ماذا عن سابق العلم والحرية؟
عندئذٍ قلت: «ها أنا مرةً ثانيةً أقع في حيرةٍ أشد والتباسٍ أصعب.»
فسألتني: «قل لي ما هو، وإن أكن أحدس بما يزعجك ويثير ارتباكك.»
فإذا كان رجلٌ جالسًا، فإن الرأي الذي يذهب إلى أنه جالسٌ هو رأيٌ صادق بالضرورة، ومن جهة أخرى: إذا كان الرأي في الرجل صادقًا، لأنه جالس، فإنه لمن الضرورة أن الرجل جالسٌ، ثمة ضرورة إذن في كلتا العبارتين: في الأولى أن الرجل جالس، وفي الثانية أن الرأي صادق، ولكن ليس لأن الرأي صادقٌ يكون الرجل جالسًا، بل إن الرأي صادقٌ لأنه مسبوق بفعل الجلوس من الرجل، إذن، رغم أن «سبب» الصدق يتجه من جانبٍ واحد فإن ثمة «ضرورةً» مشتركةً في كلا الجانبين.
من الواضح أن الاستدلال نفسَه ينطبق على العناية وأحداث المستقبل: فحتى لو كان وجه الأمر أن أحداث المستقبل تُرى مسبقًا لأنها سوف تحدث لا أنها تحدث لأنها تُرى مسبقًا، فإن من الضروري رغم ذلك أنه إما أن أحداث المستقبل تُرى مسبقًا من الله وإما أن الأشياء المرئية مسبقًا تحدث كما تُرَى، وهذا وحده كافٍ لنفي حرية الإرادة.
ولكن كم هو محالٌ أن نقول إن وقوع الأحداث الزمانية هو سبب العلم الأزلي المسبق! ومع ذلك فإن القول بأن الله يرى المستقبل لأنه مقدَّرٌ أن يحدث ليس شيئًا غير القول بأن الأحداث التي تجري مجرى واحدًا فردًا هي سبب تلك العناية العليا.
وأخيرًا، إذا اعتقد أي شخصٍ أن أمرًا ما على غير ما هو في الحقيقة، لا تكون هذه «معرفة»، ليس هذا فحسب، بل تكون رأيًا كاذبًا جدَّ بعيدٍ عن حقيقة المعرفة، إذن، إذا كان شيءٌ ما مقدرًا له أن يحدث بحيث يكون وقوعه غير يقيني وغير ضروري، فمن ذا يمكنه أن يعرف مسبقًا أنه سيحدث؟ فمثلما أن المعرفة ليست بالأمر المَشُوب بالكذب، كذلك الشيء المدرك بالمعرفة لا يمكن أن يكون غير ما هو مدرك، والحق أن السبب في خلوِّ المعرفة من الخداع هو أن من الضروري للأشياء أن تكون بالضبط كما تدركها المعرفة.
وكيف تعلو العناية الإلهية على الظن إذا كانت، شأن البشر، تعتبر تلك الأشياء التي وقوعها غير يقيني أشياء غير يقينية؟ فإذا كان التشكك أو عدم اليقين محالًا على المصدر الأوثق لكل الأشياء؛ فإن الحدوث المستقبلي للأشياء التي يراها الله مسبقًا بوثوقٍ كأحداثٍ مستقبلية لا بد من أن يكون يقينيًّا، إذن لا حرية هناك لأفكار الإنسان وأفعاله؛ لأن العقل الإلهي في رؤيته المسبقة لكل شيء دون أي ضلالٍ أو زيفٍ إنما يُقيِّد أفكار الإنسان وأفعاله بمسلكٍ واحدٍ في الحدوث.
وما أن نُسلِّم بهذا حتى يتبدَّى بوضوحٍ مدى السقوط الذريع لكل الشئون البشرية، سُدى هو الثواب المقدَّم للأخيار والعقاب المقدم للأشرار؛ لأنهم لم يستحقوه بأي حركةٍ حرةٍ أو إراديةٍ للنفس، وهكذا فإن ما نعده الآن ذروة العدل — عقاب الأشرار وثواب الأخيار — يُضحي ذروة الظلم كله، ما دام البشر مدفوعين للخير أو الشر لا بإرادتهم بل بضرورةٍ قاهرةٍ لما يتعَيَّن أن يكون، بذلك لن يكون للرذيلة ولا للفضيلة أي وجود، وسيكون كل استحقاقٍ مختلطًا مشتبهًا، وليس بالإمكان تصور ما هو أسوأ من ذلك، فإذا كان نظام الأشياء مستمدًّا من العناية، ولا مجال ثم للقصد البشري، فإن شرورنا أيضًا مستمدةٌ من خالق كلِّ شيء.
لا جدوى إذن في أن نرجو أيَّ شيءٍ أو ندعو بأن نُوقَّى أيَّ شيء، فأي شيءٍ يمكن أن يرجوه المرء أو يصلي للنجاة منه، إذا كان كلُّ ما يمكن أن يُراد هو شيءٌ مقيدٌ بقيدٍ صارم؟
وهكذا تنتفي الوسيلة الوحيدة للتواصل بين الإنسان والله — أي الرجاء والدعاء، فنحن نفترض أننا بالخشوع الواجب أمام الله نفوز بالمردود الذي لا يُقدَّر بثمن — بالنعمة الإلهية، وهذا هو السبيل الوحيد الذي يمكن للبشر به أن يخاطبوا الله ويَصِلوا أنفسهم بذلك الضياء المحجوب قبل أن يُمنَحُوه عن طريق الابتهال والتضرُّع.
وإذا كان التسليم بضرورة الأحداث المستقبلية يعني أن الرجاء والدعاء لا تأثير لهما، فأي سبيلٍ سيكون لنا لكي نَصِلَ أنفسنا بمليك العالم ونتحد به؟ لذلك لا بد للجنس البشري، مثلما كنت تنشدين الآن، من أن يكون مُنْبَتًّا عن مصدره هزيلًا واهنًا على الدوام.
•••