الفصل السابع

كلُّ قدرٍ خير

ف : «أترى الآن ما يُفضِي إليه كلُّ ما قلناه؟»
ب : «ما هو؟»
ف : «كلُّ نصيبٍ هو بالضرورة خير.»
ب : «وكيف يكون ذلك؟»
ف : «أصغ، كلُّ حظٍّ سواء أكان يسرًا أم عسرًا إنما يتغيَّا أن يُكافئ الصالحين أو يَعِظَهم، وأن يعاقب الأشرار أو يُقوِّمهم، ومن الواضح إذن أن كلَّ ما يجري به القضاء هو عدلٌ ونفعٌ، وكل نصيبٍ هو خيرٌ على اليقين.»
ب : «الحق أن حجتَك صائبةٌ جدًّا، وإذا نظرت إلى العناية أو القدر بالطريقة التي ألقيتها على سمعي الآن فإن رأيك يكون قائمًا على أساسٍ وطيدٍ، ولكن دعينا، إذا تَفَضَّلت، ندرجها بين تلك الآراء التي أسمَيتها منذ قليل بالآراء التي «لا يمكن تصورها».»
ف : «لماذا؟»
ب : «لأنَّ من الأقوال الشائعة بين الناس، والمتواترة بكثرةٍ في الحقيقة، أن بعض الناس سيئ الحظ.»
ف : «أتريد إذن أن نقتربَ من حديث الناس اليومي لئلا نبدو كأننا ابتعدنا كثيرًا عن الخبرة البشرية؟»
ب : «نعم، مِن فضلك.»
ف : «حسن، ألا تعتبر أن الشيء النافع والمفيد هو خير؟»
ب : «بلى.»
ف : «والحظ الذي من شأنه أن يَعِظ أو يُقوِّم، ألا تعتبره مفيدًا؟»
ب : «بلى.»
ف : «وبالتالي خيرًا؟»
ب : «يتعيَّن ذلك.»
ف : «وهذا الحظ هو إما للذين يَمضون بثبات على طريق الفضيلة ويناضلون ضد مصاعبهم، وإما للذين تركوا الرذائل واتخذوا طريق الفضيلة؟»
ب : «إنه لكذلك.»
ف : «وماذا إذن عن الحظ السار الذي يُمنح للأخيار كمكافأة؟ أيَعُدُّه الناس سيئًا؟»
ب : «كلا، بل يرونه الأفضل بين الحظوظ.»
ف : «وماذا عن الصنف الأخير من الحظ، وهو العسيرُ والذي يكبح الأشرار بالعقاب الذي يستحقونه، هل يراه الناس خيرًا؟»
ب : «كلَّا، بل يرون أنه أتعس شيءٍ يمكن تصوره.»
ف : «احذر أن توقعنا التصورات الشائعة في شيءٍ «لا يمكن تصوره» حقًّا.»
ب : «ماذا تقصدين؟»
ف : «حسن، النتيجة المستفادة مما افترضناه هو أن حظ الأخيار سعيدٌ كله، سواءٌ منهم الراسخون في الخير أو المتقدمون على دَرْبه أو المبتدئون فيه، بينما حظ جميع المُخلَّفين في الشر هو حظٌّ سيئ تمامًا.»
ب : «هذا حق، وإن لم يجرؤ أحدٌ على الاعتراف به.»
ف : «لهذا السبب، ينبغي على الحكيم ألا يشكو كلما اشتبك مع الحظ، مثلما ينبغي على الشجاع ألا يسخط إذا حمي وطيس الحرب، ذلك أن الشدائد نفسها هي فرصةٌ لكلٍّ منهما: لواحدٍ كي ينال المجد، وللآخر كي يؤكد حكمتَه ويقَوِّيها، من هنا تستقي «الفضيلة» virtue اسمها؛ لأنها قويةٌ صلبةٌ بحيث لا تَقهرُها الشدائد.١
ولا أنت يا مَن تمضي قدمًا على درب الفضيلة قد بلغت ما بلغت لكي تُسلم نفسك للمباهج أو تُفسدها بالملذات، بل اصطَرِع بعنفٍ وضراوةٍ مع كل ضروب الحظ الجامح؛ حتى لا تقهرك الضراء ولا تفسِدك السراء، اتخذ الطريق الوسط بصلابةٍ لا تهتز، فكلُّ ما يحيد عن الوسط يُزْرِي بالسعادة ولا يجني ثمرة جهده، إنَّ قَدَرَك بيديك … بيدي صنف القدر الذي تَوَدُّ أن تُشكِّله لنفسك؛٢ لأن كلَّ ما يبدو عسيرًا هو عظةٌ أو تقويمٌ أو عقاب.»
عشر سنواتٍ متصلة من الحرب
استغرق انتقامُ أجاممنون، بسقوط طروادة،
لفراش أخيه المنتهَك،
هو أجاممنون نفسه الذي اضطُرَّ لكي يُقلع بسفنه
إلى أن يشتري الريح المواتية بالدم،
فنضا عنه ثوب الأُبُوة ولبس ثوبَ الكاهنِ المتحجر القلب
ووجأ عنق ابنته المسكينة.٣

•••

كم بكى أوديسيوس بحرقة
لفَقْد رِفاقه،
الذين ازدردهم في جوفِهِ الرحب
بوليفيموس القابع في كهفه الواسع،
فما لبث أن سَمَل أوديسيوس عينه الوحيدة،
وتَرَكه يتضوَّر غضبًا،
ويدفع ثمن ابتهاجه، من دموع الفجيعة.٤

•••

اشتهر هرقلُ العظيم بأعماله الصعبة،
أدَّب القنطورات المتعجرفة في فيلوا،
وانتزع جلد الأسد في نيميا،٥
وأقْصَدَت سهامُه الصائبة طيورَ ستيمفالوس،٦
وانتزع تفاحات هيسبيروس الذهبية٧
على مرأى من التنين،
وأسر كيربيروس٨ وقاده مُصفَّدًا في الأغلال،
وأسر أفراس ديوميديس،٩
وقدَّم إليها لحم سيدها لتأكلَه،
وأحرق الهيدرا١٠ وأبطل سُمَّها،
وأصاب أخيلوؤس١١ بجرحٍ مخزٍ،
فراح يوارِي وجهه خجلًا تحت ضفَّته،
وصرَعَ أنتيوس في رمال ليبيا،
وقتل كاكوس ليشفي صدر إيوأندروس١٢
تلك الأكتاف التي ستحمل السماء
لوَّثها الخنزير الإريمانثي١٣ بمخاطه،
أما العمل الأخير فهو أن يحمل السموات
على عنقٍ قائمٍ لا ينحني.

•••

امضِ إذن بجسارة
إلى حيث يقودُك الطريقُ المجيد
للقدوة الرفيعة،
لماذا تثَّاقل وتَنْكُص على عَقِبيك
إذا كان اجتيازُ الأرض
يَهَبُك النجوم؟
١  في التعبير الذي يستخدمه بوئثيوس جناس بين كلمتي virtus (فضيلة) وvires (قوة).
٢  أي فهمك وتأويلك لقدرك.
٣  وفقًا لإلياذة هوميروس نشبت حرب طروادة بسبب اختطاف باريس الأمير الطروادي لهيليني زوجة مينيلاوس شقيق أجاممنون، وقاد أجاممنون الحملة اليونانية لاستعادة هيليني، وقد اضطر إلى التضحية بابنته إفيجينيا للإلهة أرتيميس، التي أغضبها، حتى تواتيه الريح في رحلته البحرية إلى طروادة، وبعد عشر سنوات من الحصار استطاع اليونان اقتحام طروادة وحرقها والاستيلاء عليها (وفي بعض الروايات أن أرتيميس أنقذت إفيجينيا من القتل).
٤  من مغامرات أوديسيوس في طريق عودته من طروادة إلى إيثاكا، وفق ما ورد في الأوديسية، لهوميروس وقوعه هو ورفاقه أسرى في كهف الكيكلوبس (المارد) بوليفيموس ذي العين الواحدة الدائرية، الذي جعل منهم طعامًا يزدرده تباعًا كوجباتٍ له، فتفتق ذهن أوديسيوس عن حيلٍ يخَلِّص بها نفسه ومن بقي من رفاقه من كهف الكيكلوبس، فسقاه خمرًا جيدةً وسَمَل عينه الوحيدة بجذعٍ مبري متأجج بالنار، فجعل يصيح ويولول، ونجح أوديسيوس بعدها بحيلة أخرى في الهروب مع مَن تبقى من رفاقه من كهف بوليفيموس.
٥  كانت مهمة هرقل الأولى كما حدَّدها الملك يوريسثيوس هي أن يأتي له بجلد أسدٍ رهيبٍ كان يُروِّع التلال حول مدينة نيميا، وعن الأعمال الاثنى عشر التي قام بها هرقل ومغزاها، راجع سينيكا، هرقل فوق جبل أويتا (ترجمة وتقديم معجم أسطوري أحمد عتمان سلسلة من المسرح العالمي الكويتية) «مارس ١٩٨١م» ولا سيما المقدمة من ص١–١٠٧.
٦  هو سرب من الطيور آكلة لحوم البشر تجمَّعت على بحيرة بالقرب من مدينة ستيمفالوس، وكان مطلوبًا من هرقل طردها، وقد روَّعها هرقل بأن أحدث ضوضاء عجيبة بمصفقات من صنع هيفايستوس إله الحدادة؛ حتى تطير من الأشجار، ثم أهوى عليها بسهامه وهي تُولِّي هاربة.
٧  طلب يوريسثيوس من هرقل أن يأتيه بتفاحات ذهبية تخص زيوس كبير الآلهة كانت زوجته هيرا قد أعطته إياها كهدية زواج، وهي مهمة مستحيلة؛ لأن هيرا لم تكن تَوَد أن ترى هرقل ينجح في مسعاه ولم تكن لتسمح له بالاستيلاء على شيءٍ من ممتلكاتها العزيزة، كانت هذه التفاحات محفوظة في حديقة في الطرف الشمالي للعالم يحرسها تنين ذو رءوس مائة يُسمَّى لادون، وتحرسها أيضًا الهسبريدات وهي حورياتٌ بنات أطلس العملاق الذي يحمل السماء والأرض على أكتافه، وفي رحلة هرقل للبحث عن الحديقة صادف أهوالًا، منها لقاؤه بأنتيوس ابن بوسيرون إله البحر، وقد استوقفه أنتيوس ليقاتله فقهره هرقل في منازلة مصارعة، وحين وصل هرقل إلى صخرة على جبل القوقاز التقى ببروميثيوس الذي عذبته الآلهة؛ لإفشائه سرَّ النار إلى البشر، بأن جعلته مُوثقًا ينهش نسرٌ وحشي كبده، فخلَّصه هرقل، وعلى سبيل العرفان بالجميل فقد أنبأه بروميثيوس بسر الحصول على التفاحات، وهي أن يلجأ إلى أطلس ليحضرها بنفسه، في مقابل أن يحمل هرقلُ حِملَه الذي كلَّ أطلس ومَلَّ من حَملِه، بذلك أمكن لهرقل الحصول على التفاحات بعد أن خدع أطلس وحمَّله الكون مرةً أخرى.
٨  طلب يوريسثيوس من هرقل أن يأتيه بكيربيروس، الكلب الوحشي ذي الرءوس الثلاثة حارس بوابة العالم السفلي «هاديس»، وقد صارعه هرقل وأتى به حيًّا إلى الملك.
٩  أرسل يوريسثيوس هرقل ليأتيه بأحصنة ديوميديس، آكلة لحوم البشر، وديوميديس ملك قبيلة طراقيا تُدعَى بيستونيس، وقد أسرها هرقل وأخضع القبيلة، وأطعم الأحصنة لحم ديوميديس فذهبت ضراوتها.
١٠  كانت مهمة هرقل الثانية هي أن يقتل الهيدرا — وهي وحش كان يروِّع القرى في ليرنا، له رءوس تسعة كلما قطع هرقل منها رأسًا نبت مكانه رأسان جديدان — ولم يتمكن من تحطيم الرءوس إلا باللهب وبمعرفة ابن أخيه يولاؤس.
١١  كان أخيلوؤس نهرًا إلهًا، وكان بإمكانه أيضًا أن يتخذ شكل ثور، وقد تمكَّن هرقل من أن يُطيح به أرضًا ويكسر أحد قرنيه، ولكي يُخفي أخيلوؤس جرحَه المخزي فقد ذهب ووارى وجهه في ضفة النهر.
١٢  في طريق عودته بعد أن أسر ثيران جيريون، المعروف بأنه أقوى رجلٍ حي، قابل هرقل الملك إيوأندروس، وبينما كان البطل يستريح سرق كاكوس الراعي ذو الرءوس الثلاثة بعضًا من أفضل الثيران وخبأها في كهفه، وقد دفع كاكوس حياته ثمنًا لجريمته.
١٣  طلب الملك يوريسثيوس من هرقل أن يأتيه بالخنزير الإريمانثي حيًّا، وقد كان خنزيرًا ضخمًا، تنضخ أنيابُه بالرغوة، يهاجم البشر والحيوانات في القرى ويدمر كل شيء في طريقه، وقد استطاع هرقل أن يأسره ويُقيِّده في شبكة ويحمله إلى الملك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤