الفصل الخامس

الملك والسلطة

«هل المُلك أو صداقة الملوك تمنح المرءَ قوةً؟» إذا كان الجواب هو «نعم؛ لأن سعادتهم دائمة لا تنقطع» فسوف أجيبه بأن التاريخ الماضي، والحاضر أيضًا، يَعجُّ بأمثلةٍ لملوكٍ تبدَّلت سعادتهم نكباتٍ، فما أروع السلطة، التي يتكشَّف أنها عاجزةٌ حتى عن أن تحفظ نفسها!

ولكن إذا كانت هذه السلطة المُلكية تجلب السعادة حقًّا فإن أي نقصان فيها يعني انحسارًا للسعادة وبدايةً للشقاء، أليس كذلك؟ ومهما اتسعت الإمبراطوريات فمن المحتم أن يبقى كثيرٌ من الناس خارج نطاق أي ملك، وحيثما انتهت القوة التي تجلب للناس السعادة دبَّ فيهم الضعف وسبَّب لهم الشقاء، ومِن ثَمَّ فلا بد أن هناك قسطًا أكبر من الشقاء لدى الملوك، كان الطاغية ديونيسيوس  Dionysius يعرف جيدًا مخاطر المُلك، إذ أخذ يمثِّلها لداموقليس Damocles بأن جعل سيفًا يتدلَّى فوق رأسه معلقًا بشعرةٍ واحدة.١

فأي سلطةٍ هذه التي لا تستطيع أن تُسكت هواجس القلق أو تتخلص من وخزات الخوف؟ يود الملوك أن يعيشوا من دون خوف، ولكن لا يستطيعون، ومع ذلك يتباهون بسلطتهم! هل تَعُده قويًّا ذلك الذي تراه يتمنى شيئًا لا يستطيع بلوغه؟ أو هل تعده قويًّا ذلك الذي لا يمشي إلا مخفورًا بحرسٍ لأنه أشد خوفًا من رَعِيته الذين يُرهبهم، والذي لا بد له، لكي يبدو قويًّا، من أن يعيش تحت رحمة من يخدمونه؟

وإذا كان المُلْك نفسه على هذا القدر من الضعف فما بالُك بالحاشية والبلاط؟ إنهم منكوبون بالملك لا في حالة سقوطه فحسب، بل وفي ظلِّه وذَراه! ألم يُرغم نيرون صَفِيَّه ومعلِّمه سينيكا Seneca على اختيار الميتة التي يرضاها؟٢ وبابينيانوس Papinianus الذي كان ذا نفوذٍ طويلٍ في البلاط، ألم يُسلمه الإمبراطور أنطونينوس كاركالا A. Carcalla لسيوف جنده؟٣ لقد أراد كلاهما أن يتنازلَ عن سلطته، بل لقد حاول سنكا أن يعطي ثروتَه لنيرون ويحال إلى التقاعد، ولكن لم يَنَل أيٌّ منهما مَأْرَبه، وهوت به ثروته ونفوذُه إلى الهلاك مثلما يهوي بالشيء ثِقلُه ووزنُه.
أي سلطة هذه التي تَبُث الخوف في نفوس أصحابها، إن رغبت فيها لم تمنحْك الأمان، وإن رغبت عنها لم تتركك وشأنك؟ ولن ينفعَك إذَّاك أيُّ صديقٍ ربَطَته بك ثروتُك لا فضيلتك، فصديقُك في السراء ينقلب عدوًّا في الضراء، وليس أقدر على الأذى من صديقٍ انقلب عدوًّا.٤
من يُرِد أن يكون ذا سلطانٍ حقيقي
فلْيَبْسُط سلطانه أولًا على نفسِه٥
ولا يَخضَع لِحُكم أهوائه،
ويستسلم لنيرها المُوبِق،
قد تعنو الأرضُ لحُكْمِك،
فترتعد له أقاصي الهند،
وتنحني «ثولي» خضوعًا،
ولكن، ما دُمتَ لا تستطيعُ أن تطردَ الهمومَ السود،
ولا أن تنفي الهواجسَ المعذِّبة
فلستَ بملكٍ بل عبد!٦
١  يُروَى أن ديونيسيوس طاغية سيراقوسة (٤٣٠–٣٦٧ق.م) أراد ذات يومٍ أن يضرب لتابعه داموقليس مثلًا لحياة الملوك الحقيقية وهوانها وهشاشتها، بعد أن بالغ داموقليس في إطراء حظه وسعادته، فدعاه إلى مائدةٍ فخمة حافلة بما لذَّ وطاب، على أن يجلس عليها وقد تَدَلَّى فوق رأسه سيفٌ حادٌّ معلَّقٌ بشعرة حصان.
٢  كان سينيكا معلم نيرون في صباه ثم مستشاره حين صار إمبراطورًا، وحدث من فظائع نيرون ما هو مشهور من تقتيل وتشريد، وكتب سينيكا إلى نيرون كتابًا أسماه «الرحمة» … وفكر سينيكا آخر الأمر في أن يعتزل الحياة العامة، وأراد النزول عن جميع أملاكه، فأبى عليه ذلك نيرون، واتهم الفيلسوف بالاشتراك في مؤامرة سياسية، وأُجبر على الانتحار بأمر نيرون، ورغبت زوجة سينيكا أن تموت معه، واجتمع أصدقاؤهما، وقطع سينيكا شريانًا من شرايين ذراعه، وكذلك فعلت زوجته، وشرع سينيكا يلقي خطبةً من أبلغ خطبه على جمعٍ من رفاقه والدم يسيل من جراحه، حتى مات، أما امرأة سينيكا فعولجت بأمر الإمبراطور حتى شفيت من جراحها («حوليات» ثاكيتوس، انظر «الفلسفة الرواقية» للدكتور عثمان أمين، مكتبة الأنجلو، القاهرة، ١٩٧١م، ص٢٣٠-٢٣١).
٣  كان إيميلوس بابينيانوس واحدًا من أعظم القانونيين الرومان، وقد أعدمه الإمبراطور كاركالا عام ٢١٢م.
٤  يقول الشاعر العربي في ذلك المعنى:
احذَر عدوَّك مرةً واحْذَر صديقَك ألف مرة
فلربما انقَلَب الصديق وكان أعلَمَ بالمضرَّة
ويقول ابن الرومي:
عدوُّك من صديقك مستفادٌ
فلا تستكثرَنَّ من الصِّحاب
فإن الداء أكثر ما تراه
يَحُول من الطعام أو الشراب
إذا انقَلَب الصديق غدًا عدوًّا
مُبينًا والأمورُ إلى انقلاب
٥  يقول أفلاطون في «الجمهورية»: «الطاغية هو أشقى الناس وأشدهم عبوديةً؛ لأنه يتصدى لحكم الآخرين في الوقت الذي يعجز فيه عن حكم نفسه» (الجمهورية ٥٧٦، ٥٧٩).
٦  أو «عَبْد في الأُرجُوان» على حد تعبير إبيكتيتوس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤