الفصل التاسع
وحدة الخير الحقيقي
«لعلَّني الآن قد عرضتُ لك صورةَ السعادة الزائفة عرضًا وافيًا، فإذا كنت قد
تَبيَّنتَها بوضوحٍ فإن مهمتي التالية هي أن أبيِّنَ لك ماذا تكون السعادةُ
الحقة.»
قلت: «إنني أرى حقًّا أن الثروة لا تُغْني، وأن القوة لا شأن لها بالمُلك، ولا
الاحترام بالمنصب، وأن المجد الحقيقي ليس بالشهرة، والسعادةَ الحقيقية ليست نتاجَ
الملذات.»
ف
:
«ولكن هل فهمتَ السبب وراء ذلك؟»
ب
:
«أظن أن لديَّ فكرةً غائمةً عنها، ولكني أوَدُّ أن أتعَلَّم منك بوضوحٍ
أكبر.»
ف
:
«السبب في غاية الوضوح: يكمن خطأ الإنسان في أنه يأخذ ما هو بسيطٌ وغير قابلٍ
للانقسام فيحاول تقسيمه، فيُحِيل حقيقته إلى زيفٍ وكماله إلى نقص، قل: هل يمكن
أن نَصِف الشيء الذي يكتفي بذاته ولا يحتاج إلى غيره بأنه بلا قوة؟»
ب
:
«كلا، على الإطلاق.»
ف
:
«بالطبع لا؛ لأنه إذا كان به ضعفٌ ما في جانبٍ من الجوانب لاحتاج بالضرورة
إلى عون شيءٍ آخر.»
ب
:
«هو ذاك.»
ف
:
«إذن الاكتفاء والقوةُ شيءٌ واحد، وطبيعةٌ واحدة؟»
ب
:
«يبدو ذلك.»
ف
:
«أترى كائنًا بهذا الحال جديرًا بالاحتقار أم، على العكس، جديرًا بكل
احترام؟»
ب
:
«بكل احترام من دون أدنى شك.»
ف
:
«إذن دعني أضيف حالةَ الاحترام إلى الاكتفاء والقوة، بحيث تكون ثلاثتها شيئًا
واحدًا.»
ب
:
«لا بدَّ من ذلك إن كنا ننشُدُ الحقيقة.»
ف
:
«ما ظنَّك إذن بمثل هذا التضام؟ أيكون خاملًا أو نكرةً، أم يكون ذا صيت
وشهرة؟ إذا سلَّمت بأنه لا يُعوزه شيءٌ، وأنه يمتلك كل القوة، وأنه جديرٌ بكل
الاحترام، أيمكن إذَّاك أن يعوِزَه أيُّ مجدٍ يحوزه لنفسه فيُستهان به من أي
جهة؟»
ب
:
«كلا، بل لا يَسَعُني إلا أن أسلِّم بمجده أيضًا.»
ف
:
«يترتب على ذلك أن الصيت والمجد والسمعة لا تختلف عن الثلاث
الأُخريات؟»
ب
:
«نعم.»
ف
:
«إذن، إذا كان ثمة كائنٌ مكتفٍ بذاته، قادرٌ على تحقيق كل شيء بقدراته
الخاصة، مجيدٌ، وجديرٌ بالاحترام، فمن المؤكد أنه سيكون مفعمًا
بالسعادة؟»
ب
:
«ومن أين يتسللُ الأسى إلى مثل هذا الكائن؟ فلا بد أن نسلِّم، ما دام محتفظًا
بصفاته الأخرى، بأنه مفعَمٌ بالسعادة.»
ف
:
«ولنفس السبب فلا فكاكَ من هذه النتيجة أيضًا: الاكتفاء، والقوة، والمجد،
والاحترام، والسعادة، تختلف في الاسم ولكن لا تختلف في الجوهر؟»
ب
:
«نعم.»
ف
:
«إذن حين يعمد البشر بحماقتهم إلى تَجزِيء ما هو بطبيعته واحدٌ وبسيط، وإلى
تحصيل جزءٍ من شيءٍ لا أجزاء له، فإنهم لا يحصلون على الجزء — الذي لا وجود له،
ولا على الكل — الذي لا يولونه اهتمامًا.»
ب
:
«وكيف يحدث ذلك؟»
ف
:
«حين يسعى امرؤٌ إلى الثروة بأن يحاول أن يتجنب الفقر، فإنه لا يعمل على نيل
القوة، وهو يُفضِّل أن يكون مغمورًا وخاملًا، بل ويحرِم نفسه من مَسَرَّات
الطبيعة لكي لا يفقد المال الذي حازه، ولكن من المؤكد أنه لا يحقِّق اكتفاءً
بهذه الطريقة، إذ هو مفتقرٌ إلى النفوذ ومعرضٌ للمضايقات، وهو قليلُ الشأن لأنه
قليل الاعتبار مغمورٌ خاملٌ نكرة، وإذا سعى امرؤٌ إلى السلطة وحدها فإنه
يُبدِّد المال ويُضحِّي بالثروة، ويحتقر المسرات والشرف ويرى المجد غير ذي
قيمة، ولكن بوسعك أن ترى كم يخسر هذا الشخص:
تُعْوِزُه دومًا ضرورات الحياة، ويتملكه القلق ويستبد به، فيفتقد السلطة أيضًا
التي يريدها فوق كل شيء، والشيء نفسه ينطبق على الشرف والمجد والملذات، فكلها
سواء، ومن ثم فإن الذي يسعى إلى واحدةٍ منها بحيث يُقصِي الأخريات لن يظفر حتى
بالتي يسعى إليها.»
ب
:
«ماذا إذن لو أراد شخصٌ ما أن يظفر بهن جميعًا في الوقت نفسه؟»
ف
:
«عندئذٍ سيكون راغبًا في مجموع السعادة، ولكن أتظنُّ أنه واجدها بين هذه
الأشياء التي أثبتنا أنها عاجزةٌ عن أن تقدمَ ما تَعِد به؟»
ب
:
«لا.»
ف
:
«من المحال إذن أن يجد السعادة في هذه الأشياء التي يظن أنها تحقق كلًّا من
الحالات المطلوبة على حدة؟»
ب
:
«صدقت، ولا يمكن أن يقال ما هو أصدق من ذلك.»
ف
:
«لديك إذن طبيعة السعادة الزائفة وسببها معًا، فلتُحوِّل نظرتك الآن في
الاتجاه المقابل ولسوف ترى لتوِّك السعادة الحقيقية التي وَعَدت بأن أبينَها
لك.»
ب
:
«إنها لواضحةٌ حتى لمن هو أعمى، ولقد كشفتها الآن عندما كنت تحاولين الكشف عن
أسباب السعادة الزائفة، فالسعادة الحقيقية والكاملة، إن لم يجانبني الصواب، هي
ذلك الذي يجعل الإنسان مكتفيًا وقويًّا وجديرًا بالاحترام ومجيدًا ومبتهجًا،
ولكي أثبت لك أنني على فهمٍ عميقٍ للأمر، أقول إن بوسعي، دون أدنى شك، أن أرى
أن هذه هي السعادة الحقيقية التي يمكن أن تُضفي بالفعل أيَّ واحدة من هذه
الحالات، حيث إنها جميعًا شيءٌ واحد.»
ف
:
«بُوركت يا بُني، فقط أريد أن أضيف شيئًا واحدًا.»
ب
:
«ما هو؟»
ف
:
«هل تعتقد أن في حياة الفانين الزائلين أي شيءٍ يمكن أن يمنح هذه
الحالة؟»
ب
:
«لا أعتقد، وقد بينت ذلك على أتم وجه.»
ف
:
«من الواضح إذن أن هذه الأشياء تقدم للإنسان ظلال الخير الحقيقي فحسب، أو
نعمًا منقوصةً لا غناء فيها، ولا تُقرِّبه إلى الخير الحقيقي والكامل.»
ب
:
«نعم.»
ف
:
«وما دمت قد أدركت طبيعة السعادة الحقيقية ورأيت تقليداتها الزائفة، يبقى
الآن أن ترى أين تُلتمَس هذه السعادة الحقيقية.»
ب
:
«وهو ذات الشيء الذي طال اشتياقي إلى رؤيته.»
ف
:
«ولكن عون الله لا بد من أن يُطلب في الأمور الصغيرة والكبيرة كما قال تلميذي
أفلاطون في محاورة طيماوس Timoeus١ فماذا، في اعتقادك، ينبغي علينا أن نفعله الآن، حتى نكون جديرين
باكتشاف مصدر هذا الخير الأسمى؟»
ب
:
«ينبغي أن نبتهل إلى أبي الأشياء جميعًا، فبدون ذلك لا يُستهلُّ عملٌ ولا
يُشمَّر لأمر.»
قالت: «حقًّا»، وأنشأت تغني:
يا من تُدبر الأمر بقانونٍ سرمد،
خالق الأرض والسماء،
يا من أتيت بالزمان من الأزل،
يا من تُحرِّك كل شيء ولا تتبدَّل
لم يكن شيءٌ يرغمك على أن تصوغَ كتلةَ المادة المتقلبة،
ولكن فيك يقبع مثال الخير الأسمى،
فبرأت كلَّ الأشياء وفق مثالك العلوي
أنت، أيها الجمال الأسمى، في عقلك تحمل العالم الجميل،
وتُشكِّله على ذاك المثال،
آمرًا الأجزاء التامة الخلق أن تستوي كلًّا تامًّا،
تضم العناصر معًا بانسجامٍ وتسلُكُها في نظام؛
فيتوازن الشيء بنقيضه: الحار بالبارد، والرطب باليابس،
وعن الحدِّ لا تخفُّ النار،
ولا التراب يَثقل
خلقت الروح ثلاثية الطبيعة وسيطًا بين العقل والأجسام المادية
تتخلل جنبات الطبيعة،
وما أن انفصلَت الروح حتى اتخذَت مسارَها في دائرتين
لَفَّت وعادت إلى ذاتها، مُحوِّطةً العقل
وأدارت قبة السماء بنفس الطريقة،
ومن عللٍ مماثلةٍ برأت الأرواح والحيوات الأدنى،
التي نَثَرتها من الأعالي في مركباتٍ رشيقة
خلال السماء والأرض،
وهي تكدح بقانونك السمح لتعود إليك في النهاية
خلال النار التي تعيدها إلى دارها.
•••
هب لنا يا أبانا أن تصعد عقولنا إلى عرشك الأجل،
وأن نرى نبع الخير الحق،
واجعل لنا نورًا ننظر إليك بعيونٍ مبصرة،
بدِّد الغيوم الثِّقال لهذا العالم المادي،
تَجَلَّ لنا في بهائك كلِّه فأنت العدل،
وأنت السلام والسكينة للعابدين،
رؤيا جلالك هي منتهى أمانينا،
أنت مُبدِئنا وبارئنا ومولانا وطريقُنا وغايتنا.