة بمن هو في مواقع السلطة، ويذهب آخرون إلى أن خير شيءٍ هو الشهرة والمجد، ويكدُّون أنفسَهم لبناء اسمٍ كبيرٍ في دنيا الفنون — فنون السلم أو فنون الحرب.
إلا أنهم جميعًا بلا استثناء يَتَّفِقون على أن الخيرَ يُقاس محصوله باللذة والمتعة التي يَجلُبُها، وأن الإنسانَ الأسعد هو إنسانٌ يَتَقلَّب في المتعة.
وهناك بَعْدُ مَن يخلطون بين الغايات والوسائل في هذه الأشياء، كالذي يرغبُ في الثروة من أجل القوة واللذة، أو يرغب في السلطة من أجل المال والمجد.
في هذه الأهداف إذن وفي أمثالها، يكمن الهدفُ من أفعال البشر ومَهْوَى قلوبهم: الشهرة والشعبية التي تضفي نوعًا من التميز، أو الزوجة والأبناء، وهي ما يطلبه الرجال من أجل المتعة التي تمنحها، أما عن الصداقة فإن الصنف النقيَّ النزيه منها يُعَد أعلى ضروب الخير وأقدسها، وما عدا ذلك يلحق بالرغبة في القوة أو التسلية.
من الواضح أيضًا أن المزايا الجسدية قد تُنْسب إلى ضروب الخير السابقة: فقوة الجسم وحجمه يمنح الرجل بأسًا، والجمال والسرعة تمنحانه الشهرة، والصحة تمنحه المتعة.
ولكن لِنَعُد إلى نزعات الناس: إن عقولهم تبدو ساعيةً إلى أسمى خير، وذاكرتهم تبدو كليلةً، فهم أشبه برجلٍ ثملٍ يريد العودة إلى بيته ولكنه لا يتذكر الطريق إليه، لا يمكن لأحدٍ أن يقولَ إنَّ مَن يسعون إلى سد جميع احتياجاتهم هم على خطأ، فالحق أنه ليس أدْعَى إلى السعادة من حالةٍ تتوافر فيها للمرء كل الخيرات ويتحقق له فيها الاكتفاء وانتفاء الحاجة، ولا أحد يمكن أن يُخطِّئ مَن يَرَون أن أحظى الناس بالتبجيل والتوقير هو أفضلهم، فالجلال والرِّفعة ليسا بالشيء الهمل وبلوغُهما هو هدفٌ يكدح إليه كل البشر تقريبًا.
السلطة أيضًا ينبغي أن تُعَد ضمن الأشياء الخيِّرة، فمن ذا الذي يقول إنَّ الشيء الذي يسلِّم الجميع بأنه أعلى الأشياء قاطبةً هو شيءٌ هينٌ أو واهٍ؟
والشهرة كذلك لا يمكن إغفال قيمتها؛ لأن كل ما هو عظيم الامتياز هو أيضًا عظيم الشهرة.
ومن فضول القول إن السعادة هي حالةٌ تخلو من الهم والحزن والأسى والمعاناة، إذ إنه حتى في أصغر الأمور يسعى المرء إلى ما يَبهَج به ويستمتع.
تلك إذن هي الأشياء التي يَتُوق الناس إليها: الثروة، مناصب الشرف، المُلك، المجد، المتعة، وهم يَتُوقون إليها لأنهم يَرَون أنهم من خلالها سوف يجدون الإشباع والاعتبار والسلطة والمجد والسعادة، هذا هو الخير الذي يبحث عنه الناس في مساعيهم المتنوعة، وليس من العسير أن تكشف دور الطبيعة في ذلك، فعلى الرغم من تنوع آراء الناس واختلاف مشاربهم فإنهم جميعًا على اتفاقٍ في الهدف الذي ينشدونه، وهو الخير الأسمى.
•••
•••
•••
•••
•••